تحليل الفعل الإرادي .. الارادة
تحليل الفعل الإرادي
لابد في تحليل الفعل الارادي من التفريق بين نية الفعل ، وارادة الفعل :
١ - نية الفعل .
- من صفات الحركات الارادية اشتمالها على تصور سابق لنتيجة الفعل . مثال ذلك : هبني كنت أعالج في مكتبي أمراً من الامور العويصة ، فخطر لي أن أترك للعمل وأذهب إلى أحد المتنزهات ترويحاً للنفس ، فإذا أغرتني هذه الفكرة ، ودفعتني إلى ترك العمل دون التفكير في العواقب . كان فعلي هذا أفعال النية ، من وهو شبيه بالفعل الذي سميناه بالفعل التصوري الحركي ، لأن تصور النزهة ولد جملة من الحركات الآلية ، إلا أن آليتها ليست تامة ، كآلية الفعل المنعكس ، لتقدم التصور فيها على الفعل ، ونحن نسمي هذه الفاعلية بفاعلية القصد ، أو النية ، لاشتمالها على رغبة ، وحاجة ، وأمل .
٢ - إرادة الفعل .
- إن إرادة الفعل أكثر تركيباً من نية الفعل ، لأنها لا تتضمن : تصوراً سابقاً فحسب ، بل تتضمن عناصر أخرى ، كنزوع النفس إلى الشيء مع الحكم عليه بأنه ينبغي أن يفعل ، أو لا يفعل ، ثم اتخاذ قرار بتنفيذ ذلك الحكم . ولتوضح هذه الشرائط بتحليل مثالين :
آ - هبني فكرت في النزهة كما في المثال السابق ، ولكني لم أخرج من غرفتي بدافع الميل والرغبة ، بل خرجت منها بعد أن حكمت بأن عندي من الوقت متسعاً لإنجاز عملي ، واني قد أصبح بعد النزهة أحسن استعداداً للفعل ، وانه خير لي أن أستفيد من الشمس والهواء الطلق .
ب - ثم هبني تذكرت جميع البواعث ، والدوافع المذكورة في المثال السابق ، و تصورت فوق ذلك انه يجب علي أن انجز عملي بسرعة ، فقاومت جميع نزعاتي ، وميولي وبقيت في غرفتي لإنجاز أعمالي .
ان كلا من هذين المثالين يشتمل على عناصر مختلفة ، ولكن الفعل الثاني أكثر تركيباً من الأول . وقد حلل الفلاسفة هذا الفعل وأرجعوه إلى أربع مراحل ، ويسمى تحليلهم هذا بالتحليل المدرسي .
٣ - التحليل المدرسي .
- يرجع الفلاسفة مراحل الفعل الارادي إلى أربع ، وهي :
أولاً – تصور الهدف Conception du but
ثانياً - مناقشة البواعث والدوافع ، أو الروية والتدبر Délidération
ثالثاً ـ القرار ، أو العزم Décision
رابعاً - التنفيذ Exécution
تصور الهدف . - لابد لنا في الفعل الارادي من تصور الهدف الذي نريد الوصول اليه . وهذا التصور مشترك بين نية الفعل ، وإرادة الفعل ، به يتميز الفعل الارادي عن الفعل المنعكس ، والفعل الغريزي .
المناقشة أو الروبة والتدبر . - ثم ان الفعل الارادي يوجب النظر في البواعث ، والدوافع لامتحانها ، والحكم على الأمر بأنه ينبغي أن يفعل ، أو لا يفعل ، ويسمى . الامتحان بالمناقشة أو الروية ، وهي لا ترجع إلى عمل العقل و وحده كما زعم ( فيكتور كوزان ) ، كذلك إلى تأثير الدوافع الانفعالية ، كالنزعات ، والرغائب ، والعواطف . ولو كانت البواعث العقلية ، والدوافع القلبية واضحة متفقة بعضها مع بعض ، لما احتاج المرء إلى المناقشة فيها . ولكن المناقشة ضرورية لسببين :
أولاً - لأنها تطلعنا على جميع الدوافع والبواعث المحركة ، وتبين لنا قيمة الفعل .
ثانياً - لأنها تجعلنا نفرق بين البواعث الموافقة للواجب ، والدوافع المتعلقة بالهوى .
