تكوّن الاعتقاد .. الحُكْم
تكون الاعتقاد
كان القدامى من علماء النفس يظنون أن قوة التصديق ملكة أولية ، أو حالة بسيطة أحوال الشعور المباشر . وهذا الخطأ الذي وقعوا فيه ناشيء عن بحثهم في التصديق من الوجهة المنطقية ، لا من الوجهة النفسية ، وعن نظرهم في الحكم العقلي التام في تطوره ، وتكونه . ونحن إذا حللنا الآن تكون الحكم ، وتكامله بتكامل المدارك البشرية ، أدركنا أن هناك حالتين لابد للعقل البشري من المرور بهما في تكوين معتقداته :
۱ - فالحالة الاولى : هي حالة التصديق الضمني ، أو الحالة المتقدمة على ظهـــــور الروح الانتقادية .
٢ - والحالة الثانية : هي حالة التصديق الصريح الظاهر ، أو الحالة الانتقادية .
ولنبحث في كل من هاتين الحالتين على حدة :
۱ - حالة التصديق الضمني . - ان الميل إلى الاعتقاد طبيعي في الإنسان ، وهو ينمو بنمو الفاعلية ، وكثيراً ما نعتقد بعض الأشياء من غير أن تكون مستندة إلى سبب معقول ، بل كثيراً ما نرسخ هذه الاعتقادات في نفوسنا رغم الأسباب الباعثة على ردها . وقد سمى ) رينو فيه Renonvier ) هذه الحالة بضلال العقل ( Vertige mentale ) أو ضياع الرشد ، وسماها ( بين Bain ) سرعة التصديق الأولية ( ٢ ) ، وهي حالة يكون التصديق فيها غير مختلف عن التصور ، بل يكون مضمراً فيه غير مفارق له .
مثال ذلك : أن الرجل الابتدائي لا يتصور . شيئا . من الأشياء إلا متبوعاً بالتصديق . قال أحد علماء الأقوام يصف سكان ) لو انجو Loango ) : ( انحبس المطر ، ويبس الزرع بعد خروج المبشرين الكاثوليكيين من مراكبهم إلى الأرض . فاعتقد السكان أن هذا الأمر ناشيء عن هؤلاء الكهنة ، وخصوصاً عن أثوابهم الطويلة ، لأنهم لم يروا إلى ذلك العهد ألبسة مثلها . وقد تتولد شكوكهم من معطف مطاط لامع ، أو من قبعة غريبة ، أو من كرسي هزاز ، أو من آلة . فإذا حدث ما يكدرهم عزوه حالاً إلى ما طرأ عليهم الأشياء الغريبة ( ٣ ) .
وكذلك الطفل ، فهو سريع التصديق ، لأنه متجمع المدارك العقلية حول ذاته . ( ego - Centrique ) لا يستطيع أن يدرك الاشياء إلا من وجهة نظره الذاتية ( ٤ ) ولا أن يراقب أحكامه ، ويجردها من طابع المنفعة المباشرة ، وتسمى هذه الحالة بمركزية الذات .
والأمراض العقلية كثيراً ما تعيد الإنسان إلى هذه الحالة الفكرية الأولى . قال ( بیرجانه - Pierre Janet ) : ( ان تحت درجة التأمل صورة أولية للاعتقاد ، موجودة في عقل الإنسان الابتدائي ، تتألف منها وحدها فاعلية الإرادة عند ضعفاء العقول ... لقد وصفت بعض هؤلاء الضعفاء فرأيت أنهم يصدقون كل مستحيل ، ويثبتون ، أو ينفون كل شيء بحسب الدوافع الموقتة ، من غير أن يهتموا بالتناقض . فالاعتقاد عندهم تصديق مباشر لا أثر للتأمل فيه ( ١ ) .
وكثيراً ما تهبط الحالة الفكرية العامة ، فى البيئة الاجتماعية إلى هذه الدرجة من الركود بتأثير الاضطرابات ، أو الحروب .
قال الدكتور لويس ( ٢ ) : و لما وقع حصار باريز في عام ۱۸۷۰ كان اتهام أي شخص سائر في الطريق بالجاسوسية ، كافياً لتجمع الناس حوله ، واتهامهم إياه من غير بينة . أو إيقاعهم به .
