حقيقة الحكم .. الحُكْم
حقيقة الحكم
الحكم عند التجريبيين تركيب آلي مستند إلى الإحساس ، أو تداعي الأفكار .
نظرية كوندياك . - زعم كوندياك أن الحكم إحساس مضاعف ، ودليله على ذلك أنك إذا قلت : الثلج بارد ؛ جمعت إحساسك بالثلج إلى إحساسك بالبرودة .
ونحن نرى ان هذه النظرية ضعيفة للأسباب الآتية :
۱ - ان الحكم لا يتألف من الصور الحسية فحسب ، بل يتألف كذلك . من المعاني المجردة .
٢ - قد أجمع في الحكم بين إحساس حاضر ، وذكرى إحساس غائب ، مثال ذلك : حكمي بأن هذه القرية التي أراها الآن مشابهة للقرية التي زرتها في العام الماضي .
٣ - قد يجتمع في الذهن إحساسات مختلفة في وقت واحد من غير أن يتولد من وجودهما معاً حكم .
٤ - لو كان الحكم مؤلفاً من احساسين فقط ، لما أخطأ الإنسان في حكمه . قال جان جاك روسو : ( لو كان الحكم بوجود النسبة احساساً ، وكان هذا الإحساس نسخة عن الشيء فقط . لما أخطأنا في أحكامنا أبداً ، لأنه لا خطأ في شعور الإنسان بما يحس ( ۱ ) . الخطأ ليس في الإحساس ، وانما هو في القياس ، والقياس لا يتم الا بفعل العقل .
نظرية التداعي . - ان نظرية التداعي لا تختلف كثيراً عن نظرية ( كوندياك ) . لأنها تزعم أن الحكم انما يتم بجمع الصور النفسية وتركيبها تركيباً آليا . فالحكم مركب من المعاني ، ورابطة هذا التركيب نمط من تداعي الأفكار . قال ( استوارت ميل ) : ان الأحكام لا تدل على وقوع النسبة بين تصورين ، بل تدل على وقوعها بين شيئين محسوسين ، فإذا قلت : الثلج أبيض ، لم يدل قولي هذا على أن الأبيض جنس ، وأن الثلج نوع داخل فيه ، ولا على أن الأبيض محمول على الثلج ؛ بل دل على ميلي القوي الى الجمع بين الثلج ، والأبيض في فعل نفسي واحد بتأثير التجربة والإحساس ، ويتم هذا الجمع برابطة الاقتران ، فلا يحصل لي ادراك أحدهما حتى يحصل لي ادراك الآخر معه .
المناقشة . - قد تتشابه نتائج الأحكام ، ونتائج تداعي الأفكار ، فيظن المرء أن هذا التشابه الظاهر يدل على تشابه حقيقي . وهذا خطأ لأن بعض أفعال الحيوان وان كانت مشابهة في الظاهر لأفعال الانسان ، فإن الحيوان لا يفكر الا بالتداعي ، فكما ان الكلب يهرب من العصا الا لأن صورة العصا مقارنة في نفسه لصورة الألم ، كذلك الانسان يهرب من المدينة الموبوءة الا لشعوره بالخطر ، فالنتيجة بحسب الظاهر واحدة ، ولكنها في الباطن مختلفة ، وكثيراً ما تكون أفعال الانسان مشابهة في الظاهر والباطن معا لأفعال الحيوان ، فيعمل من غير حكم ولا تفكير ، حق لقد قال ليبنيز : ان بعض الناس يشبهون الآلات في معظم أفعالهم .
