الإرادة
۱ - وصف الفعل الإرادي
البحث في صفات الفعل الإرادي ضروري لتعريفه . فلندرس إذن هذه الصفات ، ولنبحث في المسائل الفلسفية الناشئة عنها .
آ - صفات الفعل الإرادي ( ١ ) .
۱ - الفعل الارادي فعل جديد .
- وتنحصر جدته في الصفات التالية :
آ - الإرادة تمنع المرء من الاندفاع الآلي إلى الفعل ، (مثال ذلك الامتناع عن الجواب عن سؤال من الأسئلة بجملة مبتذلة ) .
ب - الإرادة تقلب الفعل الغريزي ، أو العادي إلى فعل تأملي مقصود ، فتسبغ عليه حلة جديدة .
ج - الإرادة تنظم الحركات ، أو التصورات تنظيما موافقاً للظروف الطارئة . ( مثال ذلك : الهرب من مدينة موبوءة ، أو انتخاب مهنة من المهن ) .
۲ - الفعل الارادي فعل تأملي و معنى ذلك :
آ - ان الفاعل المريد يشعر بما يفعل ، ويعي ما يقول ، ويدرك في الوقت نفسه غاية فعله .
ب - ويحكم أيضاً حكما عقلياً بإمكان تحقيق الوسائل المؤدية إلى هذه الغاية .
فقد يرغب الإنسان في المحال ، ولكنه لا يريده ، ولو حاول ذلك لصده عنه عقله . فالفعل الإرادي إذن فعل معقول .
٣ - الفعل الارادى فعل ذاتي .
- ومعنى ذلك :
آ - انه يتبدل بتبدل الأفراد .
ب - وانه ليس خارجاً عن نطاق قدرتنا ، ولا تابعاً لنزعة من النزعات الطبيعية المسيطرة علينا ، كالأفعال الاندفاعية ، أو الغريزية .
ج - وأننا نتحمل تبعة القيام به .
د - وانه في الوقت نفسه يكشف عن خصالنا ، وسجايانا - فالفعل الإرادي مخالف إذن للفعل الاعتيادي ، لأن العادة تقوم على التكرار ، وهو مباين أيضاً للفعل الغريزي " لأن الغريزة عمياء .
ب المسائل الفلسفية الناشئة عن هذه الصفات
لنبين أولاً معنى هذه الصفات :
۱ - معنى جدة الفعل الارادي .
- هل الفعل الارادي ابداع من العدم ، أم حادث واقعي لا علاقة له بما قبله ، أم ابتداء أول ، كما قال ( كانت ) ؟ . ثم هل تتعارض السببية الارادية ، والسببية العلمية ؟ ، هل الفعل الارادي مركب من عناصر أولية ، كالنزعات ، والبواعث ، والدوافع ، وهل هو محتاج في هذا التركيب الى مبدأ جديد ، ثم ما هو هذا المبدأ ؟
۲ - معنى اتصاف الفعل الارادي بالتأمل .
ماهي وظيفة العقل في الارادة ، هل يقتصر عمله على مشاهدة نتيجة الفعل من غير أن يكون له أثر فيها ؟ أم يشترك في انجاز الفعل ، كاشتراك عنصر من العناصر الداخلة في تركيبه . ثم هل يرجع العزم الارادي الى الفكر التأملي ، أم الى غيره .
٣ - معنى اتصاف الفعل الارادي بالطابع الذاتي .
- ماهي علاقة الفعل الارادي بالأنا ، هل هو مبدأ من مباديء النفس المجردة ، الخارجة عن الزمان ، المبدعة لسجيتنا الحاضرة ، وطبيعتنا العملية المحسوسة ، أم هو نتيجة لازمة عن هذه الطبيعة نفسها .
- ولنبين ثانياً ما هي الحلول المختلفة التي جاء بها الفلاسفة لايضاح هذه الصفات . فقد ذهبوا أولاً الى أن الارادة قوة مستقلة عن الظواهر الشعورية ، ثم ذهبوا ثانيا الى أن الارادة ، كغيرها من الظواهر النفسية ، مقيدة بكثير من الأسباب والعوامل .