ان فساد الحياة الاجتماعية يزيد سوء الظن ، ويقوي الميل إلى التأويل ، ويقلب الاعتقاد التأملي إلى اعتقاد تلقائي مجرد عن الرابط الانتقادي .
٢ - حالة التصديق الصريح الظاهر او الحالة الانتقادية
- قال ( ديكارت ) : « ان الفعل الفكري الذي يجعلنا نعتقد أمراً من الامور ، مختلف عن الفعل الذي به نعرف اننا نعتقد هذا الأمر ( ۳ ) . أي أن الاعتقاد شيء ، ومعرفة الاعتقاد شيء آخر . وهذا العلم ، أو هذا ، هو الذي يقوم الحقيقي التام ، ويميزه من سرعـ عة التصديق التلقائية التجلي التي وصفناها .
آ - القدرة على النفي . - ولا تتم هذه المعرفة للنفس إلا بعد أن يتصور الذهن فرضية مضادة للأمر المراد تصديقه . ان القدرة على الإثبات ، تقتضي وجود القدرة على النفي . قال ( بياجه ) ( ۱ ) : ولا يصبح التصديق شعورياً إلا حينما يتزعزع الاعتقاد الضمني » . هكذا كان التفكير قبل ( سقراط ) . انك لا تجد فيه تصديقاً غير مسبوق بنفي . وهذا صحيح بالنسبة إلى صور التفكير الاولى ، كما هو صحيح أيضاً بالنسبة إلى أعلى صور التفكير الفلسفي . فلا اعتقاد - وأقصد بالاعتقاد هنا الاعتقاد المصحوب بالمعرفة ، والشعور ، والتأمل ، لا الاعتقاد التلقائي - إلا إذا تقدم الشك على التصديق ، وإلا إذا تقبلنا الشيء في البدء بقبول موقت ، كأنه فرضية خاضعة للتحقيق ، لا حقيقة نهائية مسلم بها دون تشكيك ان الوصول إلى الاعتقاد و اليقين ، لا يكون إلا بالتشكك ، وهذا التشكك مبدأ الروح الانتقادية ، وأساس العلم . وسنبين في المنطق أن التفكير العلمي مبني على هذه الطريقة ، لأن العالم لا يكشف الحقائق ، إلا بطريق الفرضيات الموقتة التي يقلبها ، بعد التحقيق التجريبي ، إلى قوانين علمية ثابتة .
ب - الشرائط الاجتماعية لتجلي الشعور . - من أين تتولد هذه القدرة على النفي ، وكيف تنبجس في العقل روح ا الشك ك المهجي ؟ ان لتجلي الشعور شرائط حيوية . منها أن الشعور يتولد من الحاجة ، وعدم التكيف ، ومنها أن الشعور لا يتجلى إلا عند مصادمة العوائق ، حق لقد قال ( دولاكروا ) : نحن لا نفكر إلا عندما نصادف عائقاً ( ٢ ) . ولكن هذه الشرائط الحيوية لا تكفي لإيضاح تجلي الشعور ، لأن عقل الإنسان الابتدائي لا يهتم بأعراض التجربة ، بل يحافظ مع اعتقاداته كما هي رغم تكذيب الواقع لها . فمن الضروري إذن أن نتكلم على الأسباب الاجتماعية المؤثرة في تجلي الشعور .
