أحمد عرابي بين هجاء شوقي ومحاورة محفوظ
أمير الشعراء لم يندم مثل ندمه على هجاء عرابي.
الأحد 2024/02/18
ShareWhatsAppTwitterFacebook
عرابي قائد ثوري هجاه شوقي بقسوة
موقف الشعراء من الثورات الشعبية عادة يكون موقف التحام بها، بما يمثلونه من دور في حراسة وجدان الشعب ورفع آلامه ومناصرة آماله، ولكن أحيانا نجد منهم من يقف ضد الثورات وينكل بها وبرموزها في شعره. الكثير من الشعراء سقطوا في هذا وأحدهم أحمد شوقي.
لم يندم أمير الشعراء أحمد شوقي على قصائد كتبها، مثل التي كتبها في هجاء الزعيم أحمد عرابي، على الرغم من أنه ليس شاعرَ هجاء، بل يرى أن نفسه لم تَطِبْ في هذا المورد البشع، ويقصد “الهجاء”.
ويؤكد ذلك ابنه حسين في كتابه “أبي شوقي” فيقول “لم يطرق أبي الهجاء إلا نادرا جدّا لأنه يراه غير خليق بالشعر الرفيع، ولكن إزاء ما رآه من جحود الناس في تلك الفترة التي تلت عزل الخديوي، اضطر أن يلجأ إليه اضطرارا، وفيه يقول: وليس بعامرٍ بنيان قومٍ ** إذا أخلاقُهم كانتْ خرابا”.
ندم الشاعر
يبدو أن هجاء شوقي لأحمد عرابي كان بتعليمات أو بإشارات من القصر الذي كان يعمل فيه شوقي في ذلك الوقت، أو ليظهر شوقي أنه يعبر عن غضب الخديوي توفيق والخديوي عباس حلمي الثاني من عرابي. وفي الوقت نفسه كان متعاطفا مع صديقه الزعيم مصطفى كامل الذي كان يرى أن عرابي كان من أسباب احتلال الإنجليز لمصر.
يرى الأكاديمي أحمد هيكل أنه “بناء على ولاء شوقي للقصر حينذاك، يمكن أن يفسر موقفه من عرابي، وهجاؤه له بثلاث قصائد بعد عودته من المنفى. وواضح أن السر في هذا الولاء الدائم العميق من شوقي للقصر وللخديوي، هو ما نعرف من أصل الشاعر ونشأته واعتباره للخديوي ولي نعمته، فهو الذي بعث به إلى فرنسا ليتم دراسته، وهو الذي جعله في معيته، واختاره شاعره المفضل”.
وهو الرأي الذي تبنَّاه الباحث السوري محمود المقداد فقال “أما عن علاقته بعرابي والثورة العرابية، فينبغي فهم موقف شوقي على ضوء كون الخديوي توفيق ولي نعمته، وصاحب الفضل عليه في تشجيعه الأدبي وإرساله على حسابه في بعثة إلى باريس لدراسة الحقوق، ثم في توظيف ابنه الخديوي عباس من بعده إياه في ‘الدائرة الأوروبية’ في قصر حكمه قرابة عشرين سنة متصلة”.
ولاء شوقي للقصر حينذاك يمكن أن يفسر موقفه من عرابي وهجاءه له بثلاث قصائد بعد عودته من المنفى
ويذكر ماهر حسن فهمي في كتابه “أحمد شوقي” أن أشد الناس قدحا لعرابي كان مصطفى كامل وجريدة “اللواء” والحزب الوطني، وقد جاراهم شوقي فكتب ثلاث قصائد هاجم فيها عرابي، على الرغم من قول شوقي في كتابه “أسواق الذهب”: “ليس أحد أولى بالوطن من أحد”.
أما كاتبه أحمد محفوظ فيقول في كتابه “حياة شوقي”، “سمعتُ منه أن عباس الثاني هو الذي أمره بأن يهجو عرابي ففعل، ولم يستطع تحللا من هذا الهجو لمكانه بين توفيق وعباس. وحدثني أيضا أنه كان قادما من الإسكندرية إلى القاهرة في القطار، حتى إذا جاء طنطا، دخل عرابي الصالون الذي كان يجلس فيه عفوا، فلما بصر به شوقي وقف ورحب به، ودعاه إلى الجلوس، فجبهه عرابي ورد عليه ردا صارما وتركه واقفا خجلا. وقال لي: لو تفضل وجلس معي لاعتذرتُ إليه، وكنتُ أنوي ذلك، ولكنه أبى وانصرف”.
إن نية شوقي الاعتذار لعرابي تحمل في طياتها خجلا وندما على ما كتبه ضده هذا الزعيم.
