مسألة الاعتقاد - ٢ - الحُكْم
٢ - تأثير العقل . - ولكن أصحاب المذهب العقلي ، لم يذعنوا لهذا الرأي ، بل زعموا أن الاعتقاد تابع للعقل .
قال ( سبينوزا ) رداً على ( ديكارت ) : ان الأفكار ليست خرساء كالصور المرسومة على الألواح ( ١ ) ، وإنما هي قوى محركة وفاعلة بالذات . ان الإرادة ، والعقل شيء واحد ، والاعتقاد غير مفارق للفكرة ، كما أن اليقين ملازم للحقيقة ، ان طابع الحقيقة . نفسها ، ومن كان عنده فكرة صحيحة أدرك في الوقت نفسه أنها صحيحة ، ولم يشك أبداً في صدق معرفته بها ، فالخطأ إذن أمر سلبي محض ، لا بل هو نقص ، وحرمان ومعرفة ناقصة .
و شبيه برأي ( سبينوزا ) هذا رأي ( هيوم ) القائل ان الاعتقاد فكرة قوية ذات علاقة بالتأثيرات الحاضرة .
والمعاصرون من أصحات المذهب العقلي يذكرون في الرد على مذهب الإيمان أدلة كثيرة . منها أن الإرادة لا تدخل في كل حكم وان استناد المنطق إلى أوليات ، لا يمكن البرهان عليها ، لا يدل على حرية الفكر في قبول هذه الأوليات ، أو ردها . ان بطلان الدليل لا يدل على بطلان المدلول عليه ، وعجزنا عن البرهان على مبدأ الهوية ، لا يدل أبداً على عدم ضرورته . اننا نشعر بضرورة هذه المبادىء العقلية ، ولا يمكننا أن نجمع بين النفي ، والإثبات في أمر واحد ، فمبدأ الهوية ملازم إذن لبناء الفكر ، وربما كان أيضاً لازماً عن طبائع الأشياء - نعم ان قليلاً من الفاعلية ضروري للحكم ، ولكن هذه الفاعلية لاتولد الوثوق ، بل تهيء للعقل عناصر الحكم .
فتأثير الإرادة في الحكم مقصور على جمع المناصر ، أما النتيجة التي يمكن استخراجها من العناصر ، فليس للارادة فيها أثر ، وكذلك الانتباه فهو يزيد في وضوح الأفكار وبيانها ، ولكنه لا يولد الوثوق بها ، ولا يخلق الاعتقاد ينتج من ذلك أن العقل يتقبل الأوليات بقبول حسن ، ويسلم بالضروريات تسليما واضحاً ، أما الحقائق الأخرى ، فيطلب البرهان عليها ، وإذا كان البرهان عليها مفقوداً أعرض عنها ، وشك في صحتها ، لأن العقل لا يستبدل الرغائب بالبراهين ، ولا البواعث القلبية ، بالعوامل العقلية إن شدة الحرص لا تكفي لإقناعنا بأننا أغنياء ، وآلام الشيخوخة التي نشعر بها في الثمانين من العمر ، لا توهمنا بأننا لا نزال في سن الشباب ، والام التي تبكي ولدها الميت ، لا تتعزى بالاعتقاد أنه لا يزال حيا عند ربه ، فالإنسان لا يعتقد إذن ما يريد ، وكلما حاولت إرادته أن تغتصب حقوق المقل ، أدرك أنه يكذب على نفسه ، وإذا أعانت العقل على الحكم أضعفت أسباب وثوقه . ان إرادة الاعتقاد . سبب من أسباب الشك .