لقد بين ( بياجه ) ان الحاجة إلى امتحان الاعتقادات لا تتولد تلقائياً ، بل تظهر متأخرة جداً . وذلك لسببين : أحدهما أن التفكير يرجع في الأصل إلى أسباب حيوية ، وعملية ، ونفعية . والثاني أن الفرد يميل بطبعه إلى الإيمان ، والاعتقاد . إذن كيف تتولد الحاجة إلى امتحان الاعتقاد ، ونقده ، وتمحيصه ؟ ان هذه الحاجة تتولد من مصادمة أفكارنا الأفكار الآخرين من أبناء جنسنا ، ولولا هذه المصادمة لما تولد الشك في نفوسنا ، ولا شعرنا بالحاجة إلى البرهان على أفكارنا ، ولساقنا تكذيب التجربة لنا إلى ازدياد تخيلنا ، وتوهمنا . ان كثيراً مما نعتقده من الآراء الكاذبة ، والغرائب ، والأحلام ، والظنون ، والأوهام يزول بمخالطة الناس . فالناس بعضهم على بعض رقيب ، والحاجة إلى امتحان الاعتقاد تنشأ عن ميل الانسان إلى مشاركة الآخرين في أفكارهم ، وإلى إذاعة ما يفكر فيه بينهم وإقناعهم بما يشعر به . فالتفكير ملازم إذن للحوار والمناقشة ( ١ ) .
وليس هذا التأثير الاجتماعي مقصوراً على تأثير الفرد في الفرد ، لأن الحوار الفكري لا يتولد في الجماعات الابتدائية التي يكون الفرد فيها خاضعا لأوهام زمانه ، ، وبيئته ، بل يتولد في الجماعات المتباينة العناصر ، الخاضعة لقانون تقسيم العمل ، وهكذا يتسع نطاق العقل باتساع دائرة الاجتماع ، وتنوع تركيبها . وهكذا أيضاً تتعارض المثل العليا المختلفة ، ويؤدي تعارضها إلى توليد الشك ، الانتقاد . وربما كان تحرر الفكر البشري ، ونمو التفكير العلمي ناشئين عن تنازع التصورات الاجتماعية .
ج الاعتقاد تركيب ذهني . - لا يتجلى الشعور تجليا تاما إلا إذا أصبحت المعتقدات القديمة ذات تركيب متسق . ان تصورات الطفل تتجمع بعضها فوق بعض من غير أن تتسق ، لأن الطفل يجمع بين تصورات اللعب ، وإدراكات العالم المنظور ، ومعتقدات العالم الوهمي الذي يتخيله من غير أن يوحد هذه المعتقدات المتباينة ، أو ينسقها . فهناك إذن شرط نفسي محض يجب إضافته إلى الشرائط السابقة ، وهو قوة التركيب . ان المجتمع لا يخلق هذه القوة النفسية ، بل يهيء لها أسباب النمو ، ومتى نمت تولد معها الشعور بالتناقض ، والشعور بضرورة الانتخاب ، والترجيح . ويمكننا أن نبين خطورة هذا العامل النفسي بنوعين من الظواهر .
۱ - امراض الاعتقاد . ان النوع الأول من هذه الظواهر مقتبس من علم أمراض النفس . قال مالابر ) : تتميز العقول المتفككة المناصر بسرعة التصديق ، وشدة الجحود معا •
سبب ذلك أن هذه العقول لا تقايس بين الآراء المختلفة ، ولا تجمع بين العناصر . وسبب الفكرية المتباينة ، ولا يهمها تنافرها ، وتناقضها ، لأنها لاتدركها كلها معاً ، فلا تتعارض إذن تصوراتها ، ولا تلتقي .
ان الاضطرابات النفسية ( البسيكاستيني – psychasthenic ) التي وصفها ( جانه ) تتميز بضعف التركيب الفكري ، و كثرة الشك ، مثال ذلك : قول إحدى المريضات : ( أعرف ان ما تقوله لي صحيح ، وأتصور ذلك بعقلي ، إلا انني لا أزال أشعر بالشك في داخلي ، ومن المحال أن أقتنع بما تقول اقتناعاً تاما ، وقولها عندما يزداد شكها في نفسها ، وفي أفعالها : ( اني أعود إلى هذه الغرفة عشرين مرة باحثة عن الشيء الذي اريده ، فلا يزداد وثوقي بوجوده فيها أبداً ، ومن عجيب أمر هذه الأمراض انها تعود بالمريض إلى حالة الانسان الابتدائي التي وصفها ) لفي برول ( أو حالة الطفل التي وصفها ( بياجه ) . وقد يقوم المريض في هذه الحال بأعمال سحرية تقوي اعتقاده . مثال ذلك : تساءل ( روسو عن مصيره بعد الموت فقال : ( فكرت مرة في هذا الموضوع المحزن ، فأخذت ألهو آليا الحجارة على جذوع الأشجار من غير أن أصيب واحداً منها ، فخطر ببالي وأنا أقوم بهذا التمرين الجميل أن أجد فيه إشارة أهدىء بها قلقي ، فقلت في نفسي : سأرمي بهذا الحجر على الشجرة التي أمامي . فإذا أصبتها كنت ناجياً من النار ، وإذا أخطأتها كنت من الهالكين ، وما أن أنهيت هذا القول حتى رميت الحجر بيد مرتجفة ، فأصاب لحسن الحظ منتصف جذع الشجرة ، ولم يكن هذا الأمر صعباً علي ، لأن الشجرة التي انتخبتها برمي كانت كبيرة جداً وقريبة مني . ولم أشك أبداً منذ ذلك اليوم في نجاة نفسي .
