الصفات العامة للمذهب التجريبي .. مبادئ العقل
الصفات العامة للمذهب التجريبي
لنستخرج الآن من هذه اللمحة التاريخية بعض الصفات العامة للمذهب التجريبي ولنذكر في الوقت نفسه ، بعض الصعوبات التي يلاقيها :
۱ - النفس لوحة بيضاء .
- اولى هذه الصفات قول التجريبيين أن كل ما في النفس مكتسب ، أي أن النفس في زعمهم لوحة بيضاء ، أو لوح من الشمع لم ينقش عليه شيء ، فليس فيه إذن شيء فطري ، ولا شيء متقدم على التجربة . وهذا قول جميع التجريبيين من ( لوك ) إلى ( سبنسر ) ، لأن هذا الأخير قد ذهب إلى هذا الرأي في النوع ، بعد أن أبطله في الفرد . فزعم أن جميع المعاني قد تولدت في العقل ، مما اكتسبه النوع خلال تطوره .
انا نعترف بأن في هذه النظرية دليلا على رغبة التجريبيين في تفسير تكون المعاني تفسيراً علمياً . فهم قد أشاروا إلى عناصر المعرفة ، وبحثوا في كيفية امتزاجها بعضها ببعض ، وحلوها كما يحلل الكيماوي الأجسام المركبة التي يريد معرفة حقيقتها . فجاءت طريقتهم هذه أفضل من طريقة العقليين ، الذين جعلوا وجود العقل في الانسان معجزة من المعجزات .
ولكن ما هي قيمة طريقة التجريبين ؟
إن طريقة التجريبيين في توليد المبادىء من التجربة تؤدي إلى القول ان العقل متحقق في الأشياء قبل وجوده للنفس ، وان القوانين العقلية ، والعلاقات الفكرية ، إنما هي صور منعكسة عن قوانين الأشياء ، وعلائقها الواقعية . وقليل من التحقيق يظهر لنا فساد هذا الرأي . لأن المبادىء ليست اموراً محسوسة تكسبها النفس بالتوجه اليها ، والتعرض لها ، وإنما هي حاجة داخلية من حاجات النفس البشرية ، ومطلب ذاتي من مطالب الفكر ، ولوازمه .
لقد بين أحد فلاسفة القرن التاسع عشر ( ۱ ) أن الطبيعة لا تخضع لمبدأ الهوية . قال : لا يمكن أن يتولد مبدأ الهوية من التجربة ، لأن التجربة لا تحققه ، ولا تخضع له . والهوية التامة لا وجود لها في الأشياء . بل العالم المحسوس دائم الحركة والتبدل . إن الفكر لا يهدأ لحظة واحدة من الزمان ، كما أن الموجودات الحية تولد ، وتنمو ، وتموت ، حتى لقد أثبت لنا علماء الطبيعة المحدثون ان حركات الأجزاء الفردة لا تنقطع ، وان دورانها لا يتوقف . ومبدأ السببية نفسه ليس من معطيات الحس المباشرة ، وإنما هو نتيجة تطور قديم ، لم يصل إلى حالته الحاضرة إلا بعد اجتياز كثير من المراحل ، ولا نزال نجد اليوم عقولاً تنكر حضوع العالم للقوانين ، والنظم الثابتة ، حق أن ( استوارت ميل ) نفسه يعترف في كتاب المنطق ( ۲ ) بأن التجربة ليست إلا جملة مشوشة من الاحساسات المختلطة .
ب - المبادىء ليست كلية ، ولا ضرورية :
والصفة الثانية التي يتميز بها مذهب التجريبيين هي قولهم : ان المبادى ، ليست ضرورية ، ولا كلية ، لأنهم يقولون كما رأيت أن العقل ثمرة التجربة ، وانه لهذا السبب نفسه تابع لشرائط متغيرة ، وأن أحكامه لا تصبح كلية إلا عندما تصبح شرائط التجربة ثابتة ، ولا تصبح ضرورية إلا عندما تتكرر الظواهر الخارجية على أنماط متشابهة . فالمبادىء إذن كلية نسبياً لا مطلقاً ، كما أن ضرورتها ليست ذاتية ، وإنما هي ضرورة خارجية ناشئة عن تكرر تأثير الظواهر في نفوسنا .
