المذهب العقلى - ١ - مبادئ العقل
المذهب العقلى
ان القول بفطرية المبادىء العقلية قديم جداً ، فقد كان السفسطائيون يقولون : ان للشخص المدرك تأثيراً عظيما في المعرفة ، ويستخرجون من ذلك مذهبا ريبياً ملخصاً في قول ( بروتاغوراس ) : ( الإنسان مقياس الأشياء ) . وكان ( سقراط ) يقول : ان الحقيقة فطرية في الإنسان ، وان الذي يريد أن يطلع عليها يكفيه أن يرجع إلى ذاته ، ويتأمل ما فيها من المبادىء ، فلا حاجة إذن إلى التعليم . لقد كانت وظيفة ( سقراط ) كوظيفة والدته القابلة ، كان يشهد مخاض العقول ، كما كانت والدته تشهد مخاض النساء . وكان منهجه منهج التوليد ( Maieutipue ) بالأسئلة التي كان يوجهها إلى مخاطبيه ، فيسوقهم بها إلى الكشف عن الحقيقة بأنفسهم ، أو إلى الاعتراف بأخطائهم .
وقد سار ( أفلاطون ) على غرار استاذه ( سقراط ( ففرق بين العالم المحسوس ، ن ، والعالم المعقول . قال : ان العالم المحسوس عالم الظواهر المتغيرة ، والوقائع المتبدلة . أما عالم المعقولات فهو عالم الجواهر الحقيقية ، عالم المثل الثابتة الخالدة ، التي هي مبدأ كل موجود ، و معقول . ولما كان لا علم إلا بالكليات ، كانت المعرفة العلمية الصحيحة هي العلم بالمثل لا بالمحسوسات . والنفس كما يقول ( أفلاطون ) في كتاب ( الفدر ) تنطوي بذاتها على هذه المعرفة ، لانها كانت قبل اتصالها بالعالم المحسوس موجودة في عالم المثال تسير مع وراء مركبة ( جوبتر ) . وكانت عالمة بكل شيء . فلما أهبطت إلى الجسد فقدت علمها القديم ، وظلت مع ذلك تتذكر من حين إلى آخر بعض ما كانت عليه من العلم . فالعلم إذن تذكر ، أي تذكر النفس لما كانت عالمة به من الحقائق الخالدة . وقد شرح ( أفلاطون ( هذه الاسطورة في كتاب ( المينون ( أيضاً ، فتخيل عبداً جاهلا بالهندسة يكشف بنفسه ، كيف يمكن إنشاء مربع مساو لضعف مربع معلوم . ان نجاح هذا العبد في طريقته دليل على أن العلم كامن في نفسه ، فالنفس لا تكتسب العلم إذن من العالم المحسوس ، بل تستخرجه من باطنها .
أما ( أرسطو ) فقد جعل نصيب التجربة في اكتساب المعرفة أعظم مما هو عليه عند ( أفلاطون ) و ( سقراط ) . فالمعقولات عنده ليس لها وجود مفارق ، ولكنها كما قال بعضهم ، داخلة في المحسوسات . وفوق العقل المنفعل ، الذي يقبل الصور ، عقل فاعل يجرد المعقول من المحسوس ، ويجعلنا نكشف بالحدس المبادىء الأولية التي لا يمكن البرهان عليها . إن هذا العقل الفاعل هو عند ( آرسطو ) عقل غير شخصي ، أو عقل كلي صادر عن العقل الالهي .