١ -رأيهم في حرية الاختيار :
فمنهم من زعم أن البواعث ( وهي عقلية ) ، والدوافع ( وهي قلبية ) ، لا تكفي لتعليل الفعل ، وان العزم الإرادي يرجع إلى مبدأ مختلف عن شرائط الفعل ، مستقل عنها . وفي هذا المبدأ أن يجعل الدوافع الكاذبة تتغلب على الدوافع المعقولة ، والبواعث القوية . فلا يمكننا العلم بالقرار الذي سيصير اليه الحكم الإرادي قبل حدوثه ، لأنه إنما يدخل في نطاق الامور الجائزة لا الضرورية .
وليس لهذه البواعث والدوافع نتيجة فعلية ، لأنها لا تستطيع أن تولد الفعل إلا إذا منحتها حرية الاختيار ما ينقصها من القوة .
٢ -رأيهم في حرية اللامبالاة ( Liberté d'indifference ) :
لقد دلت التجربة على أن البواعث ، والدوافع تسوق المرء إلى الفعل ، هذا إذا لم يعقها عائق خارجي .
آ - ولكن يتفق أحيانا أن تنقسم البواعث ، والدوافع إلى جملتين متقابلتين ، فيحصل بينهما توازن قام من غير أن تتغلب إحداهما على الثانية ( ١ ) ، ( كتساوي نوعين من قطع النقود الموضوعة في كيس واحد ) .
ب -ولو لم يكن فوق هاتين الجملتين قوة تدفع النفس إلى اتخاذ قرار لتعدر الفعل ولاستمر التردد إلى غير نهاية .
فأصحاب هذا الرأي يسلمون إذن بحرية الاختيار ، إلا أنهم يجعلونها مقصورة على الأحوال التي تتوازن فيها البواعث ، والدوافع ، فيقلبون حرية الاختيار إلى حرية اللامبالاة .
٣ -الصعوبات التي تعترض مذهب حرية الاختيار :
آ - ان الأمثلة التي يجىء بها أنصار حرية الاختيار لا تكفي لإثبات مذهبهم ، ولا تنطبق على الواقع . ومن الصعب أن تتساوى شرائط الطرفين في الأمثلة المذكورة ، فقد تكون قطع النقود التي في الكيس واحدة ، ولكن أوضاعها قد تختلف من قطعة إلى أخرى .
ب - ومن صفات حرية الاختيار أنها تحكم بغير سبب ، وهذا مباين لصفه الارادة لأن الارادة تقتضي أن يشعر الانسان بما يفعل ، وأن يدرك الغاية التي يريد أن يصل اليها ، فهي إذن مبنية على معرفة الأسباب ، وإدراك الغايات ، لا على الجهل بها .
ج - وقد تبين لنا من مباحثنا النفسية السابقة أن الظواهر النفسية ( ونعني بذلك هنا البواعث والدوافع ) ليست أجزاءاً فردة مستقلة بعضها عن بعض ، متجهة إلى جهتين مختلفتين ، وإنما هي حالات شعورية داخلة بعضها في بعض وقد بينا ذلك عند الكلام على صفات الشعور ، وقلنا إن أحوال الشعور لا تنقسم إلى أجزاء فردة مستقلة ، وان الكل موجود في الجزء ، وان كل حالة نفسية إنما تشتمل على النفس كلها ، وانها تتغير وتزيد وتنقص وتقوى وتضعف بتأثير الانتباه .
وقصارى القول أن أصحاب حرية الاختيار يشبهون قوة العزم الارادي بحاكم مستبد يحكم على الامور بحسب هواه ، من غير أن يستند إلى أدلة الشهود والوقائع ، فمذهبهم إذن وهمي ؛ وأداتهم خيالية . وليس في أحكامهم ما يصدق على الواقع .
٤ - مذهب الحتمية :
من مسلمات مذهب الحتمية ان الفعل الارادي يحدث في الزمان كسائر الظواهر الطبيعية ، وأنه متصل بهذه الظواهر ، ومقيد بها .