وقد رد الفلاسفة المتأخرون على رأي التجريبيين بقولهم : أن التجريبيين عندما أرجعوا الضرورة العقلية إلى الارتباط الاقتراني ، كما فعل ( هيوم ) أو ( سبنسر ) أو ( استوارت ميل ) ، أو حينما أرجعوا هذه الضرورة إلى بقاء تجارب النوع في الفرد كما فعل ( سبنسر ) ، خلطوابين الضرورة الواجبة في المقل ، والضرورة الواقعية ( Necessité de droit et necessité de fait » فقد ترتبط فكرتان في أذهاننا ارتباطاً محكماً من غير أن يكون بينهما علاقة منطقية ، کارتباط ذكرى المبدأ بالنتيجة ، أو العلة بالمعلول ، من غير أن يؤدي هذا الارتباط إلى حصول اقتران ضروري بينهما .
ولكن هذا الاعتراض لا يبطل رأي التجريبيين ابطالاً تاماً ، لأنه ربما قيل ـ وهذا ما فعله سبنسر - ان العادة ، وخصوصاً العادة القديمة ، قد تقلب الضرورة الواقعية ، إلى ضرورة منطقية واجبة . فكم رأي حسبناه بديهيا معقولاً ، وهو في الحقيقة وهم من الأوهام التي تعودناها . . ان الضرورة المنطقية نفسها قد تصبح ضرورة واقعية ، عند إدراك العقل لها ، و شعوره ببداهتها ، وعجزه عن تصور ضدها .
وقد ردوا أيضاً على التجريبيين بقولهم : ان هذا المذهب يهدم المعرفة ، ويبطل قيمة العلم ، لأنه ينكر الحقائق الكلية ، والضرورية . حتى لقد قيل : ان الريبية نتيجة من نتائج التجريبية .
ولكننا اذا دققنا في هذا الاعتراض وجدناه أضعف من الأول ، لأن قيمة العلم مستقلة عن وجود المبادىء المطلقة ، والمقولات الثابتة . ان المذهب التجريبي ، كالمذهب المقلي لا يعبر إلا عن وجهة واحدة من وجهات المعرفة . قال ( جانه ، وساي ) : « ان المسيطر على فلسفة ( ديكارت ) هو و العلم الرياضي ، لأنه المثل الأعلى للعلم . أما عند التجريبيين فإن علوم الطبيعة هي المثل الأعلى ، والطريقة الاستقرائية هي الشرط الضروري لكل علم ، ( 1 ) .
ج - وعندي أن أحسن نقد لمذهب التجريبيين يقوم على مناقشة هذا المذهب لا على تفنيد نتائجه . نعم ان دراسة علماء النفس لأحوال الطفل ، والإنسان الابتدائي قد أيدت رأي التجريبيين المتضمن إبطال المبادىء الكلية ، والضرورية ، والمقولات المطلقة . ولكن هذا الإبطال قد ساق التجريبيين إلى اعتبار العقل ظاهرة من الظواهر الجائزة ، المتغيرة ، المثولدة من تأثير الشرائط الخارجية . ولربما كان التجريبيون أقل شعوراً من العقليين بتطور العقل تطوراً حقيقياً . إلا أن الفرق الوحيد بينهم هو : ان العقل عند العقليين ضروري بضرورة داخلية مطلقة ، وذاتية ، بينما هو عند التجريبيين ضروري بضرورة خارجية موقتة . وسنبين فيما بعد أن لتطور العقل اتجاهاً معيناً ، وقوانين خاصة ، كما سنبين ان فكرة الضرورة الخارجية مستندة إلى خطأ شنيع في فهم حقيقة الفكر .
قابلية الفكر .
