العادة والقصور الذاتي ، والمذهب الالي .. العادة
العادة والقصور الذاتي ، والمذهب الالي
أما الفريق الثاني فقد زعم كما رأيت أن نطاق العادة واسع جداً ، وانها تنطبق على . الأحياء وغير الأحياء ، وأنها حالة من أحوال القصور الذاتي . ويرجع رأيهم جميعاً إلى ( ديكارت ) الذي شبه العادة بالظواهر الفيزيائية ، قال : ان طي الثوب مثلا لابد من ان يترك أثراً فيه ، فيصبح طيه من تلك الناحية أصلح وأسهل ( ٢ ) . وقال ( بوسويه ) : الخشب ينثني شيئاً فشيئاً ، ويتعود الحالة التي يراد وضعه فيها . والحديد يلين بالنار والمطرقة ، والأجسام كلها تقبل كثيراً من التأثيرات المخالفة لطبائعها ( ۳ ) .
وقد أوضح ( ديكارت ) فكرته هذه بنظرية الأرواح الحيوانية ( Esprits animaux ) فقال : كلما أرادت النفس أن تحرك الجسد أثرت في الغدة الصنوبرية ، فقذفت هذه الغدة بالأرواح الحيوانية إلى العضلات بطريق المخ ، والأعصاب . فإذا سلكت الأرواح الحيوانية طريقاً واحداً عدة مرات ، تركت فيه أثراً عميقاً ، وأصبح مرورها به أسهل ، فالجد يدخر إذن آثار الماضي . وخواص المادة هي التي توضح لنا تكون العادة .
وقد أخذ ( مالبرانش ) أيضاً بهذا الرأي ، فقال ان . الأعصاب متصلة بحوض الأرواح الحيوانية ، والنفس تدفع هذه الأرواح ، وتوصلها بطريق الأعصاب إلى عضلات الجسد . إذا كان المرء يجد صعوبة في تحريك أصابعه للعزف على إحدى الآلات الموسيقية مثلا فمرد ذلك إلى أن الأرواح الحيوانية لا تجد الطريق مفتوحاً أمامها دائماً ، فهي تفتح هذا الطريق وتمهده بكثرة مرورها عليه ، وتتولد العادة من ذلك شيئاً فشيئاً .
ولكن ارتقاء علم الحياة في الأيام الأخيرة حمل الفلاسفة على إيضاح وظائف الأعضاء بطريقة مختلفة ، وهي تفسير تكون العادة بتبدلات الجملة العصبية ، وبالظواهر الفيزيائية والكيميائية . فقد قال أوغست كونت ) : إن العادة هي القصور الذاتي . وقال لنون دومون ) : ان العادة ليست خاصة من خواص الأحياء فقط ، وإنما هي خاصة من خواص المادة أيضاً ، قال : ان اتصاف الكائنات الحية بالعادة أمر استثنائي ، أما اتصاف المادة الجامدة بها فأمر طبيعي . فالجسم يبقى في حالة السكون مادام لا يؤثر فيه مؤثر خارجي ، ويبقى في حالة الحركة ما دام لا يقاومه شيء ، فمبدأ القصور الذاتي إذن مبدأ العادة . ان الجسم المتحرك لا يقف عن الحركة إلا إذا حال دون استمرار حركته حائل ، فحالته هذه حالة مكتسبة إلا أنها دائمة ، وهي من الوجهة النظرية أبدية خالدة . كذلك الكواكب السيارة ، فهي تدور حول الشمس ، والنهر يحفر مجراه . والمفتاح يتعود القفل ، والثوب صاحبه . نعم ان الحجر لا يتعود الصعود وإن ألقيته في الفضاء ألف مرة ، يألف جسم ولكن الحيوان أيضاً لا يتعود الصعود . فلكل كائن عادات خاصة به ، إلا أنها لا تكون إلا على قدر القصور الذاتي .
المناقشة .