آ - فالفعل الارادي مختلف عن حالة الاندفاع إلى الفعل من غير روية ، نعم ان كل رغبة تدفع إلى الفعل ، ولكن اتباع الرغبة شيء ، والخضوع للإرادة شيء آخر . يصبح الفعل إراديا إلا إذا تعارضت الرغائب ، وتقابلت النزعات ، وفي هذه الحالة يبدأ النزاع بين الرغائب المتقابلة ، ويتجمع حول كل رغبة جملة من الصور ، والعواطف ، والأفكار ، ويظهر التردد ، ويظهر أو يكاد يظهر شيء من اللاحتمية . ولكن هذا التردد لا يستمر ، بل ينتهي بتغلب الجملة القوية على الجملة الضعيفة . ان كفتي الميزان تتحركان عند الابتداء ، ويهتز طيار الميزان بعض الوقت ، إلا أن النقطة التي يجب أن Lan يقف عندها الطيار محددة ومقيدة بما قبلها .
ب - وهذا التقيد لا يمنع الفعل الارادي من أن يكون ذاتياً ، لأن أقوى البواعث والدوافع تأثيراً ، ما دل منها على سجايانا ، وخصالنا ، وإذا كانت الارادة تدل على خلق الانسان ، فمرد ذلك إلى أن للخلق تأثيراً فيها . لذلك قال ( هيوم ) : ان التنبؤ بالفعل الارادي أسهل من التنبؤ بالفعل الاندفاعي ( Acte impulsif ) .
ج - واذا قيل للحتميين ان من شرط الفعل الارادي أن يكون مصحوبا بالشعور ، قالوا ان الشعور لا ينفرد وحده بالتأثير ، لأنه ليس حر أو لأنه يقتصر على مشاهدة نتيجة الفعل ، فيمد لها العدة بما يهيئه من الأسباب في داخله ، ثم ان قسما كبيراً من هذه الأسباب قد يتم خارج ميدان الشعور ، لاستقراره في أعماق النفس واتصاله بأبداننا ، فالشعور اذن عنصر من العناصر الداخلة في هذا التركيب . وهو الذي يتدبر الأمر بروية ، وينظر في العواقب ، ويحيط بالرغائب المتعارضة ، ولكنه لا يستطيع أن ينجز عمله بحرية . انه في حقيقة الأمر مقيد ، كالدوارة التي يحركها الهواء ، فلو كانت شاعرة بدورانها ، لزعمت أنها تحرك نفسها بنفسها .
٥ - ليس مذهب الحتمية أوضح من مذهب حرية الاختيار :
آ - ونقول هنا في بيان هذا الأمر ، ان البواعث والدوافع ، ليست أجزاءاً فردة مستقلة ، وانما هي أحوال نفسية متداخلة ، كل حالة منها مشتملة على الأحوال الاخرى ، فتتغير وتزيد وتنقص ، بتأثير الانتباه ، ولا تبقى على حالها زمانين ، فإذا وضعت في الميزان تغيرت طبيعتها ، وتغير الميزان معها . وهل يصح الوزن اذا تغير الميزان المجرد نظرك اليه ، أو تفكيرك فيه ؟
ب - ثم أن هذه البواعث والدوافع لا تظهر على مسرح الشعور عفواً ، أو يجاذبية ميكانيكية ، بل تظهر بتأثير الفاعلية الذهنية ( راجع نقد مذهب التداعية ) ، ولكن مذهب الحتمية يهمل هذه الناحية من حياة النفس ، ويشبه الفعل الارادي بالحركة المتولدة من تلاقي القوى المادية .
وقصارى القول ان فلاسفة الحتمية رغبوا في تعليل الفاعلية الارادية بقوانين ميكانيكية ، فاستبدلوا بحياة النفس رموز المادة ، واستمدوا أحكامهم من علم ما بعد الطبيعة ، لا من الملاحظات الواقعية .
٦ - النتيجة :
ينتج من كل ما تقدم أن الفلاسفة يركبون في تأويل صفات الفعل الارادي مركباً صعباً ، فبعضهم يأخذ بحرية الاختيار ، وبعضهم يشبه حياة النفس بآلية المادة ، وهم لو اقتصروا على الملاحظات النفسية الواقعية ، لما سلكوا هذا الطريق الوعر ، ولكفونا مؤنة الشبه الفلسفية التي وقعوا فيها .
