الارادة والعقل ، النظريات العقلية .. العوامل النفسية .. حقيقة الإرادة
٣ - الارادة والعقل ، النظريات العقلية :
يقول العقليون : ان في كل فعل إرادي عناصر عقلية ، وان هذه العناصر جوهر الارادة .
ان إرجاع الارادة الى العقل ليس رأيا جديداً ، لأن القدماء أشاروا اليه في مذاهبهم الأخلاقية ، فمما قاله ( سقراط ) : ان تصور الخير كاف لفعله ، أعني أن السلوك ترجمان المعرفة . ومما قاله ( أفلاطون ) : ان الانسان لا يفعل الشر مختاراً ( Platon ( 358 Protagoras ) ، والرذائل تتولد من الجهل ، والفضائل من العلم ، والشرير أحمق أو مجنون ، ولو عقل لما أتى أمر آفريا . ومما قاله ( أرسطو ) : ان العزم الإرادي شبيه بنتيجة القياس ، تقول لك الشهوة مثلاً يجب أن تشرب ، فيحكم العقل بأن هذا الشراب يمكن أن يشرب ، فتشرب . فتقرير الشرب إذن ناشيء عن حكم عقلي ، لأن الحكم على وجوب الشيء كاف لفعله .
وقد أخذ ( ديكارت ) أيضاً بمقدمات هذا الرأي ، فقال : إن الحكم تابع لبداهة الأفكار الواضحة و البينة ، وإن العمل الصالح ناشيء عن الحكم الصحيح ( مقالة الطريقة - قسم ( ۳ ) ، وإن الفضائل تنشأ عن العلم ، والرذائل عن الجهل ، إلا أن هذا القول لا يدل على إرجاع الإرادة إلى المقل ، بل يدل على تأثير العناصر العقلية في الفعل الإرادي .
وقد غالى ( سبينوزا ) في هذا الرأي حق جعل العقل جوهر الإرادة . قال : ان الإرادة صورة من صور العقل ، أو قوة من قوى الفكر ، و المعاني ليست أشياء خالية من الحياة کالرسوم المنقوشة على الألواح ، وإنما هي نزعات ، لا تلبث إحداها أن تتحقق حقى تتغلب على غيرها . فلا فرق إذن بين الإرادة والعقل ؛ وهذا بعيد عن رأي ( ديكارت ) تماما ، لأن أبا الفلسفة الحديثة لم يتجرأ على القول إن الإرادة تنحل إلى العقل ، بل اقتصر على القول إن في وسع الإرادة أن تذهب إلى ما وراء العقل ، وأن توقف الحكم . أمــــا ( سبينوزا ) فقد أنكر ذلك وقرر أن الإرادة لا تستطيع أن توقف الحكم ، وإن كانت حدوده غامضة . قال : قد يتوقف الإنسان عن الحكم ، ولكن هذا التوقف لا ينشأ عن الإرادة ، بل ينشأ عن غموض المعاني ، وتشويش الإدراك . فإذا كانت المعاني غامضة لم يدرك العقل روابطها ، لأن كل معنى من المعاني يشتمل في ذاته على سلب ، أو إيجاب ، وإذا كان غير واضح أدى إلى التردد والشك . فالتوقف عن الحكم ، نتيجة من نتائج الإدراك ، لا وظيفة من وظائف الارادة .
ومن الذين اتبعوا المذهب العقلي في أيامنا هذه ( بول لابي ) في كتابه منطق الارادة ( ١ ) ، قال : إن الفعل لا يكون إراديا إلا إذا كان مصحوبا بقياس مقدمته الاولى حكم يرمي الى بيان قيمة الغاية ، ومقدمته الثانية مؤلفة من حكمين يرميان الى بيان قيمة الوسائل ، وما يلزم عنها من النتائج ، ونتيجته العزم على اتخاذ القرار .
المناقشة .
