نظريات الفلاسفة المعاصرين .. مبادئ العقل
نظريات الفلاسفة المعاصرين
إن المذاهب العقلية والتجريبية تفرق كما رأيت بين العقل والتجربة . أما المذاهب الحديثة فتشير إلى ضرورة اشتراك العقل والتجربة معا في إنضاج المعرفة العلمية ، فبين العقل والتجربة إذن علاقة وثيقة من حيث تأثير هما المتبادل . إلا أن بعض الفلاسفة المتأخرين يرجع هذا النضج إلى تأثير العوامل الحيوية ، وبعضهم الآخر يرجعه إلى تأثير العوامل الاجتماعية . ولنبحث الآن في كل من هذه العوامل على حدته .
ا - النظريات الحيوية
۱ - نظرية العقل الحيوية .
- يقول الحيويون : إن الشعور آلة تستخدمها الحياة في سبيل مؤالفة البيئة ، ثم يطلقون ذلك على العقل ، فيقولون : إن الفكر قد انبجس من الشعور المبهم الكامن في الحياة العضوية ، وربما كانت مبادىء العقل نفسها مطلباً من مطالب الفكر المطابقة للحاجات الطبيعية . وقد بينا سابقاً ، عند الكلام على التصور ، أن الحياة توجب أن تكون أفعالنا على نمط واحد ، رغم اختلاف الأحوال والوقائع ، وأن مفاهيم المعاني خاضعة لقانون التكيف والعادة . فالبحث عن الوحدة وراء الكثرة ، وعن التجانس وراء التباين ، وعن العملة وراء المعلول ، كل ذلك حاجات حيوية ضرورية . وقانون الفكر لا يختلف في ذلك عن قانون الحياة ، لأن الفكر لا يبدل أحكامه بحسب كل تبدل جزئي ، بل يكتفي في الأحوال المتشابهة ، بأحكام واحدة ، فأحكامه إذن محدودة ، مع أن الأحوال التي يطلقها عليها غير محدودة . قال ( رويسن ) في كتابه « التطور النفسي للحكم ، ( ١ ) : : ليس مبدأ الهوية سوى تعبير صوري عن قانون العادة ، أو التكرار . فالقول إن ( آ ) هو ( آ ) يدل على أننا إذا لقينا شيئاً من الأشياء للمرة الثانية من غير أن يكون قد تبدل تبدلاً محسوساً استعاد فكرنا بالنسبة اليه أنماط الانتباه ، وردود الفعل التي واجهه بها في المرة الاولى .
وهكذا يصبح مبدأ الهوية قانون الفكر الأوحد ، لأن جميع المبادىء الاخرى لا تعبر إلا عن حاجة الفكر إلى الهوية ، والوحدة ، أو إلى التمثيل ) Assimilation ) ( لالاند ) ، فمبدأ السببية هو انطباق هذه الحاجة على الحوادث الجارية في الزمان ، لأن السببية هي اشتمال الحاضر على المستقبل ) برغسون - 164 Essai ) ، لا بل هي بقاء العلة في المعلول ، المعلول على نفسه ، أو اتصال أحدهما بالآخر . فالسببية تنحل إذن إلى الهوية ، وكذلك مبدأ الحتمية ، فهو يوفق بين حاجة الفكر إلى الهوية والوحدة ، وبين تغير الدائم : ، فالأشياء تتغير دائماً ، ولا تبقى على حالها زمانين ، إلا أن الفكر يكشف عن العلائق الدائمة المستترة وراء هذه الظواهر المتغيرة .
٢ - النظريات الصناعية .
- وقريب من رأي الحيويين أيضاً : رأي الفلاسفة الذين زعموا أن الصناعة أصل الفكر . فقد بين ( ريبو ( في كتاب ( منطق العواطف ، أن المنطق العقلي ثمرة تطور بطيء ، وانه كان في الأصل منطقاً عملياً ، خاضعاً للحاجة و الرغبة . ومن السهل علينا أن نثبت أن العلم قد تولد من الصناعة ، وان العمل نفسه مبني على ثقة الانسان بنظام الطبيعة .