ان الذين يشكون في العقل ، وأحكامه يحاربون العقل ببضاعة العمل نفسه ، ويذكرون في طريقة شكهم هذه أحكاماً تدل على أنهم بارعون في المقاييس المنطقية ، والقوانين النظرية ، والبراهين الجدلية ؛ ان ( کارنیاد ) و ( مونتيني ) يكثران من الاستدلالات العقلية للبرهان على ان أحكام العقل لا قيمة لها ، وفي الحق أن الإنسان لا يستطيع ان يبطل حاكم العقل إلا بأسباب عقلية . وإذا اتهم عقله بالعجز عن الإدراك ، وصدق بمالا يستريح اليه ، أو بما لم يتضح له ، فإنه يفعل ذلك اتباعاً الحاكم آخر ، يعتقد أن طوره فوق طوره .
نعم ان كثيراً من أحكامنا ناشيء عن ميولنا ، وعواطفنا ، وحبنا لذواتنا ، ومنفعتنا ، و أهوائنا ، ولكن ذلك ليس بقادح في العقل ومدركاته ، ان الإرادة قد تؤثر في المقل ، ولكنها لا تؤثر فيه إلا بوسط ، ولا تبدع الحكم ، بل تستخدم الفكر ، والتصور العقلي ، في سبيل تأليفه . قال ( لابي ) : . أنا لا أعتقد الشيء لأنني أرغب فيه ، ولكن رغبقي فيه توجه انتباهي اليه ، وتصرفني عن الأشياء الأخرى ، ولما كان الحكم لا يتألف إلا من الأفكار الحاضرة في الذهن . كانت حدود الحكم مطابقة لموضوع الرغبات ؛ ولذلك أيضاً كانت منفعة العلم مساعدة على تقدم نظرياته من غير أن تضعف قيمتها المنطقية ( 1 ) . وقد ذكر ( ماکسیم دو کامب Maxime du Camp ( ان شيخاً من أصدقائه قال له مرة : ان ميل السلالم التي ينشئها مهندسو زماننا أشد من ميل السلالم القديمة ، فهذا حكم متولد من شعور الشيخ بهرمه ، وعجزه عن صعود السلم ، ولكنه رغم ما فيه من سفسطة لمواطف ، يدل على رغبة الشيخ في تفسير شعوره بسبب عقلي . فالشيخ يشعر بالتعب عند صعود السلم ، إلا أنه بدلاً من أن يملل تعبه بضعف قواه ، يخطىء في تعليله ، ذلك إلى سبب آخر ، وهذا الخطأ دليل على رغبة الشيخ في إيضاح هذا الأمر إيضاحا عقلياً .
النتيجة . - تلك هي آراء كل من هذين المذهبين ، اعني الإرادي ، والعقلي . ونحن نرى الآن ان كلا منهما ينتصر في الرد على الآخر ، فالمذهب العقلي صادق في قوله اننـــــا لا نعتقد ما نريد ، وان الرغائب ، والأهواء لا تنوب عن الأدلة ، والبراهين ، وان ابطال حاكم العقل يحتاج إلى أسباب عقلية . والمذهب الإرادي صادق أيضاً في قوله أن أكثر معتقدات الإنسان مبنية على العواطف ، وان انتشار المذاهب السياسية ، والاجتماعية ، والدينية ، يرجع إلى تأثيرها في القلب أكثر مما يرجع إلى تأثيرها في العقل ، وان أكثر الناس يساقون إلى الفعل بعواطفهم ، ورغائبهم ، ومنافعهم ، لا بأفكارهم وعقولهم . وقد اعترف أصحاب المذهب العقلي انفسهم بتأثير العواطف في تكوين الاعتقاد ؛ إلا أنهم تخلصوا من الوقوع في المذهب الإرادي بقولهم : ان الإرادة لا تؤثر في الحكم تأثير أمباشراً ، بل تؤثر فيه بوسط من الفكر . وهذا التعليل لا يقطع مظان الاشتباه ، ولا يجرد الاعتقاد من التأثر بالعواطف . وسواء أكان هذا التأثير مباشراً ، أم غير مباشر ، فإن المذهب العقلي مضطر إلى الاعتراف بوجوده .
