المذهب العقلى - ٢ - مبادئ العقل
ليبنز ( ١٦٤٦ - ١٧١٦ ) .
ولد ليبنز في ليبزيغ عام ١٦٤٦ ، بدأ بدراسة الحقوق حتى حصل على درجة الدكتوراه وهو في العشرين من منه ، ثم ذهب إلى باريز عام ١٦٧٢ ، وانصرف فيها إلى الرياضيات فاخترع حساب التفاضل ، ولم يقصر عمله على أيضاً الرياضيات ، والفلسفة ، بل عني بالبحث في الحكمة الطبيعية ، والكيمياء والتاريخ ، والطب ، واللاهوت ، والإدارة ، والسياسة .
شكل ( ٤٩ )
ما أبقاه ( ليبنز ) من التجريبية والعقلية .
- ينتج من هذا القول أن ( ليبنز ) سلك طريقة متوسطة بين المذهب العقلي ، والمذهب التجريبي المحض . فقد كان من عادته في أكثر المسائل أن يبحث عن نقطة عالية مشتركة يجمع فيها بين الآراء المتعارضة بدلاً من أن يردها كلها . فالمذهب التجريبي جمل النفس لوحة بيضاء لاتبالي بهذه الصورة ، أو تلك ، شأنها شأن القابل المحض الذي لا يبدل شيئاً مما يرد عليه . والمذهب المقلي نحا مع ( أفلاطون ) بعيداً ، حق زعم أن الصور العقلية موجودة في النفس بالفعل قبل اتصالها بالتجربة . أما ( ليبنز ( فقد أدخل على تفسير المبادىء العقلية فكرة الوجود بالقوة ، أي فكرة الوجود الممكن ( Virtualite ) فقال : ان المبادىء الفطرية استعدادات نفسية ، وان جميع معارفنا الجزئية مشتقة من التجربة ، ومقتبسة من الحواس ، ولذلك كانت نظرية اللوحة البيضاء بعيدة عن الحقيقة . ولذلك أيضاً وجب تبديل قاعدة التجريبيين القائلة : ولا يوجد في العقل شيء لم يوجد قبل في التجربة الحسية ، بإضافة قيد واحد عليها وهو قولنا الا العقل نفسه ( Nisi lpse Intellectus ) .
على أننا إذا تعمقنا في دراسة فلسفة ( ليبنز ) تبين لنا أن أثر الفطرية عنده أعظم مما هو عليه في كتاب ( المحاولات الجديدة ) لأن هذا الفيلسوف كان يقول ان الحقائق الخارجية لا تؤثر أبداً في إدراك المدرك . فالإدراك هو شعور الإنسان بما في ذاته من الأفكار . والنفس لا تكتسب شيئاً من العالم الخارجي . قال ( ليبنز ) : « لو كان في وسعي أن ادرك بوضوح كل ما يحدث لي ، أو يظهر لي في هذه الساعة ، لأمكنني أن أرى كل ما سيحدث لي ، وان زال عني كل ما هو خارجي ، ولم يبق في الوجود إلا الله وأنا ، ( ۱ ) فالنفس إذن تستخرج المعاني . من ذاتها ، فتنقحها وتنميها . قال ( ليبنز ) : ( يظهر لنا لأول وهلة أن كل تصور اتنا تأتي من العالم الخارجي بواسطة الحواس ، وتنطبع على صفحات النفس الفارغة Tanquam in tabula rasa ) ، ولكننا إذا تعمقنا في التأمل أدركنا أن كل شيء حتى الإدراكات ، والانفعالات - إنما يأتينا من داخلنا بتلقائية تامة ( ٢ ) ، وما نظنه خارجياً ، أو آتياً من الحواس إن هو إلا تبدل أحوالنا الداخلية من حالة الغموض ، والاشتباه ، إلى حالة الشعور الواضح ، والإدراك البين . ويمكننا أن نقول إن العالم كله مجموع في كل موناد ) Monade ( أي في كل جوهر فرد روحي ، إلا أنه لا يتجلى فيه دائماً بإدراكات واضحة ، بل تكون هذه الإدراكات واضحة تارة ، وغامضة اخرى ، وارتقاء الانسان إنما هو حصوله على المزيد من الإدراكات الواضحة .
اتفاق العقل والطبيعة .