إلا أننا نرجىء الكلام على ذلك إلى المنطق ونقتصر الآن على القول مع ( هنري برغسون ) : ان الفكر المنطقي ثمرة من ثمرات العقل ، وان العقل نفسه هو القدرة على صنع الآلات والأدوات ، فالفكر المنطقي إذن وليد الصناعة ، ومقولاته الأساسية مطابقة لطرائق العمل البشري ، وكيفية تأثيره في المادة . قال ( هنري برغسون ) في كتاب التطور المبدع : ( 178 - Evolution créatrice ) ( إن السببية التي نبحث عنها بعقولنا ونجدها في كل مكان ، تعبر عن آلية صناعتنا التي نركب فيها دائما نفس الكل بنفس العناصر ، والتي نكرر فيها الحركات نفسها للحصول على النائج نفسها ) .
٣ - النظرية البراغماتية .
- وسنرى في علم ما بعد الطبيعة ، عند الكلام على نظريات المعرفة ، أن بعض الفلاسفة يبالغون في ربط الفكر بالعمل ، حق يجعلوا الحقيقة تابعة للنجاح . فالامور عندهم بنتائجها ، ومعيار الحقيقة هو النجاح والسهولة ، وقد سمى ( جیمس ) هذه النظرية بالبراغماتية ( Pragmatisme )( ١ ) أي العملية ، إلا أن مذهبه فيها مذهب تجريبي محض ، لأنه يزعم أن العقل متولد من التجربة الحسية ، وأنه خاضع في الوقت نفسه لمعيار التجربة الداخلية .
إن المعقولية حالة داخلية ذاتية ، يشعر الانسان فيها بالراحة ، والسلام ، والطمأنية . وكلما كان تيار أفكارنا أحسن انسجاماً ، كان موضوع تفكيرنا أكمل معقولية . إن هذا الشعور بالمعقولية ينشأ عن إرجاع المركب إلى البسيط ، والكثرة إلى الوحدة ؛ كما ينشأ عن الاقتصاد في الجهد الفكري عند تحليل المعاني ، وتفسيرها . إن معقولية مبدأ الهوية نفسه مبنية على منفعة هذا المبدأ ، وأعظم الأشياء نفعاً ليس الغذاء ، والتنفس ، والحركة ، فحسب ؛ وإنما . هو سلامة التفكير ، وعدم الوقوع في التناقض ، وشعور الانسان بأن ما يفكر فيه الآن متفق مع . ما فكر فيه أمس . فقد تتبدل منافع الانسان المادية ، فتزيد وتنقص ، إلا أن المصلحة التي تعود عليه من صحة التفكير لا تتبدل ، ولا تتغير .
المناقشة .
- لا شك أن هناك عوامل حيوية تؤثر في تكوين العقل كتأثيرها في سائر الوظائف النفسية ، فمن الضروري إذن إيضاح هذه العوامل إيضاحاً كافيا .
۱ - لنفرق أولاً بين هذه العوامل ، وبين العوامل التي ذكرها ( هربرت سبنسر ) في فلسفة التطور . إن مذهب ( سبنسر ) ، رغم نزعته الحيوية ، مذهب تجربي محض ، لأنه يتصور أن مؤالفة الفكر للأشياء مؤالفة منفعلة ، أو قابلة ، على خلاف المذاهب الجديدة التي تقرر أن المبادىء مطابقة لحاجات الحياة ، ومطالبها العملية ، فتقرر أن مؤالفة الفكر للأشياء مؤالفة فاعلة . وقد أشار ( روستان ) إلى ذلك بقوله : ان المبادىء تدل على مؤالفة الكائنات للفكر ، أي على إنشاء هذه الكائنات ، وتعقلها وفقا لمطالب الفكر وحاجاته ، فكأن الفكر هو الذي ينشىء الأشياء ، ويصوغها في قوالبه الخاصة ، وكأن المبادىء تجارب ، أو فرضيات ، أو مسلمات ، أو أوضاع ، ضرورية لهذا الانشاء .
