هل يمكن التوفيق بين الحرية والحتمية ؟
ان فلاسفة العصر لا يريدون أن يضحوا بمعطيات الشعور ، والوجدان في سبيل العلم ، ولا ان يضحوا بالعلم في سبيل الاخلاق . والذي يقربهم من الحق في ذلك ، ويدفيهم من اليقين ان الحقيقة لا تتجزأ ، فإما ان تكون شهادة الشعور صادقة ، وإما ان تكون براهين العلم وحدها . الصحيحة . فإذا كانت شهادة الشعور صادقة ، هي وجب التوفيق وجب تكذيب شهادة الشعور ، لانه بينها وبين العلم ، وإذا كان العلم . وحده صحيحاً ، لا يعقل أن يبنى القول بالحرية على ضرورتها للأخلاق فحسب . فلو كانت الحرية ضرورية الأخلاق ، ومخالفة للعلم لما ترددنا لحظة في الاعراض عنها .
ولعل السبب في هذا التباين الظاهر بين العلم والشعور يرجع إلى زعم الفلاسفة ان الفعل الحر إبداع من العدم ؛ وان الإنسان خالق لافعاله ، وان الارادة علة اولى . فهم قد جعلوا الحتمية امراً طبيعياً أحاطت به الضرورة . وقالوا إن العلة تحدث المعلول ، والمتقدم يحدث المتأخر بضرورة ميكانيكية ، فمرفوا الحرية بمناقضتها للحتمية ، وعرفوا الحتمية بمناقضتها للحرية ، حتى اصبح التوفيق بينهما محالاً . ولو تعمقنا في دراسة الحتمية التي يقتضيها العلم ، والحرية التي يستلزمها الشعور ، لادركنا ان الفلاسفة قد ركبوا في كل منهما مركباً صعباً ، ان تحليلاً جديداً لمفهومي الحتمية والحرية قد يسهل علينا مشقة التوفيق بينهما .
۱ - هل توجد الحرية مع الحتمية في عالم الظواهر .
- اراد بعض الفلاسفة أن يجمعوا بين الحرية المطلقة ، والحتمية الطبيعية ، فقالوا : ان عالم الظواهر - اي عالم الزمان والمكان - محيط بالحرية والحتمية معاً . والذي حملهم على ذلك انهم علموا ان الإنسان يساق بالطبيعة إلى الآلية والضرورة ، وبالعقل إلى الحرية والاختيار .
آ - الالية والحرية .
- فمما قاله ( ديكارت ) : إن النفس تدبر البدن ، كما يسوس الفارس فرسه ، وجوهر النفس هو الفكر ، اما جوهر الجسم فهو الحركة ، وهذه الحركة لا تستلزم ان يكون هناك قوة متجهة إلى جهة معينة ، لانه لا تأثير للجهة ما دامت كمية الحركة في الكون ثابتة . فقد تختلف جهة الحركة ولا يؤثر ذلك في كميتها ، وقد تزيد كميتها وتنقص من غير ان تختلف جهتها . فإذا كانت سرعة المتحرك ثابتة امكن تغيير جهة الحركة من غير ان يؤدي ذلك إلى تغيير كميتها . وعلى ذلك فالنفس لا تستطيع ان تغير كمية الحركة ، إلا انها تستطيع ان تغير جهتها ، فهي تؤثر في الغدة الصنوبرية ، وتغير جهة الأرواح الحيوانية ، وتبدل طريقها من غير ان تبدل كمية الحركة .
وقد رد ( ليبنز ) على هذا الرأي ، فقال : إن كل حر ركة تقتضي قوة ، وان تغير جهة الحركة لا يتم إلا بإضافة قوة جديدة إلى القوى السابقة ( راجع نظرية المتوازي الاضلاع في تركيب ( القوى ، وإذا صح ذلك سقطت نظرية ( ديكارت ) المشتملة على التوفيق بين الآلية والحرية ، لان النفس لا تستطيع إذ ذاك ان تغير جهة الحركة إلا إذا خلقت قوة مادية جديدة ، وهذا مخالف لمبدأ حفظ الحركة في الكون ، وثبوت كميتها .