- لا نريد الآن أن نناقش ( ليبنز ) في نظريته هذه ، لأننا لم تذكر بعد ما هو مذهبه في الوجود ، ولا ما هي مقاصده ، فلنقتصر إذن على الكلام على ناحية خاصة لفتت نظر ( ليبنز ) نفسه وحاول أن يجد لها حلا ، وهذه الناحية هي المطابقة بين العقل ، والطبيعة : إذا كانت الصور المقلية فطرية ، أي موجودة في النفس قبل الولادة ، فكيف تجيء مطابقة لما في العالم الخارجي وهي لم تأخذ هذه الصور عنه ؟ لماذ تجيء المعقولات مطابقة للمحسوسات ، وهي لم تتولد منها ؟ فإما أن نقول : ان العالم الخارجي غير موجود ، وان كل ما فيه من الصور يتولد من العقل ؛ وإما أن نقول بعدم المطابقة بين العقل ، والطبيعة . ان ( ليبنز ) يصرح أن إدراكاتنا صور ، ومعارف مطابقة للحقائق الخارجية المحيطة بنا ، لا أوهام ، وأحلام خيالية بعيدة عن الحس . ولكن هذه المطابقة لا تنشأ عن تأثير متبادل بين النفس ، والطبيعة ، بل تنشأ عن مطابقة قديمة ، و معنى ذلك أن تتابع الإدراكات في الجوهر العاقل مستقل عن التجربة ، ومتقدم عليها ، و مطابق في الوقت نفسه لتتابع حوادث الكون ، وجريانها ، فهناك إذن عالمان . عالم العقل ، وعالم الطبيعة ، كل منهما مطابق للآخر في تتابع صوره ، وجريان ظواهره . وقد ستمى ( ليبنيز ) هذه النظرية بنظرية الانسجام الأزلي ( Harmonic prétablie ) أو التناسق الأزلي بين العقل ، والطبيعة . كان الله في في زعمه نظم الموجودات و رتبها ترتيبا متناسقاً ، كما ينظم الساعاتي الماهر آلاته المختلفة ، حتى يجعلها تتحرك معا وتدق معا . تلك هي نظرية التناسق الأزلي ، وهي كما ترى نظرية لاهوتية محضة ، لا تزيل الشبهات ، ولا تكشف الظلمات المحيطة بمنشأ المبادىء ، ولعل ( ليبنز ) لم يقل بها إلا لضرورة مذهبية ، فجاءت ظنية ، لا يقينية ، وإذا كنا إنما نحصل على الظن فقط بعد هذه التحكمات ، فيكفينا الظن الذي كان أولاً .
كانت ( ١٧٢٤ - ١٨٠٤ )
كان ( كانت ) سيء الصحة ، ضعيف البنية ، منخفض الصدر ، وكان يتبع في حياته نظاماً رتيباً ، فيزن ثيابه ، ويحدد كمية طعامه ، ونوعه ، ومدة نومه ، وساعات نزهته ، ولم يغير الطريق التي كان يسلكها في نزهته إلا مرة واحدة وهي المرة التي جاءه فيها نبأ الثورة الفرنسية .
مذهب كانت .
- ينتج مما تقدم أن المذهب العقلي لم ينجح في إيضاح مطابقة العقل للطبيعة إيضاحاً كافياً ، لأن مقدماته ساقته إلى إرجاع هذه المطابقة إلى أسباب لا يتناولها العلم بالبحث ، فلا غرو إذا حاول ( كانت ) التغلب على هذه الشبهة باعتناق مذهب جديد في علاقة الفكر بالمعرفة ، وقد علق على هذا المذهب أملا عظيما في إصلاح الفلسفة ، حتى لقد شبه تأثيره في الفلسفة بتأثير ) ( كوبرنيكس ) في علم الفلك : كان الناس يعتقدون قبل ( كوبرنيكس ) أن الشمس تدور حول الأرض ، فمكس ) كوبرنيكس ) ذلك ، وأثبت أن الأرض تدور حول الشمس ، وكذلك كان الفلاسفة يعتقدون قبل ( كانت ) أن الفكر يدور حول الأشياء لاقتناص المعرفة ؛ فمكس ( كانت ) هذا الاعتقاد ، وجعل الأشياء الحسية نفسها تدور حول الفكر .
ولنشرح الآن رأي ( كانت ) باختصار :
١ - مادة المعرفة وصورتها .
- المعرفة مؤلفة من عنصرين : المادة ، والصورة ؛ فادة المعرفة تكتسب من العالم الخارجي ، وصورتها من العقل . والمادة هي الإحساسات والظواهر . أما الصورة فهي الكيفية التي تكون عليـ هذه الظواهر عندما تصبح مدركة للنفس .
٢ - صور المعرفة : الزمان ، والمكان .
