العلم يقتضي الحتمية .. الحرية والحتمية
ب ـ العلم يقتضي الحتمية
- إذا كان الشعور يستلزم الحرية ؛ فإن العلم يستلزم الحتمية .
الفرق بين الحتمية الطبيعية ومذهب الجبرية .
- ان الحتمية الطبيعية التي يستلزمها العلم مختلفة عن الجبر . الجبريون يقولون :
إن الانسان مجبور على أفعاله ومقهور ، لأنه إذا فرض أن الأنسان يحدث لأفعاله وخالق لها ، وجب أن يكون مهنا أفعال لا تجري على مشيئة الله ولا اختياره ، فيكون هنالك خالق غير الله . قالوا : والانسان لا يقدر على شيء ، ولا يوصف بالاستطاعة ، إنما هو مجبور على أفعاله ، لا قدرة له ، ولا إرادة ، ولا اختيار . والله تعالى هو الذي يخلق الأفعال فيه على ما تخلق في سائر الجمادات ، فتنسب اليه الأفعال ، كما تنسب إلى الجمادات ، كما يقال : أثمرت الشجرة ، وجرى الماء ، وتحرك الحجر ، وطلعت الشمس ، وغربت ، وازدهرت الأرض وأنبتت . والثواب والعقاب جبر ، كما أن الافعال جبر ، والتكليف جبر .
وليس مذهب الجبر هذا مذهباً حديثاً ، وإنما هو مذهب قديم قال به اليونان ، والرومان ، كما قالت به بعض الفرق الاسلامية كالجهمية ( ۱ ) ، وهو مذهب الكسل والراحة والاستسلام ، لانه يجرد الانسان من كل فعل ، وكسب ، ، ، وتأثير ، ويزعم أن الحوادث تجري على ترتيب منضود ، ونظام محدود ، ليس للإنسان فيه تأثير ما دام كل شيء مكتوبا في لوح محفوظ .
وبديهي أن هذا المذهب مختلف عن مذهب الحتمية الطبيعية ، لان هذا المذهب الاخير مذهب علمي يقول بارتباط الافعال بالاسباب الطبيعية ، من غير أن يرجعها إلى قضاء وقدر ، أو إلى حلول ، أو غير ذلك من الاسباب الكونية ، أو الإلهية . ولنبحث الآن في الحتمية التي يقتضيها العلم .
القول بالحتمية الطبيعية مسامة علمية متقدمة على التجربة .
- إن غاية العلم معرفة الاسباب ، ومعرفة الاسباب هي التنبؤ ، والتنبؤ هو معرفة وجود الشيء في المستقبل ، أو لا وجوده . ولما كان ترتيب الاسباب ، أو نظامها يقتضي وجود الشيء في عدهه في . ذلك الوقت ، وجب أن يكون العلم بأسباب شيء ما ، هو العلم وقت ما ، أو بوجود ذلك ، أو عدمه في وقت ما .
١ - ولكن العلم لا يستطيع الوصول إلى هذه الغاية إلا إذا قيد الحوادث الجارية في الزمان والمكان بروابط عامة ثابتة ، بحيث يستطيع العقل أن يستند اليها ، ويتنبأ بما يمكن وقوعه منها في وقت من الاوقات . والحرية لا تتفق هذا التقيد ، لان مع وجودها يمنع الاسباب من توليد النتائج ، فالعلم يبطل الحرية حفظاً لترتيب الاسباب ، وحرصاً على نظام الحوادث .
٢ - أضف إلى ذلك أن العلم محيط بالماضي والحاضر ، أما المستقبل فإنه لا يحيط به إلا على قدر معرفته بالقوانين الطبيعية ، أي على قدر ارتباط مستقبله بحاضره ، فهو يبطل اذن كل علة غائية ؛ أما الحرية فتستلزم الاخذ بالاسباب الغائية ، لانها تقتضي أن يكون للمستقبل ، أو لتصور الغاية الممكنة تأثير في الاسباب الحاضرة ، وهذا مخالف للعلم .
ينتج من ذلك ان العلم مبني على الحتمية ، اعني انه يسلم ، قبل التجربة ، بأن الظواهر الطبيعية خاضعة لنظام ثابت ، وهذه الحتمية تجدها في علم الفلك ، وعلم الفيزياء وعلم الكيمياء ، كما تجدها في علم الحياة ، وعلم الاجتماع ، وعلم النفس ، ولنبحث الآن في ضرورة فرضية الحتمية لهذه العلوم المختلفة .