ويرى أحمد محفوظ أن موقف شوقي من عرابي لا يعني أن شوقي غير وطني، أو هو قليل الوطنية -كما رأى الزعيم محمد فريد- على العكس كان شوقي شاعر الوطنية الأول غير منكور وغير مدافع.
وهو ما يؤكده ماهر حسن فهمي حيث قال “كانت لشوقي هفوات لا شك في ذلك، ولكن الهفوة التي كلما ذكرها أحس بالندم والضيق يستبدان به، كانت مع أحمد عرابي عندما عاد من منفاه عام 1901 وكان أشد الناس قدحا له مصطفى كامل وجريدة ‘اللواء’ والحزب الوطني، وقد جاراهم شوقي فكتب ثلاث قصائد هاجم فيها عرابي. ولكن ألم يكن لعرابي روحه الوطنية الطموحة؟ لذلك قرر ألا ينشر هذه القصائد في ديوانه عندما يطبعه”.
كما يؤكد أحمد محمد الحوفي في كتابه “وطنية شوقي” أن شوقي حمل على عرابي حملات قاسية، وليس في هذا كبير عجب، لأن شوقي ربيب نعمة القصر، وكانت الثورة العرابية خروجا على سلطان القصر، وشوقي شاعر الخديوي وصفيّه، وكان عرابي يريد أن يخلع الخديوي السابق، وينحي الأسرة العلوية عن العرش. ثم إن شوقي كان وثيق الصلة بمصطفى كامل، فهو يدين بما يدين به صديقه، وبما يدين به الحزب الموالي للخديوي عباس.
ويوضح الحوفي بأن هذا لا يعفي شوقي من اللوم، ولا يبيح له موقفه المعيب من عرابي، فقد كان يستطيع أن يلوذ بالصمت كما لاذ إسماعيل صبري وحافظ إبراهيم. وكان يستطيع أن يتلمس له العذر فيما أخطأ فيه، وأن ينحى بالملام على الخونة من مساعديه. كم أنه لم يرثِ أحدا من زعماء الثورة العرابية، ولم يستثن منهم البارودي أستاذه ورائده، ولا الشيخ محمد عبده مع تجافيه عن الثورة أول الأمر.
ويشير الحوفي إلى أن شوقي غيَّر رأيه فيما بعد في عرابي، فيقول “ويظهر أنه غيَّر رأيه فيما بعد، أو أراد أن يسترضي الشعور العام، فنوَّه بالثورة العرابية، وقرنها بثورة 1919 في مجال الإشادة بالدستور والبرلمان”.
شاعر وطني ولكن
أمير الشعراء أحمد شوقي لم يندم على قصائد كتبها مثل التي كتبها في هجاء الزعيم أحمد عرابي
ربط الباحث الفلسطيني أصيل عبدالوهاب عطعوط في بحثه عن روايات شوقي بين شخصية حماس في رواية شوقي “لادياس” وبين عرابي، “فثمة شبه كبير بين شخصية حماس وشخصية أحمد عرابي، قائد ثورة عام 1882. (ولكن حماس ينجح في مهمته، بينما عرابي يفشل). وثمة شبه كبير بين الخديوي توفيق وأبرياس، الذي سلَّم البلاد لليونان، وسمح لهم بالتغلغل والنفوذ، ليصبح العنصر اليوناني الآمر الناهي في البلاد. فخيال المؤلف (شوقي) نَصَرَ حماس في حين خَذَلَ الواقع أحمد عرابي ودخل المحتلون البلاد”.
ويرى عطعوط أن شوقي لا بد أنه “يريد من انتصار الخير في رواياته انتصارا لمصر الحديثة التي وقعت بيد الاستعمار عقب فشل الثورة العرابية، وكأنه يستحث قوى المقاومة للوقوف أمام المحتل، وهذا ما صرح به في محادثات ‘شيطان بنتاءور'”.
بينما يوضح المستشرق الفرنسي أنطوان بودولاموت في كتابه “الإلهام وفن الشعر عند أمير الشعراء أحمد شوقي” (ترجمة محمود المقداد – مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين 2006) أن شوقي شاعر الوطنية المصرية لم يسجِّل بحق عرابي باشا أي عداوة على الرغم من كونها عداوة مستترة تشفّ أحيانا من خلال بعض الشوقيات.
