قصيدة النثر عبور شكلي يميزه التجانس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قصيدة النثر عبور شكلي يميزه التجانس

    قصيدة النثر عبور شكلي يميزه التجانس


    سان جون بيرس أضاف إلى قصيدة النثر أصالة وروافد عديدة.
    الأحد 2024/02/18

    سان جون بيرس أستاذ قصيدة النثر

    لقد حازت قصيدة النثر مكانة هامة في الساحة الشعرية العالمية لا العربية فحسب، حيث انطلقت في الغرب لتراكم لها منجزا هاما خولها أن تستقبل جنسا أدبيا له تاريخه ومدونته، وإن كان لاحقا في الثقافة العربية، فإنه أيضا تمكن من افتكاك مكانة هامة فيما يكتب من شعر اليوم، رغم ضبابية خصائصه التي تتطلب الوعي بها وبتطوّرها وتطويرها.

    إن التغير في الجنس الأدبي أمر غير ممكن لثبات شكل القالب، كما أن التحول في محتويات هذا القالب ضمن حدود معينة لن يؤدي إلى أي تغيير في الحالة النوعية للجنس. وعادة ما يكون المضمون الاحتوائي للقالب متحولا فنيا بسبب تنوع مواده فيتم تخطيها عند الحديث عن حدود الجنس الأدبي كمقاسات متجذرة. وهذا الكم الاحتوائي لا يؤثر في ثبات شكل القالب ونوعيته، بل يزيده ثباتا.

    يعمل هذا الكم المتحول على جعل عملية التطور مستمرة داخل الأنواع المندرجة في جنس أدبي ما، حتى لا فوارق تحصل في الجنس مهما كان عدد تلك الأنواع، لأن التطور كمي وليس نوعيا فلا تتخطى نقاط التحول مستوى التغيرات الداخلية لسبب جوهري هو أن الحدود الأجناسية ثابتة ومقاييسها واضحة. وهذا قانون أدبي عام نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن سواها من أنماط القول وأشكاله التي هي في عالم الأدب غير محددة لسيولة تحولها وتنوعها بوصفها مادة أولية يمكن أن تملأ محتويات أي قالب كلامي من قوالب الأجناس الثلاثة، ووصفها أرسطو بالكبرى وحددها بـ(الغنائي/ الدرامي/ الملحمي). أما لماذا كبرى فللطابع الشمولي الذي يقتضيه قانون النوع الذي إليه يوجه منظّر الأجناس الأدبية اهتمامه ويضعه في حسابه لأنه يعلم أن ما من مجال لتجاوزه أو إنكاره بسبب حقيقيته ومنطقية البرهنة عليه.
    قصيدة النثر


    ◙ استقرار النوع الكتابي جنسا أدبيا ليس رهنا بناقد يكتشف ويؤشر على مواطن التفرد ويقعد القواعد إنما بمن يؤلف

    منذ الأزل وإلى اليوم والأدب يشهد ابتكار أشكال وأنماط وأنواع تحتويها الأجناس بحسب ما يحتمله قالبها النوعي وجميعها شعرية بالمعنى التجريدي للشعرية كنظرية في الفهم الأدبي، وليس بمعنى الشعر الذي ينظر إليه الكثيرون على أنه جنس لوحده يقابله النثر/ السرد، بل الأدب بشعره ونثره هو فن، ولا يمكن حصر الفن في قالب كما أن من غير المنطقي التكهن بما سيكون عليه أي فن نظرا إلى انتفاء طابع القالب عنه.

    إن الجنس الأدبي كيان كتابي قائم بذاته تندرج فيه كينونات أولية هي عبارة عن متحصل ما يتم التجريب فيه والبرهنة على نوعيته كتابيا عبر الاستمرار في عملية الصهر والضم والتراكم داخل الجنس فتتعزز نوعية الجنس في حدود طاقته وما يتملكه من اكتفاء ذاتي ومنعة حدية.

    إن التغيرات التي لا يحصرها حدّ كتابي تبقى مستمرة في تحولها من الشكل إلى النوع. وصيرورة بعض مقاساتها أمر وارد أيضا، كمثل السيرة التي هي مادة كتابية ونمط له صلة بفعل التأريخ والتوثيق، وما إن يحتويها قالب الرواية وتستقر مكونا من مكوناته حتى تخضع لقانون النوع، بمعنى أن الانتقال والتحول هو متغير كمي لا يغير من حقيقة القالب كتشكيل إطاري ناجز، له خواصه الواضحة تمام الوضوح فلا تختلط أو تشترك أو تتشابه مع أي إنجاز يحققه إطار آخر.

