ما هي العوامل المقومة للاستدلال .. الاسْتِدْلال
ما هي العوامل المقومة للاستدلال
الاستدلال تابع لثلاثة أنواع من العوامل ، وهي : العوامل الحيوية ، والعوامل الاجتماعية والعوامل النفسية :
١ - العوامل الحيوية والتجريب الذهني .
آ - يرى بعض العلماء أن العمل أبسط صور الاستدلال .
قال ( ريبو ) : ان ابن ( بريه ر )كان لا يستطيع في الشهر السابع عشر من سنه أن يلفظ كلمة واحدة ، ولكنه كان ، إذا عجز عن الوصول إلى دمية موضوعة في خزانة عالية ، يلقي نظره ذات اليمين وذات اليسار باحثاً عن شيء يقف عليه ، حتى إذا وجد صندوقاً أخذه وصعد فوقه ووصل إلى ما يشتهي ويريد . فإذا حللنا هذا الحادث ، وغيره من الحوادث المشابهة له وجدنا بينه وبين الاستدلال الذي تشتمل عليه الحجج العقلية مطابقة تامة . ان جميع هذه الاستدلالات من طبيعة واحدة ، لأن الأمر يرجع في كلا الحالين إلى الانتقال من حد إلى آخر ، بطريق الحد الأوسط .
ب - ويرى آخرون أن مرتبة الاستدلال ، دون مرتبة العمل .
فما قاله ( هنري برغسون ) : ان عملنا المادي يشتمل على هندسة طبيعية . وضوحاً وبداهة من كل استنتاج آخر . ومما قاله أيضاً ، أن هذه الهندسة المضمرة تنقلب فيما بعد إلى منطق ، فالاستنتاج عمل فكري منظم وفقاً لمفاصل المادة ، كما أن الاستقراء نفسه يقتضي تجزىء الحقائق المحوسة ، والخروج من الزمان .
ج - وقد استمد أصحاب هذا التأويل الحيوي بعض آرائهم مما قاله ( ماخ ) عن التجربة الذهنية ( Experience Mentale ) ، وأعني بالتجربة الذهنية طريقة تتخيل بها ما تريد تجريبه ، وتتصوره تصوراً ذهنياً قبل أن تنفذه تنفيذاً مادياً . وقد طبق ( غويلو ) هذه الطريقة في الاستنتاج الرياضي ، وطبقها رينيانو ) Rignano ) في جميع أشكال الاستدلال . فمما قاله ( رينيانو ) : ان كل استدلال ، مهما يكن نوعه ، ليس سوى تجربة ذهنية .
وهذه التجربة الذهنية لا تتم إلا بمعونة الانتباه ، ولما كان الانتباه خاضعا كما بينا سابقاً لله وامل الانفعالية . ، كان الاستدلال ، من أوائله البسيطة ، إلى صوره العالية ، مبنياً على أساس انفعالي . وهذا يدل أيضاً على أنه مظهر من مظاهر غائية الحياة ، لا بل هو أكثر هذه المظاهر تعقداً ، وأعلاها منزلة .
المناقشة . - لا جرم أن الفاعلية الحركية تهيء الاستدلالال ، ولا خلاف في أن الاستدلال لا يتم إلا بإنشاء المعاني الكلية ، وتجريدها من المحسوسات . إلا أن الفاعلية الحركية وحدها لا تولد إلا العادة ، وبين العادة وتصور المعاني الكلية كما ذكرنا سابقاً مسافة شاسعة .
