النظريات الاجتماعية .. مبادئ العقل
النظريات الاجتماعية
أما الاجتماعيون الذين يرجعون العقل إلى العوامل الاجتماعية . فإنهم ينقسمون إلى فريقين :
١ - فريق يقول إن عقل الإنسان الابتدائي مختلف عن عقل الإنسان المتحضر .
۲ - وفريق يقول ان مبادى العقل اجتماعية بالذات .
١ - العقلية الابتدائية عند ( لفي برول ) .
- انتقد ( لفي برول ) عند بحثه في عقلية الإنسان الابتدائي مذهب الفلاسفة المتقدمين ، وآراءهم في منشأ العقل ، فقال أنهم أخطأوا جميعاً في ظنهم أن العقل البشري ثابت على حال واحدة في كل زمان ومكان ، وأنه من الوجهة المنطقية لا يتبدل ولا يتغير ، ثم أنه بعد أن فند آراء المتقدمين قايس بين الوظائف العقلية العالية ، والوظائف العقلية الابتدائية ، فبين أن لكل نوع من أنواع الجماعات عقلية خاصة . فالعقلية المنطقية الخاضعة لمبدأ عدم التناقض خاصة بالجماعات المعقدة ، والمتباينة . أما الجماعات البسيطة المتجانسة - وهي الجماعات الابتدائية - فإن لها عقلية يسميها ( لفي برول ) بالعقلية المتقدمة على المنطق ( Mentalité prélogique ) ، أو العقلية الروحية ، وهي - كمار أينا - عقلية خاضعة لقانون المشاركة ( Loi de participation ) . فهناك إذن أنواع كثيرة من المنطق . وليست عقلية الانسان الابتدائي المخالفة لعقليتنا بمجردة من كل منطق ، وإنما هي ذات منطق خاص بها ، مختلف عن منطقنا ، وبعيد عنه .
٢ - منشأ العقل عند ( دور كهايم ) .
- رأينا أن اتصاف المعاني بالتجريد والثبوت يدل على أن للهيئة الاجتماعية تأثيراً فيها ، ويرى ) دور كهايم ) أن المقولات لا تختلف في ذلك المعاني ، فهي اجتماعية بالذات ، وذلك لسببين : أولهما أنها كلية مطلقة اتغير ؛ وثانيها أن الأشياء التي تدل عليها أشياء اجتماعية .
ان تصور مقولات الجنس ، والمكان ، والزمان ، يتألف من ظواهر المجتمع المختلفة الجنس ، والزمان تاريخ المواسم والأعياد ، وكذلك مقولة العلة ، فهي تتضمن فالقبيلة هي مفهوم قوة محدثة فاعلة ، على مثال قوة ( المانا - Mana التي تصورها الإنسان الابتدائي لتفسير حدوث الأشياء . دع أن الحفلات التقليدية التي كان الإنسان الابتدائي يقيمها للتأثير في الطبيعة تتضمن الإيمان بمبدأ السببية ، وهو مبني على الاعتقاد أن الأشياء المتشابهة يحدث بعضها بعضاً . مثال ذلك : طريقة الانسان الابتدائي في الاستسقاء ، فقد كان يقلد المطر بإلقاء الماء في الهواء ، ويقلد الغيوم بتطيير الزغب في السماء ، ويعتقد أن هذه الأعمال باعثة على نزول الغيث .
نعم أن الفرد كما يقول ( دور كهايم ) يشعر شعوراً مبهما بالزمان ، والمكان ، والتشابه ويحس بشيء من النظام في تتابع الظواهر الطبيعية ؟ ولكن هذا الشعور المبهم لا يقاس بوضوح مفاهيم الزمان ، والمكان ، والجنس ، والسببية . ان هذه المفاهيم أجناس عالية مشتملة على سائر المفاهيم الأخرى ، وهي قوالب دائمة للحياة العقلية ، لا بل ، قواعد هي ذات روابط أعلى من روابط تصور اتنا الجزئية الخاصة خارجة عنها ، ومسيطرة عليها ، محيطة بها ، ومنظمة لها . فهناك إذن تشابه بين مبادىء المنطق ، ومبادىء الأخلاق ، بين قوانين العقل ، وأوامر الارادة . إن غاية المبادىء ، والمقولات تنظيم التجربة الفردية ، فلا يمكن أن تكون مشتقة من هذه التجربة .