قال أحد الكتاب المعاصرين ( ۱ ) : ليست الأفكار هي التي تبعث العواطف ، ولكن العواطف هي التي تبعث الأفكار ، ومعنى ذلك أن العواطف المحضة متقدمة على الأفكار ، خالية من الصور الذهنية ؛ إلا أنها محتاجة إلى إتمام ما ينقصها بالعوامل العقلية ، فتتلقف ما يوافقها من الأفكار ، والصور العارضة ، كما تتحد بعض الاسس الكيماوية المتحيرة بعنصر من العناصر التي تعيد اليها الاستقرار .
فإذا كانت العواطف هي التي تتلقف الأفكار أو تبدعها ، كان المذهب العقلي في حاجة إلى تغيير بعض مقدماته . وإذا كانت البراهين المنطقية ، والأوليات العقلية أقوى من العواطف ومستقلة عنها ، كان المذهب الإرادي الخطة ضعيف الحجة . ومن نظر في أقاويل أصحاب المذهبين وقايس بينها علم أن فيها خطأ واحداً . وهذا الخطأ هو اعتقادهم عسر أن أحوال النفس منفصلة بعضها عن بعض انفصالاً تاماً .
فأصحاب المذهب الإرادي يظنون أن الارادة قوة مجردة ، قادرة على النفي ، والاثبات بذاتها ، من دون أن تتقيد في ذلك بالأفكار ، والتصورات . وهذا الظن مخالف الحقيقة الارادة ، لأنها - كما سنبين فيما بعد - قوة مؤلفة من لحمة العواطف ، وأسدية الفكر ، لاقوة مجردة أو مستقلة عن عناصر النفس الاخرى . الارادة قوة كامنة في كل حالة من أحوال النفس ، لا بل القوى الجزئية الصادرة عن الافكار ، والعواطف . وقد هي . حصيلة جميع ذكرنا غير مرة أن الحياة النفسية شبيهة بنهر دائم الجريان ، فالعواطف ، والافكار ذرات مائه ، والارادة قوة تياره وهذا التشبيه يدل على أن العواطف تؤثر في الأفكار والأفكار في العواطف ، إلا أنه لا يجود الارادة عن أحوال النفس المختلفة ، بل يجعلها تابعة لها ، لأن الإرادة المجردة عن لحمة المواطف وأسدية الفكر ليست سوى شيء خيالي لا حقيقة له .
وأما أصحاب المذهب العقلي فقد أصابوا في قولهم : ان في العقل فاعلية ، وان كل فكرة من الفكرةوة ، وان الارادة لا تفعل ما تشاء ، ولكنهم جهلوا أن المواطف هي أيضاً قوى محركة وان العقل نفسه محتاج الى العمل ليمتحن قيمة تصوراته . فهم قد وقعوا اذن فيما وقع فيه أصحاب المذهب الارادي من التجريد ، لأن المذهب الارادي جرد الارادة عن المعقل ، أما المذهب العقلي فقد جرد العقل عن العواطف .
ج - الأسباب الاجتماعية . - ان للحياة الاجتماعية تأثيراً في الاعتقاد ، وهذا التأثير لا يقتصر على مادة الاعتقاد ، بل يلحق أيضاً درجة الوثوق . لأن يقيننا بمعتقداتنا تابع على الأكثر لصداها الاجتماعي . وكثيراً ما يتولد الاعتقاد من الثقة العمياء بالسلطة الاجتماعية . ان ايمان أكثر الناس بآراء ، زمانهم ، ومعتقداته ، ناشيء عن التقليد . ولو نظرنا الى المجالس السياسية ، لوجدنا أن الأكثرية تحصل فيها بتأثير الزعماء ، حق ان المذاهب نفسها لا تنتشر على الأكثر الا بتأثير شخص أو شخصين من ممثليها . أما العامة . فتفضل الاتباع على الابداع ، وتعتقد ما ينقل اليها اعتقاداً ساذجاً دون تمحيص . وكلما انتشر الاعتقاد وتضخم ازداد تأثيره ، حق انه قد يبطل الفكر الانتقادي ، ويضيق الخناق على العقل .