- انا لا نشعر بالظواهر ، إلا إذا أسبغت عليها حساسيتنا صورتي الزمان ، والمكان . إن هاتين الصورتين هما اللتان تجعلان تصور الموضوعات ممكناً . ونحن نرتب هذه الموضوعات في إطاري الزمان ، والمكان ، ونؤلف منها سلاسل منظمة ، تمكننا من تمييزها ، ومن مقايستها بعضها ببعض . ولولا تصور الزمان ، والمكان ، لما استطعنا أن نرتب الموضوعات الحسية ، ولا أن ندرك علاقاتها ، ولأمسينا كالمصور الذي يعجز عن التصوير لافتقاره إلى لوح ينشر عليه ألوانه . إن الزمان ، والمكان . صورتان قطريتان و ضروريتان ، وكليتان ، مختلفتان عن الأشياء الحسية ، إنهما شرطان من شرائط التجربة ، لا نتيجة من نتائجها ، أضف إلى ذلك : أن جميع أجزاء الزمان ، والمكان ، متجانسة ، ويمكننا أن نحددها ، ونعينها بصورة قبلية ، فإذا صح أمر بالنسبة إلى أحد هذه الأجزاء ، صح بالنسبة إلى الأجزاء الاخرى بالضرورة ، إذن الرياضيات ممكنة ، وقد بينا في كلامنا على إدراك المكان ما هي قيمة هذا الرأي عند ( كانت ) ، وما هي أغراضه منه .
٣ - مقولات العقل .
- إن انتظام الظواهر في صورتي الزمان والمكان ، لا يكفي لتكوين الأفكار ، لأن هذه الظواهر ليست سوى مادة الفكر لا صورته ، فينبغي لنا اذن أن تربط هذه الظواهر بعضها ببعض ، وأن نؤلف الأحكام من روابطها ، ولا يتم لنا تأليف هذه الأحكام ، إلا بقوانين العقل ، فالعقل يفرض إذن قوانينه على الموضوعات ، كما تسبغ الحساسية صورها على الأشياء ، إلا أن عمل الحساسية مقصور على نظم الظواهر في إطاري الزمان ، والمكان ، أما العقل فيبدع العلاقات ، ويؤلف الأحكام المطابقة لها ، ويصبح على هذه الصورة ، كما قال ( كانت ) ، واضع شريعة الطبيعة ، بدلاً من أن يكون صورة من صورها ، أو صدى من أصدائها ، إن العقل يبدع مقولة الجوهر ، ويحكم ببقائه في الزمان ، ويبدع مقولة العلة ، ويحكم بأن لكل حادث محدثا ، الإبداع يدل على أن قوانين العقل أعلى من معطيات التجربة ومتقدمة عليها ، لم يكتسبها العقل من ظواهر الحس ، بل استخرجها من داخله ، وجعل الأشياء خاضعة لها .
و معنى ذلك أنه لا وجود للعالم إلا من جهة ما هو مدرك ، ولا ضرورة لقوانين الطبيعة إلا من حيث أنها متصلة بقوانين العقل ، إن مخالفة قوانين العقل تؤدي إلى زوال العقل والعالم . معا .
ينتج من هذه المقدمات أن العلوم الفيزيائية ممكنة . لأن العقل كما قلنا هو الذي ينظم علائق الظواهر ، ويؤلف الأحكام الموافقة لها .
٤ - الظواهر والشي بذاته .
- إن قوانين العقل لا تنطبق على الشيء بذاته ( Noumenes ) ولا تحيط بالمطلق ، بل تنطبق على معطيات التجربة ، أي على الظواهر التي تتكون منها موضوعات العلوم . فهي لا تطلعنا إذن على حقيقة النفس ، والمادة ، والإله ، لأن هذه الجواهر الحقيقية لا تدخل في نطاق الحدس الحسي ، فعلم ما بعد الطبيعة ليس إذن ممكنا .
المناقشة . - من محاسن نظرية ( كانت ) هذه انها تظهر لنا أثر الفكر في تكوين المعرفة ، وتبين لنا عجز التجربة المحضة عن إيضاح تكوين العلم . ولكنها بالرغم من ذلك ليست أقل من غيرها صعوبة .
١ - ليس الزمان ، والمكان ، تصورين قبليين متقدمين على التجربة .
- إن اولى هذه الصعوبات تنشأ : ا عن اعتبار الزمان ، والمكان ، صورتين قبليتين من صور الحساسية ، فقد بينا في كلامنا على إدراك العالم الخارجي : أن كل إحساس ذو امتداد ، وأن مفهوم ا المكان المعقول إنما هو تعميم بسيط لصور الامتداد الحسي . فالامتداد المجرد تولد من الامتداد الحسي المشخص ، والزمان العلمي المجرد تولد من تعميم بسيط لصور الزمان النفسي الذي نشعر به في داخلنا . إن لكل حالة نفسية ديمومة ، وهذه الديمومة النفسية . الزمان الحقيقي ، أو الوجودي . فكما أن المكان المجرد قد تولد من الامتداد الحسي ، كذلك الزمان العلمي المجرد قد تولد من الزمان النفسي .
٢ - إن فلسفة ( كانت ) لا توضح لنا منشأ المبادىء ، والمقولات ، بل تكتفي بالتصديق بوجودها ، وفي الحق أن ( كانت ) لم يذكر لنا كيف نشأت هذه المقولات ، ولا من أين أنت . هل هي مثل عقلية مخلدة ، أم إشراق إلهي ؟ إنك لا تجد لهذه المسألة في فلسفة ( كانت ) جواباً يشفي غليلك ، أو يزيل شكك .