۱ - وصف الفعل الإرادي
البحث في صفات الفعل الإرادي ضروري لتعريفه . فلندرس إذن هذه الصفات ، ولنبحث في المسائل الفلسفية الناشئة عنها .
آ - صفات الفعل الإرادي ( ١ ) .
۱ - الفعل الارادي فعل جديد .
- وتنحصر جدته في الصفات التالية :
آ - الإرادة تمنع المرء من الاندفاع الآلي إلى الفعل ، (مثال ذلك الامتناع عن الجواب عن سؤال من الأسئلة بجملة مبتذلة ) .
ب - الإرادة تقلب الفعل الغريزي ، أو العادي إلى فعل تأملي مقصود ، فتسبغ عليه حلة جديدة .
ج - الإرادة تنظم الحركات ، أو التصورات تنظيما موافقاً للظروف الطارئة . ( مثال ذلك : الهرب من مدينة موبوءة ، أو انتخاب مهنة من المهن ) .
۲ - الفعل الارادي فعل تأملي و معنى ذلك :
آ - ان الفاعل المريد يشعر بما يفعل ، ويعي ما يقول ، ويدرك في الوقت نفسه غاية فعله .
ب - ويحكم أيضاً حكما عقلياً بإمكان تحقيق الوسائل المؤدية إلى هذه الغاية .
فقد يرغب الإنسان في المحال ، ولكنه لا يريده ، ولو حاول ذلك لصده عنه عقله . فالفعل الإرادي إذن فعل معقول .
٣ - الفعل الارادى فعل ذاتي .
- ومعنى ذلك :
آ - انه يتبدل بتبدل الأفراد .
ب - وانه ليس خارجاً عن نطاق قدرتنا ، ولا تابعاً لنزعة من النزعات الطبيعية المسيطرة علينا ، كالأفعال الاندفاعية ، أو الغريزية .
ج - وأننا نتحمل تبعة القيام به .
د - وانه في الوقت نفسه يكشف عن خصالنا ، وسجايانا - فالفعل الإرادي مخالف إذن للفعل الاعتيادي ، لأن العادة تقوم على التكرار ، وهو مباين أيضاً للفعل الغريزي " لأن الغريزة عمياء .
ب المسائل الفلسفية الناشئة عن هذه الصفات
لنبين أولاً معنى هذه الصفات :
۱ - معنى جدة الفعل الارادي .
- هل الفعل الارادي ابداع من العدم ، أم حادث واقعي لا علاقة له بما قبله ، أم ابتداء أول ، كما قال ( كانت ) ؟ . ثم هل تتعارض السببية الارادية ، والسببية العلمية ؟ ، هل الفعل الارادي مركب من عناصر أولية ، كالنزعات ، والبواعث ، والدوافع ، وهل هو محتاج في هذا التركيب الى مبدأ جديد ، ثم ما هو هذا المبدأ ؟
۲ - معنى اتصاف الفعل الارادي بالتأمل .
ماهي وظيفة العقل في الارادة ، هل يقتصر عمله على مشاهدة نتيجة الفعل من غير أن يكون له أثر فيها ؟ أم يشترك في انجاز الفعل ، كاشتراك عنصر من العناصر الداخلة في تركيبه . ثم هل يرجع العزم الارادي الى الفكر التأملي ، أم الى غيره .
٣ - معنى اتصاف الفعل الارادي بالطابع الذاتي .
- ماهي علاقة الفعل الارادي بالأنا ، هل هو مبدأ من مباديء النفس المجردة ، الخارجة عن الزمان ، المبدعة لسجيتنا الحاضرة ، وطبيعتنا العملية المحسوسة ، أم هو نتيجة لازمة عن هذه الطبيعة نفسها .
- ولنبين ثانياً ما هي الحلول المختلفة التي جاء بها الفلاسفة لايضاح هذه الصفات . فقد ذهبوا أولاً الى أن الارادة قوة مستقلة عن الظواهر الشعورية ، ثم ذهبوا ثانيا الى أن الارادة ، كغيرها من الظواهر النفسية ، مقيدة بكثير من الأسباب والعوامل .