- لا شك أن العوامل العقلية تؤثر تأثيراً كبيراً في تكوين الفعل الارادى ، ولا جدال في أن الارادة تقتضي تصور الهدف قبل الفعل ، وتستدعي المناقشة ، أو تستلزم الشعور بتنازع الميول على الأقل ، حق لقد بين ( ريبو ) في كتاب أمراض الارادة ( ٢ ) ، أن بين العزم الارادي والحكم مشابهة . قال : ان العزم الارادي تصديق عملي ، أو حكم تنفيذي . وقال أيضا : الفرق بين الحكم والارادة الى أن الحكم يدل على توافق المعاني ، أو تنافرها . على حين أن الارادة لا تدل إلا على توافق النزعات ، أو تعارضها ، الأول يؤدي الى استقرار الفكر ، أما الثاني فهو مرحلة من مراحل العمل .
ولكن هذه الملاحظات لا تكفي لارجاع الارادة الى العقل ، ولا لاعتبارها قوة تابعة لتوافق المعاني . ان الاعتراضات التي أوردناها في فصل الاعتقاد تصلح هنا أيضاً الرد على المذهب العقلي . فالارادة ليست قوة ناشئة عن التصورات وانما هي تركيب ذهني تشترك فيه الشخصية العاقلة كلها ، وقد بين ( ريبو ) أن التصور أضعف الانفعال ، و أن الأفكار لا تحرك الانسان كما تحركه العواطف ، بل العواطف . هي المحرك الأول ، وهي التي تهب التصورات قوة جديدة . وكثيراً ما ترجع قوة الفكر الى العواطف التي يوقظها ، واذا خلت من هذه العواطف ، ضعف تأثيرها . والفرق عظيم بين لسان الحال ، ولسان المقال ؛ أي بين العلم بالخير والعمل به ، وبين ادراك فساد الاعتقاد والتجرد منه بالفعل ، وبين استنكار الهوى ومحاربته .
هذا ما حدا العلماء الى التفريق بين ميزة العقل ، وميزة الارادة ، فقد وصعوا الحفل بقولهم : انه كثير التردد والتشكك ، لأنه كثير التصور ، كثير التنقل ، من فكرة الى فكرة ، فإذا طلبت منه أن يعزم على شيء تصور جميع الأسباب المتعارضة ، لا يدري ما يصيد منها ، ولا يجرأ على بت الحكم ولا على العمل به والسبب في هذا الفرق بين رجال الفكر ورجال الأعمال ، أن المسائل العملية لا تحل كما تحل المسائل النظرية ، فقد تضطرنا مشكلات الحياة الى اتخاذ القرارات قبل أن تتضح لنا الامور اتضاحاً كافياً . وكثيراً ما نقع الخطأ للتسرع في الحكم ، وسبب ذلك أن شؤون الحياة لا تتحمل الارجاء والتأجيل ، ولو أدمنا الحجاج وأطلنا التردد ، لأضعنا الفرص الموافقة .
لا ومع ذلك فإن العقل يستلزم الاتجاه الى الحقيقة ، وفي هذا الاتجاه الى الحقيقة أثر عظيم للإرادة ، فكما أن الارادة توجب أن يكون المريد عالماً بالأسباب الباعثة على الفعل ، جاهلا بما يفعل ، ، كذلك يوجب العقل أن يكون الباحث مريداً للحقيقية عازماً على قبولها . دع أن البحث عن الحقيقة يستلزم صبراً جميلاً ، وجهداً طويلا ، وارادة قوية ، كما يستلزم عقلاً واسعاً ، وذكاءاً عميقاً ، واجتماع هذه الصفات في الفلاسفة والعلماء دليل على أن قوة الإرادة ملازمة لقوة العقل .
وقصارى القول أن المذهب المقلي يبالغ في تأثير المناصر العقلية في الفعل الارادي . فالانسان لا يريد الشيء لأنه يحكم بخير ينته ، بل يحكم بخير يته لأنه يريده ، وكل كائن حي فهو « باقة ) من الميول . وهي تدفعه الى القيام بأعمال متناسبة مع بنيته العضوية ، وكيانه النفسي . نعم ان هذه الأعمال عفوية تلقائية ، و هي بعيدة كل البعد عن الأفعال الارادية ، ولكن الميول هي التي توحي الينا بأكثر الأحكام العقلية التي يظهر لنا التحليل أنها متقدمة على الارادة .
