الصفات العامة للمذهب العقلي .. مبادئ العقل
الصفات العامة للمذهب العقلي
يمكن تلخيص صفات المذهب العقلي كما يلي .
فطرية المبادىء وتقدمها على التجربة .
- يقول العقليون : ان في النفس عناصر فطرية قبلية ( a priori ) ؛ فالمبادى ، والمقولات ، عندهم أوليات ، حق أن بعضهم - كسقراط ، وأفلاطون ، وليبنز - يزعم أن المعرفة النظرية نفسها فطرية ، وأنها تنشأ عن نمو الاستعدادات الكامنة في النفس ، وإذا اعترف بعضهم الآخر بضرورة التجربة ، كما فعل ( آرسطو ) و ( كانت ) ، فانه يقرر في الوقت نفسه أن التجربة لا تصبح ممكنة إلا إنما استندت إلى صور فكرية ، ومقولات عقلية متقدمة عليها ، ولكن المذهب العقلي يقتصر على إثبات هذه المقولات من غير أن يوضح لنا كيفية تولدها ، وقد يحاول في بعض الأحيان أن يستخرجها بعضها من بعض ، أو أن ينشئها إنشاء ، أو يرتبها ترتيباً ، ولكن هذا الاستنتاج العقلي بعيد كل البعد عن الإيضاح الحقيقي ، لأنه يقتصر على بيان علاقة المقولات بعضها ببعض من غير أن يوضح لنا تكونها .
ان هذة الصفة الفطرية تثير شبهة اولى ، وهي أن الدراسة النفسية لا يجوز أن تقتصر على تقرير عمليات العقل ، وبيان علائقها بعضها ببعض كما في المنطق ، بل يجب إيضاح تكون العقل وبيان أسباب حدوثه . فالقول بفطرية المبادىء يقتضي أن تكون هذه المبادىء تامة التكوين منذ ظهورها ، وهو قول يرمي بالإيضاح الوضعي ظهرياً ، لأنه يجود العقل عن التجربة ، ويجعله قائماً بذاته ، ولم يتخلص أصحاب المذهب العقلي كما رأيت من هذه الصعوبة إلابالرجوع إلى علم ما بعد الطبيعة ، فجعلوا الإنسان موجوداً إلهياً مبايناً لغيره من الموجودات ، وقالوا : انه يشارك الموجود المطلق في تعقل الأشياء . وقد أثارت هذه الآراء كثيراً من الشبه ، كقولهم : ان المقل ثابت لا يتغير ، لأنه إشراق المثل المخلدة على الإنسان ، أو نفحة من نفحات العقل الإلهي ، والقول بعدم تغير العقل مخالف للواقع ، لأن الإنسان قد انتقل من حالة البداوة إلى حالة الحضارة ، وتبدلت تصوراته العقلية بتبدل مراحل تطوره ، والفطريون يهملون هذه الناحية إهمالاً تاماً .
المبادىء كلية وضرورية .
- والعقل في نظر الفطريين حاكم مطلق ، ومعنى ذلك أن مبادئه كلية وضرورية ، فهو واحد عند جميع الناس ، أو هو كما قال ( ديكارت ) : أحسن الأشياء انقساما بينهم ، والحقائق الأولية حقائق خالدة لا تتغير ولا تتبدل . ان الفلاسفة الفطريين متفقون في هذا الرأي ، ولا فرق في ذلك . فطرية ( كانت ) بين النسبية ، وفطرية أسلافه العقليين . . لأن الحساسية ، ومقولات المقل عندهم ، هي جميع صور الشرائط الضرورية لكل تجربة ممكنة ، وهي التي تحدد لنا نطاق كل معرفة ، وتصوغها في قوالبها التي لا تتغير ، ولولا ذلك لما توصلنا إلى اليقين في المعرفة العلمية .