۱ - الحتمية في علم الفلك ، والكيمياء ، والفيزياء . - ان القوانين التي كشف عنها علماء الفلك ، والفيزياء ، والكيمياء ، تدل على ان الظواهر التي تبحث فيها هذه العلوم خاضعة لمبدأ الحتمية . فالعالم يكشف اولاً عن ارتباط الملل بالمعلولات ، ثم يقيس هذه الروابط بمقاييس مادية ، ويعبر عنها بمعادلات ، او دالات ( توابع ) رياضية .
آ - ان الفلكي مهندس سماوي يستند الى مبدأ الجاذبية العامة في تحديد حركات الكواكب السيارة وأفلاكها ، ويتنبأ بالحوادث قبل وقوعها ، واذا صادف في طريقه حادثة متناقضة لا يمكنه ربطها ربطاً ضروريا بإحدى شرائط الوجود المعينة كذبها ، او وضع لها شرطاً جديداً ، كما فعل ) لوفريه ( في كشفه عن كوكب ( نبتون ) . فإنه لما شاهد انحرافاً في مدار الكوكب ( اورانوس ) لا يمكن تعليله بإحدى شرائط الوجود المعلومة ، عزا ذلك الى سبب آخر ، وهو وجود الكوكب نبتون ) الذي لم يكن معروفاً من قبل . فالحقائق التي يكشف عنها علماء الفلك ثمرة من ثمرات الدراسات الكمية والعددية ، وهي تدل على تقيد حركات الكواكب بنظام طبيعي ثابت .
ب - وعلما الفيزياء ، والكيمياء يدلان ايضاً على تقيد ظواهر الطبيعة ، وخضوعها لنظام ثابت ، لقد كشف علماء الفيزياء ، والكيمياء عن قوانين طبيعية تصلح للتنبؤ ، قالوا : قد تؤلف القوى الفاعلة منظومات منغلقة ، وقد تؤلف منظومات منفتحة ؛ الا ان التقيد لا يخطىء فيها ابداً ، كأن العالم بأسره منظومة واحدة لا يضيع منها شي ، ، ولا يخلق فيها شيء ، بل يتبدل فيها كل شيء من حال إلى حال آخر وفقاً لقوانين التكافؤ الميكانيكي . فلو اطلعنا على جميع القوى الفاعلة ، وعرفنا شدتها ، واتجاهها ، ونقاط استنادها ، و أدركنا الأسباب المادية على الإطلاق ، اعرفنا ما يبقى منها ، وما يزول في وقت من الاوقات ، وحصلنا على مفاتيح الغيب ، وأحطنا علماً بالحاضر والماضي والمستقبل .
ج - الحتمية في علوم الحياة .
- لم يكن لعلوم الحياة قبل الأخذ بمبدأ الحتمية صفة وضعية حقيقية ، فلما اعترفت بهذا المبدأ ، أخذ العلماء يرجعون أكثر ظواهر الحياة إلى ظواهر فيزيائية ، أو كيميائية ، ولئن كانوا لم ينجحوا في هذه العلوم حق الآن كما نجحوا في علوم الفيزياء ، والكيمياء ، لقد نجحوا على الأقل في دراسة مطابقة الأعضاء للوظائف ، وتعليل أشكالها ، وصورها ، وإرجاعها إلى شرائط خارجية ثابتة . وما زالوا يبحثون عن أصل الحياة ، واختلاف صورها على مذهب التطور ، حق أصبحنا الآن نعتقد أنه لاغنى لهذه العلوم عن مبدأ الحتمية الطبيعية .
د - الحتمية في التاريخ وعلم الاجتماع والأخلاق .