وكثيراً ما تنقلب المناقشة إلى مأساة عند تعارض الواجب والمنفعة .
القرار او العزم . - ثم ان المناقشة في البواعث ، والعوامل تسوق إلى العزم أي إلى اتخاذ القرار ، و هو الأصل في الفعل الارادي ، لأنه ينهي المناقشة ويوجه الحكم ، ويختار أحمد المقدورين ، ويجعلنا ندرك أن الارادة مسؤولة عن عملها بقدر علمها به ، وحريتها في اتخاذ قرار به .
التنفيذ . - وأما التنفيذ فهو متعلق بالظروف الخارجة عنا . ان كل تصور من تصور اتنا باعث على الحركة ، فلا يجوز اعتبار القرار تاماً إلا إذا كان مصحوبا بشيء من التنفيذ ، والنية لا تعادل الفعل ، لأنها كثيراً ما تكون فكرة غامضة ، أو رغبة بسيطة . وليس التنفيذ من عناصر الارادة الأصلية ، لأنه يتعلق بظروف خارجة عن إرادتنا .
لقد انتقد الفلاسفة المعاصرون هذا التحليل المدرسي ، وبينوا أن الفعل الارادي لا ينقسم إلى مراحل منفصلة بعضها عن بعض . انه فعل واحد ، والدليل على ذلك أن لا ينتهي عند بدء المناقشة ، بل يستمر خلالها ، وان التصورات في نظرهم خاضعة لقانون التغير الدائم المسيطر على الحياة النفسيه ، وهي تتلاقى ، وتتفق ، وتتعارض ، فإذا اتفق الباعث الذهني الجديد مع هذه التصورات قوته ، وإذا خالفها أضعفته ، ولا يزال هذا الباعث الجديد يتبدل حتى يصل إلى غايته . أضف إلى ذلك أن التفريق بين الدوافع والبواعث أمر اصطلاحي محض ، لأنه لا وجود لعنصر عقلي لا يمازجه انفعال ، ولا لعاطفة لا يخالطها تصور ، ان جميع البواعث والدوافع متداخلة ، ونحن لا نستطيع أن نحصي عددها ، ولا أن نجردها بعضها عن بعض . ثم ان العزم أو القرار ، وهو العنصر المقوم للفعل الارادي ، لا ينفصل عن المناقشة ، وإذا فصلته عنها ، جعلته قوة تحكمية مستقلة الأفكار والعواطف ، تصدر حكمها فجأة كما تشاء ، وتسيطر على الأسباب ، وتجعل الميزان يميل إلى الناحية التي عزمت على الاتجاه اليها ، واعتبار الارادة قوة مستقلة عن البواعث والدوافع يوقعنا في كثير من الشبهات ، لأننا لا ندرك ، عند ذلك ، ما هي وظيفة الروية ، والمناقشة ، وما هو عملها في الارادة ، وما نفع مناقشة لا تؤدى إلى اتخاذ قرار ، وإذا كانت تؤدي اليه فما معنى الارادة المستقلة ؟
إن تفكيراً بسيطاً في هذه المراحل يبين لنا أن المرحلة الأخيرة مرحلة مادية ، لا شأن لها في التحليل النفسي ، لأنها تابعة لأمور خارجة عنا ، كالعوائق المادية ، والقوى الجسمية ، وغير ذلك من الأسباب ، وأن المرحلتين الأوليين تستلزمان تدخل العقل والعاطفة معاً ، وان الارادة لا تمثل دورها الحقيقي إلا في المرحلة الثالثة ، أي في مرحلة القرار أو العزم . ولكن ما هو هذا الدور الذي تمثله الارادة ؟ إنه لعمري سر خفي ، إذ كيف يعقل أن يكون القرار مستقلاً عن البواعث والدوافع ، وان تكون الارادة منفصلة عن الأفكار ، والعواطف . ان كل عزم فهو تابع لامتزاج العواطف والأهواء بالتصورات والأفكار ، فلا حاجة إذن إلى فرض قوة مجهولة لتعليل فعل الاختيار ؛ إن البواعث العقلية ، والدوافع الانفعالية ، كافية لهذا التعليل .
شرائط الارادة .