قال ( ارسطو ) : الإحساس ليس علماً ، لأنه لا يدرك إلا الفرد ، ولأن العلم لا يتناول إلا الكلي ( ١ ) ، ولكن الإحساس نقطة الابتداء الضرورية للعلم . ومن كان فاقد الإحساس اي لم يستطع أن يتعلم شيئا ، والنفس لا تفكر أبداً دون صور ، ومع ذلك فإن الصور المعقولة إذا وجدت داخل الصور المحسوسة ، كان وجودها فيها وجوداً ضمنياً ، أو وجود أبالقوة ، ونحن لا ننقل هذه الممكنات من القوة إلى الفعل ، ولا ندرك الماهيات العقلية بالحدس ، إلا بتأثير العقل الفاعل . وبعبارة ثانية : إن العقل المنفعل لنا مادة المعرفة ، أما العقل الفاعل فيصوغ لنا صورتها ( ۱ ) . أضف إلى ذلك أيضا أنه لا يمكن أن تكون المعرفة نظرية كلها ، لأننا لا نستطيع أن نبرهن على كل شيء . فكل برهان يستند إذن إلى أوليات لا يمكن البرهان عليها ، ولا تحتاج إلى برهان ( ٢ ) ، كمبدا عدم التناقض ، و مبدأ الملة الكافية ، والبديهيات الرياضية ، وفكرة العدد ، وفكرة الامتداد . ان الملكة التي ندرك بها هذه المبادىء ، هي العقل الفاعل ، وهي وحدها تصل الينا من خارج ، وهي وحدها إلهية . . .
وقد أخذ بعض الفلاسفة بهذه الآراء التي جاء بها الأولون ، ووفقوا بينها وبين مبادىء اللاهوت ، فمما قاله القديس ( أوغستينوس ) في المثل الأفلاطونية : ( ان المثل هيا الأولية ، والأسباب الثابتة التى لا تتغير ، وهي لم تتكون بإخراج من العدم إلى الوجود أبداً ، لأنها أبدية أزلية باقية في العقل الالهي المحيط بها » .
· وقد جعل ابن سينا اكتساب المعرفة راجعا إلى العقل والإحساس من جهة ، وإلى فيض المعقولات عن العقل الفعال من جهة اخرى ان الماهيات المنتزعة عن الأشياء المحسوسة ، لا تصبح مجردات عقلية ، الا اذا اتصلت النفس بالعقل الفعال بطريق الحدس والفكر ، لأن القوة النظرية لا تخرج من القوة الى الفعل الا بتأثير قوة موجودة بالفعل ، وهذه القوة هي العقل الفعال .
والقديس ( توما الأكويني ) أيضا لم يخرج على المبادىء التي وضعها ( أرسطو ) ، بل قلد المعلم الأول في التفريق بين العقل الممكن ) الذي بالقوة ) والعقل الفعال ( Intellectus agens ) ، فالعقل الفاعل يدرك المبادىء الاولى بالحدس ( جامع اللاهوت ) ( ۳ ) ، وهو نور طبيعي ، يفيض عن الله مباشرة ، كالإيمان والنعمة ، فينطبع في جوهر النفس بالفعل الالهي ، وقد اقتبس ( توما الاكويني ) من ( أفلاطون ) أيضاً رأيه في المثل ، فقال : ان المثل تفيض لا محالة عن الاله ، وإنها من حيث هي علل مثالية لجميع الأشياء ، قائمة في العقل الالهي .
فأنت تجد أن فلاسفة القرون الوسطى لم يخالفوا آراء الأولين في منشأ المباديء ، بل زعموا أنها مطبوعة على جوهر النفس بطابع إلهي .
وإذا فحصنا الآن عن آراء ( ديكارت ) وجدناها أيضا قريبة من الآراء السابقة ، لأن العقل عنده قادر بذاته على إدراك ماهيات الأشياء ، وهو يسمي . هذه الماهيات بالجواهر الصحيحة الثابتة .