- إذا كانت العلوم المعنوية - أي العلوم التي تبحث في الامور الوجدانية - قد ظلت في الماضي بمعزل عن الحتمية الطبيعية ، فمرد ذلك الى ان القول بهذه الحتمية مضاد للقول بحرية الارادة ، ولكن علماء زما نناقد أخذوا اليوم يسلكون في هذه العلوم طريق العلوم المادية ، قائلين أن الظواهر الاجتماعية خاضعة للحتمية كغيرها من الظواهر ، وان الخير والشر هما نتيجة طبيعية للمزاج والإقليم ، و إن الأرض تنبت الفضيلة ، والرذيلة كما تنبت قصب السكر ، و الحنظل . نعم ان بعض المؤرخين يعتقد أن للعظماء تأثيراً في تسيير دفة التاريخ ، وتوجيه الوقائع ، ولكن بعضهم الآخر يعتقدون أن الوقائع نتيجة ضرورية للأسباب الطبيعية والاقتصادية ، وأن العظماء أنفسهم سبب من هذه الأسباب ، وأن الوقائع تصل إلى نهايتها وان لم يؤثر فيها أحد ، ويسمى مذهبهم هذا بالمادية التاريخية . ومع أن بعض علماء الاجتماع لا يزالون يعتقدون أن الحياة الاجتماعية خاضعة لإرادة المشترعين ، وحرية الأفراد ، فإن بعضهم الآخر يستعين في دراساته بعلم الاحصاء والتاريخ ، ويسلك طريق المقارنة والمقايسة ، ويستنتج من ذلك أن الظواهر الاجتماعية خاضعة لمبدأ الحتمية .
ولما كانت الامور الأخلاقية اجتماعية بالذات ، زعم فلاسفة الحتمية أنها مقيدة ، أي خاضمة لمبدأ الحتمية ، كالظواهر الاجتماعية .
ينتج من ذلك كله أن جميع ظواهر الحياة الإنسانية مقيدة بنظام ثابت ، وهي ! لا تختلف في ذلك . عن غيرها من الظواهر الطبيعية .
ه - الحتمية النفسية .
- ان نجاح العلماء في إخضاع الظواهر المادية لمبدأ الحتمية دفعهم إلى تطبيق هذا المبدأ في دراسة أحوال النفس ، فزعموا ان الأحوال النفسية مقيدة بالعوامل العضوية والمؤثرات الخارجية ، وان افعالنا تجري على نظام محدود وفقا لهذه العوامل ، وان الأحوال النفسية مقيدة أيضاً بعضها ببعض ، وانها خاضعة لقوانين حقيقية ، كقانون تداعي الأفكار وغيره ، وقد أثبتوا زعمهم هذا بتحليل الفعل الإرادي وبإمكان التنبؤ بالأفعال قبل حدوثها .
فتحليل الفعل الإوادي يبين لنا أن الفعل مسبوق بالروية والمناقشة ، وأن العامل القوي في هذه المناقشة يتغلب على العامل الضعيف ، وأن الإنسان أشبه شيء بميزان تحركه الدوافع والبواعث ، فاهتزاز الميزان هو المناقشة ، والأوزان الموضوعة في الكفتين هي البواعث والدوافع ، والعزم هو ميل إحدى الكفتين إلى الجهة الوازنة .
وإمكان التنبؤ بالأفعال قبل حدوثها يدل أيضاً على تقيد الأحوال النفسية ، لأن معرفتنا بصفات المرء ، وأخلاقه تجعلنا نتنبأ بما سيقوم به من الأفعال في المواقف المختلفة ، قال ( استوارت ميل ) :
( لو اطلعنا على العوامل المؤثرة في الذهن في وقت من الأوقات ، وأحطنا علماً بسجية المره واستعداداته الحاضرة ، وعرفنا شخصيته ، وأدركنا جميع الأسباب المؤثرة فيها ، لتنبأنا بأفعاله المقبلة ، وبسلوكه في وقت من الأوقات ، كما تتنبأ بحدوث إحدى الظواهر " الفيزيائية ) .
ثم ان فلاسفة الحتمية يزعمون - كما بينا سابقاً - أن شهادة الشعور كاذبة ، فالشعور عندهم لا يطلعنا على الحرية قبل الفعل ، ولا مع الفعل ، ولا بعد الفعل ، لأنه كما قال ( استوارت میل : ليس نبياً ، انا نشعر بما في نفوسنا من الرغائب المتعارضة ، ونطلع على ارتباط الصور ، والأفكار بعضها ببعض ، وندرك كيف يتغلب القوي منها على الضعيف ، ولكننا لا ندرك أننا قادرون على فعل من الأفعال إلا بعد وقوعه ، وإذا قيل ان الاسف على وقوع فعل من الافعال دليل على أن المرء كان قادراً على القيام بفعل آخر غيره ، قلنا ان هذا خطأ فاضح ، لان حصول الاسف لا يدل إلا على تغير الشروط والظروف ، فقد كنا نجهل نتائج الفعل قبل القيام به ، فلما ادركنا نتائجه أسفنا على حدوثه ، ولو كنا عالمين بنتائجه القررنا أمراً آخر ، ولكان هذا الأمر الآخر مقيداً كغيره .
