مسألة الاعتقاد - ١ - الحُكْم
مسألة الاعتقاد
إن كل تصديق يقتضي وثوق الذهن بما يظهر له صحيحا ، أو قريبا من الحقيقة ، وفي هذا الوثرق اعتقاد ، وهو ملازم للحكم . وقد فرقوا بينها بقولهم : ان الحكم هو فعل العقل الذي يدرك به وقوع النسبة بين أمرين ، أو عدم وقوعها ، على حين أن الاعتقاد هو الحالة النفسية التي تعقب الحكم ، وتقلبه بالتكرار إلى عادة .
فإذا كان الوثوق تاما ، وكانت أسباب التصديق قوية لا يخالطها شيء من الاعتقاد يقينا ، وإذا كانت أسباب التصديق أقوى من أسباب التكذيب سمي الوثوق اعتقادا ، أورايا ، أوظنا ، واذا كانت أسباب التصديق مساوية لأسباب التكذيب حصل التشكك :
فالاعتقاد اذن هو الحكم الجازم المقابل للتشكيك ، لا بل هو حالة وسطى بين الشك واليقين .
١ - أسباب الاعتقاد
للاعتقاد أسباب حيوية ، ونفسية ، واجتماعية :
'ا - الأسباب الحيوية . - لقد بينا ان الحكم خاضع لغريزة الحياة ، وقلنا أن أحكامنا الاولى شبيهة بالعادات الحركية ، وان مصلحة الإنسان في الدفاع عن نفسه تعوده أنماطا من الفعل ، هي أقل اختلافا من ضروب الحس . ونقول الآن أيضا أن بين قوة الحكم وقوة الفعل قرابة وثيقة ، وهذا يؤيد ما قلناه عن وظيفة الشعور ، فقد ذكرنا أن الشعور سلاح في معترك الحياة . وانه وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس . وعنصر من عناصر . فلا غرو اذا كان الاعتقاد مبنيا على أمرين ، أي على الحاجة ، والعمل ، ان الافكار التي نصدق بها هي الافكار الناجحة ، والافكار التي نكذبها هي الافكار الخاسرة والعمل ميزان الاعتقاد ، والتكيف مقياس صحة العمل . قال الفرد بينه ) ( ۱ ) : « يقولون ان الحكم الإيجابي شبيه بالحركة التي نحدثها حينما نقول نعم ، أما نحن فنقول انه عين تلك الحركة المضمرة التي نحفظها ونجربها في داخلنا ، بدلاً من أن نحدثها برأمنا أو بيدنا ، فلا فرق اذن بين الحكم ، والحركة ، ولا بين الاعتقاد ، والعمل .
ورأي ( الفرد بينه ) هذا لا يخلو من المبالغة . نعم ان الاوضاع البدنية أوائل الحكم والاعتقاد ، ولكن الاعتقاد الحقيقي لا يقتصر على احدات الأوضاع ، بل يقتضي بالإضافة إلى ذلك شعوراً بالعمل المتصل بها .
فخير لنا اذن أن نقول ان الاعتقاد يتغذى بالعمل والحياة ، وأن التصور ينقلب بطبيعته إلى فعل ، وان الإيمان الذي لا يصحبه فعل ، قد يكون صادقاً ، ولكن لا يلبث أن يصاب بالفتور ، والموت . فالاعتقاد غير مفارق إذن لظواهره الخارجية .
ب - الأسباب النفسية . - لقد بحث الفلاسفة منذ القدم في أسباب الاعتقاد النفسية ، فزعم بعضهم أنه تابع للإرادة ، وزعم آخرون أنه تابع للعقل .
تأثير الارادة والعاطفة . - ان كثيراً من معتقداتنا وآرائنا ناشيء عن مطابقة تصور اتنا لمواطفنا ، ورغائبنا ، لذلك أراد الرواقيون ، و ديكارت ، والانتقاديون المعاصرون أن يرجعوا أسباب الاعتقاد إلى الإرادة ، والعاطفة .
رأي الرواقيين . - زعم الرواقيون منذ ا القدم ، أن الوثوق فعل اختياري ، وأن التصور لا ينقلب إلى تصديق إلا بالإرادة ، وان العقل شبيه باليد ، فإذا كانت مفتوحة حصل التصور ، وإذا أمسكت بالشيء إمساكا بسيطاً حصل الرأي ، وإذا قبضت عليه بقوة حصل الاعتقاد ، وإذا قبضت عليه بقوة ، واستعنت باليد الثانية على قبضه ، حصل اليقين ، وهذا كله لا يتم إلا بفعل الإرادة .
