المذهب التجريبي .. مبادئ العقل
المذهب التجريبي
المذهب التجريبي مذهب الذين يزعمون أن المعرفة ، ومادتها ، وقوانينها ، متولدة من التجربة ، وجماع رأيهم في ذلك قولهم : ( لا يوجد في العقل شيء لم يوجد قبل في الحس ) .
ان هذا المذهب قديم جداً ، يرجع القول به في الأزمنة القديمة إلى ( ديموقريطس ) و ( بروتاغوراس ) و ( إبيقورس ) ، وفي الأزمنة الحديثة إلى ( لوك ) و ( كوندياك ) ) و ( هیوم ) و ( میل ) و هربرت سبنسر ) . ولنبحث الآن في صور هذا المذهب المختلفة •
١ - التجربية القديمة .
- لم يتكشف موقف التجريبيين في العصور القديمة تكشفاً تاماً ، ولم يتميز مذهبهم عن مذهب العقليين تميزاً دقيقاً .
آ - فالأولون من فلاسفة اليونان لم يفرقوا بين العقل ، والإحساس ، مثال ذلك : أن السفسطائيين كانوا تجريبيين ، ولكنهم كانوا أيضاً أول من أشار إلى أثر النفس المدركة في المعرفة ، فهيأوا العقول بآرائهم هذه لقبول تعليم ( سقراط ) ، إلا أن الفرق بينهم وبين ( سقراط ) عظيم جداً ، لأنهم كانوا حسيين - يقولون بتولد كل معرفة من الإحساس - وينكرون وجود الحقائق الكلية الضرورية . حتى أن ( بروتاغوراس ) قد استند إلى قول ( هرقليطس ) بتغير الكائنات وتبدلها من حال إلى حال ، فاستخرج منه مذهباً ريبياً خالصاً ، كقوله : « ان الإنسان مقياس كل شيء .. وإن الأشياء هي بالنسبة إلي على ما تظر لي ، وهي بالنسبة اليك على ما تبدو لك » .
( شكل - ٥١ )
لوك - ( ١٦٣٢ - ١٧٠٤ )
أراد ( لوك ) في أول أمره أن کامنا ، إلا أن رأيه في حرية يصيح الأديان حال بينه وبين ذلك ، وكان صديق الوزير ( شافتسبري ( فلما سقط هذا الوزير ذهب ( لوك ) إلى فرنسا ، ثم إلى هولندة ، وهناك كتب محاولاته في الذهن ، ورسائله في التسامح الديني : وكان ميالا إلى حرية النشر ، مخلصاً لأصدقائه ، محباً للحقيقة ، مؤمناً بالحرية الفردية ، والسياسية .
ب - ثم انك تجد التجريبية بعد ( ارسطو ) عند الرواقيين والأبيقوريين . فالأبيقوريون قالوا بوجود قسم مدبر ( Partie dirigeante ) في النفس وهو ما نسميه اليوم عقلا . ولكن هذا القسم المدير ليس في الأصل سوى لوحة بيضاء مستعدة لقبول الانطباعات ، فالإحساس هو انطباع صورة الشيء في النفس ، وهو الذي تتولد منه التصورات العامة . غير ان الرواقيين يقرون مع ذلك أن للإرادة أثراً في التصديق عظيما ، وان الإحساس لا ينقلب إلى معرفة إلا بالإرادة ، وان العلم إنما يكتسب بقوة النفس ، وجدها ، وسعيها ، وان هذا الاكتساب ينقل الإنسان من حالة الحيوانية إلى حالة التعقل ، ويصل بينه وبين العقل الكلي - أما الأبيقوريون فإن تجريبيتهم خالصة محضة ، لأنهم زعموا أن الإحساس هو المنبع الأول لكل معرفة ، وان - التوقعات – وهي عند ( أبيقروس ) المعانى العامة التي يتكون منها العلم - إنما تتولد من انطباعات الحس .
٢ - التجربية الحديثة .
- التجريبية الحديثة أكثر صراحة في الرأي من التجريبية القديمة ، لأنها لم تزل ترجع المعرفة إلى الاحساس . حتى أنكرت كل فاعلية في النفس .