لقد ضل الفطريون في ظنهم أن المبادى ، كلية وضرورية ، ويمكن إرجاع ضلالهم هذا إلى وهمين :
١ - الوهم الأول : نشأ عن ظنهم أن الفكر المنطقي ، كما يعرفونه ، أساس كل تفكير أنه يوجد في الواقع أنواع كثيرة من التفكير غير خاضعة لمبدأ الهوية ، ولو بشري ، مع كان هذا المبدأ ذاتياً للفكر البشري لما وجد هناك عقول خالية منه .
قال ( بيرجانه ) : « كانوا يقولون في الماضي إن مبدأ الهوية مبدأ مطلق لا يستطيع الفكر أن يتخلى عنه ، ولشد ما أخطأوا في ذلك . لأن المتناقضات التي نصادفها في كلام الناس ، وأحلامهم ، وأوهامهم ، ومعتقداتهم كثيرة جداً . ان أصحاب الرؤى والمرضى لا يتخلون عن أفكارهم ، ومعتقداتهم ، رغم التناقض الموجود فيها . فمبدا الهوية ليس إذن قانوناً ملازماً لكل تفكير ، وإنما هو قانون يخضع الإنسان له عندما يريد أن يكون تفكيره معقولاً .
وهذا الفكر المخالف للمنطق ليس موجوداً في الأحلام ، والأوهام فحسب ، وإنما هو موجود أيضاً في تفكير الإنسان الابتدائي وغيره . فقد بين ( لفي بروهل ) أن في الحياة الاجتماعية الاولى تفكيراً ابتدائياً سماه بالتفكير المتقدم على المنطق ( Prélogique ) ، وهو تفكير مختلف عن تفكيرنا ، لا يستنكف صاحبه من الوقوع في التناقض ، بل يبتعد بفكره عن مبدأ الهوية ، ويخضع لقانون آخر ، يمكننا أن نسميه بقانون المشاركة ( Participation ) . ومعنى المشاركة هنا أن الإنسان ، وسائر الموجودات ، والظواهر قد تكون بالنسبة إلى تصور الجماعات الابتدائية عين ذواتها ، ومخالفة في الوقت نفسه لذواتها .
قال ( لفي بروهل ) : ان قبائل ( الترومة ( في البرازيل الشمالية يقولون عن أنفسهم انهم حيوانات مائية ، وأفراد قبيلة ( البرورو ) المجاورة لها يفتخرون بقولهم أنهم ببغاوات ، وليس معنى قولهم هذا انهم سيستحيلون بعد موتهم إلى ببغاوات ، أو أن الببغاوات الحاضرة قد تكونت من أفراد القبيلة الغابرين ، بل ان كل فرد من أفراد القبيلة يعتقد أنه الآن ببغاء ، كما قد تعتقد الدودة انها فراشة ، فكأن ذواتهم هي عين ذوات الببغاوات .
وقد جاءت نتائج بحوث العلماء في تفكير الطفل متفقة . مع نتائج بحث ( لفي بروهل ) في تفكير الإنسان الابتدائي . فأثبت ) بياجه ( أن الطفل لا يشعر بالتناقض وهو في السابعة أو الثامنة من سنه ( ۱ ) ، حتى انك لتجد عنده شعوراً باختلاط الموجودات شبيها بشعور الإنسان الابتدائي الذي أشرنا اليه آنفاً .
ثم أن تفكير الراشدين ليس منطقياً دائماً ، حق أن بعض الفلاسفة كثيراً ما يبتعدون عن المنطق الطبيعي ، فيقولون بالمصادفة ، وحرية الاختيار ، وشذوذ بعض الحوادث عن القوانين الطبيعية •
ووجود هذه الاعتقادات ، كما يقول ( غوبلو ) ، يدل على ان المبدأ الأساسي للاستفراء ليس من الحقائق البديهية ، وانه يجب الإعراض عن كل مذهب يقول بلزوم هذا المبدأ لقوة الفكر .
٢ - والوهم الثاني : نشأ عن ظن العقليين أن التفكير المنطقي نفسه يظل على نمط واحد لا يتبدل ولا يتغير ، وأن المقولات ثابتة ، وأن العقل لا يتطور . إن جميع الفلاسفة العقليين يتوهمون ذلك ، حتى أن ) كانت ( نفسه لم يشذ عنهم ، ولم يضف إلى ما ذكروه شيئاً جديداً . لأنه كان يكتفي في فلسفته بنتائج العلم من غير أن ينظر إلى منشأ المعرفة وتطورها .