ولكن هل يدل هذا التشابه الظاهر بين الحكم ، وتداعي الأفكار ، على أن كلا من هذين الأمرين النفسيين هو عين الآخر ؟ ان تداعي الأفكار ارتباط آلي بين الصور ، خاضع للاقتران ، ، والمشابهة ، ، أما الحكم فهو انتخاب عقلي لاحدى الصور المتتابعة ، وايقاع النسبة بينها وبين غيرها من الصور الموافقة .. مثال ذلك : ان معنى الحوت يوقظ في ذهني سلسلة من المعاني والصور المرتبطة برابطي الاقتران ، والمشابهة : كالسمك ، واللبون ، والفيل ، والبحر ، ومتحف الحيوانات ، وغير ذلك . ولكني حينما أؤلف حكماً مطابقاً لحاجتي الحاضرة ، لا أسند هذه المعاني كلها الى معنى الحوت ، بل أنتخب منها معنى واحداً ، وأقول مثلا : الحوت ثديي . وهذا يؤيد قولنا أن الحكم قرار ذهني يثبت به العقل مضمون الاعتقاد ، ويقلبه الى حقيقة . قال ( رويسن ) : « لقد أصاب استوارت ميل في قوله : انا ندرك الأشياء بالتداعي على وجه ، ونعتقدها على وجه آخر . لقد ثبتت العادة حركة الشمس حول الأرض في خيالنا ، ولكن هذه العادة لا تمنعنا . الاعتقاد أن الأرض تدور حول الشمس . ليس تداعي الأفكار الا سلسلة ذاتية محضة خاضعة لمصادفات التجارب اليومية ، ولتبدلات الذاكرة والخيال . ان سلسلة التصورات في ظاهرة التداعي تجري كما تجري الصور في الأحلام ، أما الحكم فهو وقوف في جريان هذه السلسلة ( ١ ) . فإذا قلت : الحوت ثديي طردت من ذهني جميع الصور الأخرى المقارنة الصورة الحوت و ثبت معنى واحداً ، وقد أتخيل في الوقت نفسه صوراً اخرى مشابهة للحوت ، ولكن الحكم شيء ، والتخيل شيء آخر .
ينتج من ذلك أن حالة الذهن في الحكم تختلف تماماً : عن . حالته في تداعي الأفكار ، ان الأفكار تتسلسل في التداعي ، كما تتعاقب الصور في الأحلام ، ، فلا سلطان للعقل على تسلسلها ، ولا ارتباط يمين اتجاهها ، وهي تظهر وتغيب من غير أن يكون لي فيها اختيار .
وقد فرق العلماء بين تداعي الأفكار ، وارتباط الأفكار ( ۲ ) ، فقالوا ان التداعي آلي والارتباط منطقي ، وان العقل يكون في الأول منفعلا ، وفي الثاني فاعلاء أما أثر التداعي في الحكم أي أثر هذا التسلسل الالي في الارتباط المنطقي ، فهو أن تداعي الأفكار يهيء للعقل عناصر الحكم ، فينتخب من بينها صفة تصلح للإسناد . فالحكم فعل نفسي عال يستعين بتداعي الأفكار على ايجاد عناصر الاسناد ، ولكن روابطه المنطقية لا تنحل الى التتابع الآلي ، والتسلسل التلقائي .
الحكم تحليل وتركيب - ليس الحكم كما زعم فـ فلاسفة التداعي تركيباً فقط . وانما هو تركيب وتحليل معاً . اننا لاندرك المحمول الذي في الحكم منفصلا عن الموضوع ، بلندر که في أول الأمر متحداً به . نعم ان المنطقي يؤلف الجمل من الالفاظ ، والقضايا من الحدود ، ولكن هذا التركيب المنطقي لا ينطبق على حقيقة الفعل النفسي .
انظر الى الطفل ، انه لا يفرق بين المحمول ، والموضوع ، ولا بين الصفة ، والموصوف ) بل يلقي على الاشياء نظرة تركيبية مبهمة . وكثيراً ما يستعمل لفظاً واحداً الدلالة على الحكم كقوله ( سخن ) عن الحليب الحار ، أو عن احتراق لسانه به . إذن فالحكم ليس مركباً عند الطفل من حدين منفصلين .
وهذا يدل على أن احكامنا الاولى ليست واضحة الحدود ، بينة الأجزاء ، والعناصر . ونحن لا ندرك في البدء وقوع النسبة بين امرين إدراكاً واضحاً ، بل نشعر بها شعوراً غامضاً ، ثم تحللها إلى عناصرها ، فالحكم في نظر المنطقي تركيب ، ولكنه في نظر النفسي تحليل ، ولنبين ذلك ببعض الأمثلة :
المثال الأول : لننظر أولاً في حكم مؤلف من مدركات حسية ، كقولنا الثلجأ بيض . ان هذا الحكم لا يكون تركيباً إلا إذا تصورنا الثلج منفصلا عن الأبيض ، ولكننا في الواقع لا نتصور أحد هذين الأمرين منفصلا عن الآخر ، بل نتصور هما معاً ، . هبني صعدت جبلا مغطى بالثلج . إن الثلج الذي أراء أمامي كثير الصفات ، فهو أبيض ، وبارد ، وناعم ، الخ .. ولو جردته من صفاته هذه لما كان ثلجاً . فأنا لا ادرك معنى الثلج مستقلا عن صفاته هذه ، بل ادر كه ، وادرك صفاته كلها إدراكاً حدسياً واحداً غير منقسم ، ولو أدركت معنى الثلج مستقلا عن معنى البياض ، لما جمعت بينهما في حكم حملي مطلق ، كما في قولي : الثلج أبيض ، ولا كتفيت بحكم امكاني ، كقولي : من الممكن أن يكون الثلج أبيض . فهذا الحكم المطلق يدل إذن على أن إدراكي للثلج إدراك حدسي ، لا تفترق فيه الصور ، بل تتجمع بعضها فوق بعض تجمعاً مبهماً .