رأي ديكارت . - المقل عند ( ديكارت ) يقبل الأشياء قبولاً ، فيتصور المعاني ، ويدرك الأدلة الموافقة ، والبراهين المخالفة لرأي من الآراء ، من غير أن يحكم ويقرر ، أما الإرادة فهي التي تقطع الشك ، وتوقف التردد ، وتحكم بالإيجاب ، أو بالسلب . وتدخل الإرادة ضروري لأن العقل محدود ، لا يعرف كل شيء ، وإذا عرف أمراً عرفه ببطء وتتابع ، أي بالانتقال من حد إلى آخر ، ومن قضية إلى اخرى . وهذا كله يحتاج إلى زمان لا يتفق مع مره رهة الحوادث ، وجريان الوقائع ، ولكن الإرادة تنضم إذ ذاك إلى العقل ، وتغلق باب المناقشة ، وتصدر الحكم . فالحكم تابع إذن للإرادة ، وهو فعل اختياري ، لأن الأرادة ، والحرية ، عند ديكارت ، شيء واحد .
وإذا قيل إن الإرادة لا تتدخل في الاعتقاد إلا بعد أن لها العقل أسباب الحكم ، ي وإن العقل إنما يتجه إلى الحقيقة بنفسه ؛ قلنا إن ( ديكارت ( يعترف بذلك ، ولكنه يرى أن بين العقل والإرادة تبايناً عظيماً . فالارادة غير متناهية ، ليس لفعلها انتهاء ، ولا لقوتها تدريج ، لأنها القدرة على النفي ، والاثبات ، ولا وسط بينهما ، أما العقل فمتناه ، تطفى عليه الارادة ، وتتخطاه إلى الامور التي لم تتضح له بعد .
ومن هذا التباين بين العقل والارادة الحرة ، يتولد الخطأ ـ ان الخطأ شيء حقيقي ، ايجابي ، ناشيء عن تغلب الارادة على العقل ، وخير وسيلة لتجنبه هي التوقف عن الحكم ، حتى لقد زعم ديكارت أن في وسع المرء أن يتوقف عن الحكم ، وان كانت الاسباب الباعثة عليه واضحة ، قال : « ان لنا ملء الحرية في الامتناع دائماً عن قبول الحقيقة البديهية ، ويكفي لذلك أن نعتقد أن في امتناعنا هذا دليلا على حرية اختيارنا . . واذن البداهة العقلية لا تولد الاعتقاد ، وكثيراً ما يقبل العقل بالتسامع والتجربة اموراً كثيرة يعتقدها ويثق بها من غير أن تتضح له .
ولسنا نريد الآن أن نفصل القول في نقد مذهب ( ديكارت ) ، ولكننا نريد أن نقول فيه قولاً واحداً ، وهو أ ديكارت لا يجرد العقل من كل تأثير ، بل يفرق بين الأحكام التي يؤلفها العقل من المعاني البسيطة الواضحة ، والأحكام التي يؤلفها من المعاني المركبة الغامضة ، فالأحكام الاولى ملازمة للبداهة المباشرة ، أما الأحكام الثانية فمتولدة من البداهة غير المباشرة . ونعتقد أن ( ديكارت ( قد جعل هذه الأحكام الأخيرة وحدها تابعة للإرادة .
مذهب الايمان .
- وقد أخذ بهذا المذهب الارادي ( Volontarisme ) كثيرون من فلاسفة العصر ؛ حق لقد جردوا العقل من كل تأثير ، وجعلو الحكم صورة من صور الايمان . وأرجعوا الاعتقاد كله الى الارادة ، فسمي مذهبهم هذا بمذهب الإيمان ( Fidéisme )
ما هي ادلة هذا المذهب ؟ . لأصحاب هذا المذهب دليلان : أحدهما مقتبس من تحليل بعض الأحكام الخاصة ، والثاني مقتبس من تحليل شروط الحكم العامة .
١ - تحليل الأحكام الخاصة . ان تدخل الارادة في بعض الأحكام ظاهر تماماً . مثال ذلك : أن أكثر العمال يثقون بصدق النظريات الاشتراكية ، ويعتقدونها من غير أن يمحصوها ، ويدققوا في اعتراضات علماء الاقتصاد عليها ، وكذلك الرأسماليون فهم ينكرونها ، لمخالفتها لمنافعهم ، ورغائبهم . فهؤلاء كلهم يعتقدون أموراً وأحوالاً من غير أن تكون معتقداتهم مستندة الى عوامل عقلية واضحة . وايمان أكثر الخلق بالعقائد الموروثة مبني على التقليد ، والتلقين ، لا على اليقين العقلي الذي لا غدر فيه ، ولا غائلة ، فالعقل مسخر في أغلب الأحيان للقلب ، ونحن لا نريد ما نتيقن ، بل نتيقن ما نريد .