٢ - الحقيقة واليقين . - ان الاعتقاد التأملي المبني على أسباب معقولة أمر نادر جداً . نعم ان عقولنا تبحث عن اليقين ، ولكن اليقين شيء ، والحقيقة شيء آخر . قال ( هنري بوانكاره : ( يجب أن نفرق بين حب الحقيقة ، وحب اليقين ، . ان حب اليقين حاجة طبيعية ، لا بل هو غريزة نفسية يحفظ بها الشعور بقاءه ، فتمنعه من مخاطرات الفكر ، ومغامراته . اليقين ناشيء عن نزعة أولية ، أما الحقيقة فناشئة عن نزعة مشتقة . ان الشعور باليقين متقدم على البحث عن الحقيقة ، لأن الحقيقة لا تدرك إلا بالسعي الحثيث الدائم ، وجهد التركيب المستمر . وهذا يقتضي درجة عالية من التفكير ، والتأمل . لا يهتم بالحقيقة إلا القليل من الناس ، وهذه النخبة تبني معتقداتها على أسباب معقولة ، أما الآخرون فيرضون بظلمات الظن ، وشبه الاعتقاد .
تكون الاعتقاد
كان القدامى من علماء النفس يظنون أن قوة التصديق ملكة أولية ، أو حالة بسيطة أحوال الشعور المباشر . وهذا الخطأ الذي وقعوا فيه ناشيء عن بحثهم في التصديق من الوجهة المنطقية ، لا من الوجهة النفسية ، وعن نظرهم في الحكم العقلي التام في تطوره ، وتكونه . ونحن إذا حللنا الآن تكون الحكم ، وتكامله بتكامل المدارك البشرية ، أدركنا أن هناك حالتين لابد للعقل البشري من المرور بهما في تكوين معتقداته :
۱ - فالحالة الاولى : هي حالة التصديق الضمني ، أو الحالة المتقدمة على ظهـــــور الروح الانتقادية .
٢ - والحالة الثانية : هي حالة التصديق الصريح الظاهر ، أو الحالة الانتقادية .
ولنبحث في كل من هاتين الحالتين على حدة :
۱ - حالة التصديق الضمني . - ان الميل إلى الاعتقاد طبيعي في الإنسان ، وهو ينمو بنمو الفاعلية ، وكثيراً ما نعتقد بعض الأشياء من غير أن تكون مستندة إلى سبب معقول ، بل كثيراً ما نرسخ هذه الاعتقادات في نفوسنا رغم الأسباب الباعثة على ردها . وقد سمى ) رينو فيه Renonvier ) هذه الحالة بضلال العقل ( Vertige mentale ) أو ضياع الرشد ، وسماها ( بين Bain ) سرعة التصديق الأولية ( ٢ ) ، وهي حالة يكون التصديق فيها غير مختلف عن التصور ، بل يكون مضمراً فيه غير مفارق له .