- وربما كان أهم فارق بين المذهب التجريبي ، والمذهب العقلي ناشئاً عن اختلاف نظرتيهما إلى كيفية تأثير التجربة في الفكر ، لا عن بنائها المعرفة على أحد هذين الأمرين دون الآخر . ان رمز اللوحة البيضاء يقتضي أن يكون الفكر قابلاً محضاً ، وأن يكون عمله مقصوراً على تسجيل الانطباعات التي تصل اليه من العالم الخارجي ، من غير أن يكون له فعل فيها ، كأنه شمع اين تنطبع صور من غير أن هي يبدل منها شيئاً ، فالفكر إذن في التجريبية قابلية محضة ، حق لقد قال ( برونشويك ) في تجريبية ( استوارت ميل ) : انها ترمي إلى إنكار فاعلية الفكر ، وأثرها في تكوين المعرفة العلمية . ولا فرق بين ( ميل ) و ( سبنسر ) في هذا الأمر ، لأن ( سبنسر ) أيضاً يرجع الفكر إلى تجمع التجارب القديمة بعضها فوق بعض من غير أن يكون له فيها أقل تأثير .
وهذا الرأي لا يتفق مع معطيات علم النفس ، ولا مع فلسفة العلوم . ان أبسط الأفعال المنعكسة يدل على إتصاف الكائن العضوي بفاعلية خاصة ، كما أن الإحساس وهو أبسط الظواهر الشعورية ليس مجرد انطباع بسيط في النفس ناتج عن تأثير الأشياء الخارجية . وإنما هو ، كما بينا ذلك غير مرة في دراسة الوظائف النفسية الأساسية ، كالذاكرة ، والإدراك ، والأفعال الذهنية العالية ، ظاهرة متصفة بالفاعلية : فالنفس إذن ذات فاعلية دائمة ، والمعرفة لیست تمثيلاً ذهنياً بسيطاً للأشياء الحسية ، وإنما هي فعل ذهني مطابق لمعطيات التجربة ، لا بل هي كما قيل إنشاء معقول لشيء محسوس وهذه الصفة الإنشائية التي المعرفة ستظهر لنا بصورة جلية في المنطق عند تحليل طرائق التفكير العلمي . فالتجريبية قد أهملت إذن فاعلية الفكر ، وقوة إنشائه ، وربما كان هذا الإهمال أضعف شيء فيها .
الصفات العامة للمذهب التجريبي
لنستخرج الآن من هذه اللمحة التاريخية بعض الصفات العامة للمذهب التجريبي ولنذكر في الوقت نفسه ، بعض الصعوبات التي يلاقيها :
۱ - النفس لوحة بيضاء .
- اولى هذه الصفات قول التجريبيين أن كل ما في النفس مكتسب ، أي أن النفس في زعمهم لوحة بيضاء ، أو لوح من الشمع لم ينقش عليه شيء ، فليس فيه إذن شيء فطري ، ولا شيء متقدم على التجربة . وهذا قول جميع التجريبيين من ( لوك ) إلى ( سبنسر ) ، لأن هذا الأخير قد ذهب إلى هذا الرأي في النوع ، بعد أن أبطله في الفرد . فزعم أن جميع المعاني قد تولدت في العقل ، مما اكتسبه النوع خلال تطوره .
انا نعترف بأن في هذه النظرية دليلا على رغبة التجريبيين في تفسير تكون المعاني تفسيراً علمياً . فهم قد أشاروا إلى عناصر المعرفة ، وبحثوا في كيفية امتزاجها بعضها ببعض ، وحلوها كما يحلل الكيماوي الأجسام المركبة التي يريد معرفة حقيقتها . فجاءت طريقتهم هذه أفضل من طريقة العقليين ، الذين جعلوا وجود العقل في الانسان معجزة من المعجزات .
ولكن ما هي قيمة طريقة التجريبين ؟
إن طريقة التجريبيين في توليد المبادىء من التجربة تؤدي إلى القول ان العقل متحقق في الأشياء قبل وجوده للنفس ، وان القوانين العقلية ، والعلاقات الفكرية ، إنما هي صور منعكسة عن قوانين الأشياء ، وعلائقها الواقعية . وقليل من التحقيق يظهر لنا فساد هذا الرأي . لأن المبادىء ليست اموراً محسوسة تكسبها النفس بالتوجه اليها ، والتعرض لها ، وإنما هي حاجة داخلية من حاجات النفس البشرية ، ومطلب ذاتي من مطالب الفكر ، ولوازمه .