ولكن تاريخ العلوم يثبت لنا أن العلم لم يحمد في مقولات ثابتة ، بل تطور ، وغير مفاهیمه دون انقطاع ، حق أن مفاهيم الزمان ، والمكان ، والعلة ، ( برونشويك ) في ( مراحل الفلسفة الرياضية ( ۱ ) والسببية الطبيعية ( ٢ ) ، قد تطورت تطوراً عميقاً . وتاريخ المنطق نفسه يثبت لنا أيضاً أن المبادىء المقلية لم تظهر بصورة جلية ، إلا بتأثير الفلاسفة والعلماء . فيمكننا إذن أن نقول مع ( بياجه ) : إن فرضية ثبوت المقولات فاسدة من الوجهة السيكولوجية ، لأن العقل يتطور كما تتطور المعقولية . وقد كان تفسير ظواهر الطبيعة عند علماء القرون الوسطى مختلفاً تماماً عن تفسير ما عند علماء العصر الحاضر . اولئك يفسرون حدوث الظواهر بتدخل القوى الكامنة في الطبيعة ، أ ة ، أو المفارقة لها ، وهؤلاء يوضحونها بتحليل شروطها ، وربطها بغيرها من الظواهر السابقة .
٣ - ينتج مما تقدم أن أعظم خطأ وقع فيه العقليون هو : ظنهم أن صحة المعرفة تابعة لوجود حقائق كلية وضرورية ، لا تتبدل ولا تتغير . ولكن العلم لم يثبت بعد قوالبه تثبيتاً نهائياً ، إنه يغيرها في كل زمان ، ويعيد النظر في مفاهيمه ، ومقولاته ليجعلها متفقة مع التجارب الجديدة .
إن الذين يعتقدون أن قيمة العلم تابعة لما يشتمل عليه من حقائق خالدة ثابتة لا تتغير ، ولا تدثر ، يخافون على هذه الحقائق أن تبطل بالتغير ، ولكن الذين يعتقدون أن العلم حياة ، وحركة ، وكون ، وتكامل دائم ، لا يخافون من تغير الحقائق الأبدية ، وسنبين في نظرية المعرفة أن المذهب العقلي هو الذي ألقى على قيمة العلم حجاباً ، لأنه جعل العقل مطلقاً ، وقال في الوقت نفسه بثنائية الفكر ، والطبيعة ، كما أقر بثنائية المعرفة من حيث هي صورة ، ومادة ، فالقول إذن بالحقائق الأبدية الثابتة ليس ضروريا لصحة العلم ، لأن مفاهيم العلم إنما هي نتيجة نضج الفكر ، وتطوره ، وارتقائه ، واتفاق مقولاته مع التجربة .
فاعلية الفكر .
- ومن الصفات الأساسية التي يتميز بها المذهب الفطري عن غيره من المذاهب تسليمه بفاعلية الفكر وبتأثيرها في تكوين المعرفة . وقد أشار ( ليبنز ) إلى هذه الفاعلية عند رده على ( لوك ) . إلا أن هذا الرد لم يقطع مظان الاشتباه ، لأن الفلاسفة العقليين يصورون لنا فاعلية الفكر تصويراً غير مطابق للحقيقة ، فيتوهمون أن المقولات والمبادىء ثابتة لا تتغير ، وأن معنى الفاعلية الذهنية اشتمال العقل على صور ، ومقولات عقلية كاملة متقدمة على التفكير ، واستخراجه هذه المقولات من داخله لإلقائها على المحسوسات ؛ مع أن المقولات والمبادىء ليست ثابتة ، والفاعلية الذهنية إنما هي إنشاء هذه الصور المعقولة إنشاء ، وتهذيب المقولات ، والمبادىء ، وتنظيمها وفقاً للشرائط التي يقتضيها بناء العلم .