غير أن الدكتور شوقي ضيف له رأي مخالف حيث يقول في كتابه “شوقي شاعر العصر الحديث” إن شوقي “قصَّر تقصيرا واضحا في مواقف شعبية كانت تستحق منه أن يتغنى في أثنائها بآلام الشعب، بل نجده أحيانا ينسى هذه الآلام التي كان يرتجف لها الشعب كما ترتجف أوراق الشجر أثناء العواصف. ولعل أوضح ما كان من ذلك موقفه من أحمد عرابي بعد عودته من منفاه، فقد استقبله بقصيدة، أقل ما يقال فيها إنها هجاء لقائد من قادة الشعب، ويكفي مطلعها الذي يقول فيه: صغارٌ في الذهابِ وفي الإيابِ/ أهذا كلُّ شأْنِك يا عرابي”.
بينما يقول عبدالعزيز البشري “نحن نعرف أن شوقي هجا الزعيم أحمد عرابي هجاء مقذعا في ثلاث من قصائده، ونرى بغض النظر عن سلامة موقف شوقي أو إدانته في هذا الخصوص، أن قصائد شوقي الثلاث في عرابي تحسب ضمن قصائد الموقف والرأي السياسي -وإن كنا نأخذها عليه- فهي لا تحسب ضمن فن الهجاء، كما ورد في تراثنا الشعري العربي”.
أما عبدالمنعم شميس فيؤكد في كتابه “شخصيات في حياة شوقي” أن شوقي اضطر إلى إهانة عرابي بعد عودته من المنفى بقصيدة غريبة، لا تتوافق مع مزاج شوقي وأخلاقه إرضاء لأميره، فكيف تنسجم عواطفه مع كبير من رجال الثورة العرابية مثل البارودي؟
ونثبت هنا النص الكامل للقصيدة التي قالها شوقي بعد عودة عرابي من منفاه في سيلان:
صَغَارٌ في الذهابِ وفي الإيابِ/ أهذا كلُّ شأْنِك يا عرابي
عفا عنك الأباعدُ والأداني/ فمَنْ يعفو عن الوطنِ المُصابِ؟
وما سألوا بنيك ولا بنينا/ ولا التفتوا إلى القوم الغضابِ
فعشْ في مصر موفور المعالي/ رفيع الذكر مقتبل الشباب
أفرقٌ بين سيلان ومصر/ وفي كلتيهما حمرُ الثياب
يتوبُ عليك من منفاك فيها/ أناسٌ منك أولى بالمتاب
ولا والله ما ملكوا متابا/ ولا ملكوا القديم من العقاب
ولا ساووك في صدق الطوايا/ وإن ساووك في الشيمِ الكذابِ
حكومة ذلة وسراة جهل/ كعهدك إذ تحييك الطوابي
وإذ ضربوا وسيفك لم يجرَّد/ وإذ دخلوا ونعلك في الركاب
وإذ ملئت لك الدينا نفاقا/ وضاقت بالغباوة والتغابي
وإذ تُقنى المعالي بالتمنى/ وإذ يغزَى الأعادي بالسباب
وإذ تعطَى الأريكة في النوادي/ وتعطَى التاج في هزل الخطاب
ستنظر إن رفعت بمصر طرفا/ رجال الوقت من تلك الصحاب
وقد نبذوا جنابك حين أقوى/ وقد لاذوا إلى أقوى جناب
وبالإنجيل قد حلفوا لقومٍ/ كما حلفوا أمامك بالكتابِ
يريدون النساء بلا حجابٍ/ ونحن اليوم أولى بالحجاب
فماذا يعلم الأحياءُ عنا/ إذا ما قيل عاد لها عرابي
من أمام العرش
شوقي قصَّر تقصيرا واضحا في مواقف شعبية كانت تستحق منه أن يتغنى في أثنائها بآلام الشعب
أما نجيب محفوظ فقد كان يجلس في شبابه على مقهى يسمى “مقهى عرابي”، وكان يملكه الفتوة عرابي أحد فتوات العصر الغابر، وبمناسبة هذا الاسم يقول محفوظ “إن حركة أحمد عرابي تمثل أول حركة قومية تقف أمام الترك وأتباعهم”، وهو يرى أن “أيام عرابي كانت تجربة حقيقية لكنها لم تعش عامين”، ونلاحظ أنه يطلق عليها أياما، وليس “ثورة” أو “هوجة”.
ترى ماذا كانت رؤية نجيب محفوظ لعرابي في محاوراته “أمام العرش”؟
نادى حورس: أحمد عرابي. فدخل رجل مائل للطول والامتلاء، ذو رزانة، ووقار، فتقدم حتى مثَل أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: حفظت القرآن صغيرا بقريتي بالشرقية، وانتظمت في سلك الجندية في الرابعة عشرة، وصلت إلى رتبة قائمقام؛ فكنت أوَّل مصري يصل إلى هذه الرتبة، وكانت الرتب الكبيرة وقْف على الشراكسة، وكان المصري محتقَرا في وطنه؛ فأقنعت بعض الزملاء بالمطالبة بعزل وزير الحربية الشركسي المتحيِّز؛ فقُبض علينا، فثار الجند الوطنيون حتى أفرج عنا، ولمستُ ما يعانيه الشعب من ظلم؛ فتحركت بالجيش إلى قصر عابدين وطالبت الخديوي بإسقاط الوزارة وتشكيل مجلس نواب.