ونحن لا نفهم حتى الآن كيف يؤثر الفكر في المادة ، ولا كيف تغير النفس جهة الحركة ، فما من شيء يضيع في الوجود ، وما من شيء يخلق . وإذا صح ذلك تعذر ان تكون النفس مبدعة لجهة جديدة لاعلاقة لها بما قبلها من القوى ، ووجب القول إن فعلها هذا يرجع إلى قضاء إلهي .
ب - القوة المطلقة .
- قال بعضهم ان الحرية أشبه شيء بالقوة المطلقة ( Pouvoir décrochant ) ، وهي القوة اللازمة لتحريك منظومة مؤلفة من عدة اجزاء ، فقد تتجمع الاجزاء ، وتتركب القوى الفاعلة ، ويتولد من تجمعها ، توازن ، إلا أن . التوازن قد يتبدل بإضافة قوة جديدة إلى تلك المنظومة ، كما يتبدل توازن القنبلة فتنطلق ثم تنفجر ، او كما يسقط الجسم المعلق بالخيط فيتولد من سقوطه قوة عظيمة . وعلى ذلك فإن الإنسان إذا اراد ان يؤثر في الطبيعة ، ويستخدمها لاغراضه ، جمع قواها الفاعلة ، ورتب شرائطها ، وجعلها متوازنة ، ثم اضاف اليها قوة جزئية جديدة تبدل توازنها .
١ - والفرق بين القوة المطلقة ، والقوة المنطلقة قد يتزايد إلى غير نهاية ، فتكون نسبة القوة المطلقة إلى القوى المنطاقة ، كنسبة الشرارة الصغيرة إلى انفجار مستودع البارود .
لذلك زعم ( سكرتان - Secrétan ) أن القوة المطلقة قد تتناقص في بعض الشروط إلى غير نهاية ، حق لا يبقى منها شيء ، وتبقى مع ذلك متبوعة بالنتائج نفسها ، فلا غرو اذا حركت الارادة البدن ، وكان عملها هذا غير تابع لسبب خارجي ، لأنها تكون إذ ذاك كالقوة المطلقة الصغيرة التي تتناهى في الصغر حتى تصبح معدومة ، ويكون تأثيرها غير مخالف لمبدأ الآلية . لقد ظن ( سكرتان ) أن هذا الاستدلال الرياضي كاف المجمع بين الحرية والحتمية ، ولكننا إذا تعمقنا في التفكير ، تبين لنا أن هذه الأدلة الرياضية لا تنطبق على المسائل التجريبية ، لأن فكرة القوة المطلقة المعدومة فكرة متناقضة . فلا بد إذن من أن يكون لها مقدار . ولا يمكن خلق هذا المقدار في المذهب الآلي إلا بمعجزة إلهية .
٢ - لذلك زعم ( دلبوف ) للتخلص من هذه الشبهة أن الإرادة لا تخلق شيئاً ، وأن عملها مقصور على انتخاب الوقت الذي تنطلق فيه القوى الفاعلة من غير أن تضيف اليها شيئاً جديداً ، ولكن هذا القول لا يقطع مظان الاشتباه ، لأن تأخير وقت الانطلاق ، أو تقديمه يحتاج إلى تبديل العمل الميكانيكي للقوى الفاعلة ، أي يحتاج إلى خلق قوة جديدة وهذا مخالف أيضاً للمذهب الآلي .
ج - الحرية ومراكز عدم التعين .
- وقد زعم بعضهم أن في الطبيعة مجموعات من القوى تستطيع أن تولد بعملها . اعدة حركات ممكنة لا ترجيح لإحداها على الاخرى . ويسمون هذه المجموعات : بمراكز عدم التعين . فمما قاله ( بوسينيك - Boussinesq ) : ان في الرياضيات معادلات جبرية مؤلفة من معطيات واحدة ، ومشتملة في الوقت نفسه على حلول مختلفة . فلماذا لا يوجد في الكون مراكز تحقق هذه المعادلات الجبرية ، وتلتقي فيها القوى الفاعلة ، بحيث يتولد من تلاقيها حركات مختلفة متساوية الامكان ، ولكن هل في الكون مكان لمراكز عدم التعين .