لقد زعم الاجتماعيون أن للأوليات العقلية أساساً اجتماعياً . لا شك أن اعتقادنا ( ان الكميتين المساويتين لكمية ثالثة متساويتان ( ليس تابعاً لارادتنا ، وانما هو تابع لبداهة العقل . الا أن هذه الاوليات - كما سنبين في فصل مبادى العقل – تختلف باختلاف نمو المدارك البشرية ، وباختلاف أطوار الاجتماع الانساني . فإذا صح ذلك كانت جميع تصديقاتنا ومعتقداتنا تابعة للأحوال الاجتماعية ، لان الاوليات العقلية . الذي تبنى عليه جميع الاحكام .
والاعتقاد لا ينتشر ولا ينمو إلا إذا هيأ له المجتمع أسباب الانتشار والنمو . ما أكثر الاعتقادات التي تضعضعت دعائمها لاعراض المجتمع عنها ، وعدم إحيائه لها من وقت إلى آخر ! قال ( دوركهايم ) : « تحيا الاعتقادات بالأعياد ، والاحتفالات العامة من دينية ، أو علمانية ، وبالمواعظ المختلفة من كنسية ، أو مدرسية ، وبالتمثيل المسرحي ، والتظاهرات الفنية ، وبكلمة واحدة ، يجميع ما يقرب الناس بعضهم من بعض ، ويحملهم على الاشتراك في حياة فكرية ، وخلقية واحدة ( ١ ) .
ينتج من كل ما تقدم أن الاعتقاد ليس حالة بسيطة خاضعة لقوة نفسية دون غيرها ، وإنما هو حالة مركبة تؤثر فيها العوامل الحيوية ، والنفسية ، والاجتماعية ، ولهذه الحالة صلة بجميع وظائف النفس ، من عاطفة ، وتفكير ، وإرادة وسيتضح لك هذا الأمر عند دراسة تكون الاعتقاد .
٢ - تأثير العقل . - ولكن أصحاب المذهب العقلي ، لم يذعنوا لهذا الرأي ، بل زعموا أن الاعتقاد تابع للعقل .
قال ( سبينوزا ) رداً على ( ديكارت ) : ان الأفكار ليست خرساء كالصور المرسومة على الألواح ( ١ ) ، وإنما هي قوى محركة وفاعلة بالذات . ان الإرادة ، والعقل شيء واحد ، والاعتقاد غير مفارق للفكرة ، كما أن اليقين ملازم للحقيقة ، ان طابع الحقيقة . نفسها ، ومن كان عنده فكرة صحيحة أدرك في الوقت نفسه أنها صحيحة ، ولم يشك أبداً في صدق معرفته بها ، فالخطأ إذن أمر سلبي محض ، لا بل هو نقص ، وحرمان ومعرفة ناقصة .
و شبيه برأي ( سبينوزا ) هذا رأي ( هيوم ) القائل ان الاعتقاد فكرة قوية ذات علاقة بالتأثيرات الحاضرة .
والمعاصرون من أصحات المذهب العقلي يذكرون في الرد على مذهب الإيمان أدلة كثيرة . منها أن الإرادة لا تدخل في كل حكم وان استناد المنطق إلى أوليات ، لا يمكن البرهان عليها ، لا يدل على حرية الفكر في قبول هذه الأوليات ، أو ردها . ان بطلان الدليل لا يدل على بطلان المدلول عليه ، وعجزنا عن البرهان على مبدأ الهوية ، لا يدل أبداً على عدم ضرورته . اننا نشعر بضرورة هذه المبادىء العقلية ، ولا يمكننا أن نجمع بين النفي ، والإثبات في أمر واحد ، فمبدأ الهوية ملازم إذن لبناء الفكر ، وربما كان أيضاً لازماً عن طبائع الأشياء - نعم ان قليلاً من الفاعلية ضروري للحكم ، ولكن هذه الفاعلية لاتولد الوثوق ، بل تهيء للعقل عناصر الحكم .