آ - تجربية لوك . - ان ( جوهن لوك ) أول الفلاسفة التجريبيين في الأزمنة الحديثة ، فقد رد ، كما رأيت في محاولاته التي كتبها عن الذهن البشري ، على نظرية المعاني الفطرية التي جاء بها ( ديكارت ) . وزعم أنه لا يوجد في النفس معان فطرية ، ف المبادى والمعاني التي تتألف منها المبادىء العقلية ، وقواعد الأخلاق ليست بفطرية ، ودليله على ذلك أن الأطفال ، والبله ، والمتوحشين ، لا يعرفونها . ان النفس لوحة بيضاء ، لا بل هي لوح من الشمع خال من كل نقش . ان جميع عناصر المعرفة تأتي من الإحساس ( Sensation ) الذي به نطلع على صفات الأجسام ، ومن التأمل ( Reflexiou ) الذي به نطلع على أحوال النفس المختلفة ، والنفس تمزج هذه العناصر البسيطة المتولدة من الإحساس والتأمل ، وتؤلف منها المعاني المركبة ، كمعاني الجوهر ، والزمان ، والمكان ، والعدد ، واللانهاية ، ومبدأ السببية ، والهوية ، فلولا مشاهدتنا بالفعل حدوث التغيرات نفسها في الظروف نفسها لما قلنا بالسببية ، ولولا تجاربنا لما تولد في نفوسنا شيء من المعاني . انه من المسير في هذا المذهب التجريبي أن يوفق العقل بين التأمل الدال على فاعلية النفس ، وبين نظرية اللوحة البيضاء ، لذلك خالف ( هيوم ) و ( ميل ) آراء ( لوك ) في ذلك ، كما سترى ، وجردوا النفس من كل فاعلية ذاتية .
ب - مذهب ( كوندياك ) الحسي . - أما ( كوندياك ) فقد زعم أن الاحساس هو المنبع الذي تنبجس منه جميع قوى النفس ، وتسمى نظريته هذه بالنظرية الحسية . فالعقل عنده ناشيء عن الاحساس ، والمعاني الفطرية لا . وجود لها في النفس . والسبب في اعتقادنا انها فطرية وجودها عند كل إنسان ، ونسياننا كيف تكونت في أذهاننا ، فنظن أنها موجودة فينا قبل التجربة ، ونعتقد أننا نحملها معنا قبل مجيئنا إلى هذا العالم ، فنسميها عقلا ، أو نوراً طبيعياً ، مع انها لم تأت إلا من الاحساس .
ج - مذهب ( هيوم ) و ( استوارت ميل ) .
- إذا كان ( كوندياك ) يرجع المعاني كلها إلى الاحساسات ، وإلى روابط الاشارات ، التي تجمع هذه الاحساسات بعضها إلى بعض ، فإن ( هيوم ) و استوارت ميل ) يتصوران رابطاً آخر لهذه الاحساسات ؛ وهو رابط التداعي ، الذي يولد في فكرنا نزوها ينقله إلى العلة عند رؤية المعلول ، وذلك لاقترانها في التجربة . فمبدأ السببية هو إذن كما زعم ( هيوم ) عادة ( Habitude ) من عادات الفكر الذاتية .
الشكل ( ٥٢ )
هيوم - ( ١٧١١ – ١٧٧٦ )
كان ( هيوم ) مولعاً بالشهرة الأدبية فترك التجارة ، والحقوق ، وانصرف الى الفلسفة ، بحت في الطبيعة البشرية بحثاً عميقاً ، وحاول أن يأخذ بالطريقة التجريبية في مسائل الأخلاق •
قال : ان معنى العلة لا يشتمل على معنى من معاني القوة ، أو القدرة ، أو الارتباط الضروري . أنت لا ترى عند تصادم طابات ( البلياردو ( مثلا قوة تنتقل من الواحدة إلى الاخرى . وليس انتقال الحركة من الطابة الاولى إلى الثانية ضروريا بالنسبة إلى التجربة الاولى ( Hume , Recherches sur l'entendement humain , Section VII ) ، الا أن تكرار التجربة يدلنا على أن تصادم الطابتين متبوع دائماً بحركة الطابة الثانية . وهذا الاقتران الدائم يولد في نفوسنا حركة شعورية خاصة ( Feeling ) يسميها ( هيوم ( عادة تارة ( Habit or Custom ) و اعتقاداً ( Belief ) تارة ، وهي عبارة عن نزوع الفكر إلى توقع حدوث اللاحق عند وقوع السابق . وموقف ( هيوم ) هذا شبيه بعض الشيء بموقف الغزالي الذي أرجع الارتباط بين العلة والمعلول إلى مجرد اعتيادنا مشاهدة تعاقبها .