ويتضح لنا من مطالعة كتاب التأملات ( Méditations ) أن تصور هذه الجواهر الصحيحة الثابتة فطري في الإنسان ، لذلك فرق ( ديكارت ) في هذا الكتاب بين المعاني الفطرية ( Ideas innées ) ، و المعاني المصطنعة ( Ides factices ) المتولدة من الخيال ، والمعاني العارضة ( ldies adventices ) المتولدة من الإحساس . وقد بين لنا أكثر المحققين أن للمعاني الفطرية عنده شأناً عظيماً ، حتى انها لتغني عن المعاني العارضة وتنوب عنها . فالفكر يطبق المعاني الفطرية في عالم التجربة ، ويستخرج منه المعاني العارضة الموافقة للظروف والفرص . ولا تأثير للأشياء المحسوسة في تكوين الأفكار . إن تأثيراً كهذا غير معقول في مذهب ( ديكارت ) ، لأن هذا المذهب يميل إلى الاستغناء عن التجربة ، فما قاله ( ديكارت ) : إن المحسوسات لا ترسل الينا ، بواسطة الحواس ، شيئاً من المعاني التي تدل عليها ، بل تهيء لملكاتنا الفطرية فرصة موافقة لتكوين هذه المعاني في وقت دون آخر ، فالنفس تشتمل إذن على مادة الإحساس . أما التجربة فتعلمنا كيف نجزىء هذه المادة ، ونفصلها في ضوء العقل .
الفطرية عند ( ديكارت ) .
- إن اصطلاح المعاني الفطرية قد . أضل الكثيرين من شارحي مذهب ( ديكارت ) ، فظنوا أنه يقول بوجود معان واضحة ، معينة ، قائمة في النفس ، منذ الولادة ، موجودة فيها قبل اتصالها بالعالم المحسوس . ولكن ( ديكارت ) بخلاف هذا الرأي ، قال : أقول ان هذه المعاني فطرية كما يقولون ، إن الكرم فطري في بعض الاسر ، وان النقرس ، والحصاة ، فطريان في بعضها الآخر ، فليس معنی ذلك أن الأطفال يصابون بهذه الأمراض اضطراراً ، وهم في الأرحام ، ولكن معناه أنهم يولدون وفيهم استعداد ، أو قابلية للوقوع فيها .
اعتراض لوك .
- ولكن هذا التحديد لم يقطع مظان الاشتباه ، ولم يمنع المخالفين من الدخول في الاعتراض على ( ديكارت ( دخول منكر ، فقال ( لوك ) في كتابه ( Essai sur I'entendement humain ) الذي ألفه للرد على نظرية المعاني الفطرية : إن الأطفال ، والمتوحشين ، والبله ، لا يدركون المبادى ، الأولية ، ولا يفهمون الحقائق البديهية ، ولو كانت الأوليات فطرية فيهم لفهموها دون عناء . إذن ليس في النفس فكرة فطرية واحدة ، لأنها لو كانت فطرية لما جهلها إنسان قط ، ونحن نجد أن كثيراً من الفكر الفطرية المزعومة معلومة عند قسم من الناس ، ومجهولة عند الآخرين ، فكيف تكون فطرية وفي الناس من يجهلها . ان فكرة الاله مثلا : ليست فطرية ، لأن هناك شعوباً لا تدرك هذه الفكرة . ولو كانت عقول الناس واحدة ، لما اختلفت الأنظار ، وتباينت الآراء في كثير من المسائل ، كما هي عليه الآن منذ عصور طويلة . وقصارى القول : أن أحسن دليل على ضرورة الشك في نظرية المعاني الفطرية استغناء علم النفس الحديث عنها ، وحرصه على إرجاع جميع المعاني إلى تأثير الإحساس ، والتجربة .
( شکل ٤٨ )
دیکارت - ( ١٥٩٦ - ١٦٥٠ )
كان ديكارت : قصير القامة ، كبير الرأس ، عريض الجبهة ، عظيم الأنف ، تظهر على وجهه علامات القسوة ، والتأمل ، والكبرياء .
اعتراض ليبنز .
- ولكن ( لوك ) لم يفلح تماماً في طريقته هذه ، فانبرى ( ليبنز ) للرد عليه في كتاب سماه محاولات جديدة في الذهن البشري Nonveaux Essais sur Tentendement humain ) فندفيه المسائل التي ذكرها ( لوك ) واحدة واحدة ، وأضاف إلى علم النفس فكرة جديدة ، وهي فكرة اللاشعور . قال : اننا كثيراً ما ندرك الموضوعات الخارجية من غير أن نفهمها ، أي ندركها إدراكاً غامضاً غير مصحوب بشعور واضح . فالأوليات العقلية التي لا يفهمها الطفل ، والإنسان الابتدائي ، موجودة في نفسيهما بالقوة ، أي بصورة مضمرة ، ولا تنتقل من القوة إلى الفعل أي من حالة الإدراك الغامض ، إلى حالة الفهم الصريح الواضح ، إلا بتأثير التجربة . ان أجهل الناس يربط الحوادث المتتابعة بعضها ببعض ، ويعلل أفعال الناس بإراداتهم ، وأغراضهم ، فهو إذن يطبق من غير أن يدري مبدأ العلة الكافية .