- ان ضعف هذه النظريات يرجع إلى استنادها إلى مفاهيم غير واضحة وأحكام غير بينة ، كمفهومي الحياة ، والقصور الذاتي من جهة ، ومفهومي العادة الفاعلة ، والعادة المنفعلة من جهة اخرى . وإذا أردنا الآن أن نناقش أصحابها الحساب ، وأن نفرق بين الصالح والفاسد منها ، وجب علينا أن نتذكر ما قلناه في صفات العادة ، حيث قسمنا العادة هناك ثلاثة أقسام المادة الحيوية ، والعادة الحركية ، والعادة النفسية المحضة .
١ - فالعادة الحيوية لا تقتضي الوعي ، بل تقتضي ردود فعل تقوم بها الأجسام العضوية في سبيل التكيف الخارجي ، وأكثر علماء العصر يرجعون هذه الفاعلية الحيوية الخفية إلى عوامل فيزيائية ، وكيميائية ، فإذا صح رأيهم كانت العادات الحيوية ناشئة عن خواص المادة الجامدة ، أي تابعة في النهاية لقانون القصور الذاتي .
٢ - أما العادات الحركية فهي تبدلات سطحية ، أو عميقة في النسج الحية ، والخلايا العصبية وهي مؤلفة من حركات ، المخ ضروري لها في أول الأمر ، إلا أنها تستقل عنه شيئاً فشيئاً ، فتتجمع في النخاع الشوكي ، أي في مركز الحركات الآلية . فاكتساب عادة حركية إذن فعل من الأفعال المنعكسة ، لا بل هو تخصص الجسد بأفعال آلية كانت في الأصل إرادية ، وهذا يدل على أن المادة الحركية مرتبطة دائماً بشرائط مادية محضة ، وانها من هذه الناحية مطابقة لرأي الفلاسفة الذين يرجعون العادة إلى القصور الذاتي .
ولكن هذا التعليل لا يتفق مع حقيقة العادات الحركية ، لأنها كما رأينا تتولد بتأثير والانتباه ، وقد ذكرنا أن الكائن الحي لا يتعود فعلاً من الأفعال إلا إذا . بالتدريج . حر كاته الأولى البسيطة ، فينبغي له إذن عند كل تكرار جديد أن يتصور الفعل النهائي الذي يريد بلوغه ، كما يتصور الطفل عند تعلم الكتابة النموذج الذي يريد تقليده ، فيصحح حر كاته بالتدريج ، ليجملها في النهاية مطابقة لهذا النموذج . وبهذا المعنى تصبح العادة الحركية مختلفة تماماً . عن العادة الحيوية ، فقد تكون العادة الحيوية ، حالة من حالات القصور الذاني ، أو تكون الحياة نفسها ظاهرة من ظواهر المادة البحتة ، ولكن العادة الحركية لا تنحل إلى القصور الذاتي ، انحلالاً تاماً ، لأنها توجب تغلب الإرادة على المادة ، وتقتضي جهداً مستمراً يسيره الانتباه ، ندرك به نواقص حرك الاولى ، ونصححها بطرح الفاسد ، وإبقاء الصالح منها ، ونزيد دقتها وسرعتها ، فكان العادة الحركية مبنية إذن على انتخاب دائم ، وشعور ، ووعي ، وانتباه .
٣ - وأما المادة النفسية فقد بين العلماء أنها تقتضي توجيه الانتباه إلى أمر من ، مثال ذلك : أن عادة حل المسائل الهندسية تقتضي توجيه الانتباه إلى القضايا المتعلقة المسألة المطلوبة . وعادة الخطابة تقتضي توجيه الانتباه ، بالتجربة ، إلى عواطف السامعين ، وحركاتهم ، وأفكارهم ، وكيفية التأثير فيهم ، ومخاطبتهم على قدر أحلامهم ، و ميولهم . وهذا كله يحتاج إلى عوامل مستقلة عن القصور الذاتي .