المثال الثاني : ولننظر الآن في حكم مؤلف من حدود عقلية مجردة ، كقولنا : العدالة فضيلة . ان هذا الحكم لا يمكن أن يكون تركيباً إلا إذا تصورنا كلا من الحدين منفصلا عن الآخر ، ولكني حينما أقول : العدالة فضيلة ، لا أتصور العدالة منفصلة عن الفضيلة ، بل أتصور هما معاً . وكيف أستطيع أن أتصور العدالة مجردة من كل صفة . ليست هذه العدالة المجردة إلا لفظاً فارغاً ، أما العدالة التي أدركها فتتضمن كثيراً من الصفات ، فهي فضيلة متوسطة بين الظلم والانظلام ، وهي نادرة ، ومحببة إلى القلب ، وهي أساس الملك ، ، الخ فأنا أتصور هذا المجموع كله قبل تصور الأجزاء ، ولكن تصوري له تصور مبهم . غامض لا يتضح إلا بالتحليل ، وهو أن انتزع منه صفة من الصفات ، وأن أجعلها محمولاً ، ثم أسندها إلى الموضوع وأقول : العدالة فضيلة .
ينتج من هذا كله أن الحكم تحليل بين تركيبين ، فنحن ندرك الأشياء بالحدس إدراكا تركيبياً مبهماً ، ثم نرجعها بالتحليل إلى عناصرها المختلفة ، ثم نسند بعض هذه العناصر إلى بعض ، ونؤلف منها حكماً . فما هي العوامل التي تعين على هذا التحليل ؟
هناك مسألتان .
١ - كيف نجزيء هذا المجموع المبهم إلى محمول وموضوع
لنرجع إلى الأمثلة التي قدمناها . اني أشعر وأنا أمشي فوق الثلج بالبرودة ، والبياض ، والنعومة ، وجهر العينين من لمعان الشمس ، وطقطقة حوافر النيل ، وغير ذلك من الإحساسات المشتبكة . فأي شيء من هذه الأشياء أجعله موضوعاً ، وأيها أجعله محمولاً ؟. كيف يمكنني أن افرق بينها فأجعل بعضها ثابتا ، والآخر متغيراً . ان انتخاب الموضوع يرجع بنا إلى تصور الشيء الخارجي . أما تصور المحمول فيتم بالإحساسات الاخرى التي لم أدخلها في تصور الموضوع . وتصور الشيء الخارجي في مثالنا هذا ، هو تصور معنى الثلج ، فكيف اولف معنى الثلج ؟ اني اقسم الصفات التي أحس بها قسمين : أحدهما ثابت ، والآخر متغير ، فأولف معنى الثلج من الصفات الثابتة ، وأجعله موضوعا ، ثم اتخذ إحدى الصفات المتغيرة وأجعلها محمولاً . قد يكون الثلج رخصا ، أو صلبا ، نظيفا ، أو وسخا ، مبعثراً ، أو متراكما ، وقد يتغير حجمه ؛ ويتبدل شكله ، ولونه ، من غير أن ينقلب إلى شيء آخر ، بل يبقى هو ذاته . فالصفات المتغيرة أعراض لا يؤثر تبدلها في حقيقة الشيء ؟ أما الصفات الثابتة كالامتداد ، والوزن ، والكتلة ، وغيرها فهي التي يتألف منها الجوهر . فنحن تجعل هذا الثابت موضوعا للحكم ، ونجعل المتغير من الصفات محمولاً .
ينتج من ذلك ان الحكم تحليل نرجع ما فيه من المركبات النفسية المبهمة إلى عناصر ثابتة وعناصر متغيرة ، فنجعل الثابت منها موضوعا ، والمتغير محمولاً .