قال ( ليبنز ) : « لا تظنن أنه يمكنك أن تقرأ قوانين العقل الأبدية المطبوعة في النفس بنظرة واحدة ، من غير تحضير ، كما تقرأ دون مكابدة وبحث قرار الحاكم ، المدون في سجله ، ولكن يكفيك أن تكشف عن وجودها في نفسك بقوة الانتباه ، وأن تهيء لك الحواس فرصة موافقة لذلك ) ...
قال :
( لقد استعملت لهذه الغاية تشبيهاً خاصاً ، وهو تشبيه النفس بحجر من المرمر ذي عروق ، لاتشبيهها بحجر من المرمر ذي تركيب واحد ، ولا بألواح فارغة ، أو بما يسميه الفلاسفة لوحة ، أو صفحة بيضاء ( Tabula rasa ) . لأنه لو كانت النفس شبيهة بهذه الألواح الفارغة ، لكانت نسبة الأوليات اليها كنسبة صورة ( هر كول ) إلى مرمر يقبل هذه الصورة أو غيرها . ولكن لو كان في الحجر عروق تصلح لصورة ( هر كول ) دون غيره ، لكان هذا الحجر أكثر استعداداً لها ، ولكانت صورة ( هر كول ) فطرية بالنسبة اليه . ولا يمكن الكشف عن هذه العروق ، أي لا يمكن تنظيف الحجر ، وشحذه ، وتجليته ، وحذف الزوائد التي فيه ، إلا بالتجربة والعمل .
المذهب العقلى
ان القول بفطرية المبادىء العقلية قديم جداً ، فقد كان السفسطائيون يقولون : ان للشخص المدرك تأثيراً عظيما في المعرفة ، ويستخرجون من ذلك مذهبا ريبياً ملخصاً في قول ( بروتاغوراس ) : ( الإنسان مقياس الأشياء ) . وكان ( سقراط ) يقول : ان الحقيقة فطرية في الإنسان ، وان الذي يريد أن يطلع عليها يكفيه أن يرجع إلى ذاته ، ويتأمل ما فيها من المبادىء ، فلا حاجة إذن إلى التعليم . لقد كانت وظيفة ( سقراط ) كوظيفة والدته القابلة ، كان يشهد مخاض العقول ، كما كانت والدته تشهد مخاض النساء . وكان منهجه منهج التوليد ( Maieutipue ) بالأسئلة التي كان يوجهها إلى مخاطبيه ، فيسوقهم بها إلى الكشف عن الحقيقة بأنفسهم ، أو إلى الاعتراف بأخطائهم .
وقد سار ( أفلاطون ) على غرار استاذه ( سقراط ( ففرق بين العالم المحسوس ، ن ، والعالم المعقول . قال : ان العالم المحسوس عالم الظواهر المتغيرة ، والوقائع المتبدلة . أما عالم المعقولات فهو عالم الجواهر الحقيقية ، عالم المثل الثابتة الخالدة ، التي هي مبدأ كل موجود ، و معقول . ولما كان لا علم إلا بالكليات ، كانت المعرفة العلمية الصحيحة هي العلم بالمثل لا بالمحسوسات . والنفس كما يقول ( أفلاطون ) في كتاب ( الفدر ) تنطوي بذاتها على هذه المعرفة ، لانها كانت قبل اتصالها بالعالم المحسوس موجودة في عالم المثال تسير مع وراء مركبة ( جوبتر ) . وكانت عالمة بكل شيء . فلما أهبطت إلى الجسد فقدت علمها القديم ، وظلت مع ذلك تتذكر من حين إلى آخر بعض ما كانت عليه من العلم . فالعلم إذن تذكر ، أي تذكر النفس لما كانت عالمة به من الحقائق الخالدة . وقد شرح ( أفلاطون ( هذه الاسطورة في كتاب ( المينون ( أيضاً ، فتخيل عبداً جاهلا بالهندسة يكشف بنفسه ، كيف يمكن إنشاء مربع مساو لضعف مربع معلوم . ان نجاح هذا العبد في طريقته دليل على أن العلم كامن في نفسه ، فالنفس لا تكتسب العلم إذن من العالم المحسوس ، بل تستخرجه من باطنها .