    وبمرور الزمن قد تتمكن المادة الكمية من امتلاك صفات خاصة بها، تجعل عملية انضوائها في القالب الأجناسي عسيرة نظرا إلى تميزها النوعي كماهية لوحدها. وعند ذلك يكون أمر استقلالها جنسا لوحدها منطقيا كحتمية تطورية لا بد منها. وهذا ينطبق على قصيدة النثر التي ظهرت كشكل نثري احتواه قالب الشعر الغنائي ثم أخذ يتميز نوعيا لا كميا وبمرور الزمن استقر لوحده جنسا شعريا له قالب يتمايز عن أي قالب شعري آخر.

    هناك حقيقة أولى تفرض علينا ذكرها هنا وهي أن العالم الشعري كله عبارة عن استعارة حرة (حية) فيها الشاعر طائر حر، لكن عملية التجنيس تبقى ضرورة تاريخية لا بد من التقيد بها وفيها يظهر الفرق في التراكم الكتابي بين ما يسفر عن تقاليد ترسخت بسببها القوالب وبين ما يكون مجرد فعل إبداعي ذاتي وكيفي لا يتخطى حدود زمانه ومكانه الآنيين. ومن هنا نفهم الصلة الوثيقة بين اسم هوميروس والشعر الملحمي وندرك صلة رامبو وجيرار دي نرفال وبودلير باستقلال قصيدة النثر لتكون جنسا من أجناس الشعر.


    قصيدة النثر ظهرت كشكل نثري احتواه قالب الشعر الغنائي ثم أخذ يتميز نوعيا وبمرور الزمن استقر جنسا شعريا


    فاستقرار النوع الكتابي جنسا أدبيا ليس رهنا بناقد يكتشف ويؤشر على مواطن التفرد ويقعد القواعد، إنما الاستقرار رهن بمن يؤلف إبداعيا ويداوم شفهيا أو مكاتبة على ممارسة هذا الإبداع لا سواه. وليس من فضل لأرسطو سوى أنه صنّف الأجناس الأدبية التي مر زمن طويل على الكتابة فيها؛ فمهمته إذن ليست اكتشافية أو كشفية وإنما هي تصنيفية. ومثله فعل منظرو قصيدة النثر التي كتبها بودلير ورامبو ولوتريامون ومالارميه وهنري ميشو وسان جون بيرس وغيرهم. فقد تتبع المنظرون تاريخ التجنيس الأدبي وصنفوا تقانات قصيدة النثر وأشكالها وأنماطها وعزوا الريادة في كتابتها إلى شعراء كانوا أوفياء لها وأعطوها أهم سمة تميز قالبها وهو التجانس.

    ومن هؤلاء المنظرين فاليري لاربو الذي أعجب بهندسية شعر سان جون بيرس المسمى Anabase 1926 وعدّه أستاذ قصيدة النثر لما أضافه إليها من أصالة ولما فيه من غنى اللغة الشعرية مع استخدام متكرر للبيت الإسكندري والرسم الملحمي مما ينطبق على جميع أعمال بيرس جملة وتفصيلا ومنها ديوانه “Vents” (رياح) فشعره، كما تقول سوزان بيرنار، متلاحم وفيه يتماسك كل شيء ولا شيء فيه مجاني والقصيدة وحدة هندسة متناسقة تتناسب وتتوازن فيها الأطراف المختلفة.

    ووجد غارودي أن بيرس أخذ من هيراقلطيس فكرة الهدم والبناء اللامتناهي بالرغبة في الانطلاق والشمول وأن شعره يعكس تفاؤلا نبوئيا أو لغة نبوئية نورانية عُرفت عند بعض الرومانتيكيين وشاعت بعد عام 1848 وفيها (الصورة المعكوسة لملحمة الإنسان عند هيجل: فهنا أيضا يعي العالم نفسه داخل الإنسان ويحل محل الآلهة القديمة بكل جرأة).

    أما مرجعيات بيرس فاستقاها من كل المأثورات والأديان والطقوس والأساطير، وجمعها في سيرة بطولية عكست “الإيمان الإنساني الملحوظ في قصيدة ‘اليهودي التائه’ لادجار كينيه والإحساس الملحمي بعظمة الإنسان الذي ألهم والت وتيمان أو فيرهارين. أصول هذا الإيمان التحالف طويل المدى بين الإنسان والأشياء. ويشيع هذا الإحساس باستمرار في كل أعمال سان جون بيرس فكأنها من سبيكة واحدة أو قصيدة طويلة أو ملحمة فريدة للإنسان من خلال تجاربه وحضاراته أنها أسطورة العصر المناسبة لعهدنا الراهن لأنها تجعلنا نحس ونعيش تلاطم أمواج التاريخ وتدفع انطلاقتنا نحو الطموح ونحو النشوة بالحياة”.