٣ - الارادة والعقل ، النظريات العقلية :
يقول العقليون : ان في كل فعل إرادي عناصر عقلية ، وان هذه العناصر جوهر الارادة .
ان إرجاع الارادة الى العقل ليس رأيا جديداً ، لأن القدماء أشاروا اليه في مذاهبهم الأخلاقية ، فمما قاله ( سقراط ) : ان تصور الخير كاف لفعله ، أعني أن السلوك ترجمان المعرفة . ومما قاله ( أفلاطون ) : ان الانسان لا يفعل الشر مختاراً ( Platon ( 358 Protagoras ) ، والرذائل تتولد من الجهل ، والفضائل من العلم ، والشرير أحمق أو مجنون ، ولو عقل لما أتى أمر آفريا . ومما قاله ( أرسطو ) : ان العزم الإرادي شبيه بنتيجة القياس ، تقول لك الشهوة مثلاً يجب أن تشرب ، فيحكم العقل بأن هذا الشراب يمكن أن يشرب ، فتشرب . فتقرير الشرب إذن ناشيء عن حكم عقلي ، لأن الحكم على وجوب الشيء كاف لفعله .
وقد أخذ ( ديكارت ) أيضاً بمقدمات هذا الرأي ، فقال : إن الحكم تابع لبداهة الأفكار الواضحة و البينة ، وإن العمل الصالح ناشيء عن الحكم الصحيح ( مقالة الطريقة - قسم ( ۳ ) ، وإن الفضائل تنشأ عن العلم ، والرذائل عن الجهل ، إلا أن هذا القول لا يدل على إرجاع الإرادة إلى المقل ، بل يدل على تأثير العناصر العقلية في الفعل الإرادي .
وقد غالى ( سبينوزا ) في هذا الرأي حق جعل العقل جوهر الإرادة . قال : ان الإرادة صورة من صور العقل ، أو قوة من قوى الفكر ، و المعاني ليست أشياء خالية من الحياة کالرسوم المنقوشة على الألواح ، وإنما هي نزعات ، لا تلبث إحداها أن تتحقق حقى تتغلب على غيرها . فلا فرق إذن بين الإرادة والعقل ؛ وهذا بعيد عن رأي ( ديكارت ) تماما ، لأن أبا الفلسفة الحديثة لم يتجرأ على القول إن الإرادة تنحل إلى العقل ، بل اقتصر على القول إن في وسع الإرادة أن تذهب إلى ما وراء العقل ، وأن توقف الحكم . أمــــا ( سبينوزا ) فقد أنكر ذلك وقرر أن الإرادة لا تستطيع أن توقف الحكم ، وإن كانت حدوده غامضة . قال : قد يتوقف الإنسان عن الحكم ، ولكن هذا التوقف لا ينشأ عن الإرادة ، بل ينشأ عن غموض المعاني ، وتشويش الإدراك . فإذا كانت المعاني غامضة لم يدرك العقل روابطها ، لأن كل معنى من المعاني يشتمل في ذاته على سلب ، أو إيجاب ، وإذا كان غير واضح أدى إلى التردد والشك . فالتوقف عن الحكم ، نتيجة من نتائج الإدراك ، لا وظيفة من وظائف الارادة .
ومن الذين اتبعوا المذهب العقلي في أيامنا هذه ( بول لابي ) في كتابه منطق الارادة ( ١ ) ، قال : إن الفعل لا يكون إراديا إلا إذا كان مصحوبا بقياس مقدمته الاولى حكم يرمي الى بيان قيمة الغاية ، ومقدمته الثانية مؤلفة من حكمين يرميان الى بيان قيمة الوسائل ، وما يلزم عنها من النتائج ، ونتيجته العزم على اتخاذ القرار .
المناقشة .