لقد بين أحد فلاسفة القرن التاسع عشر ( ۱ ) أن الطبيعة لا تخضع لمبدأ الهوية . قال : لا يمكن أن يتولد مبدأ الهوية من التجربة ، لأن التجربة لا تحققه ، ولا تخضع له . والهوية التامة لا وجود لها في الأشياء . بل العالم المحسوس دائم الحركة والتبدل . إن الفكر لا يهدأ لحظة واحدة من الزمان ، كما أن الموجودات الحية تولد ، وتنمو ، وتموت ، حتى لقد أثبت لنا علماء الطبيعة المحدثون ان حركات الأجزاء الفردة لا تنقطع ، وان دورانها لا يتوقف . ومبدأ السببية نفسه ليس من معطيات الحس المباشرة ، وإنما هو نتيجة تطور قديم ، لم يصل إلى حالته الحاضرة إلا بعد اجتياز كثير من المراحل ، ولا نزال نجد اليوم عقولاً تنكر حضوع العالم للقوانين ، والنظم الثابتة ، حق أن ( استوارت ميل ) نفسه يعترف في كتاب المنطق ( ۲ ) بأن التجربة ليست إلا جملة مشوشة من الاحساسات المختلطة .
ب - المبادىء ليست كلية ، ولا ضرورية :
والصفة الثانية التي يتميز بها مذهب التجريبيين هي قولهم : ان المبادى ، ليست ضرورية ، ولا كلية ، لأنهم يقولون كما رأيت أن العقل ثمرة التجربة ، وانه لهذا السبب نفسه تابع لشرائط متغيرة ، وأن أحكامه لا تصبح كلية إلا عندما تصبح شرائط التجربة ثابتة ، ولا تصبح ضرورية إلا عندما تتكرر الظواهر الخارجية على أنماط متشابهة . فالمبادىء إذن كلية نسبياً لا مطلقاً ، كما أن ضرورتها ليست ذاتية ، وإنما هي ضرورة خارجية ناشئة عن تكرر تأثير الظواهر في نفوسنا .
وقد رد الفلاسفة المتأخرون على رأي التجريبيين بقولهم : أن التجريبيين عندما أرجعوا الضرورة العقلية إلى الارتباط الاقتراني ، كما فعل ( هيوم ) أو ( سبنسر ) أو ( استوارت ميل ) ، أو حينما أرجعوا هذه الضرورة إلى بقاء تجارب النوع في الفرد كما فعل ( سبنسر ) ، خلطوابين الضرورة الواجبة في المقل ، والضرورة الواقعية ( Necessité de droit et necessité de fait » فقد ترتبط فكرتان في أذهاننا ارتباطاً محكماً من غير أن يكون بينهما علاقة منطقية ، کارتباط ذكرى المبدأ بالنتيجة ، أو العلة بالمعلول ، من غير أن يؤدي هذا الارتباط إلى حصول اقتران ضروري بينهما .
ولكن هذا الاعتراض لا يبطل رأي التجريبيين ابطالاً تاماً ، لأنه ربما قيل ـ وهذا ما فعله سبنسر - ان العادة ، وخصوصاً العادة القديمة ، قد تقلب الضرورة الواقعية ، إلى ضرورة منطقية واجبة . فكم رأي حسبناه بديهيا معقولاً ، وهو في الحقيقة وهم من الأوهام التي تعودناها . . ان الضرورة المنطقية نفسها قد تصبح ضرورة واقعية ، عند إدراك العقل لها ، و شعوره ببداهتها ، وعجزه عن تصور ضدها .
وقد ردوا أيضاً على التجريبيين بقولهم : ان هذا المذهب يهدم المعرفة ، ويبطل قيمة العلم ، لأنه ينكر الحقائق الكلية ، والضرورية . حتى لقد قيل : ان الريبية نتيجة من نتائج التجريبية .