الصفات العامة للمذهب العقلي
يمكن تلخيص صفات المذهب العقلي كما يلي .
فطرية المبادىء وتقدمها على التجربة .
- يقول العقليون : ان في النفس عناصر فطرية قبلية ( a priori ) ؛ فالمبادى ، والمقولات ، عندهم أوليات ، حق أن بعضهم - كسقراط ، وأفلاطون ، وليبنز - يزعم أن المعرفة النظرية نفسها فطرية ، وأنها تنشأ عن نمو الاستعدادات الكامنة في النفس ، وإذا اعترف بعضهم الآخر بضرورة التجربة ، كما فعل ( آرسطو ) و ( كانت ) ، فانه يقرر في الوقت نفسه أن التجربة لا تصبح ممكنة إلا إنما استندت إلى صور فكرية ، ومقولات عقلية متقدمة عليها ، ولكن المذهب العقلي يقتصر على إثبات هذه المقولات من غير أن يوضح لنا كيفية تولدها ، وقد يحاول في بعض الأحيان أن يستخرجها بعضها من بعض ، أو أن ينشئها إنشاء ، أو يرتبها ترتيباً ، ولكن هذا الاستنتاج العقلي بعيد كل البعد عن الإيضاح الحقيقي ، لأنه يقتصر على بيان علاقة المقولات بعضها ببعض من غير أن يوضح لنا تكونها .
ان هذة الصفة الفطرية تثير شبهة اولى ، وهي أن الدراسة النفسية لا يجوز أن تقتصر على تقرير عمليات العقل ، وبيان علائقها بعضها ببعض كما في المنطق ، بل يجب إيضاح تكون العقل وبيان أسباب حدوثه . فالقول بفطرية المبادىء يقتضي أن تكون هذه المبادىء تامة التكوين منذ ظهورها ، وهو قول يرمي بالإيضاح الوضعي ظهرياً ، لأنه يجود العقل عن التجربة ، ويجعله قائماً بذاته ، ولم يتخلص أصحاب المذهب العقلي كما رأيت من هذه الصعوبة إلابالرجوع إلى علم ما بعد الطبيعة ، فجعلوا الإنسان موجوداً إلهياً مبايناً لغيره من الموجودات ، وقالوا : انه يشارك الموجود المطلق في تعقل الأشياء . وقد أثارت هذه الآراء كثيراً من الشبه ، كقولهم : ان المقل ثابت لا يتغير ، لأنه إشراق المثل المخلدة على الإنسان ، أو نفحة من نفحات العقل الإلهي ، والقول بعدم تغير العقل مخالف للواقع ، لأن الإنسان قد انتقل من حالة البداوة إلى حالة الحضارة ، وتبدلت تصوراته العقلية بتبدل مراحل تطوره ، والفطريون يهملون هذه الناحية إهمالاً تاماً .
المبادىء كلية وضرورية .
- والعقل في نظر الفطريين حاكم مطلق ، ومعنى ذلك أن مبادئه كلية وضرورية ، فهو واحد عند جميع الناس ، أو هو كما قال ( ديكارت ) : أحسن الأشياء انقساما بينهم ، والحقائق الأولية حقائق خالدة لا تتغير ولا تتبدل . ان الفلاسفة الفطريين متفقون في هذا الرأي ، ولا فرق في ذلك . فطرية ( كانت ) بين النسبية ، وفطرية أسلافه العقليين . . لأن الحساسية ، ومقولات المقل عندهم ، هي جميع صور الشرائط الضرورية لكل تجربة ممكنة ، وهي التي تحدد لنا نطاق كل معرفة ، وتصوغها في قوالبها التي لا تتغير ، ولولا ذلك لما توصلنا إلى اليقين في المعرفة العلمية .
لقد ضل الفطريون في ظنهم أن المبادى ، كلية وضرورية ، ويمكن إرجاع ضلالهم هذا إلى وهمين :
١ - الوهم الأول : نشأ عن ظنهم أن الفكر المنطقي ، كما يعرفونه ، أساس كل تفكير أنه يوجد في الواقع أنواع كثيرة من التفكير غير خاضعة لمبدأ الهوية ، ولو بشري ، مع كان هذا المبدأ ذاتياً للفكر البشري لما وجد هناك عقول خالية منه .