۲ - على انه لابد لنا من تقييد هذه النظريات كلها . بشرط واحد ، وهو الشرط الذي ذكرناه عند مناقشة آراء الحيويين ، حيث قلنا ان بين الفعل والاعتقاد ، وبين العادة والمفهوم ، وبين التجربة الذهنية البسيطة والاستدلال فرقاً عظيما . كأن لكل أمر من هذه الامور المختلفة مستوى وجدانياً خاصاً . فمستوى العمل ، والعـــــادة ، والتجربة ، دون مستوى الاعتقاد ، والمفهوم ، والاستدلال . وكذلك مستوى التفكير المنطقي فهو فوق مستوى التفكير العملي المتولد من الاحتياج والضرورة . ان استعمال الآلة شيء ، والعلم بنظريتها شيء آخر ، وكثيراً ما ينجح الانسان في العمل من غير أن يكون عالماً بمبادىء عمله . ان استعمال مبدأ السببية لا يوجب تعريته من العمل الممازج له . أما التفكير فيه فيقتضي حالة راقية من حالات الوعي ، أي حالة تتجلى فيها مبادىء العقل ، ولا تتجلى هذه المبادىء إلا في حالات احتياز الشعور ( Prise de Conscience ، ورجوع النفس إلى ذاتها ، لأن العمل كثيراً ما يعوق الفكر عن الانطلاق ، أو يلقي عليه حجاباً يحول بينه وبين تأمل ذاته .
٣ - ثم ان هذا الأصل النفعي الوضيع بعيد جداً عن الحالة التي يبلغها الفكر خلال تطوره الدائم ، فقد أدى التطور إلى تجريد الفكر من سلطان العمل ، حق أصبح نظرياً محضاً قادراً على التحرر من الغايات العملية ، والأغراض النفعية . وقد قال ( لويس ويبر - Weber Louis ) في كتابه ) Le rythme du Progres ) : ان الانسان قد انتقل من طور الصناعة إلى طور العلم ، وان الفكر كان في الطور الأول مقيداً بالعمل - فأصبح في الطور الثاني مستقلا عنه ، فهبطت قيمة الوظائف العملية في هذا الطور الأخير ، إلى الدرجة الثانية ، واشتمل العلم ، والفكر المنطقي على شيء جديد لا وجود له في الطور الصناعي ، الا وهو احتياج الفكر إلى معان واضحة وبيئة . قال ( ويبر ) . دان العقل ليس خادماً للعمل ، ولكن مطالبه تجعله يطمح ببصره إلى ما وراء الهدف النفعي ) ( 227 ) .
٤ - ومن الصفات الرئيسة التي يتميز بها الفكر المنطقي التقيد بالموضوعية . وهي كالصفات السابقة ( أي كالتأمل ، والتجريد ) مستقلة عن العمل ، فلا يمكن إذن إيضاحها بالعوامل الحيوية وحدها إيضاحاً تاماً .
نظريات الفلاسفة المعاصرين
إن المذاهب العقلية والتجريبية تفرق كما رأيت بين العقل والتجربة . أما المذاهب الحديثة فتشير إلى ضرورة اشتراك العقل والتجربة معا في إنضاج المعرفة العلمية ، فبين العقل والتجربة إذن علاقة وثيقة من حيث تأثير هما المتبادل . إلا أن بعض الفلاسفة المتأخرين يرجع هذا النضج إلى تأثير العوامل الحيوية ، وبعضهم الآخر يرجعه إلى تأثير العوامل الاجتماعية . ولنبحث الآن في كل من هذه العوامل على حدته .
ا - النظريات الحيوية
۱ - نظرية العقل الحيوية .
- يقول الحيويون : إن الشعور آلة تستخدمها الحياة في سبيل مؤالفة البيئة ، ثم يطلقون ذلك على العقل ، فيقولون : إن الفكر قد انبجس من الشعور المبهم الكامن في الحياة العضوية ، وربما كانت مبادىء العقل نفسها مطلباً من مطالب الفكر المطابقة للحاجات الطبيعية . وقد بينا سابقاً ، عند الكلام على التصور ، أن الحياة توجب أن تكون أفعالنا على نمط واحد ، رغم اختلاف الأحوال والوقائع ، وأن مفاهيم المعاني خاضعة لقانون التكيف والعادة . فالبحث عن الوحدة وراء الكثرة ، وعن التجانس وراء التباين ، وعن العملة وراء المعلول ، كل ذلك حاجات حيوية ضرورية . وقانون الفكر لا يختلف في ذلك عن قانون الحياة ، لأن الفكر لا يبدل أحكامه بحسب كل تبدل جزئي ، بل يكتفي في الأحوال المتشابهة ، بأحكام واحدة ، فأحكامه إذن محدودة ، مع أن الأحوال التي يطلقها عليها غير محدودة . قال ( رويسن ) في كتابه « التطور النفسي للحكم ، ( ١ ) : : ليس مبدأ الهوية سوى تعبير صوري عن قانون العادة ، أو التكرار . فالقول إن ( آ ) هو ( آ ) يدل على أننا إذا لقينا شيئاً من الأشياء للمرة الثانية من غير أن يكون قد تبدل تبدلاً محسوساً استعاد فكرنا بالنسبة اليه أنماط الانتباه ، وردود الفعل التي واجهه بها في المرة الاولى .