٢ - كيف ننتخب المحمول ونفضله على سائر الصفات الاخرى ؟
ان صفات الثلج المتغيرة كثيرة ، فكيف فرقت بينها . لماذا قلت : الثلج أبيض بدلاً من أن أقول : الثلج بارد ، الثلج ناعم ، الخ .. ؟ ان لمشاغلنا الحاضرة أثراً في هذا الانتخاب ، كما أن لقانون الاهتمام عملا في هذا التحليل ، والعلاقات التي ننتبه لها هي العلاقات المبنية على منافعنا ، المتصلة بأعمالنا . لذلك قال الحكماء : الحكم لا يدل على علاقة بين الأشياء المستقلة عنا ، بل يدل على علاقة بيننا وبين الأشياء ، فهو يدل أولاً على وجود الذات العاقلة ، ويدل ثانيا على وجود الشيء ومطابقته لتصور العقل ، ويقرر أخيراً أن العلاقة التي اشتمل عليها التصديق علاقة موضوعية مطلقة . فقولك : سقراط حكيم ، يشتمل على ثلاثة تصديقات :
١ - التصديق بوجودك .
٢ - التصديق بأن تصور العقل مطابق لحقيقة الشيء .
٣ - التصديق بأن كل إنسان يحكم بما حكمت به أنت .
وأقوى هذه التصديقات دلالة على حقيقة الحكم ، التصديق الأول ، لأنه يقلب العلاقة التي بين الموضوع والمحمول إلى علاقة بيننا وبين الأشياء .
وهذا يدل أيضا على أن لقوة الحكم علاقة مباشرة بالعمل والحياة ، ولا غرو ، فإن الشعور وسيلة للدفاع عن النفس ، وسلاح في معترك الحياة ، وعامل من عوامل التكيف .
ومن مصلحة الإنسان في الدفاع عن نفسه ، أن يرجع المركب إلى البسيط ، أي أن يرد هذه الإحساسات المشتبكة التي تحيط به إلى علاقات بسيطة ، وأن يتعودأنماطا من الفعل أقل اختلافا من ضروب الحس ، فلا تعجب للعقل اذا حلل معطيات التجربة المتغيرة ، وكشف بتحليله هذا . العلاقات الثابتة الصالحة للعمل . قال ( رويسن ) : ان الطفل الذي يمد يده إلى كل سائل أبيض ، يحكم على طريقته وبصورة حركية ، بوجود المشابهة بين الأشياء . والسنجاب الذي يقفز من شجرة إلى اخرى يقدر المسافة بالطريقة نفسها . ان هذه الأحكام الأولية شبيهة بالعادات الحركية ، إنها تجمع بين محاسن العادة ومضارها . فمن حاسنها أنها تسهل العمل ، وتجعله سريعا . ومن مضارها انها تدعو إلى الرضا بالطرق متفقا التقريبية ، والحلول السطحية . ولكننا إذا أردنا أن يكون عملنا مطابقا للأشياء كل المطابقة ، صححنا تصوراتنا العامة ، وأعدنا النظر فيها ، وأوضحناها بحمل بعض الصفات عليها . وهكذا يتكون الحكم من الموضوع والمحمول ، فالموضوع يشتمل على العلاقات العامة الثابتة ، والمحمول يدل على الصفات المتغيرة . وغاية كل حكم أن يجعل التصور مع الحاضر الذي نحن فيه . لنحلل قولنا : هذه الساعة من ذهب . ان معنى الساعة يشتمل بالقوة على أحكام كثيرة ، ولكن هذه الأحكام الممكنة لا تنتقل من القوة إلى الفعل ، إلا بتأثير الحاجة . لأني إذا أردت أن أبيع الساعة قلت أمام الشاري : هذه الساعة من ذهب ترغيبا له في شرائها ، فالمحمول يوضح الموضوع المبهم ويجعله بينا . والتصور نفسه حكم ، أو هو امكان عدد غير معين من الاحكام ، ولكن الحكم الذي يتضمنه التصور حكم مبهم غامض ، على عكس الحكم المؤلف من الموضوع ، والمحمول ، فهو أثبت من التصور ، وأكثر وضوحاً منه .
و قصارى القول ان الحكم تحليل لمعطيات الحس المبهمة ، وهو خاضع لغرائز الحياة والعادات السابقة ، والحاجات الحاضرة ، غايته انتزاع علاقة عامة كائنة بيننا وبين الاشياء لا علاقة كائنة بين موضوع ، ومحمول ، مستقلين عن أذهاننا •
حقيقة الحكم
الحكم عند التجريبيين تركيب آلي مستند إلى الإحساس ، أو تداعي الأفكار .
نظرية كوندياك . - زعم كوندياك أن الحكم إحساس مضاعف ، ودليله على ذلك أنك إذا قلت : الثلج بارد ؛ جمعت إحساسك بالثلج إلى إحساسك بالبرودة .