- ان الارادة الصحيحة مقيدة بشرطين أساسيين هما : تصور المثل الأعلى ، والايمان بالنفس .
أما تصور المثل الأعلى فهو ضروري لكل إنسان . وهو يختلف باختلاف الناس ، ويتبدل بتبدل ظروفهم المادية ، والنفسية ، والاجتماعية . فالمثل الأعلى للفنان هو التعبير عن الجمال . والمثل الأعلى للعالم هو الكشف عن الحقيقة ، والمثل الأعلى للقائد هو الفوز في المعركة ، والمثل الأعلى للطالب هو النجاح في الامتحان ، والمثل الأعلى للغانية الحسناء أن تحظى بفتى جميل غني ، حلو الحديث ، يحبها وتحبه . ولهذا المثل الأعلى سلطان قوي على النفس . إن التلميذ الذي يدرك أن نجاحه في الحياة متوقف على اجتياز الامتحان ، يزدري مباهج الحياة كلها ، ويصطنع لنفسه حياة كادحة ناصبة . ان مثله الأعلى هو الذي أعماله ، يوجه ويحشد قواه النفسية في خدمة غاية واحدة . وكلما كان الهدف أسمى وأرفع ، كانت القوى اللازمة لتحقيقه أكثر وأغزر . هناك من يتوق إلى اللذة ، وهناك من يتوق إلى المال ، وهناك من يتوق إلى الشرف ، والشهرة ، والجمال واتساع مدى التوقان والطموح هو الذي يخلق الرجل العظيم ، وإذا فقد المثل الأعلى جمدت جذوة الحياة ، لأن الطبيعة تمنحنا من القوة مقادير تفوق حاجاتنا . فإذا كنا لا نحيا إلا في سبيل غايات رخيصة ، وأباطيل حقيرة حرمتنا الطبيعة هباتها السخية .
ومعنى ذلك أن الهدف العظيم يخلق الرجل العظيم . ونحن جميعاً نعيش في عالم أوسع من العالم الذي يشير اليه عنواننا البريدي ، لأن دموعنا كما يقولون أغزر مما تحتاج اليه آلامنا ، كما أن ابتساماتنا أكثر مما تحتاج اليه أفراحنا .
وأما الشرط الثاني فهو الايمان بالنفس إذا لم يؤمن الانسان بنفسه خسر معركة الحياة . وإذا لم يقاوم شعوره بالنقص هبط إلى الهاوية . إن الشاب الضعيف الارادة يقول في نفسه : أنا لا أستطيع أن أقوم بهذا العمل ، وإذن أنا لا أصلح لشيء . أما القوي الارادة فيجد نفسه قادراً على القيام بكل عمل . ولكن ، لما كانت الحياة لا تتسع الأعمال التي يتصورها الانسان في ريعان الحداثة ، كان لابد له الاقتصار للقيام بجميع على عمل واحد معين ، موافق لمواهبه ، ومنسجم مع ميوله . فعلى المرء أن يبحث إذن عن العمل الذي يستطيع أن يقوم به ، وأن ي يعد نفسه له بقوة ، ويقدم عليه بحماسة ، وأن يؤمن بقدرته ، ويثق بنفسه فإن من فساد المنطق أن نستنتج أننا لا نصلح لشيء لمجرد اننا لا نقدر على كل شيء ، كما أنه من السخف أن نبدد قوانا في أعمال ليس في ميولنا الطبيعية ما يساعدنا على النجاح فيها .
فأنت ترى أن قوة الارادة تستلزم تصور مثل أعلى قابل للتحقيق ، كما أنها تقتضي الايمان بالنفس . وإذا فقد أحد هذين الشرطين اضطربت حياة المريد ، وكان نصيبه الفشل والاخفاق .