أما ( أرسطو ) فقد جعل نصيب التجربة في اكتساب المعرفة أعظم مما هو عليه عند ( أفلاطون ) و ( سقراط ) . فالمعقولات عنده ليس لها وجود مفارق ، ولكنها كما قال بعضهم ، داخلة في المحسوسات . وفوق العقل المنفعل ، الذي يقبل الصور ، عقل فاعل يجرد المعقول من المحسوس ، ويجعلنا نكشف بالحدس المبادىء الأولية التي لا يمكن البرهان عليها . إن هذا العقل الفاعل هو عند ( آرسطو ) عقل غير شخصي ، أو عقل كلي صادر عن العقل الالهي .
قال ( ارسطو ) : الإحساس ليس علماً ، لأنه لا يدرك إلا الفرد ، ولأن العلم لا يتناول إلا الكلي ( ١ ) ، ولكن الإحساس نقطة الابتداء الضرورية للعلم . ومن كان فاقد الإحساس اي لم يستطع أن يتعلم شيئا ، والنفس لا تفكر أبداً دون صور ، ومع ذلك فإن الصور المعقولة إذا وجدت داخل الصور المحسوسة ، كان وجودها فيها وجوداً ضمنياً ، أو وجود أبالقوة ، ونحن لا ننقل هذه الممكنات من القوة إلى الفعل ، ولا ندرك الماهيات العقلية بالحدس ، إلا بتأثير العقل الفاعل . وبعبارة ثانية : إن العقل المنفعل لنا مادة المعرفة ، أما العقل الفاعل فيصوغ لنا صورتها ( ۱ ) . أضف إلى ذلك أيضا أنه لا يمكن أن تكون المعرفة نظرية كلها ، لأننا لا نستطيع أن نبرهن على كل شيء . فكل برهان يستند إذن إلى أوليات لا يمكن البرهان عليها ، ولا تحتاج إلى برهان ( ٢ ) ، كمبدا عدم التناقض ، و مبدأ الملة الكافية ، والبديهيات الرياضية ، وفكرة العدد ، وفكرة الامتداد . ان الملكة التي ندرك بها هذه المبادىء ، هي العقل الفاعل ، وهي وحدها تصل الينا من خارج ، وهي وحدها إلهية . . .
وقد أخذ بعض الفلاسفة بهذه الآراء التي جاء بها الأولون ، ووفقوا بينها وبين مبادىء اللاهوت ، فمما قاله القديس ( أوغستينوس ) في المثل الأفلاطونية : ( ان المثل هيا الأولية ، والأسباب الثابتة التى لا تتغير ، وهي لم تتكون بإخراج من العدم إلى الوجود أبداً ، لأنها أبدية أزلية باقية في العقل الالهي المحيط بها » .
· وقد جعل ابن سينا اكتساب المعرفة راجعا إلى العقل والإحساس من جهة ، وإلى فيض المعقولات عن العقل الفعال من جهة اخرى ان الماهيات المنتزعة عن الأشياء المحسوسة ، لا تصبح مجردات عقلية ، الا اذا اتصلت النفس بالعقل الفعال بطريق الحدس والفكر ، لأن القوة النظرية لا تخرج من القوة الى الفعل الا بتأثير قوة موجودة بالفعل ، وهذه القوة هي العقل الفعال .