١ - لم يتردد ( بوترو ) في قبول ذلك . فقد انتقد في كتابه ، جواز قوانين الطبيعة « Contingence des lois de la nature » معنى الضرورة ، ومعنى العلم ، وأثبت بصورة نظرية إمكان مراكز عدم التعين . قال : إن الضرورة التي تشتمل عليها الطبيعة ضرورة نسبية . وفي كل ادق من الوجود عنصر جديد لا ينتج بالضرورة من الافق الأدنى الذي قبله . فالموجود أغنى من الممكن المحض ، إلا أنه جائز ، وليس لقانون الكائنات - أي لقانون السببية ضرورة مطلقة ، أو تحليلية ، لأن المعلول ليس داخلا في العملة ، وإنما هو مشتمل على عنصر جديد لا وجود له فيها . ولولا ذلك لما كان بين المعلول والعلة فرق . وكلما ارتقيت من افق أدنى إلى افق أعلى في مراتب الوجود صادفت هذا العنصر الجديد الجائز . ففي الأجناس العالية عناصر لا وجود لها في الموجود المحض ، وفي المادة المتحركة شيء لا وجود له في الأجناس ، وفي الحياة شيء لا وجود له في المادة الجامدة وفي النفس شيء لا وجود له في الحياة . وفي هذه الدرجة الأخيرة من مراتب الوجود تظهر جائزية الإرادة ، لأن في العزم شيئاً لا تشتمل عليه المناقشة أو الروية . فالبواعث والدوافع ليست إذن علة الفعل ، والحرية أعلى الصور الدالة على جائزية قوانين الطبيعة .
۲ - وقد درس ( هنري برغسون ) علاقة الدماغ بالفكر ، فبين أن الدماغ البشري أحد مراكز عدم التعين هذه ، لأنه متصل بعدد كبير من الأعصاب الحسية ، يصدر عنه كبير من الأعصاب المحركة ، فإذا انتقل السيال العصبي من الأعصاب الحسية إلى الأعصاب المحركة ، وسلك في انتقاله طريقاً مخططاً من قبل ولد فعلا منعكساً خالياً من الصور . وإذا وجد السيال العصبي أمامه عدة طرق ممكنة ، وكانت هذه الطرق غير من قبل كان انتقاله هذا مصحوبا بالشعور . ومعنى ذلك أن في الدماغ مراكز عدم التعين ، وأن وظيفة الشعور دفع السيال العصبي إلى انتخاب أحد الخطوط الممكنة . ذلك فإنه لا يمكننا قبول هذه النتائج ، إلا إذا ضربنا بذهب الآلية الكونية عرض الحائط ، وسلمنا بأن كل حادث جائز لا ضروري ، وإذا لم نقبل هذه النتائج وقعنا في الآلية المحضة ، ووجدنا أن الحتمية لا تتفق مع الحرية .
٣ - مذهب ( كانت ) : ان عالم الظواهر عالم الضرورة والحتمية ، أما عالم الشيء بذاته ، فهو عالم الحرية والاختيار .
لما عجز العلماء عن الجمع بين الحرية والتقيد في العالم المحسوس أخرج ( كانت ) الحرية من عالم الظواهر وأرجعها إلى عالم الشيء بذاته . وعالم الظواهر عنده عالم التجربة كما لنا من خلال مقولات العقل . أما عالم الشيء بذاته فهو عالم الحقيقة ، قال : إن عالم الظواهر عالم الضرورة والحتمية ، لأن العقل لا يدرك الظواهر إلا داخل الزمان والمكان ، ولا يصبح الحادث معقولاً عندنا إلا إذا ربطناه بغيره من الحوادث المتقدمة عليه في الزمان ، أو الموجودة معه في المكان . ولا يشذ عن قانون السببية في عالم الظواهر شيء أبداً . بل كل أمر خاضع له ، وكذلك الأفعال الإرادية ، فهي مقيدة كغيرها من الأفعال . قال ( كانت ) : لو أدركنا ما يجري في نفس الإنسان من العوامل ، وأحطنا علما يجميع الظروف التي يواجهها لأدركنا سلوكه المقبل ، وتنبأنا به كما نتنبأ بخسوف القمر او كسوف الشمس ، فلا محل إذن للحرية في عالم الظواهر .
