أي علاقة بين الكتابة والمشي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أي علاقة بين الكتابة والمشي

    أي علاقة بين الكتابة والمشي


    الكتابة عالم مكابدة ومعاناة تخرج صاحبها من منطقة الأمان.
    الثلاثاء 2024/02/13
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    الكتابة مواجهة صعبة (لوحة للفنان علي رضا درويش)

    في حديثه عن الكتابة كذب المتنبي جماليا حين ادّعى أنه ينام ملء جفونه عن شواردها، وصدق حين قال إن القوم يسهرون جراءها ويختصمون؛ فالكتابة ليست معطى طبيعيا ولا هي سليقة رغم ادعائها أنها كذلك، بل ونفرز الجيد من السيء فيها بمدى قدرته على أن يكون طبيعيا. هنا نقرأ عوالم الكتابة بين المكابدة وأسباب التوقف وغيرها.

    يصعب الاستمرار في الكتابة بنسق مشوق وتطويع الصياغات التي تنقل الأفكار والهواجس بسلاسة، وعلى الرغم من العناء الذي يرافق الحركة في حلبة محفوفة بالتحديات، فإنّ المسطور يجب أن يكون أبعد ما يمكن عن اللغة الشاحبة ولا تطاله أجواء العراك مع حبسة الكتابة والمساحة الفارغة.

    إذن يبدو أنّ الكتابة بخلاف القراءة عملية لا تخلو من القسر والصراع، وما يؤكد ذلك هو مرويات الكتّاب عن تجربتهم في هذا المعترك. الأمر الذي يكون خليقا باستكشاف تفاصيل أبعاد الكتابة وما تتطلبه من النفس الماراثوني والتجلد في الحذف والمرونة وفي المحو والاستئناف على الطرس. وبالطبع فإنّ اللغة لا تتخفف من الحشو قبل هذه المرحلة التي يختبر فيها الكاتب إمكانية التجديد لمعجمه وترشيق العبارات.
    عالم الكتابة


    ربما الكلام يقع ثقيلا على ذائقة الكثير من المتابعين ويرى فيه البعض مخالفا للفكرة السائدة عن الكتابة ومنطوق الوصايا التي يسديها أتباع المدرسة الرواقية. فالجانب الأهم عند زينون هو القيمة العلاجية للكتابة، وبدوره يتوسل الراهب المصري أنطونيوس التدوين آلية لمعرفة جوهر الذات، لذلك ينصح بعدم التوقف عن الكتابة قائلا “ليدون كل واحد منا ويسجل أفعاله وتقلبات نفسه، وكأننا سنقدم تقريرا عنها بعضنا لبعض”، ومؤدى ما يفهم من الشذرة أنّ الكتابة قد تكتسب وظيفة استشفائية فما يكتبه المرء عن أطواره المختلفة يزيده معرفة بالعوامل المؤثرة على تكوينه النفسي ونمط تفكيره، أكثر من ذلك فإنّ الكتابة هي نقيض النزعة التدميرية.



    الإرجاء أنّ معظم من كتبوا عن الانتحار بوصفه حلا لمأساة الحياة أمثال شوبنهاور وإميل سيوران كان موتهم طبيعيا، وقد شاخ بهم العمر. ما يعني أن تجربة الانتحار كانت مجازيا من خلال الكتابة. هنا من المناسب الإشارة إلى أنّ الشاعر الألماني هولدرلين بعد انفصاله عن حبيبته سوزيته جينتار وقبل أن يداهمه ليل الجنون كتب مسرحيته “موت إمبادوقليس”، ومن المعروف أنّ إمبادوقليس كان طبيبا وفيلسوفا وكاهنا قد هبط في فوهة البركان تكفيرا عن ذنبه الذي اقترفه عندما وضع نفسه في مرتبة الآلهة.
    لا شكّ أن الشاعر قد وجد عزاء في استدعاء هذه الشخصية التي ترمز إلى الاغتراب والصراع المثخن مع الواقع الاجتماعي. يقول نجيب محفوظ معلقا على انتقاله نحو الأدب اللامعقول بأنّه لم يكن أمامه إلا الانتحار أو التحول إلى العبث. ومن جانبه يرى ألبرتو مانغويل في الكتابة مواساة في عالم يضج بالجنون.