والقديس ( توما الأكويني ) أيضا لم يخرج على المبادىء التي وضعها ( أرسطو ) ، بل قلد المعلم الأول في التفريق بين العقل الممكن ) الذي بالقوة ) والعقل الفعال ( Intellectus agens ) ، فالعقل الفاعل يدرك المبادىء الاولى بالحدس ( جامع اللاهوت ) ( ۳ ) ، وهو نور طبيعي ، يفيض عن الله مباشرة ، كالإيمان والنعمة ، فينطبع في جوهر النفس بالفعل الالهي ، وقد اقتبس ( توما الاكويني ) من ( أفلاطون ) أيضاً رأيه في المثل ، فقال : ان المثل تفيض لا محالة عن الاله ، وإنها من حيث هي علل مثالية لجميع الأشياء ، قائمة في العقل الالهي .
فأنت تجد أن فلاسفة القرون الوسطى لم يخالفوا آراء الأولين في منشأ المباديء ، بل زعموا أنها مطبوعة على جوهر النفس بطابع إلهي .
وإذا فحصنا الآن عن آراء ( ديكارت ) وجدناها أيضا قريبة من الآراء السابقة ، لأن العقل عنده قادر بذاته على إدراك ماهيات الأشياء ، وهو يسمي . هذه الماهيات بالجواهر الصحيحة الثابتة .
ويتضح لنا من مطالعة كتاب التأملات ( Méditations ) أن تصور هذه الجواهر الصحيحة الثابتة فطري في الإنسان ، لذلك فرق ( ديكارت ) في هذا الكتاب بين المعاني الفطرية ( Ideas innées ) ، و المعاني المصطنعة ( Ides factices ) المتولدة من الخيال ، والمعاني العارضة ( ldies adventices ) المتولدة من الإحساس . وقد بين لنا أكثر المحققين أن للمعاني الفطرية عنده شأناً عظيماً ، حتى انها لتغني عن المعاني العارضة وتنوب عنها . فالفكر يطبق المعاني الفطرية في عالم التجربة ، ويستخرج منه المعاني العارضة الموافقة للظروف والفرص . ولا تأثير للأشياء المحسوسة في تكوين الأفكار . إن تأثيراً كهذا غير معقول في مذهب ( ديكارت ) ، لأن هذا المذهب يميل إلى الاستغناء عن التجربة ، فما قاله ( ديكارت ) : إن المحسوسات لا ترسل الينا ، بواسطة الحواس ، شيئاً من المعاني التي تدل عليها ، بل تهيء لملكاتنا الفطرية فرصة موافقة لتكوين هذه المعاني في وقت دون آخر ، فالنفس تشتمل إذن على مادة الإحساس . أما التجربة فتعلمنا كيف نجزىء هذه المادة ، ونفصلها في ضوء العقل .
الفطرية عند ( ديكارت ) .
- إن اصطلاح المعاني الفطرية قد . أضل الكثيرين من شارحي مذهب ( ديكارت ) ، فظنوا أنه يقول بوجود معان واضحة ، معينة ، قائمة في النفس ، منذ الولادة ، موجودة فيها قبل اتصالها بالعالم المحسوس . ولكن ( ديكارت ) بخلاف هذا الرأي ، قال : أقول ان هذه المعاني فطرية كما يقولون ، إن الكرم فطري في بعض الاسر ، وان النقرس ، والحصاة ، فطريان في بعضها الآخر ، فليس معنی ذلك أن الأطفال يصابون بهذه الأمراض اضطراراً ، وهم في الأرحام ، ولكن معناه أنهم يولدون وفيهم استعداد ، أو قابلية للوقوع فيها .
اعتراض لوك .