أما ( استوارت ميل ) فقد رأى مع ( هيوم ) أن القول بكلية المبادىء وضرورتها ناشيء عن وهم ذاتي . وهو يعلل حدوث هذا الوهم برابطة تداعي الأفكار . قال : ان قوانين تداعي الأفكار تولد في نفوسنا شعور بالضرورة ، لأن الاقتران الدائم بين حادثتين يولد بينها ارتباطاً دائماً ، وهذا الارتباط الدائم ينقلب بعد ذلك إلى ارتباط ضروري .
( الشكل ٥٣ )
استوارت ميل ( ١٨٠٦ - ١٨٧٣ )
ان هذه الضرورة ليست مطلقة ، وإنما هي نسبية ، والنسبي يمكن أن يتولد من التجربة . انظر إلى مبدأ النسبية ، لقد أوضح لنا ) ميل ( كيف يتولد هذا المبدأ من التجربة بالمثال التالي . قال : لنفرض أن طفلاً قرب اصبعه من النار فاحترقت ، ان هذه التجربة تربط في ذهن الطفل صورة النار ، بصورة الاحتراق ، وإذا تكررت التجربة أصبح الارتباط قويا . وما ينطبق على ارتباط النار بالاحتراق ينطبق أيضاً على ارتباط الجرح بالألم ، والسحاب بالمطر ، وكلما تكررت هذه التجارب تولد في الفكر نزعة إلى الاعتقاد أن الحوادث السابقة متبوعة دائماً بالحوادت اللاحقة ، وان الطبيعة خاضعة لنظام ثابت .
وكذلك إذا قلنا ان المبادىء كلية فإنما نريد بذلك أن صفتها هذه نسبية أيضاً ، لأن الروابط الذاتية التي تؤدي إلى تولد المبادىء هي روابط عامة ومشتركة بين جميع الناس ، وقد جربناها جميعاً منذ سني الطفولة ، فلا غرو إذا خيل إلينا أنها كلية .
( شكل - ٥٤ )
سبنسر ( ۱۸۲۰ - ۱۹۰۳ )
كان أبوه معلما فأحب العلوم الطبيعية ، والتاريخ ، والمناقشات العلمية ، والسياسية والدينية ، منذسني حداثته ، ثم أصبح بعد ذلك مهندساء وقرأ علم الجيولوجيا ، فشغله مذهب ( لامارك ) عن غيره من المذاهب ، ونشر نظريته في الانتقال من المتجانس إلى المتباين قبل ظهور كتاب ( داروين ) في أصل الأنواع بسنة واحدة تقريباً وبالرغم من فساد صحته وسوء حالته المالية ، استطاع بصبره ، وثباته وقوة إرادته ، أن يؤلف كتباً كثيرة في الفلسفة العامة ، والمنطق ، وعلم النفس ، وعلم الاجتماع ، والسياسة ، والاقتصاد الاجتماعي .
د - مذهب ( هربرت سبنسر ) .
- أما ( هربرت سبنسر ) فقد بدل مذهب التجريبيين ، وحاول أن يرجع تولد المعاني إلى تأثير التطور ، فهو يقند نظرية اللوحة البيضاء ، وينتقد من سبقه من التجريبيين ، لاهمالهم أمراً أساسيا في تطور الانسان ، الا وهو وجود جملة عصبية له ، قال : ان المخ يخزن عدداً لا نهاية له من التجارب التي يصادفها في تطور الحياة . ثم تنتقل هذه التجارب المدخرة من جيل إلى آخر . فنفس الطفل ليست لوحة بيضاء ، وإنما هي مطبوعة بطابع الآثار التي انتقلت اليها من الماضي . و المبادىء فطرية في الفرد ، كسبية في النوع . ومعنى ذلك أن النوع قد اكتسب هذه المبادىء على مر العصور ، ثم انتقلت آثارها بالوراثة من جيل إلى آخر ، حق أصبحت فطرية بالنسبة إلى الفرد . فالعقل إذن غريزة حقيقية ، وكما تتكون الغريزة ، وتتبدل من طور إلى طور ، فكذلك ينمو العقل ويتكامل بتقادم الزمان ، إن العلائق الداخلية التي للنفس تتكيف وتتفق بالتدريج ، مع علائق الأشياء الخارجية .