مثال ذلك : أن الرجل الابتدائي لا يتصور . شيئا . من الأشياء إلا متبوعاً بالتصديق . قال أحد علماء الأقوام يصف سكان ) لو انجو Loango ) : ( انحبس المطر ، ويبس الزرع بعد خروج المبشرين الكاثوليكيين من مراكبهم إلى الأرض . فاعتقد السكان أن هذا الأمر ناشيء عن هؤلاء الكهنة ، وخصوصاً عن أثوابهم الطويلة ، لأنهم لم يروا إلى ذلك العهد ألبسة مثلها . وقد تتولد شكوكهم من معطف مطاط لامع ، أو من قبعة غريبة ، أو من كرسي هزاز ، أو من آلة . فإذا حدث ما يكدرهم عزوه حالاً إلى ما طرأ عليهم الأشياء الغريبة ( ٣ ) .
وكذلك الطفل ، فهو سريع التصديق ، لأنه متجمع المدارك العقلية حول ذاته . ( ego - Centrique ) لا يستطيع أن يدرك الاشياء إلا من وجهة نظره الذاتية ( ٤ ) ولا أن يراقب أحكامه ، ويجردها من طابع المنفعة المباشرة ، وتسمى هذه الحالة بمركزية الذات .
والأمراض العقلية كثيراً ما تعيد الإنسان إلى هذه الحالة الفكرية الأولى . قال ( بیرجانه - Pierre Janet ) : ( ان تحت درجة التأمل صورة أولية للاعتقاد ، موجودة في عقل الإنسان الابتدائي ، تتألف منها وحدها فاعلية الإرادة عند ضعفاء العقول ... لقد وصفت بعض هؤلاء الضعفاء فرأيت أنهم يصدقون كل مستحيل ، ويثبتون ، أو ينفون كل شيء بحسب الدوافع الموقتة ، من غير أن يهتموا بالتناقض . فالاعتقاد عندهم تصديق مباشر لا أثر للتأمل فيه ( ١ ) .
وكثيراً ما تهبط الحالة الفكرية العامة ، فى البيئة الاجتماعية إلى هذه الدرجة من الركود بتأثير الاضطرابات ، أو الحروب .
قال الدكتور لويس ( ٢ ) : و لما وقع حصار باريز في عام ۱۸۷۰ كان اتهام أي شخص سائر في الطريق بالجاسوسية ، كافياً لتجمع الناس حوله ، واتهامهم إياه من غير بينة . أو إيقاعهم به .
ان فساد الحياة الاجتماعية يزيد سوء الظن ، ويقوي الميل إلى التأويل ، ويقلب الاعتقاد التأملي إلى اعتقاد تلقائي مجرد عن الرابط الانتقادي .
٢ - حالة التصديق الصريح الظاهر او الحالة الانتقادية
- قال ( ديكارت ) : « ان الفعل الفكري الذي يجعلنا نعتقد أمراً من الامور ، مختلف عن الفعل الذي به نعرف اننا نعتقد هذا الأمر ( ۳ ) . أي أن الاعتقاد شيء ، ومعرفة الاعتقاد شيء آخر . وهذا العلم ، أو هذا ، هو الذي يقوم الحقيقي التام ، ويميزه من سرعـ عة التصديق التلقائية التجلي التي وصفناها .
آ - القدرة على النفي . - ولا تتم هذه المعرفة للنفس إلا بعد أن يتصور الذهن فرضية مضادة للأمر المراد تصديقه . ان القدرة على الإثبات ، تقتضي وجود القدرة على النفي . قال ( بياجه ) ( ۱ ) : ولا يصبح التصديق شعورياً إلا حينما يتزعزع الاعتقاد الضمني » . هكذا كان التفكير قبل ( سقراط ) . انك لا تجد فيه تصديقاً غير مسبوق بنفي . وهذا صحيح بالنسبة إلى صور التفكير الاولى ، كما هو صحيح أيضاً بالنسبة إلى أعلى صور التفكير الفلسفي . فلا اعتقاد - وأقصد بالاعتقاد هنا الاعتقاد المصحوب بالمعرفة ، والشعور ، والتأمل ، لا الاعتقاد التلقائي - إلا إذا تقدم الشك على التصديق ، وإلا إذا تقبلنا الشيء في البدء بقبول موقت ، كأنه فرضية خاضعة للتحقيق ، لا حقيقة نهائية مسلم بها دون تشكيك ان الوصول إلى الاعتقاد و اليقين ، لا يكون إلا بالتشكك ، وهذا التشكك مبدأ الروح الانتقادية ، وأساس العلم . وسنبين في المنطق أن التفكير العلمي مبني على هذه الطريقة ، لأن العالم لا يكشف الحقائق ، إلا بطريق الفرضيات الموقتة التي يقلبها ، بعد التحقيق التجريبي ، إلى قوانين علمية ثابتة .