٣ - إن مذهب ( كانت ) يريد أن يضمن لنا مطابقة قوانين العقل لقوانين الأشياء . لأن كتاب ( كانت ) في نقد المقل المحض Critique de la raison pure ) يحوم في جميع مسائله حول هذه الفكرة : ان العقل هو الذي يصوغ التجربة ، وان ما يصل اليه من العالم الخارجي ليس سوى غبار من الحس ، فالعقل يصوغ هذه المادة العديمة الشكل ، ويضعها في قوالب معينة ، ويكيفها بحسب مطالبه الخاصة . فإذا القينا على أصحاب هذا المذهب ذلك السؤال الذي القيناه على ( ليبنز ) و ( ديكارت ) وقلنا : كيف توضحون لنا اتفاق الأشياء ، ومطابقته لها . قالوا ان لهذا السؤال في فلسفة ( كانت ) وجهين .
الأول يتعلق بالظواهر ، والثانى بالشيء بذاته . فإذا قصدنا الوجه الأول كان الجواب سهلا ، لأن العقل عند ( كانت ) هو الذي يصوغ الظواهر ، ويرتبها بحسب قوالبه الخاصة . ان خطأ جميع التجريبيين والعقليين المتقدمين على ( كانت ) هو اهمالهم فعالية العقل . انهم يشبهون العقل تارة بلوح من الشمع ، واخرى بحجر من المرمر ، ويجردونه من كل فعالية ، وهذه التشبيهات كافية للدلالة على بطلان مذهبهم ، لأن العقل يصوغ معطيات التجربة ، ويكيفها بحسب مطالبه . وإذا كان العقل هو الصائغ ، فلا عجب إذا اتفقت صور الصياغة مع قوالب الصانع . وإذا قصدنا الوجه الثاني قلنا ان اتفاق العقل مع الشيء بذاته أمر مسلم به في فلسفة ( كانت ) من غير برهان . نعم ان ( كانت ) يقول : ان وجود المعرفة دليل على المطابقة بين العقل والشيء بذاته ، وانه لولا هذه المطابقة لبقيت قوالب العقل فارغة ، ولما تكون العلم . ولكن هذا القول ليس برهاناً كافياً ، وإنما هو تسليم بالأمر الواقع كما هو من غير دليل ، اننا لا نزال نسأل ما ، هي أسباب هذه المطابقة الحسية ، بين العقل والشيء بذاته . ان العقل لا يصوغ الشيء بذاته ، كما يصوغ الظواهر ، فلماذا يخضع هذا الشيء إذن لقوالب العقل ، فإذا كان خضوعه لها عرضياً ، أمكن إذ ذاك انفصاله عنها ، ومخالفته لها . لقد أدرك خلفاء ( كانت ) خطورة هذه الشبهة ، فقالوا : إذا كان الشيء بذاته جوهراً حقيقياً مستقلاً عن العقل ، فمن الصعب إيضاح خضوعه لقوالب العقل ، وصوره . اننا لا ندري بأي معجزة ، ولا لأي . سبب يتفق هذا الجوهر المفارق مع مقولات العقل وصوره ، لذلك اضطر خلفاء ( كانت ) وهم ( فيخت ، وشيلينغ ، وهيجل ) إلى حذف الشيء بذاته حلا لهذه الشبهة ، فقالوا ان العقل يستخرج من داخله كل شيء ، فهو يبدع مادة المعرفة ، ويبدع صورتها ، كما يبدع الله مادة العالم ويهبها الصورة الموافقة لها .
وهكذا يسوقنا مذهب ( كانت ) إلى المذهب الخيالي المطلق ، ولا غرو فإن أصحاب المذهب العقلي قد وضعوا العقل خارج الطبيعة ، وجعلوه فوقها ، وقالوا : بوجود بعض الاستعدادادت فيه قبل اتصاله بالتجربة . فإذا جعلنا العقل خارج الطبيعة تعذر علينا إيضاح اتصاله بها ، واتفاقه معها ، وإذا وضعنا العقل داخل الطبيعة ، اضطررنا إلى القول باكتسابه المعرفة منها . فإما أن نوضح اتفاق العقل ، والطبيعة ، بتأثير قوة مفارقة لهما ، وإما أن ننقص تأثير الطبيعة في العقل شيئاً فشيئاً ، كما فعل المقليون ، من ( ديكارت ) إلى ( ليبنز ) ، حتى يصبح هذا التأثير معدوماً ، كما هو عليه عند تلاميذ ( كانت ) . ان انقلاب المذهب العقلي إلى المذهب الخيالي ضرورة لا محيد عنها .