المذهب التجريبي
المذهب التجريبي مذهب الذين يزعمون أن المعرفة ، ومادتها ، وقوانينها ، متولدة من التجربة ، وجماع رأيهم في ذلك قولهم : ( لا يوجد في العقل شيء لم يوجد قبل في الحس ) .
ان هذا المذهب قديم جداً ، يرجع القول به في الأزمنة القديمة إلى ( ديموقريطس ) و ( بروتاغوراس ) و ( إبيقورس ) ، وفي الأزمنة الحديثة إلى ( لوك ) و ( كوندياك ) ) و ( هیوم ) و ( میل ) و هربرت سبنسر ) . ولنبحث الآن في صور هذا المذهب المختلفة •
١ - التجربية القديمة .
- لم يتكشف موقف التجريبيين في العصور القديمة تكشفاً تاماً ، ولم يتميز مذهبهم عن مذهب العقليين تميزاً دقيقاً .
آ - فالأولون من فلاسفة اليونان لم يفرقوا بين العقل ، والإحساس ، مثال ذلك : أن السفسطائيين كانوا تجريبيين ، ولكنهم كانوا أيضاً أول من أشار إلى أثر النفس المدركة في المعرفة ، فهيأوا العقول بآرائهم هذه لقبول تعليم ( سقراط ) ، إلا أن الفرق بينهم وبين ( سقراط ) عظيم جداً ، لأنهم كانوا حسيين - يقولون بتولد كل معرفة من الإحساس - وينكرون وجود الحقائق الكلية الضرورية . حتى أن ( بروتاغوراس ) قد استند إلى قول ( هرقليطس ) بتغير الكائنات وتبدلها من حال إلى حال ، فاستخرج منه مذهباً ريبياً خالصاً ، كقوله : « ان الإنسان مقياس كل شيء .. وإن الأشياء هي بالنسبة إلي على ما تظر لي ، وهي بالنسبة اليك على ما تبدو لك » .
( شكل - ٥١ )
لوك - ( ١٦٣٢ - ١٧٠٤ )
أراد ( لوك ) في أول أمره أن کامنا ، إلا أن رأيه في حرية يصيح الأديان حال بينه وبين ذلك ، وكان صديق الوزير ( شافتسبري ( فلما سقط هذا الوزير ذهب ( لوك ) إلى فرنسا ، ثم إلى هولندة ، وهناك كتب محاولاته في الذهن ، ورسائله في التسامح الديني : وكان ميالا إلى حرية النشر ، مخلصاً لأصدقائه ، محباً للحقيقة ، مؤمناً بالحرية الفردية ، والسياسية .
ب - ثم انك تجد التجريبية بعد ( ارسطو ) عند الرواقيين والأبيقوريين . فالأبيقوريون قالوا بوجود قسم مدبر ( Partie dirigeante ) في النفس وهو ما نسميه اليوم عقلا . ولكن هذا القسم المدير ليس في الأصل سوى لوحة بيضاء مستعدة لقبول الانطباعات ، فالإحساس هو انطباع صورة الشيء في النفس ، وهو الذي تتولد منه التصورات العامة . غير ان الرواقيين يقرون مع ذلك أن للإرادة أثراً في التصديق عظيما ، وان الإحساس لا ينقلب إلى معرفة إلا بالإرادة ، وان العلم إنما يكتسب بقوة النفس ، وجدها ، وسعيها ، وان هذا الاكتساب ينقل الإنسان من حالة الحيوانية إلى حالة التعقل ، ويصل بينه وبين العقل الكلي - أما الأبيقوريون فإن تجريبيتهم خالصة محضة ، لأنهم زعموا أن الإحساس هو المنبع الأول لكل معرفة ، وان - التوقعات – وهي عند ( أبيقروس ) المعانى العامة التي يتكون منها العلم - إنما تتولد من انطباعات الحس .
٢ - التجربية الحديثة .
- التجريبية الحديثة أكثر صراحة في الرأي من التجريبية القديمة ، لأنها لم تزل ترجع المعرفة إلى الاحساس . حتى أنكرت كل فاعلية في النفس .