قال لي: “أنا ورثتُ مُلك هذه البلاد، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا”، فقلت: “لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا وعقارا، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سوف لا نُورث ولا نُستعبَد بعد اليوم”. وقد انتصرنا على أعداء الشعب، وتكوَّن مجلس نيابي ووزارةٌ وطنية، ثم تدخلَت الدول الأجنبية لمنْع المصريين من تولِّي شؤونهم خوفا على مصالحها، وخان الخديوي وبعض الانتهازيين الوطن؛ فاتفقوا مع أعدائنا الإنجليز، ودافعنا عن وطننا بكل ما نملك، ولكننا انهزمنا وحُوكمنا وحُكم علينا بالنفي المؤبَّد ومصادرة أملاكنا.
وتكلَّم الملك خوفو فقال: ولكنك تحديتَ الجالس على العرش وخاطبْتَه بما لا يُخاطب به الملوك.
فقال أوزوريس: تغيَّر الزمان أيها الملك، فلم يعد الملوك يحكمون نيابة عن الآلهة، ولكن بالمشاركة مع الشعوب.
فقال خوفو: مشاركة الفلاحين في الحكم تعني الفوضى.
فقال أبنوم: بل هي وثبة كبرى في مدارج الخير.
وقال أحمد عرابي: كان الخديوي ورجاله من عنصر أجنبي.
فقال الملك مينا: لقد قامت وحدة مصر على عناصر بشرية متنوعة، اندمجت جميعها في الوطن وأخلصت للعرش.
فقال أحمد عرابي: لم أكافح إلا العناصر التي أبَت الاندماج، والدليل على ذلك أن حزبي لم يخل من وطنيين من أصل شركسي.
فسأله أبنوم: ولِم لَم تقتل الخديوي وتكوِّن أسرة جديدة من أصل شعبي؟
– كان هدفي تحرير الشعب وإشراكه في حمل المسؤولية.
فقال أبنوم: كان قتله أفضل، ولكنك على أي حال صاحب الفضل في الدفاع عن حق الشعب!
وتكلَّم تحتمس الثالث فقال: كان الموقف يتطلب قيادة عسكرية خارقة في عبقريتها، وللأسف لم يتهيأ لك شيء من ذلك.
فقال أحمد عرابي: بذلتُ أقصى ما لدي.
وقال رمسيس الثاني: وكان يجب أن تقاتل حتى الموت بين جندك.
وقال أبنوم: وكان يجب أن تقضي على جميع أعدائك لتقضي على الخيانة في مهدها.
وقال إخناتون: إنك رجل طيب القلب، فجَرَت عليك النهاية المقدَّرة للقلوب الطيبة.
فقال الحكيم بتاح حتب: هكذا ثُرتَ من أجل حرية الشعب، فجررت عليه احتلالا أجنبيّا!
وهنا قالت إيزيس: هذا ابن مترع القلب بالنوايا الطيبة، وهبَ شعبه ما يملك من حب غير محدود وقدرات محدودة، وقد تآمَر الأعداء على تصفية ثورته، ولكنهم لم يستطيعوا استئصال البذرة التي غرسها في الأرض الطيبة.
وقال أوزوريس: إني أعتبرك نورا تألَّق في الظلمات التي رانت على وطنك، وقد عوقبْت في حياتك بما يُعتبر تكفيرا عن أخطائك، فعسى أن تحظى بالبركات في ساحة محكمتك، ولن نقصر عن التنويه بفضلك بما أنت أهله.
أما أحمد محمد عرابي محمد وافي محمد غنيم عبدالله الحسيني، فقد ولد في 31 مارس 1841 في قرية هرية رزنة بمحافظة الشرقية. أصبح قائدا عسكريّا وزعيما مصريّا. وقائد ثورة ضد الخديوي توفيق ووصل إلى منصب ناظر الجهادية (وزارة الدفاع حاليا)، وكان أميرالاي (عميد حاليا).
نُفي في الأسطول البريطاني مع زملائه عبدالله النديم ومحمود سامي البارودي إلى سريلانكا (سيلان سابقا) سنة 1882 وكانت عودته بعد 20 عاما بسبب شدة مرضه، وتوفي في 21 سبتمبر سنة 1911.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أحمد فضل شبلول
كاتب مصري
أمير الشعراء لم يندم مثل ندمه على هجاء عرابي.