قال ( بيرجانه ) : « كانوا يقولون في الماضي إن مبدأ الهوية مبدأ مطلق لا يستطيع الفكر أن يتخلى عنه ، ولشد ما أخطأوا في ذلك . لأن المتناقضات التي نصادفها في كلام الناس ، وأحلامهم ، وأوهامهم ، ومعتقداتهم كثيرة جداً . ان أصحاب الرؤى والمرضى لا يتخلون عن أفكارهم ، ومعتقداتهم ، رغم التناقض الموجود فيها . فمبدا الهوية ليس إذن قانوناً ملازماً لكل تفكير ، وإنما هو قانون يخضع الإنسان له عندما يريد أن يكون تفكيره معقولاً .
وهذا الفكر المخالف للمنطق ليس موجوداً في الأحلام ، والأوهام فحسب ، وإنما هو موجود أيضاً في تفكير الإنسان الابتدائي وغيره . فقد بين ( لفي بروهل ) أن في الحياة الاجتماعية الاولى تفكيراً ابتدائياً سماه بالتفكير المتقدم على المنطق ( Prélogique ) ، وهو تفكير مختلف عن تفكيرنا ، لا يستنكف صاحبه من الوقوع في التناقض ، بل يبتعد بفكره عن مبدأ الهوية ، ويخضع لقانون آخر ، يمكننا أن نسميه بقانون المشاركة ( Participation ) . ومعنى المشاركة هنا أن الإنسان ، وسائر الموجودات ، والظواهر قد تكون بالنسبة إلى تصور الجماعات الابتدائية عين ذواتها ، ومخالفة في الوقت نفسه لذواتها .
قال ( لفي بروهل ) : ان قبائل ( الترومة ( في البرازيل الشمالية يقولون عن أنفسهم انهم حيوانات مائية ، وأفراد قبيلة ( البرورو ) المجاورة لها يفتخرون بقولهم أنهم ببغاوات ، وليس معنى قولهم هذا انهم سيستحيلون بعد موتهم إلى ببغاوات ، أو أن الببغاوات الحاضرة قد تكونت من أفراد القبيلة الغابرين ، بل ان كل فرد من أفراد القبيلة يعتقد أنه الآن ببغاء ، كما قد تعتقد الدودة انها فراشة ، فكأن ذواتهم هي عين ذوات الببغاوات .
وقد جاءت نتائج بحوث العلماء في تفكير الطفل متفقة . مع نتائج بحث ( لفي بروهل ) في تفكير الإنسان الابتدائي . فأثبت ) بياجه ( أن الطفل لا يشعر بالتناقض وهو في السابعة أو الثامنة من سنه ( ۱ ) ، حتى انك لتجد عنده شعوراً باختلاط الموجودات شبيها بشعور الإنسان الابتدائي الذي أشرنا اليه آنفاً .
ثم أن تفكير الراشدين ليس منطقياً دائماً ، حق أن بعض الفلاسفة كثيراً ما يبتعدون عن المنطق الطبيعي ، فيقولون بالمصادفة ، وحرية الاختيار ، وشذوذ بعض الحوادث عن القوانين الطبيعية •
ووجود هذه الاعتقادات ، كما يقول ( غوبلو ) ، يدل على ان المبدأ الأساسي للاستفراء ليس من الحقائق البديهية ، وانه يجب الإعراض عن كل مذهب يقول بلزوم هذا المبدأ لقوة الفكر .
٢ - والوهم الثاني : نشأ عن ظن العقليين أن التفكير المنطقي نفسه يظل على نمط واحد لا يتبدل ولا يتغير ، وأن المقولات ثابتة ، وأن العقل لا يتطور . إن جميع الفلاسفة العقليين يتوهمون ذلك ، حتى أن ) كانت ( نفسه لم يشذ عنهم ، ولم يضف إلى ما ذكروه شيئاً جديداً . لأنه كان يكتفي في فلسفته بنتائج العلم من غير أن ينظر إلى منشأ المعرفة وتطورها .