فالهيئة الاجتماعية هي التي عرت المبادىء ، والمقولات من طابعها الحيوي ، والنفعي ، وجعلت الفرد يشعر بها ويفكر فيها تفكيراً مجرداً . وعنى ذلك فالمدهب الاجتماعي - كما یری ( دور ) كهايم - يتجنب الشبه التي وقع فيها كل من المذهبين : التجريبي ، والعقلي . لأن المذهب التجريبي أهمل صفات المبادىء ، وأهمها تقدمها على التجربة الفردية ، ومفارقتها لها . والمذهب العقلي أرجع المبادىء إلى أصل متعال ، مفارق للتجربة ، فحافظ بذلك على صفاتها ، ولكن من غير أن ينجح في إيضاح تكونها إيضاحاً كافياً . أما المذهب الاجتماعي فقد أرجع المبادىء إلى التجربة الاجتماعية لا إلى التجربة الفردية ، فأمكنه بذلك أن يحافظ على صفاتها و أن يوضحها ، لأن الهيئة الاجتماعية ليست موجوداً خيالياً ، ولا كائنا فرديا زائلاً ، وإنما هي كائن متوسط : بين الاله والانسان .
المناقشة .
- ان النظرية الاجتماعية تكمل النظرية الحيوية ، وتوضح أكثر مسائلها الغامضة ، ولنذكر الآن بعض ملاحاتنا على هذه النظرية .
۱ - يظهر لنا لأول وهلة أن هناك اختلافاً عميقاً بين ( لفي برول ) و ( دور كهايم ) ، لأن العقلية الابتدائية ، والعقلية المنطقية عند ( لفي برول ) متباينتان تماماً . أما ( دور كهايم ) فيرى أن العقلية المنطقية مشتقة من العقلية الابتدائية ، وان العقل متولد من الحياة الاجتماعية . ولكن الخلاف بين هذين المذهبين ليس في الحقيقة عميقاً ، لأن كلا منهما يسلم بأن العقلية المنطقية قد نشأت بالتدريج من أصل غير منطقي ، وان هذا الأصل رغم مخالفته للمنطق لا يخلو من نزعات مشابهة لنزعاتنا الفكرية الحاضرة .
وقد ذكر ( موس - Mauss ) أن قانون المشاركة لا يدل على اختلاط المقولات عند الانسان الابتدائي ، بل يدل في الأصل على جهد إرادي لتوحيد الفكر والأشياء من جهة ، ولتوحيد الأشياء بعضها مع بعض من جهة ثانية ، حتى أن ( لفي برول ) نفسه يبين أن الفكر المنطقي ، والفكر غير المنطقي موجودان معا في عقل الانسان الابتدائي . وأن كثيراً من العناصر غير المنطقية لا تزال إلى الآن موجودة في العقل البشري ؛ وهو يقرر أيضا أن للجماعات البشرية المختلفة صفات مشتركة ، وانه ينبغي لذلك أن يكون فيها للوظائف العقلية العالية أساس واحد .
وقصارى القول أن الجمع بين الرأيين لا يحتاج إلى عناء كبير ، بل يكفي لذلك أن يقال : ان الفكر لا ينتقل من عقلية إلى اخرى انتقالاً منطقيا لا صلة فيه للأحوال اللاحقة بالأحوال السابقة ، بل ينتقل بانتقال متصل الحلقات دائم النمو والارتقاء .
۲ - لذلك كان من الواجب على أصحاب المذهب الاجتماعي أن يعنوا عناية خاصة بتفسير تكوين المقولات ، وتبدلها المتتابع ، وتطورها ، لأنه لا يكفينا أن نقول : أن المقولات مرتبطة بالأوضاع والأحوال الاجتماعية ، بل يجب علينا أن نبين كيف تؤثر هذه الأوضاع ، والأحوال في تبدل المقولات . ان تفسير تكون المقولات ، بالعوامل الاجتماعية لا يصبح تاما إلا إذا أوضحنا كيفية تأثير هذه العوامل فيها ، ولا يتم لنا ذلك إلا إذا درسنا جميع المقولات التي يتقيد بها العقل الانساني في مختلف أطواره .
قال ( موس ) : « لقد كان ولا يزال في سماء العقل أقمار آفلة مظلمة . ان الصغير ، والكبير ، والحي ، والجامد ، واليمين ، واليسار ، كانت كلها من مقولات العقل ، واشد ما كابدته مقولة الجوهر من التبدل حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن ، . فأنت أن تری دراسة هذه المقولات القديمة ضرورية لمعرفة حقيقة المقولات الحاضرة ، ومن الضروري أيضا أن يدرس تأثير الأوضاع ، والأحوال الاجتماعية ، في تبدل هذه المقولات ، وانتقالها من أشكالها الوضيعة ، إلى أشكالها العالية المحيطة بالفلسفة والعلم .