الأحد 2024/02/18
ShareWhatsAppTwitterFacebook
عرابي قائد ثوري هجاه شوقي بقسوة
موقف الشعراء من الثورات الشعبية عادة يكون موقف التحام بها، بما يمثلونه من دور في حراسة وجدان الشعب ورفع آلامه ومناصرة آماله، ولكن أحيانا نجد منهم من يقف ضد الثورات وينكل بها وبرموزها في شعره. الكثير من الشعراء سقطوا في هذا وأحدهم أحمد شوقي.
لم يندم أمير الشعراء أحمد شوقي على قصائد كتبها، مثل التي كتبها في هجاء الزعيم أحمد عرابي، على الرغم من أنه ليس شاعرَ هجاء، بل يرى أن نفسه لم تَطِبْ في هذا المورد البشع، ويقصد “الهجاء”.
ويؤكد ذلك ابنه حسين في كتابه “أبي شوقي” فيقول “لم يطرق أبي الهجاء إلا نادرا جدّا لأنه يراه غير خليق بالشعر الرفيع، ولكن إزاء ما رآه من جحود الناس في تلك الفترة التي تلت عزل الخديوي، اضطر أن يلجأ إليه اضطرارا، وفيه يقول: وليس بعامرٍ بنيان قومٍ ** إذا أخلاقُهم كانتْ خرابا”.
ندم الشاعر
يبدو أن هجاء شوقي لأحمد عرابي كان بتعليمات أو بإشارات من القصر الذي كان يعمل فيه شوقي في ذلك الوقت، أو ليظهر شوقي أنه يعبر عن غضب الخديوي توفيق والخديوي عباس حلمي الثاني من عرابي. وفي الوقت نفسه كان متعاطفا مع صديقه الزعيم مصطفى كامل الذي كان يرى أن عرابي كان من أسباب احتلال الإنجليز لمصر.
يرى الأكاديمي أحمد هيكل أنه “بناء على ولاء شوقي للقصر حينذاك، يمكن أن يفسر موقفه من عرابي، وهجاؤه له بثلاث قصائد بعد عودته من المنفى. وواضح أن السر في هذا الولاء الدائم العميق من شوقي للقصر وللخديوي، هو ما نعرف من أصل الشاعر ونشأته واعتباره للخديوي ولي نعمته، فهو الذي بعث به إلى فرنسا ليتم دراسته، وهو الذي جعله في معيته، واختاره شاعره المفضل”.
وهو الرأي الذي تبنَّاه الباحث السوري محمود المقداد فقال “أما عن علاقته بعرابي والثورة العرابية، فينبغي فهم موقف شوقي على ضوء كون الخديوي توفيق ولي نعمته، وصاحب الفضل عليه في تشجيعه الأدبي وإرساله على حسابه في بعثة إلى باريس لدراسة الحقوق، ثم في توظيف ابنه الخديوي عباس من بعده إياه في ‘الدائرة الأوروبية’ في قصر حكمه قرابة عشرين سنة متصلة”.
ولاء شوقي للقصر حينذاك يمكن أن يفسر موقفه من عرابي وهجاءه له بثلاث قصائد بعد عودته من المنفى
ويذكر ماهر حسن فهمي في كتابه “أحمد شوقي” أن أشد الناس قدحا لعرابي كان مصطفى كامل وجريدة “اللواء” والحزب الوطني، وقد جاراهم شوقي فكتب ثلاث قصائد هاجم فيها عرابي، على الرغم من قول شوقي في كتابه “أسواق الذهب”: “ليس أحد أولى بالوطن من أحد”.
أما كاتبه أحمد محفوظ فيقول في كتابه “حياة شوقي”، “سمعتُ منه أن عباس الثاني هو الذي أمره بأن يهجو عرابي ففعل، ولم يستطع تحللا من هذا الهجو لمكانه بين توفيق وعباس. وحدثني أيضا أنه كان قادما من الإسكندرية إلى القاهرة في القطار، حتى إذا جاء طنطا، دخل عرابي الصالون الذي كان يجلس فيه عفوا، فلما بصر به شوقي وقف ورحب به، ودعاه إلى الجلوس، فجبهه عرابي ورد عليه ردا صارما وتركه واقفا خجلا. وقال لي: لو تفضل وجلس معي لاعتذرتُ إليه، وكنتُ أنوي ذلك، ولكنه أبى وانصرف”.
إن نية شوقي الاعتذار لعرابي تحمل في طياتها خجلا وندما على ما كتبه ضده هذا الزعيم.