٤ - يتبين من كل ما تقدم أن العادة الحركية ، والعادة النفسية متشابهتان في احتياج كل منهما إلى تأثير الانتباه ، وأن تنسيق الحركات في العادات الحركية شبيه بتنسيق الأفكار في العادات النفسية ، وفي كلا الحالين لا يتم هذا التنسيق إلا بقوة الانتخاب ، وجهد الانتباه ، أي بتحديد العناصر المادية ، أو النفسية اللازمة لحدوث الفعل .
يقولون إن الجسم يبقى في حال السكون ، أو في حال الحركة ما دام لا يؤثر فيه محرك خارجي جديد ، ولكن بقاءه في إحدى هاتين الحالتين أمر نظري بحت ، لا ترى في الطبيعة جسما يثابر على الحركة ، أو السكون زمانا طويلا ، ولأن العالم الخارجي مشتبك العاصر ، تختلط فيه الأسباب بالمسببات اختلاطاً لا يتناهى . فالتغير فيه دائم والحركة مستمرة ، ولا يخضع الجسم لمبدأ القصور الذاتي إلا في الحالة النظرية المجردة ، أي عندما تتسق القوى المؤثرة ، وتتحدد الحركات ، وتجري على نمط واحد يذكرك بالعادة . ولا يتم هذا التحديد إلا عندما تؤلف القوى المؤثرة في الجسم منظومة مغلقة ، كما هي الحال في الكواكب السيارة . انها خاضعة لعدد محدود من الحركات المتسقة التي تؤلف باتساقها جملة مغلقة ، فتتكرر على نمط واحد شبيه بالعادة ؛ تلك هي أيضا حال القوانين الطبيعية ، إن تقيدها واتساقها ناشئان عن اعتدال القوى ، والحركات ، فكأنها عادات مستقرة ، أو كأن ثبوتها ناشيء عن استقرار إرادة الخالق في الطبيعة .
وقصارى القول ، قد تكون المادة من الوجهة النظرية نتيجة من نتائج القصور الذاتي ، إلا أنها من الوجهة التجريبية لا تتحقق في المادة لكثرة اختلاط الأسباب بالمسببات ، وتداخل القوى الطبيعية . وفي وسع الكائن الحي أن يحدد لنفسه بالفاعلية ، والجهد منظومة مغلقة من الحركات . إن من خصائص المادة الحية أن تحدد دائرة التأثيرات المنطبعة فيها ، وأن تؤلف دوائر مغلقة من الأسباب والمسببات ، تؤدي إلى قلب التتابع المشوش ، إلى حركات دورية منظمة وقد يكون هذا التحديد شعوريا كما في العادة النفسية ، وقد يكون لا شعوريا كما في العادة الحيوية . انظر إلى
القروي ، وهو يكتب اسمه ، انه يحرك عضلات بده ، ومعصمه ، وساعده ، جميع وكتفه ، وقد يحرك كل جسمه . ثم انظر إلى الكاتب المتمرن على الكتابة ، انه يحرك بعض أصابع يده لا غير ، وكذلك الراقص المبتدىء فهو يحرك جسمه كله ويشد أعصابه كلها ، فتجد حركاته مشوشة ، أما الماهر في الرقص فيجعل حركاته مقصورة على الساقين . وهذا التحديد غير مقصور على العادات الحركية ، بل ينطبق أيضاً على العادات النفسية . ان التلميذ المبتديء بتعلم الهندسة يستحضر إلى ذهنه عند حل أبسط المسائل الهندسية جميع النظريات التي تعلمها ، فيجربها واحدة واحدة ، حق يهتدي الى طريقة الحل ، أما الرياضي الحاذق فيقتصر على استحضار النظريات المتعلقة بحل تلك المسألة . فالانتخاب ضروري اذن للمادة النفسية ، والعادة الحركية معا ، وكما تؤدي العادة الى ( الاوتوماتيكية ) ، وتقلد القصور الذاتي في فعلها ، فكذلك تستند في تكونها الى جهد الانتباه ، وفاعلية الاصطفاء ، والانتخاب .