فتأثير الإرادة في الحكم مقصور على جمع المناصر ، أما النتيجة التي يمكن استخراجها من العناصر ، فليس للارادة فيها أثر ، وكذلك الانتباه فهو يزيد في وضوح الأفكار وبيانها ، ولكنه لا يولد الوثوق بها ، ولا يخلق الاعتقاد ينتج من ذلك أن العقل يتقبل الأوليات بقبول حسن ، ويسلم بالضروريات تسليما واضحاً ، أما الحقائق الأخرى ، فيطلب البرهان عليها ، وإذا كان البرهان عليها مفقوداً أعرض عنها ، وشك في صحتها ، لأن العقل لا يستبدل الرغائب بالبراهين ، ولا البواعث القلبية ، بالعوامل العقلية إن شدة الحرص لا تكفي لإقناعنا بأننا أغنياء ، وآلام الشيخوخة التي نشعر بها في الثمانين من العمر ، لا توهمنا بأننا لا نزال في سن الشباب ، والام التي تبكي ولدها الميت ، لا تتعزى بالاعتقاد أنه لا يزال حيا عند ربه ، فالإنسان لا يعتقد إذن ما يريد ، وكلما حاولت إرادته أن تغتصب حقوق المقل ، أدرك أنه يكذب على نفسه ، وإذا أعانت العقل على الحكم أضعفت أسباب وثوقه . ان إرادة الاعتقاد . سبب من أسباب الشك .
ان الذين يشكون في العقل ، وأحكامه يحاربون العقل ببضاعة العمل نفسه ، ويذكرون في طريقة شكهم هذه أحكاماً تدل على أنهم بارعون في المقاييس المنطقية ، والقوانين النظرية ، والبراهين الجدلية ؛ ان ( کارنیاد ) و ( مونتيني ) يكثران من الاستدلالات العقلية للبرهان على ان أحكام العقل لا قيمة لها ، وفي الحق أن الإنسان لا يستطيع ان يبطل حاكم العقل إلا بأسباب عقلية . وإذا اتهم عقله بالعجز عن الإدراك ، وصدق بمالا يستريح اليه ، أو بما لم يتضح له ، فإنه يفعل ذلك اتباعاً الحاكم آخر ، يعتقد أن طوره فوق طوره .
نعم ان كثيراً من أحكامنا ناشيء عن ميولنا ، وعواطفنا ، وحبنا لذواتنا ، ومنفعتنا ، و أهوائنا ، ولكن ذلك ليس بقادح في العقل ومدركاته ، ان الإرادة قد تؤثر في المقل ، ولكنها لا تؤثر فيه إلا بوسط ، ولا تبدع الحكم ، بل تستخدم الفكر ، والتصور العقلي ، في سبيل تأليفه . قال ( لابي ) : . أنا لا أعتقد الشيء لأنني أرغب فيه ، ولكن رغبقي فيه توجه انتباهي اليه ، وتصرفني عن الأشياء الأخرى ، ولما كان الحكم لا يتألف إلا من الأفكار الحاضرة في الذهن . كانت حدود الحكم مطابقة لموضوع الرغبات ؛ ولذلك أيضاً كانت منفعة العلم مساعدة على تقدم نظرياته من غير أن تضعف قيمتها المنطقية ( 1 ) . وقد ذكر ( ماکسیم دو کامب Maxime du Camp ( ان شيخاً من أصدقائه قال له مرة : ان ميل السلالم التي ينشئها مهندسو زماننا أشد من ميل السلالم القديمة ، فهذا حكم متولد من شعور الشيخ بهرمه ، وعجزه عن صعود السلم ، ولكنه رغم ما فيه من سفسطة لمواطف ، يدل على رغبة الشيخ في تفسير شعوره بسبب عقلي . فالشيخ يشعر بالتعب عند صعود السلم ، إلا أنه بدلاً من أن يملل تعبه بضعف قواه ، يخطىء في تعليله ، ذلك إلى سبب آخر ، وهذا الخطأ دليل على رغبة الشيخ في إيضاح هذا الأمر إيضاحا عقلياً .