۲ - تحليل شرائط الحكم العامة . - ان في شرائط الحكم العامة ما يدل على تأثير الارادة في الاعتقاد .
فمن هذه الشرائط الفاعلية المادية . ان المقل لا . يصدر حكمه على أمر من الامور ، بعد الاتجاه اليه بأعضاء الحس ، للاطلاع على صفاته ، وخواصه ، وهذا الاتجاه يقتضي فاعلية مادية خاضعة للإرادة .
و من شرائط الحكم العامة الانتباه . قال أحمد علماء النفس ( ۱ ) : يختلف الحكم باختلاف شدة الانتباه ، فإذا كان انتباهنا قويا أدركنا الأشياء بوضوح ، واذا كان انتباهنا ضعيفاً ، لم تتضح لنا صورها ، ولا عناصرها .
وأسباب التصديق ، والنفي والشك ، تختلف أيضا باختلاف درجة الانتباه ، لقد اعتقد الانسان في البدء أن الشمس تدور حول الارض ، فلما كشف عن بعض الحقائق الخفية ، اعتنق مذهب مضاداً لهذا . مثال ذلك : أن ( كبار ( ظن بعد ملاحظاته الأولى أن أفلاك السيارات دائرية ، ولكنه لما أنعم النظر في هذا الرأي أقلع عنه ، ثم تصور بعد ذلك اثنتي عشرة فرضية فندها كلها ، وأثبت في آخر الامر أن فلك الشمس اهليلجي الشكل . فلماذا قبل هذا الرأي الاخير ؟ . هل لاحظ دوران السيارات في كل مرحلة من مراحل الزمان ؟ أفلا يجوز أن يتبدل حكمه بالتدقيق في الامر مرة ثانية ؟ ثم كيف يحق له أن يوقف المناقشة ؟ ان الحكم لا يكون عقليا محضا الا اذا رد العقل جميع الاعتراضات الممكنة ، ودقق في جميع الادلة الظاهرة ، ولما كان عدد هذه المظان غير متناه ، كان من الضروري أن يدوم فعل الانتباه الى غير نهاية . فالارادة اذن هي التي تقطع مظان الاشتباه ، وتنهي المناقشة .
وأخيراً إن وراء كل حكم عقلي ، مبدأ أوليا هو مبدأ الهوية ، أو مبدأ عدم التناقض ، كقولك : الشيء هو هو ، أو النفي والاثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد في زمان واحد . ان ان هذا المبدأ لا يمكن البرهان عليه ، لأنه من الامور التي يقبلها العقل ، ويسلم بها تسليما من غير دليل وترتيب كلام . فكل ما بني إذن من العلم على هذه المبادىء ، فهو علم وعر الملتمس لا برهان عليه .
نتائج هذا المذهب . - ان هذا المذهب يؤدي إلى نتائج مختلفة ومتعارضة . فمن هذه النتائج الشك العلمي ، لأن الحكم عند الريبيين لا يستند إلى اصول برهانية ثابتة ، ومنها الشك الديني ، والأخلاقي ، لأن المقائد عندهم جملة من الأحكام المقبولة بالتلقين ، والتقليد ، لا بالبرهان العقلي . ولكن أصحاب مذهب الإيمان لا يشكون في العقائد ، بل يشكون في العقل وأحكامه ، ويعتقدون أن الضروريات العقلية إنما تصبح مقبولة وموثوقاً بها بنور القلب وقوة الإيمان . فهم يبدلون العقل عاطفة ، واليقين المنطقي اعتقاداً ، ويريدون أن يخضع العقل للنور الإلهي ، وان يتعرض له لإشراق اليقين عليه ، فاليقين ليس مستنداً إلى حاكم العقل ، وإنما هو مستمد من قوة خارجة عن العقل ، ونحن نذعن لهذا الحاكم بقلوبنا ، من غير أن تتضح لنا أسباب الوثوق ، فالاعتقاد تابع للإرادة ، وإذا اتسع القلب للشك في العقائد الإيمانية ، قالوا ان هذا الشك ناشيء عن فساد الفطرة ، وغلبة الهوى ، والشهوات .