العادة والقصور الذاتي ، والمذهب الالي
أما الفريق الثاني فقد زعم كما رأيت أن نطاق العادة واسع جداً ، وانها تنطبق على . الأحياء وغير الأحياء ، وأنها حالة من أحوال القصور الذاتي . ويرجع رأيهم جميعاً إلى ( ديكارت ) الذي شبه العادة بالظواهر الفيزيائية ، قال : ان طي الثوب مثلا لابد من ان يترك أثراً فيه ، فيصبح طيه من تلك الناحية أصلح وأسهل ( ٢ ) . وقال ( بوسويه ) : الخشب ينثني شيئاً فشيئاً ، ويتعود الحالة التي يراد وضعه فيها . والحديد يلين بالنار والمطرقة ، والأجسام كلها تقبل كثيراً من التأثيرات المخالفة لطبائعها ( ۳ ) .
وقد أوضح ( ديكارت ) فكرته هذه بنظرية الأرواح الحيوانية ( Esprits animaux ) فقال : كلما أرادت النفس أن تحرك الجسد أثرت في الغدة الصنوبرية ، فقذفت هذه الغدة بالأرواح الحيوانية إلى العضلات بطريق المخ ، والأعصاب . فإذا سلكت الأرواح الحيوانية طريقاً واحداً عدة مرات ، تركت فيه أثراً عميقاً ، وأصبح مرورها به أسهل ، فالجد يدخر إذن آثار الماضي . وخواص المادة هي التي توضح لنا تكون العادة .
وقد أخذ ( مالبرانش ) أيضاً بهذا الرأي ، فقال ان . الأعصاب متصلة بحوض الأرواح الحيوانية ، والنفس تدفع هذه الأرواح ، وتوصلها بطريق الأعصاب إلى عضلات الجسد . إذا كان المرء يجد صعوبة في تحريك أصابعه للعزف على إحدى الآلات الموسيقية مثلا فمرد ذلك إلى أن الأرواح الحيوانية لا تجد الطريق مفتوحاً أمامها دائماً ، فهي تفتح هذا الطريق وتمهده بكثرة مرورها عليه ، وتتولد العادة من ذلك شيئاً فشيئاً .
ولكن ارتقاء علم الحياة في الأيام الأخيرة حمل الفلاسفة على إيضاح وظائف الأعضاء بطريقة مختلفة ، وهي تفسير تكون العادة بتبدلات الجملة العصبية ، وبالظواهر الفيزيائية والكيميائية . فقد قال أوغست كونت ) : إن العادة هي القصور الذاتي . وقال لنون دومون ) : ان العادة ليست خاصة من خواص الأحياء فقط ، وإنما هي خاصة من خواص المادة أيضاً ، قال : ان اتصاف الكائنات الحية بالعادة أمر استثنائي ، أما اتصاف المادة الجامدة بها فأمر طبيعي . فالجسم يبقى في حالة السكون مادام لا يؤثر فيه مؤثر خارجي ، ويبقى في حالة الحركة ما دام لا يقاومه شيء ، فمبدأ القصور الذاتي إذن مبدأ العادة . ان الجسم المتحرك لا يقف عن الحركة إلا إذا حال دون استمرار حركته حائل ، فحالته هذه حالة مكتسبة إلا أنها دائمة ، وهي من الوجهة النظرية أبدية خالدة . كذلك الكواكب السيارة ، فهي تدور حول الشمس ، والنهر يحفر مجراه . والمفتاح يتعود القفل ، والثوب صاحبه . نعم ان الحجر لا يتعود الصعود وإن ألقيته في الفضاء ألف مرة ، يألف جسم ولكن الحيوان أيضاً لا يتعود الصعود . فلكل كائن عادات خاصة به ، إلا أنها لا تكون إلا على قدر القصور الذاتي .
المناقشة .