٣ - ثم ان شروط الحياة الاجتماعية العامة تجرد الفرد عن الجوانب الذاتية والشخصية وترفعه إلى فضاء الفكر الموضوعي ، واللاشخصي . ولكن هذا التجريد يختلف باختلاف الحياة الاجتماعية المحيطة بالفرد ، فهناك جماعات ابتدائية مبنية على القهر ( Contrainte ) والتشابه ( Conformisme ) ، وجماعات راقية مبنية على التعاون ( Cooperation ) ، والتباين ؛ فالجماعات الأولى ليست صالحة لايقاظ الوعي ، والفكر ، لأنها مغلقة ومقيدة بتقاليدها ، ونزعاتها الخاصة . والفرد لا يستطيع أن يخرج فيها من نطاق الحياة الضيقة إلى افق التفكير الواسع ، أما الحياة الاجتماعية الراقية فهي أوسع نطاقا من الأولى ، لأنها تحرر الفرد من التقليد ، وتجعله قادر أعلى التفكير المجرد ، ثم تنقله من حالة القهر الى حالة التعاون الحر المبدع ، وهذا التحرر الفردي ، أو التفرد ( Individualisation ) الفكري تابع لكثير من الشرائط الاجتماعية ، كتقسيم العمل ، والكثافة الاجتماعية . وغيرها . إلا أن الفكر
لا يصبح كلياً إلا إذا نمت العلائق الدولية ، واتسع نطاق الحياة الاجتماعية . قال ( دور کهايم ) : كلما اتسع نطاق الحياة الدولية اتسع افق المقل ، وأصبحت الجماعة جزءاً من كل أوسع منها ، وغير محدود ، حتى أنه ليمكن توسيع حدوده توسيعاً غير متناه ، بحيث يصبح من الصعب إبقاء الامور داخل الحدود الضيقة التي كانت محصورة فيها ، كما يصبح من الضروري تنظيمها وفقاً لمبادى جديدة خاصة بها ، وهكذا يغدو التنظيم المنطقي متميزاً عن التنظيم الاجتماعي ، مبايناً له ومستقلا عنه ( ۱ ) .
ومهما يكن من أمر ، فإنه لابد في هذا التطور من أن تولد التصورات الجماعية المشتركة عقلية جديدة ليس في وسع الفرد ، من حيث هو فرد ، أن يرتقي اليها بوسائله الخاصة .
النظريات الاجتماعية
أما الاجتماعيون الذين يرجعون العقل إلى العوامل الاجتماعية . فإنهم ينقسمون إلى فريقين :
١ - فريق يقول إن عقل الإنسان الابتدائي مختلف عن عقل الإنسان المتحضر .
۲ - وفريق يقول ان مبادى العقل اجتماعية بالذات .
١ - العقلية الابتدائية عند ( لفي برول ) .
- انتقد ( لفي برول ) عند بحثه في عقلية الإنسان الابتدائي مذهب الفلاسفة المتقدمين ، وآراءهم في منشأ العقل ، فقال أنهم أخطأوا جميعاً في ظنهم أن العقل البشري ثابت على حال واحدة في كل زمان ومكان ، وأنه من الوجهة المنطقية لا يتبدل ولا يتغير ، ثم أنه بعد أن فند آراء المتقدمين قايس بين الوظائف العقلية العالية ، والوظائف العقلية الابتدائية ، فبين أن لكل نوع من أنواع الجماعات عقلية خاصة . فالعقلية المنطقية الخاضعة لمبدأ عدم التناقض خاصة بالجماعات المعقدة ، والمتباينة . أما الجماعات البسيطة المتجانسة - وهي الجماعات الابتدائية - فإن لها عقلية يسميها ( لفي برول ) بالعقلية المتقدمة على المنطق ( Mentalité prélogique ) ، أو العقلية الروحية ، وهي - كمار أينا - عقلية خاضعة لقانون المشاركة ( Loi de participation ) . فهناك إذن أنواع كثيرة من المنطق . وليست عقلية الانسان الابتدائي المخالفة لعقليتنا بمجردة من كل منطق ، وإنما هي ذات منطق خاص بها ، مختلف عن منطقنا ، وبعيد عنه .
٢ - منشأ العقل عند ( دور كهايم ) .
- رأينا أن اتصاف المعاني بالتجريد والثبوت يدل على أن للهيئة الاجتماعية تأثيراً فيها ، ويرى ) دور كهايم ) أن المقولات لا تختلف في ذلك المعاني ، فهي اجتماعية بالذات ، وذلك لسببين : أولهما أنها كلية مطلقة اتغير ؛ وثانيها أن الأشياء التي تدل عليها أشياء اجتماعية .