مسألة الاعتقاد
إن كل تصديق يقتضي وثوق الذهن بما يظهر له صحيحا ، أو قريبا من الحقيقة ، وفي هذا الوثرق اعتقاد ، وهو ملازم للحكم . وقد فرقوا بينها بقولهم : ان الحكم هو فعل العقل الذي يدرك به وقوع النسبة بين أمرين ، أو عدم وقوعها ، على حين أن الاعتقاد هو الحالة النفسية التي تعقب الحكم ، وتقلبه بالتكرار إلى عادة .
فإذا كان الوثوق تاما ، وكانت أسباب التصديق قوية لا يخالطها شيء من الاعتقاد يقينا ، وإذا كانت أسباب التصديق أقوى من أسباب التكذيب سمي الوثوق اعتقادا ، أورايا ، أوظنا ، واذا كانت أسباب التصديق مساوية لأسباب التكذيب حصل التشكك :
فالاعتقاد اذن هو الحكم الجازم المقابل للتشكيك ، لا بل هو حالة وسطى بين الشك واليقين .
١ - أسباب الاعتقاد
للاعتقاد أسباب حيوية ، ونفسية ، واجتماعية :
'ا - الأسباب الحيوية . - لقد بينا ان الحكم خاضع لغريزة الحياة ، وقلنا أن أحكامنا الاولى شبيهة بالعادات الحركية ، وان مصلحة الإنسان في الدفاع عن نفسه تعوده أنماطا من الفعل ، هي أقل اختلافا من ضروب الحس . ونقول الآن أيضا أن بين قوة الحكم وقوة الفعل قرابة وثيقة ، وهذا يؤيد ما قلناه عن وظيفة الشعور ، فقد ذكرنا أن الشعور سلاح في معترك الحياة . وانه وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس . وعنصر من عناصر . فلا غرو اذا كان الاعتقاد مبنيا على أمرين ، أي على الحاجة ، والعمل ، ان الافكار التي نصدق بها هي الافكار الناجحة ، والافكار التي نكذبها هي الافكار الخاسرة والعمل ميزان الاعتقاد ، والتكيف مقياس صحة العمل . قال الفرد بينه ) ( ۱ ) : « يقولون ان الحكم الإيجابي شبيه بالحركة التي نحدثها حينما نقول نعم ، أما نحن فنقول انه عين تلك الحركة المضمرة التي نحفظها ونجربها في داخلنا ، بدلاً من أن نحدثها برأمنا أو بيدنا ، فلا فرق اذن بين الحكم ، والحركة ، ولا بين الاعتقاد ، والعمل .
ورأي ( الفرد بينه ) هذا لا يخلو من المبالغة . نعم ان الاوضاع البدنية أوائل الحكم والاعتقاد ، ولكن الاعتقاد الحقيقي لا يقتصر على احدات الأوضاع ، بل يقتضي بالإضافة إلى ذلك شعوراً بالعمل المتصل بها .
فخير لنا اذن أن نقول ان الاعتقاد يتغذى بالعمل والحياة ، وأن التصور ينقلب بطبيعته إلى فعل ، وان الإيمان الذي لا يصحبه فعل ، قد يكون صادقاً ، ولكن لا يلبث أن يصاب بالفتور ، والموت . فالاعتقاد غير مفارق إذن لظواهره الخارجية .
ب - الأسباب النفسية . - لقد بحث الفلاسفة منذ القدم في أسباب الاعتقاد النفسية ، فزعم بعضهم أنه تابع للإرادة ، وزعم آخرون أنه تابع للعقل .
تأثير الارادة والعاطفة . - ان كثيراً من معتقداتنا وآرائنا ناشيء عن مطابقة تصور اتنا لمواطفنا ، ورغائبنا ، لذلك أراد الرواقيون ، و ديكارت ، والانتقاديون المعاصرون أن يرجعوا أسباب الاعتقاد إلى الإرادة ، والعاطفة .
رأي الرواقيين . - زعم الرواقيون منذ ا القدم ، أن الوثوق فعل اختياري ، وأن التصور لا ينقلب إلى تصديق إلا بالإرادة ، وان العقل شبيه باليد ، فإذا كانت مفتوحة حصل التصور ، وإذا أمسكت بالشيء إمساكا بسيطاً حصل الرأي ، وإذا قبضت عليه بقوة حصل الاعتقاد ، وإذا قبضت عليه بقوة ، واستعنت باليد الثانية على قبضه ، حصل اليقين ، وهذا كله لا يتم إلا بفعل الإرادة .