النتيجة . - تلك هي آراء كل من هذين المذهبين ، اعني الإرادي ، والعقلي . ونحن نرى الآن ان كلا منهما ينتصر في الرد على الآخر ، فالمذهب العقلي صادق في قوله اننـــــا لا نعتقد ما نريد ، وان الرغائب ، والأهواء لا تنوب عن الأدلة ، والبراهين ، وان ابطال حاكم العقل يحتاج إلى أسباب عقلية . والمذهب الإرادي صادق أيضاً في قوله أن أكثر معتقدات الإنسان مبنية على العواطف ، وان انتشار المذاهب السياسية ، والاجتماعية ، والدينية ، يرجع إلى تأثيرها في القلب أكثر مما يرجع إلى تأثيرها في العقل ، وان أكثر الناس يساقون إلى الفعل بعواطفهم ، ورغائبهم ، ومنافعهم ، لا بأفكارهم وعقولهم . وقد اعترف أصحاب المذهب العقلي انفسهم بتأثير العواطف في تكوين الاعتقاد ؛ إلا أنهم تخلصوا من الوقوع في المذهب الإرادي بقولهم : ان الإرادة لا تؤثر في الحكم تأثير أمباشراً ، بل تؤثر فيه بوسط من الفكر . وهذا التعليل لا يقطع مظان الاشتباه ، ولا يجرد الاعتقاد من التأثر بالعواطف . وسواء أكان هذا التأثير مباشراً ، أم غير مباشر ، فإن المذهب العقلي مضطر إلى الاعتراف بوجوده .
قال أحد الكتاب المعاصرين ( ۱ ) : ليست الأفكار هي التي تبعث العواطف ، ولكن العواطف هي التي تبعث الأفكار ، ومعنى ذلك أن العواطف المحضة متقدمة على الأفكار ، خالية من الصور الذهنية ؛ إلا أنها محتاجة إلى إتمام ما ينقصها بالعوامل العقلية ، فتتلقف ما يوافقها من الأفكار ، والصور العارضة ، كما تتحد بعض الاسس الكيماوية المتحيرة بعنصر من العناصر التي تعيد اليها الاستقرار .
فإذا كانت العواطف هي التي تتلقف الأفكار أو تبدعها ، كان المذهب العقلي في حاجة إلى تغيير بعض مقدماته . وإذا كانت البراهين المنطقية ، والأوليات العقلية أقوى من العواطف ومستقلة عنها ، كان المذهب الإرادي الخطة ضعيف الحجة . ومن نظر في أقاويل أصحاب المذهبين وقايس بينها علم أن فيها خطأ واحداً . وهذا الخطأ هو اعتقادهم عسر أن أحوال النفس منفصلة بعضها عن بعض انفصالاً تاماً .
فأصحاب المذهب الإرادي يظنون أن الارادة قوة مجردة ، قادرة على النفي ، والاثبات بذاتها ، من دون أن تتقيد في ذلك بالأفكار ، والتصورات . وهذا الظن مخالف الحقيقة الارادة ، لأنها - كما سنبين فيما بعد - قوة مؤلفة من لحمة العواطف ، وأسدية الفكر ، لاقوة مجردة أو مستقلة عن عناصر النفس الاخرى . الارادة قوة كامنة في كل حالة من أحوال النفس ، لا بل القوى الجزئية الصادرة عن الافكار ، والعواطف . وقد هي . حصيلة جميع ذكرنا غير مرة أن الحياة النفسية شبيهة بنهر دائم الجريان ، فالعواطف ، والافكار ذرات مائه ، والارادة قوة تياره وهذا التشبيه يدل على أن العواطف تؤثر في الأفكار والأفكار في العواطف ، إلا أنه لا يجود الارادة عن أحوال النفس المختلفة ، بل يجعلها تابعة لها ، لأن الإرادة المجردة عن لحمة المواطف وأسدية الفكر ليست سوى شيء خيالي لا حقيقة له .