وفي الارادة الصحيحة تنظيم للأفكار ، والعواطف ، وسيطرة على النفس . أن أعاظم الرجال أكثر الناس سيطرة على عواطفهم ، وأهوائهم ، وإدارة أنفسهم بأنفسهم ، لأنهم يريدون ما يفعلون . ويفعلون ما يريدون ، والناس يتفاوتون في قوة الارادة ، كما يتفاوتون في قوة العقل ، وهناك ارادات قوية ، وارادات متوسطة ، وارادات ضعيفة . الا أن صحة الارادة شيء ، وقوتها شيء آخر . لا تكون الارادة قوية الا اذا كانت الأفكار والنزعات المقومة لها قوية أيضاً ، كما أن الجسم الصحيح لا يكون قويا الا اذا كان قوي الوظائف سليم الأعضاء ، ان الحصان الجموح يحتاج الى سائس قوي ، والملكات القوية لا ينتظم أمرها ، ولا ينسجم فعلها الا اذا دبرتها ارادة قوية .
الارادة حل معقول لتنازع الميول .
- ولعل المثال الأخير الذي أوردناه في تحليل الفعل الارادي أحسن الأمثلة دلالة على الارادة الحقيقية . ان بقائي في غرفق لانجاز أعمالي رغم دوافع الشهوات والرغائب ، يدل على جهد قوي ، وارادة مسيطرة . وقيمة المناقشة في هذا المثال ثانوية جداً ، لأن المريد الحقيقي لا يميل الى التردد ، ولا الى الحيرة ، بل تغنيه ارادته القوية عن المناقشة ، فهو يريد بدافع من نفسه ، ويفضل الجهد على الراحة ، والاقدام على التراجع ، والخطر على السلامة ، والطريق الوعر على الطريق السهل ، ويقول مع ( كورنيل ) : اني لا أتردد في اتباع واجبي أبداً .
ان الفعل الارادي الحقيقي مختلف تماماً عن أفعال المشورة ، والمناقشة ، والتردد ، وهو قائم كما قال ( بكو Pécaut ) على تعارض الواجب والهوى ، أو محصور كما قال ( كلاباريد ) في تنظيم الفعل ، أو في وقف الميول عن التنازع ، أو في تغليب العالي منها على الخسيس ( 1 ) لذلك كان معنى الإرادة مرادفاً في لغة علم النفس لمعنى الجهد ، ولذلك أيضا كانت كلمة الإرادة مرادفة للقدرة المعنوية ، فهي تشتمل أيضاً على حكم قيمة ، وتدفع المريد إلى الاختيار والترجيح .
تحليل الفعل الإرادي
لابد في تحليل الفعل الارادي من التفريق بين نية الفعل ، وارادة الفعل :
١ - نية الفعل .
- من صفات الحركات الارادية اشتمالها على تصور سابق لنتيجة الفعل . مثال ذلك : هبني كنت أعالج في مكتبي أمراً من الامور العويصة ، فخطر لي أن أترك للعمل وأذهب إلى أحد المتنزهات ترويحاً للنفس ، فإذا أغرتني هذه الفكرة ، ودفعتني إلى ترك العمل دون التفكير في العواقب . كان فعلي هذا أفعال النية ، من وهو شبيه بالفعل الذي سميناه بالفعل التصوري الحركي ، لأن تصور النزهة ولد جملة من الحركات الآلية ، إلا أن آليتها ليست تامة ، كآلية الفعل المنعكس ، لتقدم التصور فيها على الفعل ، ونحن نسمي هذه الفاعلية بفاعلية القصد ، أو النية ، لاشتمالها على رغبة ، وحاجة ، وأمل .
٢ - إرادة الفعل .
- إن إرادة الفعل أكثر تركيباً من نية الفعل ، لأنها لا تتضمن : تصوراً سابقاً فحسب ، بل تتضمن عناصر أخرى ، كنزوع النفس إلى الشيء مع الحكم عليه بأنه ينبغي أن يفعل ، أو لا يفعل ، ثم اتخاذ قرار بتنفيذ ذلك الحكم . ولتوضح هذه الشرائط بتحليل مثالين :
آ - هبني فكرت في النزهة كما في المثال السابق ، ولكني لم أخرج من غرفتي بدافع الميل والرغبة ، بل خرجت منها بعد أن حكمت بأن عندي من الوقت متسعاً لإنجاز عملي ، واني قد أصبح بعد النزهة أحسن استعداداً للفعل ، وانه خير لي أن أستفيد من الشمس والهواء الطلق .
