الرسام رشيد العلاقي "بيتهوفن" الفن التشكيلي التونسي
سبعون عاما من الرسم لنحت تجربة تتخطى كل الحدود والتصنيفات.
بالنسبة إلى هذا الرجل الإبداع هو الحياة
تعد تجربة الرسام التونسي رشيد العلاقي من أكثر التجارب إثارة للاهتمام، مسيرة طويلة تخطى خلالها إصابته بعمى الألوان، ليقدم المئات من الأعمال الفنية رسخت اسمه وبصمته في عالم الفن التشكيلي، متجاوزا كل انتماء ضيق جغرافي أو ثقافي، ومنفتحا على المشتركات الإنسانية، وهذا ما نطالعه في كتاب جديد حول مسيرته.
تونس - كتاب جديد من الحجم الكبير يضم 142 صفحة ألفته الكاتبة والباحثة بياتريس دونوييه أصيلة إمارة موناكو، يتناول مسيرة الفنان التشكيلي التونسي رشيد العلاقي المقيم حاليا في مدينة كولونيا الألمانية. وصدر الكتاب في طبعة أنيقة تم تقديمها يوم الخميس بفضاء مكتبة الكتاب بميتيال فيل بالعاصمة التونسية بحضور سفير جمهورية ألمانيا الاتحادية المعتمد بتونس بيتر بروغيل.
والكتاب الصادر باللغة الفرنسية ونقلته إلى الإنجليزية المترجمة منيرة العلاقي، هو ثمرة أبحاث طويلة اختارت الكاتبة من خلاله تقديم الفنان التشكيلي رشيد العلاقي عبر الموضوعات المتكررة التي تتخلل جميع أعمال المبدع الفنان، حيث سعت في هذا التمشي شرح بنية ونشأة العمل وحالة اللاوعي التي تؤثر في العمل الإبداعي وتسمح للفنان بإثبات تفرده في لوحاته.
الإبداع هو الحياة
عوالم من ذاكرة الفنان
جاء الكتاب محملا بصور لأهم أعمال الفنان، إذ قدمته دونوييه من خلال دمج مقومات النقد الأدبي مع آليات النقد التشكيلي، مع ترك حرية التأويل للمتلقي، وبالتالي اختارت أن تحترم إرادة الرسام الذي يعطي عنوانا للوحاته ولم تقدم قراءة تحليلية للوحات حتى لا تؤثر على المشاهد.
تقول دونوييه في تقديمها لرشيد العلاقي “إن تسامي الحياة اليومية، وحب عامة الناس وتمثلاته للمرأة، وحتى مشاهد الكرنفال، تكشف لديه طريقة شخصية للغاية في النظر إلى العالم والآدميين: فهو ينظر إليهم مثل مجنون يتأمل ليلى. وهو مثل الشاعر لا ينظر إلى الغلاف الخارجي، وإلى الجمال الشكلي، بل إلى النور الداخلي الذي ينعكس على اللوحة”.
الكتاب قدم أهم أعمال الفنان ودمج مقومات النقد الأدبي مع آليات النقد التشكيلي تاركا حرية التأويل للمتلقي
وتعبر الكاتبة عن انبهارها بأعمال العلاقي التشكيلية، ملاحظة أن الفنان لا ينظر إلى الجمال الخارجي، بل إلى النور الداخلي الذي يسكن الروح وهو الذي ينعكس على القماش مشكلا لوحات متفردة، فينهي بذلك سلطة الخيال ويفسح المجال لقصص أخرى من البيئة التونسية حيث ولد وترعرع أو من بيئته الألمانية حيث يستقر حاليا.
وترى الكاتبة أيضا أن الفنان أشبه بساحر إذ تمكن من كسر جميع الحواجز التي اعترضته فاخترق قلاع الفن والجمال، وهكذا اشتغل يوميا بلا كلل لتطوير فنه وفقا لرؤيته، وشيئا فشيئا تلاشت الحدود واستمر ت اللوحات في التغير.