- ولكن هذا التحديد لم يقطع مظان الاشتباه ، ولم يمنع المخالفين من الدخول في الاعتراض على ( ديكارت ( دخول منكر ، فقال ( لوك ) في كتابه ( Essai sur I'entendement humain ) الذي ألفه للرد على نظرية المعاني الفطرية : إن الأطفال ، والمتوحشين ، والبله ، لا يدركون المبادى ، الأولية ، ولا يفهمون الحقائق البديهية ، ولو كانت الأوليات فطرية فيهم لفهموها دون عناء . إذن ليس في النفس فكرة فطرية واحدة ، لأنها لو كانت فطرية لما جهلها إنسان قط ، ونحن نجد أن كثيراً من الفكر الفطرية المزعومة معلومة عند قسم من الناس ، ومجهولة عند الآخرين ، فكيف تكون فطرية وفي الناس من يجهلها . ان فكرة الاله مثلا : ليست فطرية ، لأن هناك شعوباً لا تدرك هذه الفكرة . ولو كانت عقول الناس واحدة ، لما اختلفت الأنظار ، وتباينت الآراء في كثير من المسائل ، كما هي عليه الآن منذ عصور طويلة . وقصارى القول : أن أحسن دليل على ضرورة الشك في نظرية المعاني الفطرية استغناء علم النفس الحديث عنها ، وحرصه على إرجاع جميع المعاني إلى تأثير الإحساس ، والتجربة .
( شکل ٤٨ )
دیکارت - ( ١٥٩٦ - ١٦٥٠ )
كان ديكارت : قصير القامة ، كبير الرأس ، عريض الجبهة ، عظيم الأنف ، تظهر على وجهه علامات القسوة ، والتأمل ، والكبرياء .
اعتراض ليبنز .
- ولكن ( لوك ) لم يفلح تماماً في طريقته هذه ، فانبرى ( ليبنز ) للرد عليه في كتاب سماه محاولات جديدة في الذهن البشري Nonveaux Essais sur Tentendement humain ) فندفيه المسائل التي ذكرها ( لوك ) واحدة واحدة ، وأضاف إلى علم النفس فكرة جديدة ، وهي فكرة اللاشعور . قال : اننا كثيراً ما ندرك الموضوعات الخارجية من غير أن نفهمها ، أي ندركها إدراكاً غامضاً غير مصحوب بشعور واضح . فالأوليات العقلية التي لا يفهمها الطفل ، والإنسان الابتدائي ، موجودة في نفسيهما بالقوة ، أي بصورة مضمرة ، ولا تنتقل من القوة إلى الفعل أي من حالة الإدراك الغامض ، إلى حالة الفهم الصريح الواضح ، إلا بتأثير التجربة . ان أجهل الناس يربط الحوادث المتتابعة بعضها ببعض ، ويعلل أفعال الناس بإراداتهم ، وأغراضهم ، فهو إذن يطبق من غير أن يدري مبدأ العلة الكافية .
قال ( ليبنز ) : « لا تظنن أنه يمكنك أن تقرأ قوانين العقل الأبدية المطبوعة في النفس بنظرة واحدة ، من غير تحضير ، كما تقرأ دون مكابدة وبحث قرار الحاكم ، المدون في سجله ، ولكن يكفيك أن تكشف عن وجودها في نفسك بقوة الانتباه ، وأن تهيء لك الحواس فرصة موافقة لذلك ) ...
قال :
( لقد استعملت لهذه الغاية تشبيهاً خاصاً ، وهو تشبيه النفس بحجر من المرمر ذي عروق ، لاتشبيهها بحجر من المرمر ذي تركيب واحد ، ولا بألواح فارغة ، أو بما يسميه الفلاسفة لوحة ، أو صفحة بيضاء ( Tabula rasa ) . لأنه لو كانت النفس شبيهة بهذه الألواح الفارغة ، لكانت نسبة الأوليات اليها كنسبة صورة ( هر كول ) إلى مرمر يقبل هذه الصورة أو غيرها . ولكن لو كان في الحجر عروق تصلح لصورة ( هر كول ) دون غيره ، لكان هذا الحجر أكثر استعداداً لها ، ولكانت صورة ( هر كول ) فطرية بالنسبة اليه . ولا يمكن الكشف عن هذه العروق ، أي لا يمكن تنظيف الحجر ، وشحذه ، وتجليته ، وحذف الزوائد التي فيه ، إلا بالتجربة والعمل .
تعليق