رأي ديكارت . - المقل عند ( ديكارت ) يقبل الأشياء قبولاً ، فيتصور المعاني ، ويدرك الأدلة الموافقة ، والبراهين المخالفة لرأي من الآراء ، من غير أن يحكم ويقرر ، أما الإرادة فهي التي تقطع الشك ، وتوقف التردد ، وتحكم بالإيجاب ، أو بالسلب . وتدخل الإرادة ضروري لأن العقل محدود ، لا يعرف كل شيء ، وإذا عرف أمراً عرفه ببطء وتتابع ، أي بالانتقال من حد إلى آخر ، ومن قضية إلى اخرى . وهذا كله يحتاج إلى زمان لا يتفق مع مره رهة الحوادث ، وجريان الوقائع ، ولكن الإرادة تنضم إذ ذاك إلى العقل ، وتغلق باب المناقشة ، وتصدر الحكم . فالحكم تابع إذن للإرادة ، وهو فعل اختياري ، لأن الأرادة ، والحرية ، عند ديكارت ، شيء واحد .
وإذا قيل إن الإرادة لا تتدخل في الاعتقاد إلا بعد أن لها العقل أسباب الحكم ، ي وإن العقل إنما يتجه إلى الحقيقة بنفسه ؛ قلنا إن ( ديكارت ( يعترف بذلك ، ولكنه يرى أن بين العقل والإرادة تبايناً عظيماً . فالارادة غير متناهية ، ليس لفعلها انتهاء ، ولا لقوتها تدريج ، لأنها القدرة على النفي ، والاثبات ، ولا وسط بينهما ، أما العقل فمتناه ، تطفى عليه الارادة ، وتتخطاه إلى الامور التي لم تتضح له بعد .
ومن هذا التباين بين العقل والارادة الحرة ، يتولد الخطأ ـ ان الخطأ شيء حقيقي ، ايجابي ، ناشيء عن تغلب الارادة على العقل ، وخير وسيلة لتجنبه هي التوقف عن الحكم ، حتى لقد زعم ديكارت أن في وسع المرء أن يتوقف عن الحكم ، وان كانت الاسباب الباعثة عليه واضحة ، قال : « ان لنا ملء الحرية في الامتناع دائماً عن قبول الحقيقة البديهية ، ويكفي لذلك أن نعتقد أن في امتناعنا هذا دليلا على حرية اختيارنا . . واذن البداهة العقلية لا تولد الاعتقاد ، وكثيراً ما يقبل العقل بالتسامع والتجربة اموراً كثيرة يعتقدها ويثق بها من غير أن تتضح له .
ولسنا نريد الآن أن نفصل القول في نقد مذهب ( ديكارت ) ، ولكننا نريد أن نقول فيه قولاً واحداً ، وهو أ ديكارت لا يجرد العقل من كل تأثير ، بل يفرق بين الأحكام التي يؤلفها العقل من المعاني البسيطة الواضحة ، والأحكام التي يؤلفها من المعاني المركبة الغامضة ، فالأحكام الاولى ملازمة للبداهة المباشرة ، أما الأحكام الثانية فمتولدة من البداهة غير المباشرة . ونعتقد أن ( ديكارت ( قد جعل هذه الأحكام الأخيرة وحدها تابعة للإرادة .
مذهب الايمان .
- وقد أخذ بهذا المذهب الارادي ( Volontarisme ) كثيرون من فلاسفة العصر ؛ حق لقد جردوا العقل من كل تأثير ، وجعلو الحكم صورة من صور الايمان . وأرجعوا الاعتقاد كله الى الارادة ، فسمي مذهبهم هذا بمذهب الإيمان ( Fidéisme )
ما هي ادلة هذا المذهب ؟ . لأصحاب هذا المذهب دليلان : أحدهما مقتبس من تحليل بعض الأحكام الخاصة ، والثاني مقتبس من تحليل شروط الحكم العامة .
١ - تحليل الأحكام الخاصة . ان تدخل الارادة في بعض الأحكام ظاهر تماماً . مثال ذلك : أن أكثر العمال يثقون بصدق النظريات الاشتراكية ، ويعتقدونها من غير أن يمحصوها ، ويدققوا في اعتراضات علماء الاقتصاد عليها ، وكذلك الرأسماليون فهم ينكرونها ، لمخالفتها لمنافعهم ، ورغائبهم . فهؤلاء كلهم يعتقدون أموراً وأحوالاً من غير أن تكون معتقداتهم مستندة الى عوامل عقلية واضحة . وايمان أكثر الخلق بالعقائد الموروثة مبني على التقليد ، والتلقين ، لا على اليقين العقلي الذي لا غدر فيه ، ولا غائلة ، فالعقل مسخر في أغلب الأحيان للقلب ، ونحن لا نريد ما نتيقن ، بل نتيقن ما نريد .