آ - تجربية لوك . - ان ( جوهن لوك ) أول الفلاسفة التجريبيين في الأزمنة الحديثة ، فقد رد ، كما رأيت في محاولاته التي كتبها عن الذهن البشري ، على نظرية المعاني الفطرية التي جاء بها ( ديكارت ) . وزعم أنه لا يوجد في النفس معان فطرية ، ف المبادى والمعاني التي تتألف منها المبادىء العقلية ، وقواعد الأخلاق ليست بفطرية ، ودليله على ذلك أن الأطفال ، والبله ، والمتوحشين ، لا يعرفونها . ان النفس لوحة بيضاء ، لا بل هي لوح من الشمع خال من كل نقش . ان جميع عناصر المعرفة تأتي من الإحساس ( Sensation ) الذي به نطلع على صفات الأجسام ، ومن التأمل ( Reflexiou ) الذي به نطلع على أحوال النفس المختلفة ، والنفس تمزج هذه العناصر البسيطة المتولدة من الإحساس والتأمل ، وتؤلف منها المعاني المركبة ، كمعاني الجوهر ، والزمان ، والمكان ، والعدد ، واللانهاية ، ومبدأ السببية ، والهوية ، فلولا مشاهدتنا بالفعل حدوث التغيرات نفسها في الظروف نفسها لما قلنا بالسببية ، ولولا تجاربنا لما تولد في نفوسنا شيء من المعاني . انه من المسير في هذا المذهب التجريبي أن يوفق العقل بين التأمل الدال على فاعلية النفس ، وبين نظرية اللوحة البيضاء ، لذلك خالف ( هيوم ) و ( ميل ) آراء ( لوك ) في ذلك ، كما سترى ، وجردوا النفس من كل فاعلية ذاتية .
ب - مذهب ( كوندياك ) الحسي . - أما ( كوندياك ) فقد زعم أن الاحساس هو المنبع الذي تنبجس منه جميع قوى النفس ، وتسمى نظريته هذه بالنظرية الحسية . فالعقل عنده ناشيء عن الاحساس ، والمعاني الفطرية لا . وجود لها في النفس . والسبب في اعتقادنا انها فطرية وجودها عند كل إنسان ، ونسياننا كيف تكونت في أذهاننا ، فنظن أنها موجودة فينا قبل التجربة ، ونعتقد أننا نحملها معنا قبل مجيئنا إلى هذا العالم ، فنسميها عقلا ، أو نوراً طبيعياً ، مع انها لم تأت إلا من الاحساس .
ج - مذهب ( هيوم ) و ( استوارت ميل ) .
- إذا كان ( كوندياك ) يرجع المعاني كلها إلى الاحساسات ، وإلى روابط الاشارات ، التي تجمع هذه الاحساسات بعضها إلى بعض ، فإن ( هيوم ) و استوارت ميل ) يتصوران رابطاً آخر لهذه الاحساسات ؛ وهو رابط التداعي ، الذي يولد في فكرنا نزوها ينقله إلى العلة عند رؤية المعلول ، وذلك لاقترانها في التجربة . فمبدأ السببية هو إذن كما زعم ( هيوم ) عادة ( Habitude ) من عادات الفكر الذاتية .
الشكل ( ٥٢ )
هيوم - ( ١٧١١ – ١٧٧٦ )
كان ( هيوم ) مولعاً بالشهرة الأدبية فترك التجارة ، والحقوق ، وانصرف الى الفلسفة ، بحت في الطبيعة البشرية بحثاً عميقاً ، وحاول أن يأخذ بالطريقة التجريبية في مسائل الأخلاق •
قال : ان معنى العلة لا يشتمل على معنى من معاني القوة ، أو القدرة ، أو الارتباط الضروري . أنت لا ترى عند تصادم طابات ( البلياردو ( مثلا قوة تنتقل من الواحدة إلى الاخرى . وليس انتقال الحركة من الطابة الاولى إلى الثانية ضروريا بالنسبة إلى التجربة الاولى ( Hume , Recherches sur l'entendement humain , Section VII ) ، الا أن تكرار التجربة يدلنا على أن تصادم الطابتين متبوع دائماً بحركة الطابة الثانية . وهذا الاقتران الدائم يولد في نفوسنا حركة شعورية خاصة ( Feeling ) يسميها ( هيوم ( عادة تارة ( Habit or Custom ) و اعتقاداً ( Belief ) تارة ، وهي عبارة عن نزوع الفكر إلى توقع حدوث اللاحق عند وقوع السابق . وموقف ( هيوم ) هذا شبيه بعض الشيء بموقف الغزالي الذي أرجع الارتباط بين العلة والمعلول إلى مجرد اعتيادنا مشاهدة تعاقبها .