ليبنز ( ١٦٤٦ - ١٧١٦ ) .
ولد ليبنز في ليبزيغ عام ١٦٤٦ ، بدأ بدراسة الحقوق حتى حصل على درجة الدكتوراه وهو في العشرين من منه ، ثم ذهب إلى باريز عام ١٦٧٢ ، وانصرف فيها إلى الرياضيات فاخترع حساب التفاضل ، ولم يقصر عمله على أيضاً الرياضيات ، والفلسفة ، بل عني بالبحث في الحكمة الطبيعية ، والكيمياء والتاريخ ، والطب ، واللاهوت ، والإدارة ، والسياسة .
شكل ( ٤٩ )
ما أبقاه ( ليبنز ) من التجريبية والعقلية .
- ينتج من هذا القول أن ( ليبنز ) سلك طريقة متوسطة بين المذهب العقلي ، والمذهب التجريبي المحض . فقد كان من عادته في أكثر المسائل أن يبحث عن نقطة عالية مشتركة يجمع فيها بين الآراء المتعارضة بدلاً من أن يردها كلها . فالمذهب التجريبي جمل النفس لوحة بيضاء لاتبالي بهذه الصورة ، أو تلك ، شأنها شأن القابل المحض الذي لا يبدل شيئاً مما يرد عليه . والمذهب المقلي نحا مع ( أفلاطون ) بعيداً ، حق زعم أن الصور العقلية موجودة في النفس بالفعل قبل اتصالها بالتجربة . أما ( ليبنز ( فقد أدخل على تفسير المبادىء العقلية فكرة الوجود بالقوة ، أي فكرة الوجود الممكن ( Virtualite ) فقال : ان المبادىء الفطرية استعدادات نفسية ، وان جميع معارفنا الجزئية مشتقة من التجربة ، ومقتبسة من الحواس ، ولذلك كانت نظرية اللوحة البيضاء بعيدة عن الحقيقة . ولذلك أيضاً وجب تبديل قاعدة التجريبيين القائلة : ولا يوجد في العقل شيء لم يوجد قبل في التجربة الحسية ، بإضافة قيد واحد عليها وهو قولنا الا العقل نفسه ( Nisi lpse Intellectus ) .
على أننا إذا تعمقنا في دراسة فلسفة ( ليبنز ) تبين لنا أن أثر الفطرية عنده أعظم مما هو عليه في كتاب ( المحاولات الجديدة ) لأن هذا الفيلسوف كان يقول ان الحقائق الخارجية لا تؤثر أبداً في إدراك المدرك . فالإدراك هو شعور الإنسان بما في ذاته من الأفكار . والنفس لا تكتسب شيئاً من العالم الخارجي . قال ( ليبنز ) : « لو كان في وسعي أن ادرك بوضوح كل ما يحدث لي ، أو يظهر لي في هذه الساعة ، لأمكنني أن أرى كل ما سيحدث لي ، وان زال عني كل ما هو خارجي ، ولم يبق في الوجود إلا الله وأنا ، ( ۱ ) فالنفس إذن تستخرج المعاني . من ذاتها ، فتنقحها وتنميها . قال ( ليبنز ) : ( يظهر لنا لأول وهلة أن كل تصور اتنا تأتي من العالم الخارجي بواسطة الحواس ، وتنطبع على صفحات النفس الفارغة Tanquam in tabula rasa ) ، ولكننا إذا تعمقنا في التأمل أدركنا أن كل شيء حتى الإدراكات ، والانفعالات - إنما يأتينا من داخلنا بتلقائية تامة ( ٢ ) ، وما نظنه خارجياً ، أو آتياً من الحواس إن هو إلا تبدل أحوالنا الداخلية من حالة الغموض ، والاشتباه ، إلى حالة الشعور الواضح ، والإدراك البين . ويمكننا أن نقول إن العالم كله مجموع في كل موناد ) Monade ( أي في كل جوهر فرد روحي ، إلا أنه لا يتجلى فيه دائماً بإدراكات واضحة ، بل تكون هذه الإدراكات واضحة تارة ، وغامضة اخرى ، وارتقاء الانسان إنما هو حصوله على المزيد من الإدراكات الواضحة .
اتفاق العقل والطبيعة .