ويرى أحمد محفوظ أن موقف شوقي من عرابي لا يعني أن شوقي غير وطني، أو هو قليل الوطنية -كما رأى الزعيم محمد فريد- على العكس كان شوقي شاعر الوطنية الأول غير منكور وغير مدافع.
وهو ما يؤكده ماهر حسن فهمي حيث قال “كانت لشوقي هفوات لا شك في ذلك، ولكن الهفوة التي كلما ذكرها أحس بالندم والضيق يستبدان به، كانت مع أحمد عرابي عندما عاد من منفاه عام 1901 وكان أشد الناس قدحا له مصطفى كامل وجريدة ‘اللواء’ والحزب الوطني، وقد جاراهم شوقي فكتب ثلاث قصائد هاجم فيها عرابي. ولكن ألم يكن لعرابي روحه الوطنية الطموحة؟ لذلك قرر ألا ينشر هذه القصائد في ديوانه عندما يطبعه”.
كما يؤكد أحمد محمد الحوفي في كتابه “وطنية شوقي” أن شوقي حمل على عرابي حملات قاسية، وليس في هذا كبير عجب، لأن شوقي ربيب نعمة القصر، وكانت الثورة العرابية خروجا على سلطان القصر، وشوقي شاعر الخديوي وصفيّه، وكان عرابي يريد أن يخلع الخديوي السابق، وينحي الأسرة العلوية عن العرش. ثم إن شوقي كان وثيق الصلة بمصطفى كامل، فهو يدين بما يدين به صديقه، وبما يدين به الحزب الموالي للخديوي عباس.
ويوضح الحوفي بأن هذا لا يعفي شوقي من اللوم، ولا يبيح له موقفه المعيب من عرابي، فقد كان يستطيع أن يلوذ بالصمت كما لاذ إسماعيل صبري وحافظ إبراهيم. وكان يستطيع أن يتلمس له العذر فيما أخطأ فيه، وأن ينحى بالملام على الخونة من مساعديه. كم أنه لم يرثِ أحدا من زعماء الثورة العرابية، ولم يستثن منهم البارودي أستاذه ورائده، ولا الشيخ محمد عبده مع تجافيه عن الثورة أول الأمر.
ويشير الحوفي إلى أن شوقي غيَّر رأيه فيما بعد في عرابي، فيقول “ويظهر أنه غيَّر رأيه فيما بعد، أو أراد أن يسترضي الشعور العام، فنوَّه بالثورة العرابية، وقرنها بثورة 1919 في مجال الإشادة بالدستور والبرلمان”.
شاعر وطني ولكن
أمير الشعراء أحمد شوقي لم يندم على قصائد كتبها مثل التي كتبها في هجاء الزعيم أحمد عرابي
ربط الباحث الفلسطيني أصيل عبدالوهاب عطعوط في بحثه عن روايات شوقي بين شخصية حماس في رواية شوقي “لادياس” وبين عرابي، “فثمة شبه كبير بين شخصية حماس وشخصية أحمد عرابي، قائد ثورة عام 1882. (ولكن حماس ينجح في مهمته، بينما عرابي يفشل). وثمة شبه كبير بين الخديوي توفيق وأبرياس، الذي سلَّم البلاد لليونان، وسمح لهم بالتغلغل والنفوذ، ليصبح العنصر اليوناني الآمر الناهي في البلاد. فخيال المؤلف (شوقي) نَصَرَ حماس في حين خَذَلَ الواقع أحمد عرابي ودخل المحتلون البلاد”.
ويرى عطعوط أن شوقي لا بد أنه “يريد من انتصار الخير في رواياته انتصارا لمصر الحديثة التي وقعت بيد الاستعمار عقب فشل الثورة العرابية، وكأنه يستحث قوى المقاومة للوقوف أمام المحتل، وهذا ما صرح به في محادثات ‘شيطان بنتاءور'”.
بينما يوضح المستشرق الفرنسي أنطوان بودولاموت في كتابه “الإلهام وفن الشعر عند أمير الشعراء أحمد شوقي” (ترجمة محمود المقداد – مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين 2006) أن شوقي شاعر الوطنية المصرية لم يسجِّل بحق عرابي باشا أي عداوة على الرغم من كونها عداوة مستترة تشفّ أحيانا من خلال بعض الشوقيات.