ب - ثم هبني تذكرت جميع البواعث ، والدوافع المذكورة في المثال السابق ، و تصورت فوق ذلك انه يجب علي أن انجز عملي بسرعة ، فقاومت جميع نزعاتي ، وميولي وبقيت في غرفتي لإنجاز أعمالي .
ان كلا من هذين المثالين يشتمل على عناصر مختلفة ، ولكن الفعل الثاني أكثر تركيباً من الأول . وقد حلل الفلاسفة هذا الفعل وأرجعوه إلى أربع مراحل ، ويسمى تحليلهم هذا بالتحليل المدرسي .
٣ - التحليل المدرسي .
- يرجع الفلاسفة مراحل الفعل الارادي إلى أربع ، وهي :
أولاً – تصور الهدف Conception du but
ثانياً - مناقشة البواعث والدوافع ، أو الروية والتدبر Délidération
ثالثاً ـ القرار ، أو العزم Décision
رابعاً - التنفيذ Exécution
تصور الهدف . - لابد لنا في الفعل الارادي من تصور الهدف الذي نريد الوصول اليه . وهذا التصور مشترك بين نية الفعل ، وإرادة الفعل ، به يتميز الفعل الارادي عن الفعل المنعكس ، والفعل الغريزي .
المناقشة أو الروبة والتدبر . - ثم ان الفعل الارادي يوجب النظر في البواعث ، والدوافع لامتحانها ، والحكم على الأمر بأنه ينبغي أن يفعل ، أو لا يفعل ، ويسمى . الامتحان بالمناقشة أو الروية ، وهي لا ترجع إلى عمل العقل و وحده كما زعم ( فيكتور كوزان ) ، كذلك إلى تأثير الدوافع الانفعالية ، كالنزعات ، والرغائب ، والعواطف . ولو كانت البواعث العقلية ، والدوافع القلبية واضحة متفقة بعضها مع بعض ، لما احتاج المرء إلى المناقشة فيها . ولكن المناقشة ضرورية لسببين :
أولاً - لأنها تطلعنا على جميع الدوافع والبواعث المحركة ، وتبين لنا قيمة الفعل .
ثانياً - لأنها تجعلنا نفرق بين البواعث الموافقة للواجب ، والدوافع المتعلقة بالهوى .
وكثيراً ما تنقلب المناقشة إلى مأساة عند تعارض الواجب والمنفعة .
القرار او العزم . - ثم ان المناقشة في البواعث ، والعوامل تسوق إلى العزم أي إلى اتخاذ القرار ، و هو الأصل في الفعل الارادي ، لأنه ينهي المناقشة ويوجه الحكم ، ويختار أحمد المقدورين ، ويجعلنا ندرك أن الارادة مسؤولة عن عملها بقدر علمها به ، وحريتها في اتخاذ قرار به .
التنفيذ . - وأما التنفيذ فهو متعلق بالظروف الخارجة عنا . ان كل تصور من تصور اتنا باعث على الحركة ، فلا يجوز اعتبار القرار تاماً إلا إذا كان مصحوبا بشيء من التنفيذ ، والنية لا تعادل الفعل ، لأنها كثيراً ما تكون فكرة غامضة ، أو رغبة بسيطة . وليس التنفيذ من عناصر الارادة الأصلية ، لأنه يتعلق بظروف خارجة عن إرادتنا .