فلا يعقل إذن أن تكون الفاعلية المنطقية صورة من صور الفاعلية الحركية الوطيئة . نعم أن هناك كما ذكر ( جانه ) استدلالات آلية لا يلتفت فيها العقل إلى الحقائق الخارجية يهتم بانطباقها على الواقع ، بل يرددها كالآلة ، فتتابع كما تتتابع الأحلام في النوم ، أو تتردد كما تتردد الألفاظ في الببغائية ، إلا أن هذه الأحوال ليست عامة ، لأن هناك إلى جانب الاستدلالات الآلية حججاً عقلية لا تنحل تماماً إلى العوامل الحيوية . لـــــد دات تجارب ( بياجه ) ( ۱ ) بصورة لا تقبل الرد على أن منطق العمل ، دون منطق الفكر ، وان من الأول إلى الثاني يستلزم الخروج من افق العمل المادي ، إلى افق العمل الذهني ، والطفل كما بين ( رينيانو ( لا يستطيع الخروج من الافق الأول ، لأنه شبيه بتلك القروية التي كانت مدينة لأحد الناس باثنتي عشرة ليرة ، وكان هو نفسه مديناً لها . ليرات ، بسبع فلما أرادت أن تفي ما عليها من الدين ، أعطته اثنتي عشرة ليرة ، وقالت له خذها واعطني سبع ليرات . فالقروية لم تدرك أنه يمكنها وفاء دينها بطرح ٧ من ١٢ وإعطاء الرجل خمس ليرات لا غير ، لهذا أعطته ۱۲ ليرة ليرجع اليها منها سبعاً .
أما فكرة التجربة الذهنية فهى فكره غامضة ؛ قال ( بياجه ) : إن قوة الاستدلال عند الطفل ، وهو بين السابعة والثامنة من سنه ، مطابقة تماماً للتجربة الذهنية التي ذكرها ( ماخ ) : ولا : ولكن هذا التجريب الذهني الأولي ليس استدلالاً عقليا ، لأنه لا يستخرج لنا من مشاهدة الحوادث نتيجة لازمة ، ولا تصبح نتائجه ضرورية عندنا ، بالمعنى المنطقي ، إلا إذا فرقنا عناصر التجربة الخارجية بعضها عن بعض ، وأنشأنا منها حقيقة معقولة بسيطة ، وأعني بتفريق عناصر التجربة بعضها عن بعض ، إيجاد معان كلية مجردة ، تتألف منها الاستدلالات المنتجة ، فإذا لم يتم هذا التفريق كان الاستدلال تكراراً ذهنياً للحوادث ، كما هي في الطبيعة . فمن الضروري إذن أن نفرق بين هذا التجريب الذهني ، والتجريب المنطقي المعقول ، الذي يصل اليه الطفل في السنة الحادية عشرة ، أو الثالثة عشرة من سنه .
ان التجريب المنطقي يقتضي علم الإنسان بعملياته الذهنية من حيث . لذاتها عمليات هي ذهنية ، لا من حيث هي : تكرار لصور الحوادث كما تجري في الطبيعة ، وهو يقتضي أيضاً عدم الوقوع في التناقض ، والتقيد بالارتباط المنطقي ، في تسلسل المعاني . فهو إذن تجريب المدرك لذاته ، من حيث هي ذات مفكرة .
٢ - العوامل الاجتماعية ، والحاجة إلى البرهان .
- ولنبين أيضاً أن احتياز الشعور ( prise de Conscience ) و انتقال النفس من مستوى العمل ، إلى مستوى الاستدلالال تابعان للعوامل الاجتماعية ، فقدر أينا سابقاً كيف تولدت الحاجة إلى البرهان من الحاجة إلى الحوار و المناقشة ، ونقول الآن مع الدكتور ( جانه ) : « ان في الاستدلال المنطقي مناقشة نحاسب بها أنفسنا » . وأحسن دليل على ذلك : أننا قد نفهم أمراً من الامور ونعتقده صحيحاً ، فإذا احتجنا إلى إيضاحه للآخرين شعرنا بنقص في تفهمنا إياه ، وأدركنا ما يحيط به من الشبهات التي كانت خافية علينا قبل اضطرارنا إلى إيضاحه ومناقشته . وقد قال ( بياجه ) : كثيراً ما يظهر لنا بعد هذه المناقشات أن النتيجة التي كنا نظنها صحيحة ليست بصحيحة ، وأنه ينقصها بين عبارة واخرى ، جملة من الحلقات المتوسطة التي كنا غير شاعرين بفقدانها ، وان الاستدلال الذي حسبناه صحيحاً لاستناده إلى خيال حسي ، أو تمثيلي ، يصبح غير معقول عند قيامنا باسترجاع هذا الخيال الحسي إلى الذهن وشعورنا بعدم اشتراك الآخرين معنا في فهمه . اننا نشك في كل حكم . أحكام القيم المجرد علمنا ان هذا الحكم حكم شخصي .