غير أن الدكتور شوقي ضيف له رأي مخالف حيث يقول في كتابه “شوقي شاعر العصر الحديث” إن شوقي “قصَّر تقصيرا واضحا في مواقف شعبية كانت تستحق منه أن يتغنى في أثنائها بآلام الشعب، بل نجده أحيانا ينسى هذه الآلام التي كان يرتجف لها الشعب كما ترتجف أوراق الشجر أثناء العواصف. ولعل أوضح ما كان من ذلك موقفه من أحمد عرابي بعد عودته من منفاه، فقد استقبله بقصيدة، أقل ما يقال فيها إنها هجاء لقائد من قادة الشعب، ويكفي مطلعها الذي يقول فيه: صغارٌ في الذهابِ وفي الإيابِ/ أهذا كلُّ شأْنِك يا عرابي”.
بينما يقول عبدالعزيز البشري “نحن نعرف أن شوقي هجا الزعيم أحمد عرابي هجاء مقذعا في ثلاث من قصائده، ونرى بغض النظر عن سلامة موقف شوقي أو إدانته في هذا الخصوص، أن قصائد شوقي الثلاث في عرابي تحسب ضمن قصائد الموقف والرأي السياسي -وإن كنا نأخذها عليه- فهي لا تحسب ضمن فن الهجاء، كما ورد في تراثنا الشعري العربي”.
أما عبدالمنعم شميس فيؤكد في كتابه “شخصيات في حياة شوقي” أن شوقي اضطر إلى إهانة عرابي بعد عودته من المنفى بقصيدة غريبة، لا تتوافق مع مزاج شوقي وأخلاقه إرضاء لأميره، فكيف تنسجم عواطفه مع كبير من رجال الثورة العرابية مثل البارودي؟
ونثبت هنا النص الكامل للقصيدة التي قالها شوقي بعد عودة عرابي من منفاه في سيلان:
صَغَارٌ في الذهابِ وفي الإيابِ/ أهذا كلُّ شأْنِك يا عرابي
عفا عنك الأباعدُ والأداني/ فمَنْ يعفو عن الوطنِ المُصابِ؟
وما سألوا بنيك ولا بنينا/ ولا التفتوا إلى القوم الغضابِ
فعشْ في مصر موفور المعالي/ رفيع الذكر مقتبل الشباب
أفرقٌ بين سيلان ومصر/ وفي كلتيهما حمرُ الثياب
يتوبُ عليك من منفاك فيها/ أناسٌ منك أولى بالمتاب
ولا والله ما ملكوا متابا/ ولا ملكوا القديم من العقاب
ولا ساووك في صدق الطوايا/ وإن ساووك في الشيمِ الكذابِ
حكومة ذلة وسراة جهل/ كعهدك إذ تحييك الطوابي
وإذ ضربوا وسيفك لم يجرَّد/ وإذ دخلوا ونعلك في الركاب
وإذ ملئت لك الدينا نفاقا/ وضاقت بالغباوة والتغابي
وإذ تُقنى المعالي بالتمنى/ وإذ يغزَى الأعادي بالسباب
وإذ تعطَى الأريكة في النوادي/ وتعطَى التاج في هزل الخطاب
ستنظر إن رفعت بمصر طرفا/ رجال الوقت من تلك الصحاب
وقد نبذوا جنابك حين أقوى/ وقد لاذوا إلى أقوى جناب
وبالإنجيل قد حلفوا لقومٍ/ كما حلفوا أمامك بالكتابِ
يريدون النساء بلا حجابٍ/ ونحن اليوم أولى بالحجاب
فماذا يعلم الأحياءُ عنا/ إذا ما قيل عاد لها عرابي
من أمام العرش
شوقي قصَّر تقصيرا واضحا في مواقف شعبية كانت تستحق منه أن يتغنى في أثنائها بآلام الشعب
أما نجيب محفوظ فقد كان يجلس في شبابه على مقهى يسمى “مقهى عرابي”، وكان يملكه الفتوة عرابي أحد فتوات العصر الغابر، وبمناسبة هذا الاسم يقول محفوظ “إن حركة أحمد عرابي تمثل أول حركة قومية تقف أمام الترك وأتباعهم”، وهو يرى أن “أيام عرابي كانت تجربة حقيقية لكنها لم تعش عامين”، ونلاحظ أنه يطلق عليها أياما، وليس “ثورة” أو “هوجة”.
ترى ماذا كانت رؤية نجيب محفوظ لعرابي في محاوراته “أمام العرش”؟
نادى حورس: أحمد عرابي. فدخل رجل مائل للطول والامتلاء، ذو رزانة، ووقار، فتقدم حتى مثَل أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: حفظت القرآن صغيرا بقريتي بالشرقية، وانتظمت في سلك الجندية في الرابعة عشرة، وصلت إلى رتبة قائمقام؛ فكنت أوَّل مصري يصل إلى هذه الرتبة، وكانت الرتب الكبيرة وقْف على الشراكسة، وكان المصري محتقَرا في وطنه؛ فأقنعت بعض الزملاء بالمطالبة بعزل وزير الحربية الشركسي المتحيِّز؛ فقُبض علينا، فثار الجند الوطنيون حتى أفرج عنا، ولمستُ ما يعانيه الشعب من ظلم؛ فتحركت بالجيش إلى قصر عابدين وطالبت الخديوي بإسقاط الوزارة وتشكيل مجلس نواب.