    وهو أمر يمكن أن نشبهه بالنظام الاجتماعي الذي بقوة قوانينه يبقى مسيطرا على أي تفرعات داخله لكن ما إن يتمكن قانون ما من منافسة النظام، حتى يفقد السيطرة على تلك القوانين، فيكبر في محتوياته ويتمدد في نوعيته على حساب تميز النظام الاجتماعي، وعندها يكون انفصال القانون عن النظام أمرا حتميا. وأقول انفصالا وليس استبدالا؛ لأن من غير المنطقي أن يحل نظام محل نظام، ولأن الأساس في توازيهما هو توازن قوتهما معا، ومن ثم لا بد من انفصال أحدهما عن الآخر. وهذا ما يحصل في الجنس الأدبي الذي يطرأ على حدوده تغير جوهري ونوعي، يجعل الكمي الموجود داخله طاغيا. وبسبب هذا الطغيان يتنامى فيتمرد على حدوده الخارجية ممتلكا إطارا خاصا به.
    الأجناس الأدبية


    ◙ قصيدة النثر ظهرت كشكل نثري احتواه قالب الشعر الغنائي ثم أخذ يتميز نوعيا وبمرور الزمن استقر جنسا شعريا

    ينطبق قانون احتواء النوعي للكمي واضحا تمام الوضوح كعملية فيزيقية ميكانيكية على الجنس الأدبي العابر، فالخصيصة النوعية يكون لها، بسبب ما فيها من قوة وبناء، أن توسع نطاق نواتها مما يجعل احتمال أن يكون كل عنصر داخلها متخما بشحن كمي من أشكال وأنماط وأنواع شتى. وكلما زاد عددها أدى ذلك إلى تزايد الشحن الذي بمرور أمد أو أمداء مناسبة يصل إلى بلوغ مرحلة معينة، ينفصل فيها المشحون المتراكم ويستقل لوحده مشكلا قوة أجناسية بإمكانها احتواء النوعي أيضا. وهو أمر لا يحصل دائما إلا إذا كان الجنس المعبور عليه يعاني من تقادم قالبه ومن ثم لا تعود نوعيته تفي بالغرض من ناحية القابلية على الضم والتجسير والسبك والاحتواء لما هو كمي.

    وقد تحتمل الأجناس بنوعيها الشعرية والسردية مثل هذا الاستثناء، فالجنس المسرحي غير مؤهل لأن يكون جنسا عابرا بسبب كمية المتغيرات المستمرة بالتغلغل داخله فالحوارية كنوع سردي قد يفضي تراكمها إلى أن يفقد القالب سيطرته عليها فيغدو أمر عبور جنس الرواية على جنس المسرحية ممكنا، مخلخلا ومحللا ثوابت الكم الاحتوائي من جهة، ومحتويا إياها نوعا في قالبه وبحدود ثابتة من جهة أخرى، وهو ما يؤدي إلى تضعضع حدود القالب الأجناسي للمسرحية ثم تدريجيا تتلاشى وقد صارت جزءا من الجنس العابر عليها. وقد تصبح الحوارية التي كانت ثغرة نوعية في قالب المسرحية نوعا سرديا وبوظيفة درامية داخل جنس الرواية.

    ولقد اهتم علماء الأجناس الأدبية بدراسة التحولات النوعية الناجمة عن التغيرات الكمية في المواد لكنهم تعاملوا مع الأجناس بمقاييس محددة لا فضل فيها لجنس على آخر. وهو أمر غير ممكن عمليا، فكما أن المواد العضوية تتنوع تبعا لما تتألف منه من ذرات فكذلك هناك مادة عضوية تنضغط في داخلها أكثر من مادة عضوية وتصبح مصطبغة بالسمة الذرية للمواد المنضغطة. وهو أمر لا يحصل إلا مع المواد العضوية النادرة التي تكون نوعيتها قابلة كميا لاحتواء ما هو محدد الماهية وله قالب خاص ومتفرد الذرات، لكن ما إن تصبح هذه الذرات غير قادرة على التميز بوجود ذرات مادة أخرى أقوى منها نوعية حتى تتغير الماهية وتغدو معبورا عليها أجناسيا.

    العبور الأجناسي ببساطة هو ثبات المحددات النوعية في مقابل تراكم المتغيرات الكمية. والانتقال من الكم إلى النوع يعني أن تلك المحددات لم تعد فاعلة في إنتاج قالب ثابت ولا قادرة على أن تنمو وتتسع في تطورها الكمي بحيث يبقى قالبها النوعي ثابتا. مما نجده حاصلا في الحالة التي فيها يكون للمتغيرات الكمية أن تتطور فتزداد طاقاتها على خلخلة ثبات القالب الأجناسي، فلا يكون بمقدور المحددات النوعية لهذا القالب أن تصمد بوجه تمدده وعند ذاك يكون للجنس العابر حتما وبدا أن يحتوي هذا القالب المضعضع.


    نادية هناوي
    ناقدة وأكاديمية عراقية
يعمل...
X