ب - الشرائط الاجتماعية لتجلي الشعور . - من أين تتولد هذه القدرة على النفي ، وكيف تنبجس في العقل روح ا الشك ك المهجي ؟ ان لتجلي الشعور شرائط حيوية . منها أن الشعور يتولد من الحاجة ، وعدم التكيف ، ومنها أن الشعور لا يتجلى إلا عند مصادمة العوائق ، حق لقد قال ( دولاكروا ) : نحن لا نفكر إلا عندما نصادف عائقاً ( ٢ ) . ولكن هذه الشرائط الحيوية لا تكفي لإيضاح تجلي الشعور ، لأن عقل الإنسان الابتدائي لا يهتم بأعراض التجربة ، بل يحافظ مع اعتقاداته كما هي رغم تكذيب الواقع لها . فمن الضروري إذن أن نتكلم على الأسباب الاجتماعية المؤثرة في تجلي الشعور .
لقد بين ( بياجه ) ان الحاجة إلى امتحان الاعتقادات لا تتولد تلقائياً ، بل تظهر متأخرة جداً . وذلك لسببين : أحدهما أن التفكير يرجع في الأصل إلى أسباب حيوية ، وعملية ، ونفعية . والثاني أن الفرد يميل بطبعه إلى الإيمان ، والاعتقاد . إذن كيف تتولد الحاجة إلى امتحان الاعتقاد ، ونقده ، وتمحيصه ؟ ان هذه الحاجة تتولد من مصادمة أفكارنا الأفكار الآخرين من أبناء جنسنا ، ولولا هذه المصادمة لما تولد الشك في نفوسنا ، ولا شعرنا بالحاجة إلى البرهان على أفكارنا ، ولساقنا تكذيب التجربة لنا إلى ازدياد تخيلنا ، وتوهمنا . ان كثيراً مما نعتقده من الآراء الكاذبة ، والغرائب ، والأحلام ، والظنون ، والأوهام يزول بمخالطة الناس . فالناس بعضهم على بعض رقيب ، والحاجة إلى امتحان الاعتقاد تنشأ عن ميل الانسان إلى مشاركة الآخرين في أفكارهم ، وإلى إذاعة ما يفكر فيه بينهم وإقناعهم بما يشعر به . فالتفكير ملازم إذن للحوار والمناقشة ( ١ ) .
وليس هذا التأثير الاجتماعي مقصوراً على تأثير الفرد في الفرد ، لأن الحوار الفكري لا يتولد في الجماعات الابتدائية التي يكون الفرد فيها خاضعا لأوهام زمانه ، ، وبيئته ، بل يتولد في الجماعات المتباينة العناصر ، الخاضعة لقانون تقسيم العمل ، وهكذا يتسع نطاق العقل باتساع دائرة الاجتماع ، وتنوع تركيبها . وهكذا أيضاً تتعارض المثل العليا المختلفة ، ويؤدي تعارضها إلى توليد الشك ، الانتقاد . وربما كان تحرر الفكر البشري ، ونمو التفكير العلمي ناشئين عن تنازع التصورات الاجتماعية .
ج الاعتقاد تركيب ذهني . - لا يتجلى الشعور تجليا تاما إلا إذا أصبحت المعتقدات القديمة ذات تركيب متسق . ان تصورات الطفل تتجمع بعضها فوق بعض من غير أن تتسق ، لأن الطفل يجمع بين تصورات اللعب ، وإدراكات العالم المنظور ، ومعتقدات العالم الوهمي الذي يتخيله من غير أن يوحد هذه المعتقدات المتباينة ، أو ينسقها . فهناك إذن شرط نفسي محض يجب إضافته إلى الشرائط السابقة ، وهو قوة التركيب . ان المجتمع لا يخلق هذه القوة النفسية ، بل يهيء لها أسباب النمو ، ومتى نمت تولد معها الشعور بالتناقض ، والشعور بضرورة الانتخاب ، والترجيح . ويمكننا أن نبين خطورة هذا العامل النفسي بنوعين من الظواهر .