قال لي: “أنا ورثتُ مُلك هذه البلاد، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا”، فقلت: “لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا وعقارا، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سوف لا نُورث ولا نُستعبَد بعد اليوم”. وقد انتصرنا على أعداء الشعب، وتكوَّن مجلس نيابي ووزارةٌ وطنية، ثم تدخلَت الدول الأجنبية لمنْع المصريين من تولِّي شؤونهم خوفا على مصالحها، وخان الخديوي وبعض الانتهازيين الوطن؛ فاتفقوا مع أعدائنا الإنجليز، ودافعنا عن وطننا بكل ما نملك، ولكننا انهزمنا وحُوكمنا وحُكم علينا بالنفي المؤبَّد ومصادرة أملاكنا.
وتكلَّم الملك خوفو فقال: ولكنك تحديتَ الجالس على العرش وخاطبْتَه بما لا يُخاطب به الملوك.
فقال أوزوريس: تغيَّر الزمان أيها الملك، فلم يعد الملوك يحكمون نيابة عن الآلهة، ولكن بالمشاركة مع الشعوب.
فقال خوفو: مشاركة الفلاحين في الحكم تعني الفوضى.
فقال أبنوم: بل هي وثبة كبرى في مدارج الخير.
وقال أحمد عرابي: كان الخديوي ورجاله من عنصر أجنبي.
فقال الملك مينا: لقد قامت وحدة مصر على عناصر بشرية متنوعة، اندمجت جميعها في الوطن وأخلصت للعرش.
فقال أحمد عرابي: لم أكافح إلا العناصر التي أبَت الاندماج، والدليل على ذلك أن حزبي لم يخل من وطنيين من أصل شركسي.
فسأله أبنوم: ولِم لَم تقتل الخديوي وتكوِّن أسرة جديدة من أصل شعبي؟
– كان هدفي تحرير الشعب وإشراكه في حمل المسؤولية.
فقال أبنوم: كان قتله أفضل، ولكنك على أي حال صاحب الفضل في الدفاع عن حق الشعب!
وتكلَّم تحتمس الثالث فقال: كان الموقف يتطلب قيادة عسكرية خارقة في عبقريتها، وللأسف لم يتهيأ لك شيء من ذلك.
فقال أحمد عرابي: بذلتُ أقصى ما لدي.
وقال رمسيس الثاني: وكان يجب أن تقاتل حتى الموت بين جندك.
وقال أبنوم: وكان يجب أن تقضي على جميع أعدائك لتقضي على الخيانة في مهدها.
وقال إخناتون: إنك رجل طيب القلب، فجَرَت عليك النهاية المقدَّرة للقلوب الطيبة.
فقال الحكيم بتاح حتب: هكذا ثُرتَ من أجل حرية الشعب، فجررت عليه احتلالا أجنبيّا!
وهنا قالت إيزيس: هذا ابن مترع القلب بالنوايا الطيبة، وهبَ شعبه ما يملك من حب غير محدود وقدرات محدودة، وقد تآمَر الأعداء على تصفية ثورته، ولكنهم لم يستطيعوا استئصال البذرة التي غرسها في الأرض الطيبة.
وقال أوزوريس: إني أعتبرك نورا تألَّق في الظلمات التي رانت على وطنك، وقد عوقبْت في حياتك بما يُعتبر تكفيرا عن أخطائك، فعسى أن تحظى بالبركات في ساحة محكمتك، ولن نقصر عن التنويه بفضلك بما أنت أهله.
أما أحمد محمد عرابي محمد وافي محمد غنيم عبدالله الحسيني، فقد ولد في 31 مارس 1841 في قرية هرية رزنة بمحافظة الشرقية. أصبح قائدا عسكريّا وزعيما مصريّا. وقائد ثورة ضد الخديوي توفيق ووصل إلى منصب ناظر الجهادية (وزارة الدفاع حاليا)، وكان أميرالاي (عميد حاليا).
نُفي في الأسطول البريطاني مع زملائه عبدالله النديم ومحمود سامي البارودي إلى سريلانكا (سيلان سابقا) سنة 1882 وكانت عودته بعد 20 عاما بسبب شدة مرضه، وتوفي في 21 سبتمبر سنة 1911.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أحمد فضل شبلول
كاتب مصري