- لا شك أن العوامل العقلية تؤثر تأثيراً كبيراً في تكوين الفعل الارادى ، ولا جدال في أن الارادة تقتضي تصور الهدف قبل الفعل ، وتستدعي المناقشة ، أو تستلزم الشعور بتنازع الميول على الأقل ، حق لقد بين ( ريبو ) في كتاب أمراض الارادة ( ٢ ) ، أن بين العزم الارادي والحكم مشابهة . قال : ان العزم الارادي تصديق عملي ، أو حكم تنفيذي . وقال أيضا : الفرق بين الحكم والارادة الى أن الحكم يدل على توافق المعاني ، أو تنافرها . على حين أن الارادة لا تدل إلا على توافق النزعات ، أو تعارضها ، الأول يؤدي الى استقرار الفكر ، أما الثاني فهو مرحلة من مراحل العمل .
ولكن هذه الملاحظات لا تكفي لارجاع الارادة الى العقل ، ولا لاعتبارها قوة تابعة لتوافق المعاني . ان الاعتراضات التي أوردناها في فصل الاعتقاد تصلح هنا أيضاً الرد على المذهب العقلي . فالارادة ليست قوة ناشئة عن التصورات وانما هي تركيب ذهني تشترك فيه الشخصية العاقلة كلها ، وقد بين ( ريبو ) أن التصور أضعف الانفعال ، و أن الأفكار لا تحرك الانسان كما تحركه العواطف ، بل العواطف . هي المحرك الأول ، وهي التي تهب التصورات قوة جديدة . وكثيراً ما ترجع قوة الفكر الى العواطف التي يوقظها ، واذا خلت من هذه العواطف ، ضعف تأثيرها . والفرق عظيم بين لسان الحال ، ولسان المقال ؛ أي بين العلم بالخير والعمل به ، وبين ادراك فساد الاعتقاد والتجرد منه بالفعل ، وبين استنكار الهوى ومحاربته .
هذا ما حدا العلماء الى التفريق بين ميزة العقل ، وميزة الارادة ، فقد وصعوا الحفل بقولهم : انه كثير التردد والتشكك ، لأنه كثير التصور ، كثير التنقل ، من فكرة الى فكرة ، فإذا طلبت منه أن يعزم على شيء تصور جميع الأسباب المتعارضة ، لا يدري ما يصيد منها ، ولا يجرأ على بت الحكم ولا على العمل به والسبب في هذا الفرق بين رجال الفكر ورجال الأعمال ، أن المسائل العملية لا تحل كما تحل المسائل النظرية ، فقد تضطرنا مشكلات الحياة الى اتخاذ القرارات قبل أن تتضح لنا الامور اتضاحاً كافياً . وكثيراً ما نقع الخطأ للتسرع في الحكم ، وسبب ذلك أن شؤون الحياة لا تتحمل الارجاء والتأجيل ، ولو أدمنا الحجاج وأطلنا التردد ، لأضعنا الفرص الموافقة .
لا ومع ذلك فإن العقل يستلزم الاتجاه الى الحقيقة ، وفي هذا الاتجاه الى الحقيقة أثر عظيم للإرادة ، فكما أن الارادة توجب أن يكون المريد عالماً بالأسباب الباعثة على الفعل ، جاهلا بما يفعل ، ، كذلك يوجب العقل أن يكون الباحث مريداً للحقيقية عازماً على قبولها . دع أن البحث عن الحقيقة يستلزم صبراً جميلاً ، وجهداً طويلا ، وارادة قوية ، كما يستلزم عقلاً واسعاً ، وذكاءاً عميقاً ، واجتماع هذه الصفات في الفلاسفة والعلماء دليل على أن قوة الإرادة ملازمة لقوة العقل .
وقصارى القول أن المذهب المقلي يبالغ في تأثير المناصر العقلية في الفعل الارادي . فالانسان لا يريد الشيء لأنه يحكم بخير ينته ، بل يحكم بخير يته لأنه يريده ، وكل كائن حي فهو « باقة ) من الميول . وهي تدفعه الى القيام بأعمال متناسبة مع بنيته العضوية ، وكيانه النفسي . نعم ان هذه الأعمال عفوية تلقائية ، و هي بعيدة كل البعد عن الأفعال الارادية ، ولكن الميول هي التي توحي الينا بأكثر الأحكام العقلية التي يظهر لنا التحليل أنها متقدمة على الارادة .
تعليق