- ان ضعف هذه النظريات يرجع إلى استنادها إلى مفاهيم غير واضحة وأحكام غير بينة ، كمفهومي الحياة ، والقصور الذاتي من جهة ، ومفهومي العادة الفاعلة ، والعادة المنفعلة من جهة اخرى . وإذا أردنا الآن أن نناقش أصحابها الحساب ، وأن نفرق بين الصالح والفاسد منها ، وجب علينا أن نتذكر ما قلناه في صفات العادة ، حيث قسمنا العادة هناك ثلاثة أقسام المادة الحيوية ، والعادة الحركية ، والعادة النفسية المحضة .
١ - فالعادة الحيوية لا تقتضي الوعي ، بل تقتضي ردود فعل تقوم بها الأجسام العضوية في سبيل التكيف الخارجي ، وأكثر علماء العصر يرجعون هذه الفاعلية الحيوية الخفية إلى عوامل فيزيائية ، وكيميائية ، فإذا صح رأيهم كانت العادات الحيوية ناشئة عن خواص المادة الجامدة ، أي تابعة في النهاية لقانون القصور الذاتي .
٢ - أما العادات الحركية فهي تبدلات سطحية ، أو عميقة في النسج الحية ، والخلايا العصبية وهي مؤلفة من حركات ، المخ ضروري لها في أول الأمر ، إلا أنها تستقل عنه شيئاً فشيئاً ، فتتجمع في النخاع الشوكي ، أي في مركز الحركات الآلية . فاكتساب عادة حركية إذن فعل من الأفعال المنعكسة ، لا بل هو تخصص الجسد بأفعال آلية كانت في الأصل إرادية ، وهذا يدل على أن المادة الحركية مرتبطة دائماً بشرائط مادية محضة ، وانها من هذه الناحية مطابقة لرأي الفلاسفة الذين يرجعون العادة إلى القصور الذاتي .
ولكن هذا التعليل لا يتفق مع حقيقة العادات الحركية ، لأنها كما رأينا تتولد بتأثير والانتباه ، وقد ذكرنا أن الكائن الحي لا يتعود فعلاً من الأفعال إلا إذا . بالتدريج . حر كاته الأولى البسيطة ، فينبغي له إذن عند كل تكرار جديد أن يتصور الفعل النهائي الذي يريد بلوغه ، كما يتصور الطفل عند تعلم الكتابة النموذج الذي يريد تقليده ، فيصحح حر كاته بالتدريج ، ليجملها في النهاية مطابقة لهذا النموذج . وبهذا المعنى تصبح العادة الحركية مختلفة تماماً . عن العادة الحيوية ، فقد تكون العادة الحيوية ، حالة من حالات القصور الذاني ، أو تكون الحياة نفسها ظاهرة من ظواهر المادة البحتة ، ولكن العادة الحركية لا تنحل إلى القصور الذاتي ، انحلالاً تاماً ، لأنها توجب تغلب الإرادة على المادة ، وتقتضي جهداً مستمراً يسيره الانتباه ، ندرك به نواقص حرك الاولى ، ونصححها بطرح الفاسد ، وإبقاء الصالح منها ، ونزيد دقتها وسرعتها ، فكان العادة الحركية مبنية إذن على انتخاب دائم ، وشعور ، ووعي ، وانتباه .
٣ - وأما المادة النفسية فقد بين العلماء أنها تقتضي توجيه الانتباه إلى أمر من ، مثال ذلك : أن عادة حل المسائل الهندسية تقتضي توجيه الانتباه إلى القضايا المتعلقة المسألة المطلوبة . وعادة الخطابة تقتضي توجيه الانتباه ، بالتجربة ، إلى عواطف السامعين ، وحركاتهم ، وأفكارهم ، وكيفية التأثير فيهم ، ومخاطبتهم على قدر أحلامهم ، و ميولهم . وهذا كله يحتاج إلى عوامل مستقلة عن القصور الذاتي .