ونضيف إلى ما تقدم أن التفكير المنطقي يقتضي الاستعداد للتفكير الصوري أي يقتضي تفكيراً مبنياً على تصور العلائق المحضة الكائنة بين المعاني . مثال ذلك : أن الاستنتاج يقتضي التقيد بمبادىء ( كمقدمات القياس ، وتعريفات الرياضيات ، وبديهياتها ) يتقبلها العقل بقبول شرطي من غير أن يهتم بصدقها ، أو كذبها من الوجهة الخارجية ، ثم يتخرج العقل من هذه المبادىء نتائج لازمة عنها ، وتكون هذه النتائج شرطية أيضاً ، لأنها لا تصح الا اذا صحت المبادىء . والتجربة تدلنا على أن الطفل ليس أهلا لهذا التفكير الصوري ، لأنه كما ذكرنا يهتم بالمنفعة المباشرة ، ويركز كل شيء في ذاته . فإذا أراد الإنسان أن يفكر تفكيراً صورياً مجرداً ، وجب عليه أن يخرج من ذاته ، ويتحرر من مصالحه الشخصية الضيقة ؛ ويضع نفسه في موضع الآخرين ، لأن التفكير المنطقي يقتضي كما قال ( بياجه ) ان ينظر الإنسان الى الأشياء بعين غيره ( ۱ ) . وهذا الخروج من الذات ، والترفع عن المنفعة ، والارتقاء الى افق أعلى من افق الحياة الشخصية ، كل ذلك لا يتم الا بتأثير الحياة الاجتماعية .
٣ - العوامل النفسية المحضة وفاعلية التركيب في الاستدلال .
- ان هذه العوامل التي قدمناها ، لا تكفي لإيضاح الاستدلال ايضاحاً كافياً ، بل تجعل فاعلية التحليل التي يتضمنها الاستدلال فاعلية ممكنة لا غير . لقد ذكرنا في أول هذا الفصل أن الاستدلال تحليل . وبينا أن الغرض من هذا التحليل استخراج المعاني الكلية من معطيات الحس . قال ( ويليم جيمس ) : ان القدرة على الاستدلال ، ترجع الى القدرة على التجريد . ولكن هذا التجريد ليس تجريداً لمحمولات أيا كان نوعها ، وانما هو تجريد محمولات يلزم عنها نتيجة لا تسوق اليها المحمولات الأخرى ، وهذا التجريد يحتاج الى دقة وحذق . ( ۲ ) وفطانة عظيمة .
ولكن الاستدلال ليس تحليلا فقط ، وانما هو تركيب أيضاً . وما ذكرناه بهذا الصدد في مبحث الحكم ينطبق تماماً على الاستدلال . ان الرابط المنطقي بين حدود الاستدلال لا يظهر بوضوح ، الا اذا كانت حلقات البرهان كلها حاضرة في الذهن ، ولا يبلغ غايته الا اذا كانت المعاني الحاضرة في الذهن معرفة محددة على صورة واحدة ، من أول الاستدلال الى آخره وينبغي لذلك أيضاً أن تكون حلقات البرهان ذات وحدة عضوية لا أن تكون مرصوفة بعضها الى جانب بعض من غير رابط يجمع بينها . ان وحدة حلقات البرهان تدل على وحدة التفكير .
والطفل لا يتصف بهذه القدرة على التركيب ، ولا يشعر بالتناقض ، ولا يدرك هذه الفاعلية التركيبية الا بعد الحادية عشرة من سنه . كلما كمل عقل الإنسان نمت فيه فاعلية التركيب وعظم شأنها . وسنرى في الفصل التالي : أن الرابط المنطقي بين حدود البرهان يقتضي تقيد الذهن ببعض المبادىء . والمبادىء موازين العقل ، ودعائمه ، وقواعده التي تؤيد عراه ، وتثبت أحكامه .