وأخيراً ان فلاسفة الحتمية يثبتون لنا ان اعتقاد الحرية أكبر دليل على وجود الحتمية ، لاننا لا نقول بالحرية إلا عندما نجهل أسباب أفعالنا ، فنتخيل لها سبباً تخلصاً من الوقوع في اللاحتمية ، ونقول انها صادرة عن ( الانا ) ، أو عن حرية الاختياره . فالجهل بالاسباب العميقة يجعلنا نقول بصدور بعض أفعالنا عن الحرية ، والتعليل بالحرية ليس سوى تطبيق لمبدأ السببية .
ينتج من كل ما تقدم ان العلم يدخل فرضية الحتمية على كل ظاهرة من ظواهر الوجود ، ويجعل افعال الانسان مقيدة كغيرها من الاشياء . ولسنا نريد الآن أن نعود إلى الرد على تأويل فلاسفة الحتمية ، وعلى تحليلهم للفعل الإرادي ، فقد كفانا ( هنري برغسون ) مؤونة الرد عليهم . ولكننا نقول : ان الاختلاف بين الشعور والعلم اختلاف تام ، فالشعور يثبت الحرية ، والعلم يثبت الحتمية ، وأصحاب مذهب الحرية يحملون على العلم المادي حملة شعواء ، ويبينون لنا أن الحتمية ليست مطلقة ، وان قوانين العلم نسبية ، أو اصطلاحية ، وانها لا تطلعنا على حقيقة الوجود وأصحاب مذهب الحتمية يبطلون شهادة الشعور ، ويقولون انها وهم ، أو معرفة ابتدائية ، أو إدراك موقت ناقص ، وانها لا تقاس باليقين العلمي ، والمعرفة الوضعية الثابتة .
فهل يجب الوقوف عند هذا الحد من تعارض الادلة ؟ أم يجب التوفيق بين العلم والشعور ، وبين الحتمية والحرية ؟ .
ب ـ العلم يقتضي الحتمية
- إذا كان الشعور يستلزم الحرية ؛ فإن العلم يستلزم الحتمية .
الفرق بين الحتمية الطبيعية ومذهب الجبرية .
- ان الحتمية الطبيعية التي يستلزمها العلم مختلفة عن الجبر . الجبريون يقولون :
إن الانسان مجبور على أفعاله ومقهور ، لأنه إذا فرض أن الأنسان يحدث لأفعاله وخالق لها ، وجب أن يكون مهنا أفعال لا تجري على مشيئة الله ولا اختياره ، فيكون هنالك خالق غير الله . قالوا : والانسان لا يقدر على شيء ، ولا يوصف بالاستطاعة ، إنما هو مجبور على أفعاله ، لا قدرة له ، ولا إرادة ، ولا اختيار . والله تعالى هو الذي يخلق الأفعال فيه على ما تخلق في سائر الجمادات ، فتنسب اليه الأفعال ، كما تنسب إلى الجمادات ، كما يقال : أثمرت الشجرة ، وجرى الماء ، وتحرك الحجر ، وطلعت الشمس ، وغربت ، وازدهرت الأرض وأنبتت . والثواب والعقاب جبر ، كما أن الافعال جبر ، والتكليف جبر .
وليس مذهب الجبر هذا مذهباً حديثاً ، وإنما هو مذهب قديم قال به اليونان ، والرومان ، كما قالت به بعض الفرق الاسلامية كالجهمية ( ۱ ) ، وهو مذهب الكسل والراحة والاستسلام ، لانه يجرد الانسان من كل فعل ، وكسب ، ، ، وتأثير ، ويزعم أن الحوادث تجري على ترتيب منضود ، ونظام محدود ، ليس للإنسان فيه تأثير ما دام كل شيء مكتوبا في لوح محفوظ .
وبديهي أن هذا المذهب مختلف عن مذهب الحتمية الطبيعية ، لان هذا المذهب الاخير مذهب علمي يقول بارتباط الافعال بالاسباب الطبيعية ، من غير أن يرجعها إلى قضاء وقدر ، أو إلى حلول ، أو غير ذلك من الاسباب الكونية ، أو الإلهية . ولنبحث الآن في الحتمية التي يقتضيها العلم .