وهكذا يصبح مبدأ الهوية قانون الفكر الأوحد ، لأن جميع المبادىء الاخرى لا تعبر إلا عن حاجة الفكر إلى الهوية ، والوحدة ، أو إلى التمثيل ) Assimilation ) ( لالاند ) ، فمبدأ السببية هو انطباق هذه الحاجة على الحوادث الجارية في الزمان ، لأن السببية هي اشتمال الحاضر على المستقبل ) برغسون - 164 Essai ) ، لا بل هي بقاء العلة في المعلول ، المعلول على نفسه ، أو اتصال أحدهما بالآخر . فالسببية تنحل إذن إلى الهوية ، وكذلك مبدأ الحتمية ، فهو يوفق بين حاجة الفكر إلى الهوية والوحدة ، وبين تغير الدائم : ، فالأشياء تتغير دائماً ، ولا تبقى على حالها زمانين ، إلا أن الفكر يكشف عن العلائق الدائمة المستترة وراء هذه الظواهر المتغيرة .
٢ - النظريات الصناعية .
- وقريب من رأي الحيويين أيضاً : رأي الفلاسفة الذين زعموا أن الصناعة أصل الفكر . فقد بين ( ريبو ( في كتاب ( منطق العواطف ، أن المنطق العقلي ثمرة تطور بطيء ، وانه كان في الأصل منطقاً عملياً ، خاضعاً للحاجة و الرغبة . ومن السهل علينا أن نثبت أن العلم قد تولد من الصناعة ، وان العمل نفسه مبني على ثقة الانسان بنظام الطبيعة .
إلا أننا نرجىء الكلام على ذلك إلى المنطق ونقتصر الآن على القول مع ( هنري برغسون ) : ان الفكر المنطقي ثمرة من ثمرات العقل ، وان العقل نفسه هو القدرة على صنع الآلات والأدوات ، فالفكر المنطقي إذن وليد الصناعة ، ومقولاته الأساسية مطابقة لطرائق العمل البشري ، وكيفية تأثيره في المادة . قال ( هنري برغسون ) في كتاب التطور المبدع : ( 178 - Evolution créatrice ) ( إن السببية التي نبحث عنها بعقولنا ونجدها في كل مكان ، تعبر عن آلية صناعتنا التي نركب فيها دائما نفس الكل بنفس العناصر ، والتي نكرر فيها الحركات نفسها للحصول على النائج نفسها ) .
٣ - النظرية البراغماتية .
- وسنرى في علم ما بعد الطبيعة ، عند الكلام على نظريات المعرفة ، أن بعض الفلاسفة يبالغون في ربط الفكر بالعمل ، حق يجعلوا الحقيقة تابعة للنجاح . فالامور عندهم بنتائجها ، ومعيار الحقيقة هو النجاح والسهولة ، وقد سمى ( جیمس ) هذه النظرية بالبراغماتية ( Pragmatisme )( ١ ) أي العملية ، إلا أن مذهبه فيها مذهب تجريبي محض ، لأنه يزعم أن العقل متولد من التجربة الحسية ، وأنه خاضع في الوقت نفسه لمعيار التجربة الداخلية .
إن المعقولية حالة داخلية ذاتية ، يشعر الانسان فيها بالراحة ، والسلام ، والطمأنية . وكلما كان تيار أفكارنا أحسن انسجاماً ، كان موضوع تفكيرنا أكمل معقولية . إن هذا الشعور بالمعقولية ينشأ عن إرجاع المركب إلى البسيط ، والكثرة إلى الوحدة ؛ كما ينشأ عن الاقتصاد في الجهد الفكري عند تحليل المعاني ، وتفسيرها . إن معقولية مبدأ الهوية نفسه مبنية على منفعة هذا المبدأ ، وأعظم الأشياء نفعاً ليس الغذاء ، والتنفس ، والحركة ، فحسب ؛ وإنما . هو سلامة التفكير ، وعدم الوقوع في التناقض ، وشعور الانسان بأن ما يفكر فيه الآن متفق مع . ما فكر فيه أمس . فقد تتبدل منافع الانسان المادية ، فتزيد وتنقص ، إلا أن المصلحة التي تعود عليه من صحة التفكير لا تتبدل ، ولا تتغير .