ما هي العوامل المقومة للاستدلال
الاستدلال تابع لثلاثة أنواع من العوامل ، وهي : العوامل الحيوية ، والعوامل الاجتماعية والعوامل النفسية :
١ - العوامل الحيوية والتجريب الذهني .
آ - يرى بعض العلماء أن العمل أبسط صور الاستدلال .
قال ( ريبو ) : ان ابن ( بريه ر )كان لا يستطيع في الشهر السابع عشر من سنه أن يلفظ كلمة واحدة ، ولكنه كان ، إذا عجز عن الوصول إلى دمية موضوعة في خزانة عالية ، يلقي نظره ذات اليمين وذات اليسار باحثاً عن شيء يقف عليه ، حتى إذا وجد صندوقاً أخذه وصعد فوقه ووصل إلى ما يشتهي ويريد . فإذا حللنا هذا الحادث ، وغيره من الحوادث المشابهة له وجدنا بينه وبين الاستدلال الذي تشتمل عليه الحجج العقلية مطابقة تامة . ان جميع هذه الاستدلالات من طبيعة واحدة ، لأن الأمر يرجع في كلا الحالين إلى الانتقال من حد إلى آخر ، بطريق الحد الأوسط .
ب - ويرى آخرون أن مرتبة الاستدلال ، دون مرتبة العمل .
فما قاله ( هنري برغسون ) : ان عملنا المادي يشتمل على هندسة طبيعية . وضوحاً وبداهة من كل استنتاج آخر . ومما قاله أيضاً ، أن هذه الهندسة المضمرة تنقلب فيما بعد إلى منطق ، فالاستنتاج عمل فكري منظم وفقاً لمفاصل المادة ، كما أن الاستقراء نفسه يقتضي تجزىء الحقائق المحوسة ، والخروج من الزمان .
ج - وقد استمد أصحاب هذا التأويل الحيوي بعض آرائهم مما قاله ( ماخ ) عن التجربة الذهنية ( Experience Mentale ) ، وأعني بالتجربة الذهنية طريقة تتخيل بها ما تريد تجريبه ، وتتصوره تصوراً ذهنياً قبل أن تنفذه تنفيذاً مادياً . وقد طبق ( غويلو ) هذه الطريقة في الاستنتاج الرياضي ، وطبقها رينيانو ) Rignano ) في جميع أشكال الاستدلال . فمما قاله ( رينيانو ) : ان كل استدلال ، مهما يكن نوعه ، ليس سوى تجربة ذهنية .
وهذه التجربة الذهنية لا تتم إلا بمعونة الانتباه ، ولما كان الانتباه خاضعا كما بينا سابقاً لله وامل الانفعالية . ، كان الاستدلال ، من أوائله البسيطة ، إلى صوره العالية ، مبنياً على أساس انفعالي . وهذا يدل أيضاً على أنه مظهر من مظاهر غائية الحياة ، لا بل هو أكثر هذه المظاهر تعقداً ، وأعلاها منزلة .
المناقشة . - لا جرم أن الفاعلية الحركية تهيء الاستدلالال ، ولا خلاف في أن الاستدلال لا يتم إلا بإنشاء المعاني الكلية ، وتجريدها من المحسوسات . إلا أن الفاعلية الحركية وحدها لا تولد إلا العادة ، وبين العادة وتصور المعاني الكلية كما ذكرنا سابقاً مسافة شاسعة .