١ -رأيهم في حرية الاختيار :
فمنهم من زعم أن البواعث ( وهي عقلية ) ، والدوافع ( وهي قلبية ) ، لا تكفي لتعليل الفعل ، وان العزم الإرادي يرجع إلى مبدأ مختلف عن شرائط الفعل ، مستقل عنها . وفي هذا المبدأ أن يجعل الدوافع الكاذبة تتغلب على الدوافع المعقولة ، والبواعث القوية . فلا يمكننا العلم بالقرار الذي سيصير اليه الحكم الإرادي قبل حدوثه ، لأنه إنما يدخل في نطاق الامور الجائزة لا الضرورية .
وليس لهذه البواعث والدوافع نتيجة فعلية ، لأنها لا تستطيع أن تولد الفعل إلا إذا منحتها حرية الاختيار ما ينقصها من القوة .
٢ -رأيهم في حرية اللامبالاة ( Liberté d'indifference ) :
لقد دلت التجربة على أن البواعث ، والدوافع تسوق المرء إلى الفعل ، هذا إذا لم يعقها عائق خارجي .
آ - ولكن يتفق أحيانا أن تنقسم البواعث ، والدوافع إلى جملتين متقابلتين ، فيحصل بينهما توازن قام من غير أن تتغلب إحداهما على الثانية ( ١ ) ، ( كتساوي نوعين من قطع النقود الموضوعة في كيس واحد ) .
ب -ولو لم يكن فوق هاتين الجملتين قوة تدفع النفس إلى اتخاذ قرار لتعدر الفعل ولاستمر التردد إلى غير نهاية .
فأصحاب هذا الرأي يسلمون إذن بحرية الاختيار ، إلا أنهم يجعلونها مقصورة على الأحوال التي تتوازن فيها البواعث ، والدوافع ، فيقلبون حرية الاختيار إلى حرية اللامبالاة .
٣ -الصعوبات التي تعترض مذهب حرية الاختيار :
آ - ان الأمثلة التي يجىء بها أنصار حرية الاختيار لا تكفي لإثبات مذهبهم ، ولا تنطبق على الواقع . ومن الصعب أن تتساوى شرائط الطرفين في الأمثلة المذكورة ، فقد تكون قطع النقود التي في الكيس واحدة ، ولكن أوضاعها قد تختلف من قطعة إلى أخرى .
ب - ومن صفات حرية الاختيار أنها تحكم بغير سبب ، وهذا مباين لصفه الارادة لأن الارادة تقتضي أن يشعر الانسان بما يفعل ، وأن يدرك الغاية التي يريد أن يصل اليها ، فهي إذن مبنية على معرفة الأسباب ، وإدراك الغايات ، لا على الجهل بها .
ج - وقد تبين لنا من مباحثنا النفسية السابقة أن الظواهر النفسية ( ونعني بذلك هنا البواعث والدوافع ) ليست أجزاءاً فردة مستقلة بعضها عن بعض ، متجهة إلى جهتين مختلفتين ، وإنما هي حالات شعورية داخلة بعضها في بعض وقد بينا ذلك عند الكلام على صفات الشعور ، وقلنا إن أحوال الشعور لا تنقسم إلى أجزاء فردة مستقلة ، وان الكل موجود في الجزء ، وان كل حالة نفسية إنما تشتمل على النفس كلها ، وانها تتغير وتزيد وتنقص وتقوى وتضعف بتأثير الانتباه .
وقصارى القول أن أصحاب حرية الاختيار يشبهون قوة العزم الارادي بحاكم مستبد يحكم على الامور بحسب هواه ، من غير أن يستند إلى أدلة الشهود والوقائع ، فمذهبهم إذن وهمي ؛ وأداتهم خيالية . وليس في أحكامهم ما يصدق على الواقع .
٤ - مذهب الحتمية :
من مسلمات مذهب الحتمية ان الفعل الارادي يحدث في الزمان كسائر الظواهر الطبيعية ، وأنه متصل بهذه الظواهر ، ومقيد بها .