وأما أصحاب المذهب العقلي فقد أصابوا في قولهم : ان في العقل فاعلية ، وان كل فكرة من الفكرةوة ، وان الارادة لا تفعل ما تشاء ، ولكنهم جهلوا أن المواطف هي أيضاً قوى محركة وان العقل نفسه محتاج الى العمل ليمتحن قيمة تصوراته . فهم قد وقعوا اذن فيما وقع فيه أصحاب المذهب الارادي من التجريد ، لأن المذهب الارادي جرد الارادة عن المعقل ، أما المذهب العقلي فقد جرد العقل عن العواطف .
ج - الأسباب الاجتماعية . - ان للحياة الاجتماعية تأثيراً في الاعتقاد ، وهذا التأثير لا يقتصر على مادة الاعتقاد ، بل يلحق أيضاً درجة الوثوق . لأن يقيننا بمعتقداتنا تابع على الأكثر لصداها الاجتماعي . وكثيراً ما يتولد الاعتقاد من الثقة العمياء بالسلطة الاجتماعية . ان ايمان أكثر الناس بآراء ، زمانهم ، ومعتقداته ، ناشيء عن التقليد . ولو نظرنا الى المجالس السياسية ، لوجدنا أن الأكثرية تحصل فيها بتأثير الزعماء ، حق ان المذاهب نفسها لا تنتشر على الأكثر الا بتأثير شخص أو شخصين من ممثليها . أما العامة . فتفضل الاتباع على الابداع ، وتعتقد ما ينقل اليها اعتقاداً ساذجاً دون تمحيص . وكلما انتشر الاعتقاد وتضخم ازداد تأثيره ، حق انه قد يبطل الفكر الانتقادي ، ويضيق الخناق على العقل .
لقد زعم الاجتماعيون أن للأوليات العقلية أساساً اجتماعياً . لا شك أن اعتقادنا ( ان الكميتين المساويتين لكمية ثالثة متساويتان ( ليس تابعاً لارادتنا ، وانما هو تابع لبداهة العقل . الا أن هذه الاوليات - كما سنبين في فصل مبادى العقل – تختلف باختلاف نمو المدارك البشرية ، وباختلاف أطوار الاجتماع الانساني . فإذا صح ذلك كانت جميع تصديقاتنا ومعتقداتنا تابعة للأحوال الاجتماعية ، لان الاوليات العقلية . الذي تبنى عليه جميع الاحكام .
والاعتقاد لا ينتشر ولا ينمو إلا إذا هيأ له المجتمع أسباب الانتشار والنمو . ما أكثر الاعتقادات التي تضعضعت دعائمها لاعراض المجتمع عنها ، وعدم إحيائه لها من وقت إلى آخر ! قال ( دوركهايم ) : « تحيا الاعتقادات بالأعياد ، والاحتفالات العامة من دينية ، أو علمانية ، وبالمواعظ المختلفة من كنسية ، أو مدرسية ، وبالتمثيل المسرحي ، والتظاهرات الفنية ، وبكلمة واحدة ، يجميع ما يقرب الناس بعضهم من بعض ، ويحملهم على الاشتراك في حياة فكرية ، وخلقية واحدة ( ١ ) .
ينتج من كل ما تقدم أن الاعتقاد ليس حالة بسيطة خاضعة لقوة نفسية دون غيرها ، وإنما هو حالة مركبة تؤثر فيها العوامل الحيوية ، والنفسية ، والاجتماعية ، ولهذه الحالة صلة بجميع وظائف النفس ، من عاطفة ، وتفكير ، وإرادة وسيتضح لك هذا الأمر عند دراسة تكون الاعتقاد .
تعليق