المناقشة .
- لا شك أن هناك عوامل حيوية تؤثر في تكوين العقل كتأثيرها في سائر الوظائف النفسية ، فمن الضروري إذن إيضاح هذه العوامل إيضاحاً كافيا .
۱ - لنفرق أولاً بين هذه العوامل ، وبين العوامل التي ذكرها ( هربرت سبنسر ) في فلسفة التطور . إن مذهب ( سبنسر ) ، رغم نزعته الحيوية ، مذهب تجربي محض ، لأنه يتصور أن مؤالفة الفكر للأشياء مؤالفة منفعلة ، أو قابلة ، على خلاف المذاهب الجديدة التي تقرر أن المبادىء مطابقة لحاجات الحياة ، ومطالبها العملية ، فتقرر أن مؤالفة الفكر للأشياء مؤالفة فاعلة . وقد أشار ( روستان ) إلى ذلك بقوله : ان المبادىء تدل على مؤالفة الكائنات للفكر ، أي على إنشاء هذه الكائنات ، وتعقلها وفقا لمطالب الفكر وحاجاته ، فكأن الفكر هو الذي ينشىء الأشياء ، ويصوغها في قوالبه الخاصة ، وكأن المبادىء تجارب ، أو فرضيات ، أو مسلمات ، أو أوضاع ، ضرورية لهذا الانشاء .
۲ - على انه لابد لنا من تقييد هذه النظريات كلها . بشرط واحد ، وهو الشرط الذي ذكرناه عند مناقشة آراء الحيويين ، حيث قلنا ان بين الفعل والاعتقاد ، وبين العادة والمفهوم ، وبين التجربة الذهنية البسيطة والاستدلال فرقاً عظيما . كأن لكل أمر من هذه الامور المختلفة مستوى وجدانياً خاصاً . فمستوى العمل ، والعـــــادة ، والتجربة ، دون مستوى الاعتقاد ، والمفهوم ، والاستدلال . وكذلك مستوى التفكير المنطقي فهو فوق مستوى التفكير العملي المتولد من الاحتياج والضرورة . ان استعمال الآلة شيء ، والعلم بنظريتها شيء آخر ، وكثيراً ما ينجح الانسان في العمل من غير أن يكون عالماً بمبادىء عمله . ان استعمال مبدأ السببية لا يوجب تعريته من العمل الممازج له . أما التفكير فيه فيقتضي حالة راقية من حالات الوعي ، أي حالة تتجلى فيها مبادىء العقل ، ولا تتجلى هذه المبادىء إلا في حالات احتياز الشعور ( Prise de Conscience ، ورجوع النفس إلى ذاتها ، لأن العمل كثيراً ما يعوق الفكر عن الانطلاق ، أو يلقي عليه حجاباً يحول بينه وبين تأمل ذاته .
٣ - ثم ان هذا الأصل النفعي الوضيع بعيد جداً عن الحالة التي يبلغها الفكر خلال تطوره الدائم ، فقد أدى التطور إلى تجريد الفكر من سلطان العمل ، حق أصبح نظرياً محضاً قادراً على التحرر من الغايات العملية ، والأغراض النفعية . وقد قال ( لويس ويبر - Weber Louis ) في كتابه ) Le rythme du Progres ) : ان الانسان قد انتقل من طور الصناعة إلى طور العلم ، وان الفكر كان في الطور الأول مقيداً بالعمل - فأصبح في الطور الثاني مستقلا عنه ، فهبطت قيمة الوظائف العملية في هذا الطور الأخير ، إلى الدرجة الثانية ، واشتمل العلم ، والفكر المنطقي على شيء جديد لا وجود له في الطور الصناعي ، الا وهو احتياج الفكر إلى معان واضحة وبيئة . قال ( ويبر ) . دان العقل ليس خادماً للعمل ، ولكن مطالبه تجعله يطمح ببصره إلى ما وراء الهدف النفعي ) ( 227 ) .
٤ - ومن الصفات الرئيسة التي يتميز بها الفكر المنطقي التقيد بالموضوعية . وهي كالصفات السابقة ( أي كالتأمل ، والتجريد ) مستقلة عن العمل ، فلا يمكن إذن إيضاحها بالعوامل الحيوية وحدها إيضاحاً تاماً .
تعليق