ان تصور مقولات الجنس ، والمكان ، والزمان ، يتألف من ظواهر المجتمع المختلفة الجنس ، والزمان تاريخ المواسم والأعياد ، وكذلك مقولة العلة ، فهي تتضمن فالقبيلة هي مفهوم قوة محدثة فاعلة ، على مثال قوة ( المانا - Mana التي تصورها الإنسان الابتدائي لتفسير حدوث الأشياء . دع أن الحفلات التقليدية التي كان الإنسان الابتدائي يقيمها للتأثير في الطبيعة تتضمن الإيمان بمبدأ السببية ، وهو مبني على الاعتقاد أن الأشياء المتشابهة يحدث بعضها بعضاً . مثال ذلك : طريقة الانسان الابتدائي في الاستسقاء ، فقد كان يقلد المطر بإلقاء الماء في الهواء ، ويقلد الغيوم بتطيير الزغب في السماء ، ويعتقد أن هذه الأعمال باعثة على نزول الغيث .
نعم أن الفرد كما يقول ( دور كهايم ) يشعر شعوراً مبهما بالزمان ، والمكان ، والتشابه ويحس بشيء من النظام في تتابع الظواهر الطبيعية ؟ ولكن هذا الشعور المبهم لا يقاس بوضوح مفاهيم الزمان ، والمكان ، والجنس ، والسببية . ان هذه المفاهيم أجناس عالية مشتملة على سائر المفاهيم الأخرى ، وهي قوالب دائمة للحياة العقلية ، لا بل ، قواعد هي ذات روابط أعلى من روابط تصور اتنا الجزئية الخاصة خارجة عنها ، ومسيطرة عليها ، محيطة بها ، ومنظمة لها . فهناك إذن تشابه بين مبادىء المنطق ، ومبادىء الأخلاق ، بين قوانين العقل ، وأوامر الارادة . إن غاية المبادىء ، والمقولات تنظيم التجربة الفردية ، فلا يمكن أن تكون مشتقة من هذه التجربة .
فالهيئة الاجتماعية هي التي عرت المبادىء ، والمقولات من طابعها الحيوي ، والنفعي ، وجعلت الفرد يشعر بها ويفكر فيها تفكيراً مجرداً . وعنى ذلك فالمدهب الاجتماعي - كما یری ( دور ) كهايم - يتجنب الشبه التي وقع فيها كل من المذهبين : التجريبي ، والعقلي . لأن المذهب التجريبي أهمل صفات المبادىء ، وأهمها تقدمها على التجربة الفردية ، ومفارقتها لها . والمذهب العقلي أرجع المبادىء إلى أصل متعال ، مفارق للتجربة ، فحافظ بذلك على صفاتها ، ولكن من غير أن ينجح في إيضاح تكونها إيضاحاً كافياً . أما المذهب الاجتماعي فقد أرجع المبادىء إلى التجربة الاجتماعية لا إلى التجربة الفردية ، فأمكنه بذلك أن يحافظ على صفاتها و أن يوضحها ، لأن الهيئة الاجتماعية ليست موجوداً خيالياً ، ولا كائنا فرديا زائلاً ، وإنما هي كائن متوسط : بين الاله والانسان .
المناقشة .
- ان النظرية الاجتماعية تكمل النظرية الحيوية ، وتوضح أكثر مسائلها الغامضة ، ولنذكر الآن بعض ملاحاتنا على هذه النظرية .
۱ - يظهر لنا لأول وهلة أن هناك اختلافاً عميقاً بين ( لفي برول ) و ( دور كهايم ) ، لأن العقلية الابتدائية ، والعقلية المنطقية عند ( لفي برول ) متباينتان تماماً . أما ( دور كهايم ) فيرى أن العقلية المنطقية مشتقة من العقلية الابتدائية ، وان العقل متولد من الحياة الاجتماعية . ولكن الخلاف بين هذين المذهبين ليس في الحقيقة عميقاً ، لأن كلا منهما يسلم بأن العقلية المنطقية قد نشأت بالتدريج من أصل غير منطقي ، وان هذا الأصل رغم مخالفته للمنطق لا يخلو من نزعات مشابهة لنزعاتنا الفكرية الحاضرة .
وقد ذكر ( موس - Mauss ) أن قانون المشاركة لا يدل على اختلاط المقولات عند الانسان الابتدائي ، بل يدل في الأصل على جهد إرادي لتوحيد الفكر والأشياء من جهة ، ولتوحيد الأشياء بعضها مع بعض من جهة ثانية ، حتى أن ( لفي برول ) نفسه يبين أن الفكر المنطقي ، والفكر غير المنطقي موجودان معا في عقل الانسان الابتدائي . وأن كثيراً من العناصر غير المنطقية لا تزال إلى الآن موجودة في العقل البشري ؛ وهو يقرر أيضا أن للجماعات البشرية المختلفة صفات مشتركة ، وانه ينبغي لذلك أن يكون فيها للوظائف العقلية العالية أساس واحد .