لقد انتقد الفلاسفة المعاصرون هذا التحليل المدرسي ، وبينوا أن الفعل الارادي لا ينقسم إلى مراحل منفصلة بعضها عن بعض . انه فعل واحد ، والدليل على ذلك أن لا ينتهي عند بدء المناقشة ، بل يستمر خلالها ، وان التصورات في نظرهم خاضعة لقانون التغير الدائم المسيطر على الحياة النفسيه ، وهي تتلاقى ، وتتفق ، وتتعارض ، فإذا اتفق الباعث الذهني الجديد مع هذه التصورات قوته ، وإذا خالفها أضعفته ، ولا يزال هذا الباعث الجديد يتبدل حتى يصل إلى غايته . أضف إلى ذلك أن التفريق بين الدوافع والبواعث أمر اصطلاحي محض ، لأنه لا وجود لعنصر عقلي لا يمازجه انفعال ، ولا لعاطفة لا يخالطها تصور ، ان جميع البواعث والدوافع متداخلة ، ونحن لا نستطيع أن نحصي عددها ، ولا أن نجردها بعضها عن بعض . ثم ان العزم أو القرار ، وهو العنصر المقوم للفعل الارادي ، لا ينفصل عن المناقشة ، وإذا فصلته عنها ، جعلته قوة تحكمية مستقلة الأفكار والعواطف ، تصدر حكمها فجأة كما تشاء ، وتسيطر على الأسباب ، وتجعل الميزان يميل إلى الناحية التي عزمت على الاتجاه اليها ، واعتبار الارادة قوة مستقلة عن البواعث والدوافع يوقعنا في كثير من الشبهات ، لأننا لا ندرك ، عند ذلك ، ما هي وظيفة الروية ، والمناقشة ، وما هو عملها في الارادة ، وما نفع مناقشة لا تؤدى إلى اتخاذ قرار ، وإذا كانت تؤدي اليه فما معنى الارادة المستقلة ؟
إن تفكيراً بسيطاً في هذه المراحل يبين لنا أن المرحلة الأخيرة مرحلة مادية ، لا شأن لها في التحليل النفسي ، لأنها تابعة لأمور خارجة عنا ، كالعوائق المادية ، والقوى الجسمية ، وغير ذلك من الأسباب ، وأن المرحلتين الأوليين تستلزمان تدخل العقل والعاطفة معاً ، وان الارادة لا تمثل دورها الحقيقي إلا في المرحلة الثالثة ، أي في مرحلة القرار أو العزم . ولكن ما هو هذا الدور الذي تمثله الارادة ؟ إنه لعمري سر خفي ، إذ كيف يعقل أن يكون القرار مستقلاً عن البواعث والدوافع ، وان تكون الارادة منفصلة عن الأفكار ، والعواطف . ان كل عزم فهو تابع لامتزاج العواطف والأهواء بالتصورات والأفكار ، فلا حاجة إذن إلى فرض قوة مجهولة لتعليل فعل الاختيار ؛ إن البواعث العقلية ، والدوافع الانفعالية ، كافية لهذا التعليل .
شرائط الارادة .
- ان الارادة الصحيحة مقيدة بشرطين أساسيين هما : تصور المثل الأعلى ، والايمان بالنفس .
أما تصور المثل الأعلى فهو ضروري لكل إنسان . وهو يختلف باختلاف الناس ، ويتبدل بتبدل ظروفهم المادية ، والنفسية ، والاجتماعية . فالمثل الأعلى للفنان هو التعبير عن الجمال . والمثل الأعلى للعالم هو الكشف عن الحقيقة ، والمثل الأعلى للقائد هو الفوز في المعركة ، والمثل الأعلى للطالب هو النجاح في الامتحان ، والمثل الأعلى للغانية الحسناء أن تحظى بفتى جميل غني ، حلو الحديث ، يحبها وتحبه . ولهذا المثل الأعلى سلطان قوي على النفس . إن التلميذ الذي يدرك أن نجاحه في الحياة متوقف على اجتياز الامتحان ، يزدري مباهج الحياة كلها ، ويصطنع لنفسه حياة كادحة ناصبة . ان مثله الأعلى هو الذي أعماله ، يوجه ويحشد قواه النفسية في خدمة غاية واحدة . وكلما كان الهدف أسمى وأرفع ، كانت القوى اللازمة لتحقيقه أكثر وأغزر . هناك من يتوق إلى اللذة ، وهناك من يتوق إلى المال ، وهناك من يتوق إلى الشرف ، والشهرة ، والجمال واتساع مدى التوقان والطموح هو الذي يخلق الرجل العظيم ، وإذا فقد المثل الأعلى جمدت جذوة الحياة ، لأن الطبيعة تمنحنا من القوة مقادير تفوق حاجاتنا . فإذا كنا لا نحيا إلا في سبيل غايات رخيصة ، وأباطيل حقيرة حرمتنا الطبيعة هباتها السخية .
ومعنى ذلك أن الهدف العظيم يخلق الرجل العظيم . ونحن جميعاً نعيش في عالم أوسع من العالم الذي يشير اليه عنواننا البريدي ، لأن دموعنا كما يقولون أغزر مما تحتاج اليه آلامنا ، كما أن ابتساماتنا أكثر مما تحتاج اليه أفراحنا .