القول بالحتمية الطبيعية مسامة علمية متقدمة على التجربة .
- إن غاية العلم معرفة الاسباب ، ومعرفة الاسباب هي التنبؤ ، والتنبؤ هو معرفة وجود الشيء في المستقبل ، أو لا وجوده . ولما كان ترتيب الاسباب ، أو نظامها يقتضي وجود الشيء في عدهه في . ذلك الوقت ، وجب أن يكون العلم بأسباب شيء ما ، هو العلم وقت ما ، أو بوجود ذلك ، أو عدمه في وقت ما .
١ - ولكن العلم لا يستطيع الوصول إلى هذه الغاية إلا إذا قيد الحوادث الجارية في الزمان والمكان بروابط عامة ثابتة ، بحيث يستطيع العقل أن يستند اليها ، ويتنبأ بما يمكن وقوعه منها في وقت من الاوقات . والحرية لا تتفق هذا التقيد ، لان مع وجودها يمنع الاسباب من توليد النتائج ، فالعلم يبطل الحرية حفظاً لترتيب الاسباب ، وحرصاً على نظام الحوادث .
٢ - أضف إلى ذلك أن العلم محيط بالماضي والحاضر ، أما المستقبل فإنه لا يحيط به إلا على قدر معرفته بالقوانين الطبيعية ، أي على قدر ارتباط مستقبله بحاضره ، فهو يبطل اذن كل علة غائية ؛ أما الحرية فتستلزم الاخذ بالاسباب الغائية ، لانها تقتضي أن يكون للمستقبل ، أو لتصور الغاية الممكنة تأثير في الاسباب الحاضرة ، وهذا مخالف للعلم .
ينتج من ذلك ان العلم مبني على الحتمية ، اعني انه يسلم ، قبل التجربة ، بأن الظواهر الطبيعية خاضعة لنظام ثابت ، وهذه الحتمية تجدها في علم الفلك ، وعلم الفيزياء وعلم الكيمياء ، كما تجدها في علم الحياة ، وعلم الاجتماع ، وعلم النفس ، ولنبحث الآن في ضرورة فرضية الحتمية لهذه العلوم المختلفة .
۱ - الحتمية في علم الفلك ، والكيمياء ، والفيزياء . - ان القوانين التي كشف عنها علماء الفلك ، والفيزياء ، والكيمياء ، تدل على ان الظواهر التي تبحث فيها هذه العلوم خاضعة لمبدأ الحتمية . فالعالم يكشف اولاً عن ارتباط الملل بالمعلولات ، ثم يقيس هذه الروابط بمقاييس مادية ، ويعبر عنها بمعادلات ، او دالات ( توابع ) رياضية .
آ - ان الفلكي مهندس سماوي يستند الى مبدأ الجاذبية العامة في تحديد حركات الكواكب السيارة وأفلاكها ، ويتنبأ بالحوادث قبل وقوعها ، واذا صادف في طريقه حادثة متناقضة لا يمكنه ربطها ربطاً ضروريا بإحدى شرائط الوجود المعينة كذبها ، او وضع لها شرطاً جديداً ، كما فعل ) لوفريه ( في كشفه عن كوكب ( نبتون ) . فإنه لما شاهد انحرافاً في مدار الكوكب ( اورانوس ) لا يمكن تعليله بإحدى شرائط الوجود المعلومة ، عزا ذلك الى سبب آخر ، وهو وجود الكوكب نبتون ) الذي لم يكن معروفاً من قبل . فالحقائق التي يكشف عنها علماء الفلك ثمرة من ثمرات الدراسات الكمية والعددية ، وهي تدل على تقيد حركات الكواكب بنظام طبيعي ثابت .