آ - فالفعل الارادي مختلف عن حالة الاندفاع إلى الفعل من غير روية ، نعم ان كل رغبة تدفع إلى الفعل ، ولكن اتباع الرغبة شيء ، والخضوع للإرادة شيء آخر . يصبح الفعل إراديا إلا إذا تعارضت الرغائب ، وتقابلت النزعات ، وفي هذه الحالة يبدأ النزاع بين الرغائب المتقابلة ، ويتجمع حول كل رغبة جملة من الصور ، والعواطف ، والأفكار ، ويظهر التردد ، ويظهر أو يكاد يظهر شيء من اللاحتمية . ولكن هذا التردد لا يستمر ، بل ينتهي بتغلب الجملة القوية على الجملة الضعيفة . ان كفتي الميزان تتحركان عند الابتداء ، ويهتز طيار الميزان بعض الوقت ، إلا أن النقطة التي يجب أن Lan يقف عندها الطيار محددة ومقيدة بما قبلها .
ب - وهذا التقيد لا يمنع الفعل الارادي من أن يكون ذاتياً ، لأن أقوى البواعث والدوافع تأثيراً ، ما دل منها على سجايانا ، وخصالنا ، وإذا كانت الارادة تدل على خلق الانسان ، فمرد ذلك إلى أن للخلق تأثيراً فيها . لذلك قال ( هيوم ) : ان التنبؤ بالفعل الارادي أسهل من التنبؤ بالفعل الاندفاعي ( Acte impulsif ) .
ج - واذا قيل للحتميين ان من شرط الفعل الارادي أن يكون مصحوبا بالشعور ، قالوا ان الشعور لا ينفرد وحده بالتأثير ، لأنه ليس حر أو لأنه يقتصر على مشاهدة نتيجة الفعل ، فيمد لها العدة بما يهيئه من الأسباب في داخله ، ثم ان قسما كبيراً من هذه الأسباب قد يتم خارج ميدان الشعور ، لاستقراره في أعماق النفس واتصاله بأبداننا ، فالشعور اذن عنصر من العناصر الداخلة في هذا التركيب . وهو الذي يتدبر الأمر بروية ، وينظر في العواقب ، ويحيط بالرغائب المتعارضة ، ولكنه لا يستطيع أن ينجز عمله بحرية . انه في حقيقة الأمر مقيد ، كالدوارة التي يحركها الهواء ، فلو كانت شاعرة بدورانها ، لزعمت أنها تحرك نفسها بنفسها .
٥ - ليس مذهب الحتمية أوضح من مذهب حرية الاختيار :
آ - ونقول هنا في بيان هذا الأمر ، ان البواعث والدوافع ، ليست أجزاءاً فردة مستقلة ، وانما هي أحوال نفسية متداخلة ، كل حالة منها مشتملة على الأحوال الاخرى ، فتتغير وتزيد وتنقص ، بتأثير الانتباه ، ولا تبقى على حالها زمانين ، فإذا وضعت في الميزان تغيرت طبيعتها ، وتغير الميزان معها . وهل يصح الوزن اذا تغير الميزان المجرد نظرك اليه ، أو تفكيرك فيه ؟
ب - ثم أن هذه البواعث والدوافع لا تظهر على مسرح الشعور عفواً ، أو يجاذبية ميكانيكية ، بل تظهر بتأثير الفاعلية الذهنية ( راجع نقد مذهب التداعية ) ، ولكن مذهب الحتمية يهمل هذه الناحية من حياة النفس ، ويشبه الفعل الارادي بالحركة المتولدة من تلاقي القوى المادية .
وقصارى القول ان فلاسفة الحتمية رغبوا في تعليل الفاعلية الارادية بقوانين ميكانيكية ، فاستبدلوا بحياة النفس رموز المادة ، واستمدوا أحكامهم من علم ما بعد الطبيعة ، لا من الملاحظات الواقعية .
٦ - النتيجة :
ينتج من كل ما تقدم أن الفلاسفة يركبون في تأويل صفات الفعل الارادي مركباً صعباً ، فبعضهم يأخذ بحرية الاختيار ، وبعضهم يشبه حياة النفس بآلية المادة ، وهم لو اقتصروا على الملاحظات النفسية الواقعية ، لما سلكوا هذا الطريق الوعر ، ولكفونا مؤنة الشبه الفلسفية التي وقعوا فيها .
تعليق