وأما الشرط الثاني فهو الايمان بالنفس إذا لم يؤمن الانسان بنفسه خسر معركة الحياة . وإذا لم يقاوم شعوره بالنقص هبط إلى الهاوية . إن الشاب الضعيف الارادة يقول في نفسه : أنا لا أستطيع أن أقوم بهذا العمل ، وإذن أنا لا أصلح لشيء . أما القوي الارادة فيجد نفسه قادراً على القيام بكل عمل . ولكن ، لما كانت الحياة لا تتسع الأعمال التي يتصورها الانسان في ريعان الحداثة ، كان لابد له الاقتصار للقيام بجميع على عمل واحد معين ، موافق لمواهبه ، ومنسجم مع ميوله . فعلى المرء أن يبحث إذن عن العمل الذي يستطيع أن يقوم به ، وأن ي يعد نفسه له بقوة ، ويقدم عليه بحماسة ، وأن يؤمن بقدرته ، ويثق بنفسه فإن من فساد المنطق أن نستنتج أننا لا نصلح لشيء لمجرد اننا لا نقدر على كل شيء ، كما أنه من السخف أن نبدد قوانا في أعمال ليس في ميولنا الطبيعية ما يساعدنا على النجاح فيها .
فأنت ترى أن قوة الارادة تستلزم تصور مثل أعلى قابل للتحقيق ، كما أنها تقتضي الايمان بالنفس . وإذا فقد أحد هذين الشرطين اضطربت حياة المريد ، وكان نصيبه الفشل والاخفاق .
وفي الارادة الصحيحة تنظيم للأفكار ، والعواطف ، وسيطرة على النفس . أن أعاظم الرجال أكثر الناس سيطرة على عواطفهم ، وأهوائهم ، وإدارة أنفسهم بأنفسهم ، لأنهم يريدون ما يفعلون . ويفعلون ما يريدون ، والناس يتفاوتون في قوة الارادة ، كما يتفاوتون في قوة العقل ، وهناك ارادات قوية ، وارادات متوسطة ، وارادات ضعيفة . الا أن صحة الارادة شيء ، وقوتها شيء آخر . لا تكون الارادة قوية الا اذا كانت الأفكار والنزعات المقومة لها قوية أيضاً ، كما أن الجسم الصحيح لا يكون قويا الا اذا كان قوي الوظائف سليم الأعضاء ، ان الحصان الجموح يحتاج الى سائس قوي ، والملكات القوية لا ينتظم أمرها ، ولا ينسجم فعلها الا اذا دبرتها ارادة قوية .
الارادة حل معقول لتنازع الميول .
- ولعل المثال الأخير الذي أوردناه في تحليل الفعل الارادي أحسن الأمثلة دلالة على الارادة الحقيقية . ان بقائي في غرفق لانجاز أعمالي رغم دوافع الشهوات والرغائب ، يدل على جهد قوي ، وارادة مسيطرة . وقيمة المناقشة في هذا المثال ثانوية جداً ، لأن المريد الحقيقي لا يميل الى التردد ، ولا الى الحيرة ، بل تغنيه ارادته القوية عن المناقشة ، فهو يريد بدافع من نفسه ، ويفضل الجهد على الراحة ، والاقدام على التراجع ، والخطر على السلامة ، والطريق الوعر على الطريق السهل ، ويقول مع ( كورنيل ) : اني لا أتردد في اتباع واجبي أبداً .
ان الفعل الارادي الحقيقي مختلف تماماً عن أفعال المشورة ، والمناقشة ، والتردد ، وهو قائم كما قال ( بكو Pécaut ) على تعارض الواجب والهوى ، أو محصور كما قال ( كلاباريد ) في تنظيم الفعل ، أو في وقف الميول عن التنازع ، أو في تغليب العالي منها على الخسيس ( 1 ) لذلك كان معنى الإرادة مرادفاً في لغة علم النفس لمعنى الجهد ، ولذلك أيضا كانت كلمة الإرادة مرادفة للقدرة المعنوية ، فهي تشتمل أيضاً على حكم قيمة ، وتدفع المريد إلى الاختيار والترجيح .
تعليق