ب - وعلما الفيزياء ، والكيمياء يدلان ايضاً على تقيد ظواهر الطبيعة ، وخضوعها لنظام ثابت ، لقد كشف علماء الفيزياء ، والكيمياء عن قوانين طبيعية تصلح للتنبؤ ، قالوا : قد تؤلف القوى الفاعلة منظومات منغلقة ، وقد تؤلف منظومات منفتحة ؛ الا ان التقيد لا يخطىء فيها ابداً ، كأن العالم بأسره منظومة واحدة لا يضيع منها شي ، ، ولا يخلق فيها شيء ، بل يتبدل فيها كل شيء من حال إلى حال آخر وفقاً لقوانين التكافؤ الميكانيكي . فلو اطلعنا على جميع القوى الفاعلة ، وعرفنا شدتها ، واتجاهها ، ونقاط استنادها ، و أدركنا الأسباب المادية على الإطلاق ، اعرفنا ما يبقى منها ، وما يزول في وقت من الاوقات ، وحصلنا على مفاتيح الغيب ، وأحطنا علماً بالحاضر والماضي والمستقبل .
ج - الحتمية في علوم الحياة .
- لم يكن لعلوم الحياة قبل الأخذ بمبدأ الحتمية صفة وضعية حقيقية ، فلما اعترفت بهذا المبدأ ، أخذ العلماء يرجعون أكثر ظواهر الحياة إلى ظواهر فيزيائية ، أو كيميائية ، ولئن كانوا لم ينجحوا في هذه العلوم حق الآن كما نجحوا في علوم الفيزياء ، والكيمياء ، لقد نجحوا على الأقل في دراسة مطابقة الأعضاء للوظائف ، وتعليل أشكالها ، وصورها ، وإرجاعها إلى شرائط خارجية ثابتة . وما زالوا يبحثون عن أصل الحياة ، واختلاف صورها على مذهب التطور ، حق أصبحنا الآن نعتقد أنه لاغنى لهذه العلوم عن مبدأ الحتمية الطبيعية .
د - الحتمية في التاريخ وعلم الاجتماع والأخلاق .
- إذا كانت العلوم المعنوية - أي العلوم التي تبحث في الامور الوجدانية - قد ظلت في الماضي بمعزل عن الحتمية الطبيعية ، فمرد ذلك الى ان القول بهذه الحتمية مضاد للقول بحرية الارادة ، ولكن علماء زما نناقد أخذوا اليوم يسلكون في هذه العلوم طريق العلوم المادية ، قائلين أن الظواهر الاجتماعية خاضعة للحتمية كغيرها من الظواهر ، وان الخير والشر هما نتيجة طبيعية للمزاج والإقليم ، و إن الأرض تنبت الفضيلة ، والرذيلة كما تنبت قصب السكر ، و الحنظل . نعم ان بعض المؤرخين يعتقد أن للعظماء تأثيراً في تسيير دفة التاريخ ، وتوجيه الوقائع ، ولكن بعضهم الآخر يعتقدون أن الوقائع نتيجة ضرورية للأسباب الطبيعية والاقتصادية ، وأن العظماء أنفسهم سبب من هذه الأسباب ، وأن الوقائع تصل إلى نهايتها وان لم يؤثر فيها أحد ، ويسمى مذهبهم هذا بالمادية التاريخية . ومع أن بعض علماء الاجتماع لا يزالون يعتقدون أن الحياة الاجتماعية خاضعة لإرادة المشترعين ، وحرية الأفراد ، فإن بعضهم الآخر يستعين في دراساته بعلم الاحصاء والتاريخ ، ويسلك طريق المقارنة والمقايسة ، ويستنتج من ذلك أن الظواهر الاجتماعية خاضعة لمبدأ الحتمية .
ولما كانت الامور الأخلاقية اجتماعية بالذات ، زعم فلاسفة الحتمية أنها مقيدة ، أي خاضمة لمبدأ الحتمية ، كالظواهر الاجتماعية .
ينتج من ذلك كله أن جميع ظواهر الحياة الإنسانية مقيدة بنظام ثابت ، وهي ! لا تختلف في ذلك . عن غيرها من الظواهر الطبيعية .
ه - الحتمية النفسية .
- ان نجاح العلماء في إخضاع الظواهر المادية لمبدأ الحتمية دفعهم إلى تطبيق هذا المبدأ في دراسة أحوال النفس ، فزعموا ان الأحوال النفسية مقيدة بالعوامل العضوية والمؤثرات الخارجية ، وان افعالنا تجري على نظام محدود وفقا لهذه العوامل ، وان الأحوال النفسية مقيدة أيضاً بعضها ببعض ، وانها خاضعة لقوانين حقيقية ، كقانون تداعي الأفكار وغيره ، وقد أثبتوا زعمهم هذا بتحليل الفعل الإرادي وبإمكان التنبؤ بالأفعال قبل حدوثها .