فلا يعقل إذن أن تكون الفاعلية المنطقية صورة من صور الفاعلية الحركية الوطيئة . نعم أن هناك كما ذكر ( جانه ) استدلالات آلية لا يلتفت فيها العقل إلى الحقائق الخارجية يهتم بانطباقها على الواقع ، بل يرددها كالآلة ، فتتابع كما تتتابع الأحلام في النوم ، أو تتردد كما تتردد الألفاظ في الببغائية ، إلا أن هذه الأحوال ليست عامة ، لأن هناك إلى جانب الاستدلالات الآلية حججاً عقلية لا تنحل تماماً إلى العوامل الحيوية . لـــــد دات تجارب ( بياجه ) ( ۱ ) بصورة لا تقبل الرد على أن منطق العمل ، دون منطق الفكر ، وان من الأول إلى الثاني يستلزم الخروج من افق العمل المادي ، إلى افق العمل الذهني ، والطفل كما بين ( رينيانو ( لا يستطيع الخروج من الافق الأول ، لأنه شبيه بتلك القروية التي كانت مدينة لأحد الناس باثنتي عشرة ليرة ، وكان هو نفسه مديناً لها . ليرات ، بسبع فلما أرادت أن تفي ما عليها من الدين ، أعطته اثنتي عشرة ليرة ، وقالت له خذها واعطني سبع ليرات . فالقروية لم تدرك أنه يمكنها وفاء دينها بطرح ٧ من ١٢ وإعطاء الرجل خمس ليرات لا غير ، لهذا أعطته ۱۲ ليرة ليرجع اليها منها سبعاً .
أما فكرة التجربة الذهنية فهى فكره غامضة ؛ قال ( بياجه ) : إن قوة الاستدلال عند الطفل ، وهو بين السابعة والثامنة من سنه ، مطابقة تماماً للتجربة الذهنية التي ذكرها ( ماخ ) : ولا : ولكن هذا التجريب الذهني الأولي ليس استدلالاً عقليا ، لأنه لا يستخرج لنا من مشاهدة الحوادث نتيجة لازمة ، ولا تصبح نتائجه ضرورية عندنا ، بالمعنى المنطقي ، إلا إذا فرقنا عناصر التجربة الخارجية بعضها عن بعض ، وأنشأنا منها حقيقة معقولة بسيطة ، وأعني بتفريق عناصر التجربة بعضها عن بعض ، إيجاد معان كلية مجردة ، تتألف منها الاستدلالات المنتجة ، فإذا لم يتم هذا التفريق كان الاستدلال تكراراً ذهنياً للحوادث ، كما هي في الطبيعة . فمن الضروري إذن أن نفرق بين هذا التجريب الذهني ، والتجريب المنطقي المعقول ، الذي يصل اليه الطفل في السنة الحادية عشرة ، أو الثالثة عشرة من سنه .
ان التجريب المنطقي يقتضي علم الإنسان بعملياته الذهنية من حيث . لذاتها عمليات هي ذهنية ، لا من حيث هي : تكرار لصور الحوادث كما تجري في الطبيعة ، وهو يقتضي أيضاً عدم الوقوع في التناقض ، والتقيد بالارتباط المنطقي ، في تسلسل المعاني . فهو إذن تجريب المدرك لذاته ، من حيث هي ذات مفكرة .
٢ - العوامل الاجتماعية ، والحاجة إلى البرهان .
- ولنبين أيضاً أن احتياز الشعور ( prise de Conscience ) و انتقال النفس من مستوى العمل ، إلى مستوى الاستدلالال تابعان للعوامل الاجتماعية ، فقدر أينا سابقاً كيف تولدت الحاجة إلى البرهان من الحاجة إلى الحوار و المناقشة ، ونقول الآن مع الدكتور ( جانه ) : « ان في الاستدلال المنطقي مناقشة نحاسب بها أنفسنا » . وأحسن دليل على ذلك : أننا قد نفهم أمراً من الامور ونعتقده صحيحاً ، فإذا احتجنا إلى إيضاحه للآخرين شعرنا بنقص في تفهمنا إياه ، وأدركنا ما يحيط به من الشبهات التي كانت خافية علينا قبل اضطرارنا إلى إيضاحه ومناقشته . وقد قال ( بياجه ) : كثيراً ما يظهر لنا بعد هذه المناقشات أن النتيجة التي كنا نظنها صحيحة ليست بصحيحة ، وأنه ينقصها بين عبارة واخرى ، جملة من الحلقات المتوسطة التي كنا غير شاعرين بفقدانها ، وان الاستدلال الذي حسبناه صحيحاً لاستناده إلى خيال حسي ، أو تمثيلي ، يصبح غير معقول عند قيامنا باسترجاع هذا الخيال الحسي إلى الذهن وشعورنا بعدم اشتراك الآخرين معنا في فهمه . اننا نشك في كل حكم . أحكام القيم المجرد علمنا ان هذا الحكم حكم شخصي .