۲ - تحليل شرائط الحكم العامة . - ان في شرائط الحكم العامة ما يدل على تأثير الارادة في الاعتقاد .
فمن هذه الشرائط الفاعلية المادية . ان المقل لا . يصدر حكمه على أمر من الامور ، بعد الاتجاه اليه بأعضاء الحس ، للاطلاع على صفاته ، وخواصه ، وهذا الاتجاه يقتضي فاعلية مادية خاضعة للإرادة .
و من شرائط الحكم العامة الانتباه . قال أحمد علماء النفس ( ۱ ) : يختلف الحكم باختلاف شدة الانتباه ، فإذا كان انتباهنا قويا أدركنا الأشياء بوضوح ، واذا كان انتباهنا ضعيفاً ، لم تتضح لنا صورها ، ولا عناصرها .
وأسباب التصديق ، والنفي والشك ، تختلف أيضا باختلاف درجة الانتباه ، لقد اعتقد الانسان في البدء أن الشمس تدور حول الارض ، فلما كشف عن بعض الحقائق الخفية ، اعتنق مذهب مضاداً لهذا . مثال ذلك : أن ( كبار ( ظن بعد ملاحظاته الأولى أن أفلاك السيارات دائرية ، ولكنه لما أنعم النظر في هذا الرأي أقلع عنه ، ثم تصور بعد ذلك اثنتي عشرة فرضية فندها كلها ، وأثبت في آخر الامر أن فلك الشمس اهليلجي الشكل . فلماذا قبل هذا الرأي الاخير ؟ . هل لاحظ دوران السيارات في كل مرحلة من مراحل الزمان ؟ أفلا يجوز أن يتبدل حكمه بالتدقيق في الامر مرة ثانية ؟ ثم كيف يحق له أن يوقف المناقشة ؟ ان الحكم لا يكون عقليا محضا الا اذا رد العقل جميع الاعتراضات الممكنة ، ودقق في جميع الادلة الظاهرة ، ولما كان عدد هذه المظان غير متناه ، كان من الضروري أن يدوم فعل الانتباه الى غير نهاية . فالارادة اذن هي التي تقطع مظان الاشتباه ، وتنهي المناقشة .
وأخيراً إن وراء كل حكم عقلي ، مبدأ أوليا هو مبدأ الهوية ، أو مبدأ عدم التناقض ، كقولك : الشيء هو هو ، أو النفي والاثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد في زمان واحد . ان ان هذا المبدأ لا يمكن البرهان عليه ، لأنه من الامور التي يقبلها العقل ، ويسلم بها تسليما من غير دليل وترتيب كلام . فكل ما بني إذن من العلم على هذه المبادىء ، فهو علم وعر الملتمس لا برهان عليه .
نتائج هذا المذهب . - ان هذا المذهب يؤدي إلى نتائج مختلفة ومتعارضة . فمن هذه النتائج الشك العلمي ، لأن الحكم عند الريبيين لا يستند إلى اصول برهانية ثابتة ، ومنها الشك الديني ، والأخلاقي ، لأن المقائد عندهم جملة من الأحكام المقبولة بالتلقين ، والتقليد ، لا بالبرهان العقلي . ولكن أصحاب مذهب الإيمان لا يشكون في العقائد ، بل يشكون في العقل وأحكامه ، ويعتقدون أن الضروريات العقلية إنما تصبح مقبولة وموثوقاً بها بنور القلب وقوة الإيمان . فهم يبدلون العقل عاطفة ، واليقين المنطقي اعتقاداً ، ويريدون أن يخضع العقل للنور الإلهي ، وان يتعرض له لإشراق اليقين عليه ، فاليقين ليس مستنداً إلى حاكم العقل ، وإنما هو مستمد من قوة خارجة عن العقل ، ونحن نذعن لهذا الحاكم بقلوبنا ، من غير أن تتضح لنا أسباب الوثوق ، فالاعتقاد تابع للإرادة ، وإذا اتسع القلب للشك في العقائد الإيمانية ، قالوا ان هذا الشك ناشيء عن فساد الفطرة ، وغلبة الهوى ، والشهوات .
تعليق