فتحليل الفعل الإوادي يبين لنا أن الفعل مسبوق بالروية والمناقشة ، وأن العامل القوي في هذه المناقشة يتغلب على العامل الضعيف ، وأن الإنسان أشبه شيء بميزان تحركه الدوافع والبواعث ، فاهتزاز الميزان هو المناقشة ، والأوزان الموضوعة في الكفتين هي البواعث والدوافع ، والعزم هو ميل إحدى الكفتين إلى الجهة الوازنة .
وإمكان التنبؤ بالأفعال قبل حدوثها يدل أيضاً على تقيد الأحوال النفسية ، لأن معرفتنا بصفات المرء ، وأخلاقه تجعلنا نتنبأ بما سيقوم به من الأفعال في المواقف المختلفة ، قال ( استوارت ميل ) :
( لو اطلعنا على العوامل المؤثرة في الذهن في وقت من الأوقات ، وأحطنا علماً بسجية المره واستعداداته الحاضرة ، وعرفنا شخصيته ، وأدركنا جميع الأسباب المؤثرة فيها ، لتنبأنا بأفعاله المقبلة ، وبسلوكه في وقت من الأوقات ، كما تتنبأ بحدوث إحدى الظواهر " الفيزيائية ) .
ثم ان فلاسفة الحتمية يزعمون - كما بينا سابقاً - أن شهادة الشعور كاذبة ، فالشعور عندهم لا يطلعنا على الحرية قبل الفعل ، ولا مع الفعل ، ولا بعد الفعل ، لأنه كما قال ( استوارت میل : ليس نبياً ، انا نشعر بما في نفوسنا من الرغائب المتعارضة ، ونطلع على ارتباط الصور ، والأفكار بعضها ببعض ، وندرك كيف يتغلب القوي منها على الضعيف ، ولكننا لا ندرك أننا قادرون على فعل من الأفعال إلا بعد وقوعه ، وإذا قيل ان الاسف على وقوع فعل من الافعال دليل على أن المرء كان قادراً على القيام بفعل آخر غيره ، قلنا ان هذا خطأ فاضح ، لان حصول الاسف لا يدل إلا على تغير الشروط والظروف ، فقد كنا نجهل نتائج الفعل قبل القيام به ، فلما ادركنا نتائجه أسفنا على حدوثه ، ولو كنا عالمين بنتائجه القررنا أمراً آخر ، ولكان هذا الأمر الآخر مقيداً كغيره .
وأخيراً ان فلاسفة الحتمية يثبتون لنا ان اعتقاد الحرية أكبر دليل على وجود الحتمية ، لاننا لا نقول بالحرية إلا عندما نجهل أسباب أفعالنا ، فنتخيل لها سبباً تخلصاً من الوقوع في اللاحتمية ، ونقول انها صادرة عن ( الانا ) ، أو عن حرية الاختياره . فالجهل بالاسباب العميقة يجعلنا نقول بصدور بعض أفعالنا عن الحرية ، والتعليل بالحرية ليس سوى تطبيق لمبدأ السببية .
ينتج من كل ما تقدم ان العلم يدخل فرضية الحتمية على كل ظاهرة من ظواهر الوجود ، ويجعل افعال الانسان مقيدة كغيرها من الاشياء . ولسنا نريد الآن أن نعود إلى الرد على تأويل فلاسفة الحتمية ، وعلى تحليلهم للفعل الإرادي ، فقد كفانا ( هنري برغسون ) مؤونة الرد عليهم . ولكننا نقول : ان الاختلاف بين الشعور والعلم اختلاف تام ، فالشعور يثبت الحرية ، والعلم يثبت الحتمية ، وأصحاب مذهب الحرية يحملون على العلم المادي حملة شعواء ، ويبينون لنا أن الحتمية ليست مطلقة ، وان قوانين العلم نسبية ، أو اصطلاحية ، وانها لا تطلعنا على حقيقة الوجود وأصحاب مذهب الحتمية يبطلون شهادة الشعور ، ويقولون انها وهم ، أو معرفة ابتدائية ، أو إدراك موقت ناقص ، وانها لا تقاس باليقين العلمي ، والمعرفة الوضعية الثابتة .
فهل يجب الوقوف عند هذا الحد من تعارض الادلة ؟ أم يجب التوفيق بين العلم والشعور ، وبين الحتمية والحرية ؟ .
تعليق