أما ( استوارت ميل ) فقد رأى مع ( هيوم ) أن القول بكلية المبادىء وضرورتها ناشيء عن وهم ذاتي . وهو يعلل حدوث هذا الوهم برابطة تداعي الأفكار . قال : ان قوانين تداعي الأفكار تولد في نفوسنا شعور بالضرورة ، لأن الاقتران الدائم بين حادثتين يولد بينها ارتباطاً دائماً ، وهذا الارتباط الدائم ينقلب بعد ذلك إلى ارتباط ضروري .
( الشكل ٥٣ )
استوارت ميل ( ١٨٠٦ - ١٨٧٣ )
ان هذه الضرورة ليست مطلقة ، وإنما هي نسبية ، والنسبي يمكن أن يتولد من التجربة . انظر إلى مبدأ النسبية ، لقد أوضح لنا ) ميل ( كيف يتولد هذا المبدأ من التجربة بالمثال التالي . قال : لنفرض أن طفلاً قرب اصبعه من النار فاحترقت ، ان هذه التجربة تربط في ذهن الطفل صورة النار ، بصورة الاحتراق ، وإذا تكررت التجربة أصبح الارتباط قويا . وما ينطبق على ارتباط النار بالاحتراق ينطبق أيضاً على ارتباط الجرح بالألم ، والسحاب بالمطر ، وكلما تكررت هذه التجارب تولد في الفكر نزعة إلى الاعتقاد أن الحوادث السابقة متبوعة دائماً بالحوادت اللاحقة ، وان الطبيعة خاضعة لنظام ثابت .
وكذلك إذا قلنا ان المبادىء كلية فإنما نريد بذلك أن صفتها هذه نسبية أيضاً ، لأن الروابط الذاتية التي تؤدي إلى تولد المبادىء هي روابط عامة ومشتركة بين جميع الناس ، وقد جربناها جميعاً منذ سني الطفولة ، فلا غرو إذا خيل إلينا أنها كلية .
( شكل - ٥٤ )
سبنسر ( ۱۸۲۰ - ۱۹۰۳ )
كان أبوه معلما فأحب العلوم الطبيعية ، والتاريخ ، والمناقشات العلمية ، والسياسية والدينية ، منذسني حداثته ، ثم أصبح بعد ذلك مهندساء وقرأ علم الجيولوجيا ، فشغله مذهب ( لامارك ) عن غيره من المذاهب ، ونشر نظريته في الانتقال من المتجانس إلى المتباين قبل ظهور كتاب ( داروين ) في أصل الأنواع بسنة واحدة تقريباً وبالرغم من فساد صحته وسوء حالته المالية ، استطاع بصبره ، وثباته وقوة إرادته ، أن يؤلف كتباً كثيرة في الفلسفة العامة ، والمنطق ، وعلم النفس ، وعلم الاجتماع ، والسياسة ، والاقتصاد الاجتماعي .
د - مذهب ( هربرت سبنسر ) .
- أما ( هربرت سبنسر ) فقد بدل مذهب التجريبيين ، وحاول أن يرجع تولد المعاني إلى تأثير التطور ، فهو يقند نظرية اللوحة البيضاء ، وينتقد من سبقه من التجريبيين ، لاهمالهم أمراً أساسيا في تطور الانسان ، الا وهو وجود جملة عصبية له ، قال : ان المخ يخزن عدداً لا نهاية له من التجارب التي يصادفها في تطور الحياة . ثم تنتقل هذه التجارب المدخرة من جيل إلى آخر . فنفس الطفل ليست لوحة بيضاء ، وإنما هي مطبوعة بطابع الآثار التي انتقلت اليها من الماضي . و المبادىء فطرية في الفرد ، كسبية في النوع . ومعنى ذلك أن النوع قد اكتسب هذه المبادىء على مر العصور ، ثم انتقلت آثارها بالوراثة من جيل إلى آخر ، حق أصبحت فطرية بالنسبة إلى الفرد . فالعقل إذن غريزة حقيقية ، وكما تتكون الغريزة ، وتتبدل من طور إلى طور ، فكذلك ينمو العقل ويتكامل بتقادم الزمان ، إن العلائق الداخلية التي للنفس تتكيف وتتفق بالتدريج ، مع علائق الأشياء الخارجية .
تعليق