- لا نريد الآن أن نناقش ( ليبنز ) في نظريته هذه ، لأننا لم تذكر بعد ما هو مذهبه في الوجود ، ولا ما هي مقاصده ، فلنقتصر إذن على الكلام على ناحية خاصة لفتت نظر ( ليبنز ) نفسه وحاول أن يجد لها حلا ، وهذه الناحية هي المطابقة بين العقل ، والطبيعة : إذا كانت الصور المقلية فطرية ، أي موجودة في النفس قبل الولادة ، فكيف تجيء مطابقة لما في العالم الخارجي وهي لم تأخذ هذه الصور عنه ؟ لماذ تجيء المعقولات مطابقة للمحسوسات ، وهي لم تتولد منها ؟ فإما أن نقول : ان العالم الخارجي غير موجود ، وان كل ما فيه من الصور يتولد من العقل ؛ وإما أن نقول بعدم المطابقة بين العقل ، والطبيعة . ان ( ليبنز ) يصرح أن إدراكاتنا صور ، ومعارف مطابقة للحقائق الخارجية المحيطة بنا ، لا أوهام ، وأحلام خيالية بعيدة عن الحس . ولكن هذه المطابقة لا تنشأ عن تأثير متبادل بين النفس ، والطبيعة ، بل تنشأ عن مطابقة قديمة ، و معنى ذلك أن تتابع الإدراكات في الجوهر العاقل مستقل عن التجربة ، ومتقدم عليها ، و مطابق في الوقت نفسه لتتابع حوادث الكون ، وجريانها ، فهناك إذن عالمان . عالم العقل ، وعالم الطبيعة ، كل منهما مطابق للآخر في تتابع صوره ، وجريان ظواهره . وقد ستمى ( ليبنيز ) هذه النظرية بنظرية الانسجام الأزلي ( Harmonic prétablie ) أو التناسق الأزلي بين العقل ، والطبيعة . كان الله في في زعمه نظم الموجودات و رتبها ترتيبا متناسقاً ، كما ينظم الساعاتي الماهر آلاته المختلفة ، حتى يجعلها تتحرك معا وتدق معا . تلك هي نظرية التناسق الأزلي ، وهي كما ترى نظرية لاهوتية محضة ، لا تزيل الشبهات ، ولا تكشف الظلمات المحيطة بمنشأ المبادىء ، ولعل ( ليبنز ) لم يقل بها إلا لضرورة مذهبية ، فجاءت ظنية ، لا يقينية ، وإذا كنا إنما نحصل على الظن فقط بعد هذه التحكمات ، فيكفينا الظن الذي كان أولاً .
كانت ( ١٧٢٤ - ١٨٠٤ )
كان ( كانت ) سيء الصحة ، ضعيف البنية ، منخفض الصدر ، وكان يتبع في حياته نظاماً رتيباً ، فيزن ثيابه ، ويحدد كمية طعامه ، ونوعه ، ومدة نومه ، وساعات نزهته ، ولم يغير الطريق التي كان يسلكها في نزهته إلا مرة واحدة وهي المرة التي جاءه فيها نبأ الثورة الفرنسية .
مذهب كانت .
- ينتج مما تقدم أن المذهب العقلي لم ينجح في إيضاح مطابقة العقل للطبيعة إيضاحاً كافياً ، لأن مقدماته ساقته إلى إرجاع هذه المطابقة إلى أسباب لا يتناولها العلم بالبحث ، فلا غرو إذا حاول ( كانت ) التغلب على هذه الشبهة باعتناق مذهب جديد في علاقة الفكر بالمعرفة ، وقد علق على هذا المذهب أملا عظيما في إصلاح الفلسفة ، حتى لقد شبه تأثيره في الفلسفة بتأثير ) ( كوبرنيكس ) في علم الفلك : كان الناس يعتقدون قبل ( كوبرنيكس ) أن الشمس تدور حول الأرض ، فمكس ) كوبرنيكس ) ذلك ، وأثبت أن الأرض تدور حول الشمس ، وكذلك كان الفلاسفة يعتقدون قبل ( كانت ) أن الفكر يدور حول الأشياء لاقتناص المعرفة ؛ فمكس ( كانت ) هذا الاعتقاد ، وجعل الأشياء الحسية نفسها تدور حول الفكر .
ولنشرح الآن رأي ( كانت ) باختصار :
١ - مادة المعرفة وصورتها .
- المعرفة مؤلفة من عنصرين : المادة ، والصورة ؛ فادة المعرفة تكتسب من العالم الخارجي ، وصورتها من العقل . والمادة هي الإحساسات والظواهر . أما الصورة فهي الكيفية التي تكون عليـ هذه الظواهر عندما تصبح مدركة للنفس .
٢ - صور المعرفة : الزمان ، والمكان .