ونضيف إلى ما تقدم أن التفكير المنطقي يقتضي الاستعداد للتفكير الصوري أي يقتضي تفكيراً مبنياً على تصور العلائق المحضة الكائنة بين المعاني . مثال ذلك : أن الاستنتاج يقتضي التقيد بمبادىء ( كمقدمات القياس ، وتعريفات الرياضيات ، وبديهياتها ) يتقبلها العقل بقبول شرطي من غير أن يهتم بصدقها ، أو كذبها من الوجهة الخارجية ، ثم يتخرج العقل من هذه المبادىء نتائج لازمة عنها ، وتكون هذه النتائج شرطية أيضاً ، لأنها لا تصح الا اذا صحت المبادىء . والتجربة تدلنا على أن الطفل ليس أهلا لهذا التفكير الصوري ، لأنه كما ذكرنا يهتم بالمنفعة المباشرة ، ويركز كل شيء في ذاته . فإذا أراد الإنسان أن يفكر تفكيراً صورياً مجرداً ، وجب عليه أن يخرج من ذاته ، ويتحرر من مصالحه الشخصية الضيقة ؛ ويضع نفسه في موضع الآخرين ، لأن التفكير المنطقي يقتضي كما قال ( بياجه ) ان ينظر الإنسان الى الأشياء بعين غيره ( ۱ ) . وهذا الخروج من الذات ، والترفع عن المنفعة ، والارتقاء الى افق أعلى من افق الحياة الشخصية ، كل ذلك لا يتم الا بتأثير الحياة الاجتماعية .
٣ - العوامل النفسية المحضة وفاعلية التركيب في الاستدلال .
- ان هذه العوامل التي قدمناها ، لا تكفي لإيضاح الاستدلال ايضاحاً كافياً ، بل تجعل فاعلية التحليل التي يتضمنها الاستدلال فاعلية ممكنة لا غير . لقد ذكرنا في أول هذا الفصل أن الاستدلال تحليل . وبينا أن الغرض من هذا التحليل استخراج المعاني الكلية من معطيات الحس . قال ( ويليم جيمس ) : ان القدرة على الاستدلال ، ترجع الى القدرة على التجريد . ولكن هذا التجريد ليس تجريداً لمحمولات أيا كان نوعها ، وانما هو تجريد محمولات يلزم عنها نتيجة لا تسوق اليها المحمولات الأخرى ، وهذا التجريد يحتاج الى دقة وحذق . ( ۲ ) وفطانة عظيمة .
ولكن الاستدلال ليس تحليلا فقط ، وانما هو تركيب أيضاً . وما ذكرناه بهذا الصدد في مبحث الحكم ينطبق تماماً على الاستدلال . ان الرابط المنطقي بين حدود الاستدلال لا يظهر بوضوح ، الا اذا كانت حلقات البرهان كلها حاضرة في الذهن ، ولا يبلغ غايته الا اذا كانت المعاني الحاضرة في الذهن معرفة محددة على صورة واحدة ، من أول الاستدلال الى آخره وينبغي لذلك أيضاً أن تكون حلقات البرهان ذات وحدة عضوية لا أن تكون مرصوفة بعضها الى جانب بعض من غير رابط يجمع بينها . ان وحدة حلقات البرهان تدل على وحدة التفكير .
والطفل لا يتصف بهذه القدرة على التركيب ، ولا يشعر بالتناقض ، ولا يدرك هذه الفاعلية التركيبية الا بعد الحادية عشرة من سنه . كلما كمل عقل الإنسان نمت فيه فاعلية التركيب وعظم شأنها . وسنرى في الفصل التالي : أن الرابط المنطقي بين حدود البرهان يقتضي تقيد الذهن ببعض المبادىء . والمبادىء موازين العقل ، ودعائمه ، وقواعده التي تؤيد عراه ، وتثبت أحكامه .
تعليق