ولكن عالم الشيء بذاته ليس كعالم الظواهر ، لأنه لا قبلية ، ولا بعدية فيه ، ولا سابق ولا مسبوق ، فلا يمتنع إذن وجود الحرية فيه . لذلك قرر ( كانت ) في نقد العقل المحض إمكان وجود الحرية في عالم الشيء بذاته ، ثم اضطر في نقد العقل العملي إلى الاحتراف بضرورة الحرية من حيث هي مسلمة لازمة للأخلاق . والفعل الخلقي عنده ليس قيداً بما قبله من الرغبات والميول ، وإنما هو فعل معمول يقوم به الإنسان مختاراً ، ولا يبغى من وراء ذلك إلا الخضوع للقانون ، فهو إذن ابتداء مطلق ، ميزانه العقل لا التجربة .
ولو لم يجعل ( كانت ) الزمان والمكان صورتين أوليتين من صور الحساسية ، متقدمين على التجربة ، لكان التوفيق بين الحرية والحتمية محالاً . إلا أنه : زعم أن الزمان والمكان صورتان قبليتان تابعتان للعقل ، وأن عالم الظواهر - أي عالم الحتمية – ليس عالم اليقين على حين أن عالم الشيء بذاته المشتمل على الحرية هو عالم الحقيقة إذن كيف تتحد الحري بالحتمية ، وكيف تتفق السببية المحسوسة مع السببية المعقولة . لقد علل ( كنت ) هذا الاتحاد بقوله : ان أفعال الإنسان تؤلف سلسلة متصلة الحلقات بعضها مرتبط ببعض ارتباطاً ضروريا . إلا أن مجموع هذه السلسلة تابع لحرية الاختيار . ولما كان عمل الإرادة خارجاً عن الزمان ، كان من الممكن أن نتصوره ساريا في كل فعل جزئي . فالسببية الطبيعية تقتضي أن تكون كل حادثة من حوادث السلسلة تابعة لما قبلها بحسب النظم والقوانين المعلومة ، ولكنها لا تمنع السلسلة بمجموعها من أن تكون تابعة لسبب أولي مفارق . اننا نستطيع أن ننتخب سجيتنا التجريبية دفعة واحدة خارج عالم الظواهر ، ونستطيع أن نختارها بحرية من غير أن نفسد بذلك عمل الأسباب الفاعلة .
ظلمات هذه النظرية .
- لا نستطيع أن ندرك قيمة هذه النظرية إلا اذا فصلنا القول فيها على مذهب ( كنت ) نفسه ولما كنا لا نستطيع في علم النفس أن نسهب في الكلام عليها ة صرنا بحثنا فيها الآن على الإشارة الى بعض الظلمات المحيطة بها .
۱ - فمن هذه الظلمات انقسام الوجود عند ( كانت ) الى وجودين : وجود ظاهر وه و عالم الظواهر ، ووجود حقيقي ، وهو عالم الشيء بذاته .
٢ - ومنها قوله أن الزمان والمكان صورتان أوليتان متقدمتان على التجربة ( راجع نظرية ( كنت ) في ا ادراك ك العالم الخارجي ، ص ٣٤٩ ) .
٣ - ومنها قوله أن العلم مقصور على معرفة الظواهر ، لأن الشيء بذاته لا يدرك بالعلم ، ولولا ذلك لما صرح بأنه هجر العلم ليترك في قلبه محملا للإيمان .
٤ - ومنها قوله بوجود سبب أولي خارج عن الزمان ، منبث في كل فعل جزئي .
٥ - ومنها قوله بتجريد الحرية عن الزمان والمكان ، مع أن الحرية التي نقول بها و نصدق بها ، هي حرية الشعور ، أي الحرية الحقيقية الداخلة في الزمان والمكان .
وقصارى القول أن ( كانت ) لم ينجح في الجمع بين الحرية والحتمية ، لأنه اعتقد أن الحرية ابتداء أول ، أو خلق الشيء بعد أن لم يكن ، كما اعتقد أيضاً أن الحتمية ارتباط ضروري بين الظواهر ، وأن العلم ليس له الا قيمة نسبية .
ومعنى ذلك كله أن ( كانت ) قد أخفق في الجمع بين الحرية والحتمية ، كما أخفق من قبل في ذلك ( ديكارت ) و ( ليبنز ) . ولم يتوصل العلماء المعاصرون الى التوفيق بين هذين الأمرين الا بعد أن أعملوا معاول النقد في تهديم الحتمية المطلقة من جهة ، والحرية المطلقة من جهة اخرى .
تعليق