ولكن تاريخ العلوم يثبت لنا أن العلم لم يحمد في مقولات ثابتة ، بل تطور ، وغير مفاهیمه دون انقطاع ، حق أن مفاهيم الزمان ، والمكان ، والعلة ، ( برونشويك ) في ( مراحل الفلسفة الرياضية ( ۱ ) والسببية الطبيعية ( ٢ ) ، قد تطورت تطوراً عميقاً . وتاريخ المنطق نفسه يثبت لنا أيضاً أن المبادىء المقلية لم تظهر بصورة جلية ، إلا بتأثير الفلاسفة والعلماء . فيمكننا إذن أن نقول مع ( بياجه ) : إن فرضية ثبوت المقولات فاسدة من الوجهة السيكولوجية ، لأن العقل يتطور كما تتطور المعقولية . وقد كان تفسير ظواهر الطبيعة عند علماء القرون الوسطى مختلفاً تماماً عن تفسير ما عند علماء العصر الحاضر . اولئك يفسرون حدوث الظواهر بتدخل القوى الكامنة في الطبيعة ، أ ة ، أو المفارقة لها ، وهؤلاء يوضحونها بتحليل شروطها ، وربطها بغيرها من الظواهر السابقة .
٣ - ينتج مما تقدم أن أعظم خطأ وقع فيه العقليون هو : ظنهم أن صحة المعرفة تابعة لوجود حقائق كلية وضرورية ، لا تتبدل ولا تتغير . ولكن العلم لم يثبت بعد قوالبه تثبيتاً نهائياً ، إنه يغيرها في كل زمان ، ويعيد النظر في مفاهيمه ، ومقولاته ليجعلها متفقة مع التجارب الجديدة .
إن الذين يعتقدون أن قيمة العلم تابعة لما يشتمل عليه من حقائق خالدة ثابتة لا تتغير ، ولا تدثر ، يخافون على هذه الحقائق أن تبطل بالتغير ، ولكن الذين يعتقدون أن العلم حياة ، وحركة ، وكون ، وتكامل دائم ، لا يخافون من تغير الحقائق الأبدية ، وسنبين في نظرية المعرفة أن المذهب العقلي هو الذي ألقى على قيمة العلم حجاباً ، لأنه جعل العقل مطلقاً ، وقال في الوقت نفسه بثنائية الفكر ، والطبيعة ، كما أقر بثنائية المعرفة من حيث هي صورة ، ومادة ، فالقول إذن بالحقائق الأبدية الثابتة ليس ضروريا لصحة العلم ، لأن مفاهيم العلم إنما هي نتيجة نضج الفكر ، وتطوره ، وارتقائه ، واتفاق مقولاته مع التجربة .
فاعلية الفكر .
- ومن الصفات الأساسية التي يتميز بها المذهب الفطري عن غيره من المذاهب تسليمه بفاعلية الفكر وبتأثيرها في تكوين المعرفة . وقد أشار ( ليبنز ) إلى هذه الفاعلية عند رده على ( لوك ) . إلا أن هذا الرد لم يقطع مظان الاشتباه ، لأن الفلاسفة العقليين يصورون لنا فاعلية الفكر تصويراً غير مطابق للحقيقة ، فيتوهمون أن المقولات والمبادىء ثابتة لا تتغير ، وأن معنى الفاعلية الذهنية اشتمال العقل على صور ، ومقولات عقلية كاملة متقدمة على التفكير ، واستخراجه هذه المقولات من داخله لإلقائها على المحسوسات ؛ مع أن المقولات والمبادىء ليست ثابتة ، والفاعلية الذهنية إنما هي إنشاء هذه الصور المعقولة إنشاء ، وتهذيب المقولات ، والمبادىء ، وتنظيمها وفقاً للشرائط التي يقتضيها بناء العلم .
تعليق