    ما نستشفه من هذه المواقف أنّ الكتابة إرجاء للنهاية واختبار لتجربة الانتحار مجازيا والهروب منها فعليا. غير أنّها مجال دونه التوتر والأرق وهذا ما يصرح به ريلكه “ينبغي أن تموت ألف مرة لكي تكتب حرفا واحدا”. كما يعلن ألبير كامو أنّ لديه صعوبة كافية للعثور على كلمته الخاصة، ويتراءى الكاتب لبودلير في صورة الملاكم الذي يصارع اللغة وحده. إذن من المحتمل أن تصبح الكتابة مصدرا للملل والخروج من منطقة الأمان النفسي.

    يتناول الروائي السوري الراحل خالد خليفة معاناته مع عسر الكتابة مشيرا إلى أنه قد أراد الانضمام بالجدارة إلى نادي الإبداع الروائي وهو بصدد إكمال مشروع روايته “دفاتر القرباط” فإذا به يتعثر ويأبى السرد مطاوعته، لذلك يستشير الأديب الكبير عبدالرحمن منيف لعلّه يرشده بما يحل الحبسة. وما يسمعه من صاحب “مدن الملح” يشحن بطارية الرواية على حد تعبير إنعام كجه جي. إذ يقول له “من يجلس إلى الطاولة لمدة شهر دون الكتابة ولا يغادرها رغم الحبسة يربح الماراثون”.

    وكان منيف بنباهته الإبداعية قد لمّح إلى ما تستوجبه كتابة الرواية، تماما هي أقرب إلى الماراثون بدايتها قوية وما يلبث أن يهاجم الملل عندما يقطع الكاتب أشواطا. وقد يدفع بالعجلة إلى الخاتمة وهو لا تهمه الجودة بقدر ما يريد إقفال الحلقة. والكلام عن موضوع الكتابة يقود إلى بدايات أصحاب المهنة، وما تراكم في مطبخهم من المحاولات المجربة.

    كان الروائي الأميركي بول أوستر قد بدأ بكتابة الشعر لأن القصائد حسب تخمينه هي الأبسط قياسا على الأنواع الأدبية الأخرى التي تستلزم الطول، هذا فضلا عن ضرورة الدراية بحيثياتها. وما يسرده مؤلف “حماقات بروكلين” عن الحدث الذي يفتح له الطريق إلى عالم الكتابة يشهد على صحة الرأي بأنّ قدر الإنسان هو طفولته، وكل ما يأتي لاحقا ما هو إلا امتداد لتلك المرحلة العمرية.

    بينما يحضر أوستر وهو دون عشر سنوات من عمره مباراة كرة البيسبول في ملعب “بولو” برفقة والده، يلبي القدر رغبته في لقاء البطل ويلي ميس ويطلب منه التوقيع ولا يمانع ميس مرحبا بالطفل، ويسأل الأخير أن يعطيه القلم، لكن من المفاجئ ألا يكون هناك قلم عند بول ولا عند أبيه وحتى لدى الأصدقاء، لم يحصل على ما يحقق به الأمنية.

    تحدو الخيبة بأوستر إلى أن يتدجج بالقلم أينما ذهب تفاديا لتكرار موقف مشابه دون أن يكون مستعدا له. وهكذا بدأت مسيرة بول أوستر بالمفارقة. وما يقوله صاحب “حكاية الشتاء” عن برنامج عمله جدير بالتأمل. فاليوم المثالي هو ما يمضي فيه لمدة ثماني ساعات متابعا خيط الكتابة. ولن تكون حصيلة هذا الوقت سوى صفحة واحدة. وإذا تمكن من المضي لمسافة أطول وكتب صفحتين فهذا يوم رائع. أما إنجاز ثلاث صفحات فهو بمنزلة المعجزة.
    مكابدات الإبداع



    الكتابة إرجاء للنهاية واختبار لتجربة الانتحار مجازيا والهروب منها فعليا


    قوام الكون برأي فيثاغورس هو الإيقاع والعدد. لا يقع تصميم العالم الإبداعي خارج هذه القاعدة. ولولا الإيقاع لبدت النصوص متبعثرة وغير متناغمة. ومن المؤكد أنّ الإيقاع الذي ينتظم عليه العمل الإبداعي يعكس ما يسكن في أعماق الكاتب من المشاعر المكونة لإيقاعه، يقول دافيد لوبورطون “إن إيقاع كل شخص هو إيقاع موسيقاه الباطنة والأنشودة الحميمة التي تحرك خطاه”، فكل عمل فني إنما هو إيقاع واحد فريد في مذهب الشاعرة الرومانسية بتينافون أرنيم.