وبحسب دونوييه لا ينتمي رشيد العلاقي إلى مدرسة محددة، فهو يطوع أسلوبه وفق ما يريد أن يرسمه. ومع ذلك “تتجلى في جميع لوحاته لمسات فرشاته المتشنجة والمادة المعقدة وألوانه المفاجئة في كثير من الأحيان والمضيئة جدا، وولعه بالرسم الزيتي والتمثيلي ورؤيته الإنسانية، فهو يركز في لوحته على الفرد الذي يشكل العنصر الأساسي في أعماله، إنه لا يحب الطبيعة الصامتة التي لا تعبر عن أي شيء”.
وعن تجربته في الرسم، يتحدث رشيد العلاقي عن علاقة حب غير مشروط بفنه. ويقول إن مسيرته الفنية بدأت منذ سنة 1958، وحتى مع تقدمه في السن (83 عاما)، لا يزال يشتغل في مرسمه لمدة لا تقل عن ثماني ساعات يوميا.
وقد ناهزت مسيرته الفنية 70 عاما وأثمرت المئات من اللوحات الإبداعية، فهو “لا يرسم من أجل كسب المال، بل لتوثيق اللحظة وترك أثر فني يخلده وتذكره الأجيال اللاحقة”، فبالنسبة إلى الرجل، الإبداع هو الحياة والحياة هي الإبداع ورسوماته هي النور الذي يبصر به، ويدرك به الألوان التي شاءت إرادة الله ألا يبصرها بالعين المجردة، وألا يميز بينها، ليكون بمثابة بيتهوفن الفن التشكيلي التونسي.
مسيرة فنية
لوحات هاجسها الإنسان
ولد رشيد العلاقي عام 1940 بالمدينة العتيقة بتونس وتحديدا بباب الفلة. وقد شغف بالفنون الزخرفية منذ سن مبكرة من خلال الاحتكاك بالحرفيين والفنانين الذين شاهدهم يعملون في محلات المدينة، فقاده الافتتان المبكر إلى الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة بتونس في سن الخامسة عشرة.
وفي عام 1958، بعد أن أنهى دراسته قرر أن يسافر ويجوب بلدان العالم، فاستهل رحلته بالقاهرة وإيطاليا قبل أن يعبر أوروبا على متن دراجة نارية، ويزور أشهر مدنها ويكتشف آثارها ومتاحفها ومعالم عواصمها على غرار باريس وأمستردام وفيينا وبرلين وأوسلو.
والتحق سنة 1961 بأكاديمية الفنون الجميلة في كولونيا بألمانيا حيث التقى بزوجته الحالية التي عاد معها إلى تونس سنة 1965 بعد أن أنهى دراسته هناك ومارس مهنا مختلفة، وكان دائما يستغل إبداعه سواء كمدرس فنون أو مصمم ديكور أو مهندس معماري أو مصمم أثاث.
وعلى الرغم من أن العلاقي احتفظ بورشة الرسم الخاصة به في باب الفلة طوال هذه السنوات، إلا أنه لم يتمكن من تكريس نفسه بالكامل لفنه إلا سنة 1986 عند عودته إلى كولونيا. وقد افتتح في عام 1990 رواقه الخاص هناك.
وتحصل في عام 1999على منحة دراسية مكنته من إكمال دراسته في المرحلة الثالثة في الفنون الجميلة في باريس في أكاديمية لاغراند شومير، ثم تمت دعوته للإقامة في المدينة الدولية للفنون في باريس حيث قام بعرض أعماله. وجاب الفنان التونسي بأعماله أغلب العواصم الأوروبية ونيويورك والقاهرة وإسطنبول.
أما مؤلفة الكتاب بياتريس دونوييه فقد ولدت في موناكو لعائلة من الموسيقيين. وتحولت في وقت مبكر جدا إلى الفنون وخاصة المسرح والأدب وهي طالبة دكتوراه في الآداب وانضمت إلى إدارة الشؤون الثقافية في موناكو حيث شغلت مناصب مختلفة من مشرفة على الإدارة الفنية إلى رئيسة قسم العروض الحية.
في عام 2008، قررت دونوييه الاستقرار في تونس حيث عملت في جمعية “الشارع فن” حتى سنة 2019 مديرة للإنتاج ثم مديرة للبرامج، قبل أن تلتحق بمؤسسة كمال الأزعر مديرة للمشاريع والمعارض الفنية منذ سنة 2020.