- انا لا نشعر بالظواهر ، إلا إذا أسبغت عليها حساسيتنا صورتي الزمان ، والمكان . إن هاتين الصورتين هما اللتان تجعلان تصور الموضوعات ممكناً . ونحن نرتب هذه الموضوعات في إطاري الزمان ، والمكان ، ونؤلف منها سلاسل منظمة ، تمكننا من تمييزها ، ومن مقايستها بعضها ببعض . ولولا تصور الزمان ، والمكان ، لما استطعنا أن نرتب الموضوعات الحسية ، ولا أن ندرك علاقاتها ، ولأمسينا كالمصور الذي يعجز عن التصوير لافتقاره إلى لوح ينشر عليه ألوانه . إن الزمان ، والمكان . صورتان قطريتان و ضروريتان ، وكليتان ، مختلفتان عن الأشياء الحسية ، إنهما شرطان من شرائط التجربة ، لا نتيجة من نتائجها ، أضف إلى ذلك : أن جميع أجزاء الزمان ، والمكان ، متجانسة ، ويمكننا أن نحددها ، ونعينها بصورة قبلية ، فإذا صح أمر بالنسبة إلى أحد هذه الأجزاء ، صح بالنسبة إلى الأجزاء الاخرى بالضرورة ، إذن الرياضيات ممكنة ، وقد بينا في كلامنا على إدراك المكان ما هي قيمة هذا الرأي عند ( كانت ) ، وما هي أغراضه منه .
٣ - مقولات العقل .
- إن انتظام الظواهر في صورتي الزمان والمكان ، لا يكفي لتكوين الأفكار ، لأن هذه الظواهر ليست سوى مادة الفكر لا صورته ، فينبغي لنا اذن أن تربط هذه الظواهر بعضها ببعض ، وأن نؤلف الأحكام من روابطها ، ولا يتم لنا تأليف هذه الأحكام ، إلا بقوانين العقل ، فالعقل يفرض إذن قوانينه على الموضوعات ، كما تسبغ الحساسية صورها على الأشياء ، إلا أن عمل الحساسية مقصور على نظم الظواهر في إطاري الزمان ، والمكان ، أما العقل فيبدع العلاقات ، ويؤلف الأحكام المطابقة لها ، ويصبح على هذه الصورة ، كما قال ( كانت ) ، واضع شريعة الطبيعة ، بدلاً من أن يكون صورة من صورها ، أو صدى من أصدائها ، إن العقل يبدع مقولة الجوهر ، ويحكم ببقائه في الزمان ، ويبدع مقولة العلة ، ويحكم بأن لكل حادث محدثا ، الإبداع يدل على أن قوانين العقل أعلى من معطيات التجربة ومتقدمة عليها ، لم يكتسبها العقل من ظواهر الحس ، بل استخرجها من داخله ، وجعل الأشياء خاضعة لها .
و معنى ذلك أنه لا وجود للعالم إلا من جهة ما هو مدرك ، ولا ضرورة لقوانين الطبيعة إلا من حيث أنها متصلة بقوانين العقل ، إن مخالفة قوانين العقل تؤدي إلى زوال العقل والعالم . معا .
ينتج من هذه المقدمات أن العلوم الفيزيائية ممكنة . لأن العقل كما قلنا هو الذي ينظم علائق الظواهر ، ويؤلف الأحكام الموافقة لها .
٤ - الظواهر والشي بذاته .
- إن قوانين العقل لا تنطبق على الشيء بذاته ( Noumenes ) ولا تحيط بالمطلق ، بل تنطبق على معطيات التجربة ، أي على الظواهر التي تتكون منها موضوعات العلوم . فهي لا تطلعنا إذن على حقيقة النفس ، والمادة ، والإله ، لأن هذه الجواهر الحقيقية لا تدخل في نطاق الحدس الحسي ، فعلم ما بعد الطبيعة ليس إذن ممكنا .
المناقشة . - من محاسن نظرية ( كانت ) هذه انها تظهر لنا أثر الفكر في تكوين المعرفة ، وتبين لنا عجز التجربة المحضة عن إيضاح تكوين العلم . ولكنها بالرغم من ذلك ليست أقل من غيرها صعوبة .
١ - ليس الزمان ، والمكان ، تصورين قبليين متقدمين على التجربة .
- إن اولى هذه الصعوبات تنشأ : ا عن اعتبار الزمان ، والمكان ، صورتين قبليتين من صور الحساسية ، فقد بينا في كلامنا على إدراك العالم الخارجي : أن كل إحساس ذو امتداد ، وأن مفهوم ا المكان المعقول إنما هو تعميم بسيط لصور الامتداد الحسي . فالامتداد المجرد تولد من الامتداد الحسي المشخص ، والزمان العلمي المجرد تولد من تعميم بسيط لصور الزمان النفسي الذي نشعر به في داخلنا . إن لكل حالة نفسية ديمومة ، وهذه الديمومة النفسية . الزمان الحقيقي ، أو الوجودي . فكما أن المكان المجرد قد تولد من الامتداد الحسي ، كذلك الزمان العلمي المجرد قد تولد من الزمان النفسي .
٢ - إن فلسفة ( كانت ) لا توضح لنا منشأ المبادىء ، والمقولات ، بل تكتفي بالتصديق بوجودها ، وفي الحق أن ( كانت ) لم يذكر لنا كيف نشأت هذه المقولات ، ولا من أين أنت . هل هي مثل عقلية مخلدة ، أم إشراق إلهي ؟ إنك لا تجد لهذه المسألة في فلسفة ( كانت ) جواباً يشفي غليلك ، أو يزيل شكك .