٤ - يتبين من كل ما تقدم أن العادة الحركية ، والعادة النفسية متشابهتان في احتياج كل منهما إلى تأثير الانتباه ، وأن تنسيق الحركات في العادات الحركية شبيه بتنسيق الأفكار في العادات النفسية ، وفي كلا الحالين لا يتم هذا التنسيق إلا بقوة الانتخاب ، وجهد الانتباه ، أي بتحديد العناصر المادية ، أو النفسية اللازمة لحدوث الفعل .
يقولون إن الجسم يبقى في حال السكون ، أو في حال الحركة ما دام لا يؤثر فيه محرك خارجي جديد ، ولكن بقاءه في إحدى هاتين الحالتين أمر نظري بحت ، لا ترى في الطبيعة جسما يثابر على الحركة ، أو السكون زمانا طويلا ، ولأن العالم الخارجي مشتبك العاصر ، تختلط فيه الأسباب بالمسببات اختلاطاً لا يتناهى . فالتغير فيه دائم والحركة مستمرة ، ولا يخضع الجسم لمبدأ القصور الذاتي إلا في الحالة النظرية المجردة ، أي عندما تتسق القوى المؤثرة ، وتتحدد الحركات ، وتجري على نمط واحد يذكرك بالعادة . ولا يتم هذا التحديد إلا عندما تؤلف القوى المؤثرة في الجسم منظومة مغلقة ، كما هي الحال في الكواكب السيارة . انها خاضعة لعدد محدود من الحركات المتسقة التي تؤلف باتساقها جملة مغلقة ، فتتكرر على نمط واحد شبيه بالعادة ؛ تلك هي أيضا حال القوانين الطبيعية ، إن تقيدها واتساقها ناشئان عن اعتدال القوى ، والحركات ، فكأنها عادات مستقرة ، أو كأن ثبوتها ناشيء عن استقرار إرادة الخالق في الطبيعة .
وقصارى القول ، قد تكون المادة من الوجهة النظرية نتيجة من نتائج القصور الذاتي ، إلا أنها من الوجهة التجريبية لا تتحقق في المادة لكثرة اختلاط الأسباب بالمسببات ، وتداخل القوى الطبيعية . وفي وسع الكائن الحي أن يحدد لنفسه بالفاعلية ، والجهد منظومة مغلقة من الحركات . إن من خصائص المادة الحية أن تحدد دائرة التأثيرات المنطبعة فيها ، وأن تؤلف دوائر مغلقة من الأسباب والمسببات ، تؤدي إلى قلب التتابع المشوش ، إلى حركات دورية منظمة وقد يكون هذا التحديد شعوريا كما في العادة النفسية ، وقد يكون لا شعوريا كما في العادة الحيوية . انظر إلى
القروي ، وهو يكتب اسمه ، انه يحرك عضلات بده ، ومعصمه ، وساعده ، جميع وكتفه ، وقد يحرك كل جسمه . ثم انظر إلى الكاتب المتمرن على الكتابة ، انه يحرك بعض أصابع يده لا غير ، وكذلك الراقص المبتدىء فهو يحرك جسمه كله ويشد أعصابه كلها ، فتجد حركاته مشوشة ، أما الماهر في الرقص فيجعل حركاته مقصورة على الساقين . وهذا التحديد غير مقصور على العادات الحركية ، بل ينطبق أيضاً على العادات النفسية . ان التلميذ المبتديء بتعلم الهندسة يستحضر إلى ذهنه عند حل أبسط المسائل الهندسية جميع النظريات التي تعلمها ، فيجربها واحدة واحدة ، حق يهتدي الى طريقة الحل ، أما الرياضي الحاذق فيقتصر على استحضار النظريات المتعلقة بحل تلك المسألة . فالانتخاب ضروري اذن للمادة النفسية ، والعادة الحركية معا ، وكما تؤدي العادة الى ( الاوتوماتيكية ) ، وتقلد القصور الذاتي في فعلها ، فكذلك تستند في تكونها الى جهد الانتباه ، وفاعلية الاصطفاء ، والانتخاب .
تعليق