ولكننا اذا دققنا في هذا الاعتراض وجدناه أضعف من الأول ، لأن قيمة العلم مستقلة عن وجود المبادىء المطلقة ، والمقولات الثابتة . ان المذهب التجريبي ، كالمذهب المقلي لا يعبر إلا عن وجهة واحدة من وجهات المعرفة . قال ( جانه ، وساي ) : « ان المسيطر على فلسفة ( ديكارت ) هو و العلم الرياضي ، لأنه المثل الأعلى للعلم . أما عند التجريبيين فإن علوم الطبيعة هي المثل الأعلى ، والطريقة الاستقرائية هي الشرط الضروري لكل علم ، ( 1 ) .
ج - وعندي أن أحسن نقد لمذهب التجريبيين يقوم على مناقشة هذا المذهب لا على تفنيد نتائجه . نعم ان دراسة علماء النفس لأحوال الطفل ، والإنسان الابتدائي قد أيدت رأي التجريبيين المتضمن إبطال المبادىء الكلية ، والضرورية ، والمقولات المطلقة . ولكن هذا الإبطال قد ساق التجريبيين إلى اعتبار العقل ظاهرة من الظواهر الجائزة ، المتغيرة ، المثولدة من تأثير الشرائط الخارجية . ولربما كان التجريبيون أقل شعوراً من العقليين بتطور العقل تطوراً حقيقياً . إلا أن الفرق الوحيد بينهم هو : ان العقل عند العقليين ضروري بضرورة داخلية مطلقة ، وذاتية ، بينما هو عند التجريبيين ضروري بضرورة خارجية موقتة . وسنبين فيما بعد أن لتطور العقل اتجاهاً معيناً ، وقوانين خاصة ، كما سنبين ان فكرة الضرورة الخارجية مستندة إلى خطأ شنيع في فهم حقيقة الفكر .
قابلية الفكر .
- وربما كان أهم فارق بين المذهب التجريبي ، والمذهب العقلي ناشئاً عن اختلاف نظرتيهما إلى كيفية تأثير التجربة في الفكر ، لا عن بنائها المعرفة على أحد هذين الأمرين دون الآخر . ان رمز اللوحة البيضاء يقتضي أن يكون الفكر قابلاً محضاً ، وأن يكون عمله مقصوراً على تسجيل الانطباعات التي تصل اليه من العالم الخارجي ، من غير أن يكون له فعل فيها ، كأنه شمع اين تنطبع صور من غير أن هي يبدل منها شيئاً ، فالفكر إذن في التجريبية قابلية محضة ، حق لقد قال ( برونشويك ) في تجريبية ( استوارت ميل ) : انها ترمي إلى إنكار فاعلية الفكر ، وأثرها في تكوين المعرفة العلمية . ولا فرق بين ( ميل ) و ( سبنسر ) في هذا الأمر ، لأن ( سبنسر ) أيضاً يرجع الفكر إلى تجمع التجارب القديمة بعضها فوق بعض من غير أن يكون له فيها أقل تأثير .
وهذا الرأي لا يتفق مع معطيات علم النفس ، ولا مع فلسفة العلوم . ان أبسط الأفعال المنعكسة يدل على إتصاف الكائن العضوي بفاعلية خاصة ، كما أن الإحساس وهو أبسط الظواهر الشعورية ليس مجرد انطباع بسيط في النفس ناتج عن تأثير الأشياء الخارجية . وإنما هو ، كما بينا ذلك غير مرة في دراسة الوظائف النفسية الأساسية ، كالذاكرة ، والإدراك ، والأفعال الذهنية العالية ، ظاهرة متصفة بالفاعلية : فالنفس إذن ذات فاعلية دائمة ، والمعرفة لیست تمثيلاً ذهنياً بسيطاً للأشياء الحسية ، وإنما هي فعل ذهني مطابق لمعطيات التجربة ، لا بل هي كما قيل إنشاء معقول لشيء محسوس وهذه الصفة الإنشائية التي المعرفة ستظهر لنا بصورة جلية في المنطق عند تحليل طرائق التفكير العلمي . فالتجريبية قد أهملت إذن فاعلية الفكر ، وقوة إنشائه ، وربما كان هذا الإهمال أضعف شيء فيها .
تعليق