    لا يتسمر بول أوستر على الطاولة مترقبا إلهام الكتابة بل يطيب له أن يذرع غرفته جيئة وذهابا إذ يجد في ذلك ترويضا للأفكار والكلمات، لأنّ هناك نوعا من الموسيقى داخل الجسد ويعني بها موسيقى اللغة، ولا تولد الأفكار بنظر أوستر إلا من خلال التجوال، هنا يتقاطع رأيه مع ما قاله نيتشه بأنّ الأفكار التي لا تأخذ بالتلابيب أثناء المشي غير جديرة بأن تثق بها.

    يذكر بول أوستر في إطار حديثه عن العلاقة بين الكتابة والمشي ما قرأه في مقال للشاعر الروسي أوسيب مالديشتام عن شعر دانتي وتناغم إيقاعاته مع إحساس خطوات الإنسان حينما يتجول في الأرجاء. ربما أنّ هذا الترابط بين الحركة الجسدية والكتابة هو ما يجعل أوستر متطلعا إلى العمل الرشيق، إذ يقول إنّه كلما نجح في تخليص النص من الفوائض اللغوية ازداد شعورا بالسعادة.

    الكتابة في منهج بول أوستر شكل من أشكال التأليف الموسيقي للأصوات، بالنسبة إليه الفقرة هي وحدة التأليف في العمل الروائي كما أنّ البيت الشعري هو وحدة التأليف في القصيدة. لذلك فإنّ مختبر الكتابة عند أوستر ما هو إلا حياته الشخصية لأنّ المؤلف لا يعرف حياة الناس بنفس القدر الذي يعرف حياته. هذا ما يحيلنا إلى رأي الكاتب العراقي عبدالجبار الرفاعي واعتقاده بأنّه ليست هناك كتابة جيدة لا تصطبغ بشيء من ذات الكاتب.

    ◙ كتابة الرواية أقرب إلى الماراثون؛ بدايتها قوية وما يلبث أن يهاجم الملل عندما يقطع الكاتب أشواطا ويهدد استمراره

    ومن الملاحظ أن الكتابة عن تجربة الذات تلقى رواجا على نطاق واسع فما نشر مؤخرا للكاتبة الأميركية كيت زمبرينو بعنوان “أن تكتب كما لو كنت ميتا” تستمد مادته من الظروف التي بدأت فيها بالكتابة عن الروائي الفرنسي هيرفي غيبير، كما أوردت ضمن مؤلفها جانبا من النقاشات التي كانت تدور بينها وبين صديقاتها افتراضيا بشأن الكتابة والإبداع.

    ومما يرد في هذا السياق قول صديقتها سوزكي بأن الأدب رواية لحيواتنا المختلفة ويقع القارئ على آراء عدد من المفكرين والمنظرين في الحقل الأدبي حول كل ما يتسع له حزام الأدب والفن والكتابة. كما تدون زمبرينو يوميات الوباء، وإشكالياتها مع الناشر. فالكتابة بالنسبة إليها هي ما تمثل معنى الوقت. أما عن علاقتها بالكتب التي تنشرها فتقول كيت زمبرينو إنها ما إن يكون الكتاب في متناول القراء حتى تشعر بالقطيعة معه وتصبح خاوية منه.

    لا تقتصر مكابدات الإبداع على معاندة اللغة للكاتب وتحديق المساحة البيضاء على المسند بوجه الفنان بل التجاهل للعمل هو ما يؤرق ويؤلم الروح. يكتب مونيه باثا شكواه لبودلير من استقبال صادم لأعماله الفنية في صالون باريس، فكان رد صاحب “أزهار الشر” قاسيا ومواسيا في الوقت نفسه إذ أبلغه أنه ليس أول من يذوق مرارة التهميش “هل أنت أكثر عبقرية من شاتوبريان وواغنر؟! ألا تعرف كم الاستهزاء الذي نالاه من الناس؟ لكن لا أحد منهما مات من الاستهزاء”.

    ما يجب الإشارة إليه في الختام هو أنّ الإبداع على وجه العموم والكتابة على وجه الخصوص قد يكونا أداة لمراوغة النهاية والزمن والانتفاض في وجه الملل والجنون، كما يمكن أن يلقيا بالمرء في فوهة القلق والمطاردة الأبدية للأشباح. واللافت للانتباه هو فئة من الكتاب الذين يتحركون خارج افتراضات القلق والتوجس من حبسة الكتابة، على غرار ما تقوم به الروائية السورية مها حسن، إذ لا يشغلها موضوع الصراع مع الكتابة فعندما لا تكتب تنصرف إلى أشياء أخرى، كأنها بذلك تبحث عن مداخل جديدة للعودة إلى الإبداع.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    كه يلان محمد
    كاتب عراقي
يعمل...
X