۱ - امراض الاعتقاد . ان النوع الأول من هذه الظواهر مقتبس من علم أمراض النفس . قال مالابر ) : تتميز العقول المتفككة المناصر بسرعة التصديق ، وشدة الجحود معا •
سبب ذلك أن هذه العقول لا تقايس بين الآراء المختلفة ، ولا تجمع بين العناصر . وسبب الفكرية المتباينة ، ولا يهمها تنافرها ، وتناقضها ، لأنها لاتدركها كلها معاً ، فلا تتعارض إذن تصوراتها ، ولا تلتقي .
ان الاضطرابات النفسية ( البسيكاستيني – psychasthenic ) التي وصفها ( جانه ) تتميز بضعف التركيب الفكري ، و كثرة الشك ، مثال ذلك : قول إحدى المريضات : ( أعرف ان ما تقوله لي صحيح ، وأتصور ذلك بعقلي ، إلا انني لا أزال أشعر بالشك في داخلي ، ومن المحال أن أقتنع بما تقول اقتناعاً تاما ، وقولها عندما يزداد شكها في نفسها ، وفي أفعالها : ( اني أعود إلى هذه الغرفة عشرين مرة باحثة عن الشيء الذي اريده ، فلا يزداد وثوقي بوجوده فيها أبداً ، ومن عجيب أمر هذه الأمراض انها تعود بالمريض إلى حالة الانسان الابتدائي التي وصفها ) لفي برول ( أو حالة الطفل التي وصفها ( بياجه ) . وقد يقوم المريض في هذه الحال بأعمال سحرية تقوي اعتقاده . مثال ذلك : تساءل ( روسو عن مصيره بعد الموت فقال : ( فكرت مرة في هذا الموضوع المحزن ، فأخذت ألهو آليا الحجارة على جذوع الأشجار من غير أن أصيب واحداً منها ، فخطر ببالي وأنا أقوم بهذا التمرين الجميل أن أجد فيه إشارة أهدىء بها قلقي ، فقلت في نفسي : سأرمي بهذا الحجر على الشجرة التي أمامي . فإذا أصبتها كنت ناجياً من النار ، وإذا أخطأتها كنت من الهالكين ، وما أن أنهيت هذا القول حتى رميت الحجر بيد مرتجفة ، فأصاب لحسن الحظ منتصف جذع الشجرة ، ولم يكن هذا الأمر صعباً علي ، لأن الشجرة التي انتخبتها برمي كانت كبيرة جداً وقريبة مني . ولم أشك أبداً منذ ذلك اليوم في نجاة نفسي .
٢ - الحقيقة واليقين . - ان الاعتقاد التأملي المبني على أسباب معقولة أمر نادر جداً . نعم ان عقولنا تبحث عن اليقين ، ولكن اليقين شيء ، والحقيقة شيء آخر . قال ( هنري بوانكاره : ( يجب أن نفرق بين حب الحقيقة ، وحب اليقين ، . ان حب اليقين حاجة طبيعية ، لا بل هو غريزة نفسية يحفظ بها الشعور بقاءه ، فتمنعه من مخاطرات الفكر ، ومغامراته . اليقين ناشيء عن نزعة أولية ، أما الحقيقة فناشئة عن نزعة مشتقة . ان الشعور باليقين متقدم على البحث عن الحقيقة ، لأن الحقيقة لا تدرك إلا بالسعي الحثيث الدائم ، وجهد التركيب المستمر . وهذا يقتضي درجة عالية من التفكير ، والتأمل . لا يهتم بالحقيقة إلا القليل من الناس ، وهذه النخبة تبني معتقداتها على أسباب معقولة ، أما الآخرون فيرضون بظلمات الظن ، وشبه الاعتقاد .
تعليق