٣ - إن مذهب ( كانت ) يريد أن يضمن لنا مطابقة قوانين العقل لقوانين الأشياء . لأن كتاب ( كانت ) في نقد المقل المحض Critique de la raison pure ) يحوم في جميع مسائله حول هذه الفكرة : ان العقل هو الذي يصوغ التجربة ، وان ما يصل اليه من العالم الخارجي ليس سوى غبار من الحس ، فالعقل يصوغ هذه المادة العديمة الشكل ، ويضعها في قوالب معينة ، ويكيفها بحسب مطالبه الخاصة . فإذا القينا على أصحاب هذا المذهب ذلك السؤال الذي القيناه على ( ليبنز ) و ( ديكارت ) وقلنا : كيف توضحون لنا اتفاق الأشياء ، ومطابقته لها . قالوا ان لهذا السؤال في فلسفة ( كانت ) وجهين .
الأول يتعلق بالظواهر ، والثانى بالشيء بذاته . فإذا قصدنا الوجه الأول كان الجواب سهلا ، لأن العقل عند ( كانت ) هو الذي يصوغ الظواهر ، ويرتبها بحسب قوالبه الخاصة . ان خطأ جميع التجريبيين والعقليين المتقدمين على ( كانت ) هو اهمالهم فعالية العقل . انهم يشبهون العقل تارة بلوح من الشمع ، واخرى بحجر من المرمر ، ويجردونه من كل فعالية ، وهذه التشبيهات كافية للدلالة على بطلان مذهبهم ، لأن العقل يصوغ معطيات التجربة ، ويكيفها بحسب مطالبه . وإذا كان العقل هو الصائغ ، فلا عجب إذا اتفقت صور الصياغة مع قوالب الصانع . وإذا قصدنا الوجه الثاني قلنا ان اتفاق العقل مع الشيء بذاته أمر مسلم به في فلسفة ( كانت ) من غير برهان . نعم ان ( كانت ) يقول : ان وجود المعرفة دليل على المطابقة بين العقل والشيء بذاته ، وانه لولا هذه المطابقة لبقيت قوالب العقل فارغة ، ولما تكون العلم . ولكن هذا القول ليس برهاناً كافياً ، وإنما هو تسليم بالأمر الواقع كما هو من غير دليل ، اننا لا نزال نسأل ما ، هي أسباب هذه المطابقة الحسية ، بين العقل والشيء بذاته . ان العقل لا يصوغ الشيء بذاته ، كما يصوغ الظواهر ، فلماذا يخضع هذا الشيء إذن لقوالب العقل ، فإذا كان خضوعه لها عرضياً ، أمكن إذ ذاك انفصاله عنها ، ومخالفته لها . لقد أدرك خلفاء ( كانت ) خطورة هذه الشبهة ، فقالوا : إذا كان الشيء بذاته جوهراً حقيقياً مستقلاً عن العقل ، فمن الصعب إيضاح خضوعه لقوالب العقل ، وصوره . اننا لا ندري بأي معجزة ، ولا لأي . سبب يتفق هذا الجوهر المفارق مع مقولات العقل وصوره ، لذلك اضطر خلفاء ( كانت ) وهم ( فيخت ، وشيلينغ ، وهيجل ) إلى حذف الشيء بذاته حلا لهذه الشبهة ، فقالوا ان العقل يستخرج من داخله كل شيء ، فهو يبدع مادة المعرفة ، ويبدع صورتها ، كما يبدع الله مادة العالم ويهبها الصورة الموافقة لها .
وهكذا يسوقنا مذهب ( كانت ) إلى المذهب الخيالي المطلق ، ولا غرو فإن أصحاب المذهب العقلي قد وضعوا العقل خارج الطبيعة ، وجعلوه فوقها ، وقالوا : بوجود بعض الاستعدادادت فيه قبل اتصاله بالتجربة . فإذا جعلنا العقل خارج الطبيعة تعذر علينا إيضاح اتصاله بها ، واتفاقه معها ، وإذا وضعنا العقل داخل الطبيعة ، اضطررنا إلى القول باكتسابه المعرفة منها . فإما أن نوضح اتفاق العقل ، والطبيعة ، بتأثير قوة مفارقة لهما ، وإما أن ننقص تأثير الطبيعة في العقل شيئاً فشيئاً ، كما فعل المقليون ، من ( ديكارت ) إلى ( ليبنز ) ، حتى يصبح هذا التأثير معدوماً ، كما هو عليه عند تلاميذ ( كانت ) . ان انقلاب المذهب العقلي إلى المذهب الخيالي ضرورة لا محيد عنها .
تعليق