وقصارى القول أن الجمع بين الرأيين لا يحتاج إلى عناء كبير ، بل يكفي لذلك أن يقال : ان الفكر لا ينتقل من عقلية إلى اخرى انتقالاً منطقيا لا صلة فيه للأحوال اللاحقة بالأحوال السابقة ، بل ينتقل بانتقال متصل الحلقات دائم النمو والارتقاء .
۲ - لذلك كان من الواجب على أصحاب المذهب الاجتماعي أن يعنوا عناية خاصة بتفسير تكوين المقولات ، وتبدلها المتتابع ، وتطورها ، لأنه لا يكفينا أن نقول : أن المقولات مرتبطة بالأوضاع والأحوال الاجتماعية ، بل يجب علينا أن نبين كيف تؤثر هذه الأوضاع ، والأحوال في تبدل المقولات . ان تفسير تكون المقولات ، بالعوامل الاجتماعية لا يصبح تاما إلا إذا أوضحنا كيفية تأثير هذه العوامل فيها ، ولا يتم لنا ذلك إلا إذا درسنا جميع المقولات التي يتقيد بها العقل الانساني في مختلف أطواره .
قال ( موس ) : « لقد كان ولا يزال في سماء العقل أقمار آفلة مظلمة . ان الصغير ، والكبير ، والحي ، والجامد ، واليمين ، واليسار ، كانت كلها من مقولات العقل ، واشد ما كابدته مقولة الجوهر من التبدل حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن ، . فأنت أن تری دراسة هذه المقولات القديمة ضرورية لمعرفة حقيقة المقولات الحاضرة ، ومن الضروري أيضا أن يدرس تأثير الأوضاع ، والأحوال الاجتماعية ، في تبدل هذه المقولات ، وانتقالها من أشكالها الوضيعة ، إلى أشكالها العالية المحيطة بالفلسفة والعلم .
٣ - ثم ان شروط الحياة الاجتماعية العامة تجرد الفرد عن الجوانب الذاتية والشخصية وترفعه إلى فضاء الفكر الموضوعي ، واللاشخصي . ولكن هذا التجريد يختلف باختلاف الحياة الاجتماعية المحيطة بالفرد ، فهناك جماعات ابتدائية مبنية على القهر ( Contrainte ) والتشابه ( Conformisme ) ، وجماعات راقية مبنية على التعاون ( Cooperation ) ، والتباين ؛ فالجماعات الأولى ليست صالحة لايقاظ الوعي ، والفكر ، لأنها مغلقة ومقيدة بتقاليدها ، ونزعاتها الخاصة . والفرد لا يستطيع أن يخرج فيها من نطاق الحياة الضيقة إلى افق التفكير الواسع ، أما الحياة الاجتماعية الراقية فهي أوسع نطاقا من الأولى ، لأنها تحرر الفرد من التقليد ، وتجعله قادر أعلى التفكير المجرد ، ثم تنقله من حالة القهر الى حالة التعاون الحر المبدع ، وهذا التحرر الفردي ، أو التفرد ( Individualisation ) الفكري تابع لكثير من الشرائط الاجتماعية ، كتقسيم العمل ، والكثافة الاجتماعية . وغيرها . إلا أن الفكر
لا يصبح كلياً إلا إذا نمت العلائق الدولية ، واتسع نطاق الحياة الاجتماعية . قال ( دور کهايم ) : كلما اتسع نطاق الحياة الدولية اتسع افق المقل ، وأصبحت الجماعة جزءاً من كل أوسع منها ، وغير محدود ، حتى أنه ليمكن توسيع حدوده توسيعاً غير متناه ، بحيث يصبح من الصعب إبقاء الامور داخل الحدود الضيقة التي كانت محصورة فيها ، كما يصبح من الضروري تنظيمها وفقاً لمبادى جديدة خاصة بها ، وهكذا يغدو التنظيم المنطقي متميزاً عن التنظيم الاجتماعي ، مبايناً له ومستقلا عنه ( ۱ ) .
ومهما يكن من أمر ، فإنه لابد في هذا التطور من أن تولد التصورات الجماعية المشتركة عقلية جديدة ليس في وسع الفرد ، من حيث هو فرد ، أن يرتقي اليها بوسائله الخاصة .
تعليق