ونحن نرى ان هذه النظرية ضعيفة للأسباب الآتية :
۱ - ان الحكم لا يتألف من الصور الحسية فحسب ، بل يتألف كذلك . من المعاني المجردة .
٢ - قد أجمع في الحكم بين إحساس حاضر ، وذكرى إحساس غائب ، مثال ذلك : حكمي بأن هذه القرية التي أراها الآن مشابهة للقرية التي زرتها في العام الماضي .
٣ - قد يجتمع في الذهن إحساسات مختلفة في وقت واحد من غير أن يتولد من وجودهما معاً حكم .
٤ - لو كان الحكم مؤلفاً من احساسين فقط ، لما أخطأ الإنسان في حكمه . قال جان جاك روسو : ( لو كان الحكم بوجود النسبة احساساً ، وكان هذا الإحساس نسخة عن الشيء فقط . لما أخطأنا في أحكامنا أبداً ، لأنه لا خطأ في شعور الإنسان بما يحس ( ۱ ) . الخطأ ليس في الإحساس ، وانما هو في القياس ، والقياس لا يتم الا بفعل العقل .
نظرية التداعي . - ان نظرية التداعي لا تختلف كثيراً عن نظرية ( كوندياك ) . لأنها تزعم أن الحكم انما يتم بجمع الصور النفسية وتركيبها تركيباً آليا . فالحكم مركب من المعاني ، ورابطة هذا التركيب نمط من تداعي الأفكار . قال ( استوارت ميل ) : ان الأحكام لا تدل على وقوع النسبة بين تصورين ، بل تدل على وقوعها بين شيئين محسوسين ، فإذا قلت : الثلج أبيض ، لم يدل قولي هذا على أن الأبيض جنس ، وأن الثلج نوع داخل فيه ، ولا على أن الأبيض محمول على الثلج ؛ بل دل على ميلي القوي الى الجمع بين الثلج ، والأبيض في فعل نفسي واحد بتأثير التجربة والإحساس ، ويتم هذا الجمع برابطة الاقتران ، فلا يحصل لي ادراك أحدهما حتى يحصل لي ادراك الآخر معه .
المناقشة . - قد تتشابه نتائج الأحكام ، ونتائج تداعي الأفكار ، فيظن المرء أن هذا التشابه الظاهر يدل على تشابه حقيقي . وهذا خطأ لأن بعض أفعال الحيوان وان كانت مشابهة في الظاهر لأفعال الانسان ، فإن الحيوان لا يفكر الا بالتداعي ، فكما ان الكلب يهرب من العصا الا لأن صورة العصا مقارنة في نفسه لصورة الألم ، كذلك الانسان يهرب من المدينة الموبوءة الا لشعوره بالخطر ، فالنتيجة بحسب الظاهر واحدة ، ولكنها في الباطن مختلفة ، وكثيراً ما تكون أفعال الانسان مشابهة في الظاهر والباطن معا لأفعال الحيوان ، فيعمل من غير حكم ولا تفكير ، حق لقد قال ليبنيز : ان بعض الناس يشبهون الآلات في معظم أفعالهم .
ولكن هل يدل هذا التشابه الظاهر بين الحكم ، وتداعي الأفكار ، على أن كلا من هذين الأمرين النفسيين هو عين الآخر ؟ ان تداعي الأفكار ارتباط آلي بين الصور ، خاضع للاقتران ، ، والمشابهة ، ، أما الحكم فهو انتخاب عقلي لاحدى الصور المتتابعة ، وايقاع النسبة بينها وبين غيرها من الصور الموافقة .. مثال ذلك : ان معنى الحوت يوقظ في ذهني سلسلة من المعاني والصور المرتبطة برابطي الاقتران ، والمشابهة : كالسمك ، واللبون ، والفيل ، والبحر ، ومتحف الحيوانات ، وغير ذلك . ولكني حينما أؤلف حكماً مطابقاً لحاجتي الحاضرة ، لا أسند هذه المعاني كلها الى معنى الحوت ، بل أنتخب منها معنى واحداً ، وأقول مثلا : الحوت ثديي . وهذا يؤيد قولنا أن الحكم قرار ذهني يثبت به العقل مضمون الاعتقاد ، ويقلبه الى حقيقة . قال ( رويسن ) : « لقد أصاب استوارت ميل في قوله : انا ندرك الأشياء بالتداعي على وجه ، ونعتقدها على وجه آخر . لقد ثبتت العادة حركة الشمس حول الأرض في خيالنا ، ولكن هذه العادة لا تمنعنا . الاعتقاد أن الأرض تدور حول الشمس . ليس تداعي الأفكار الا سلسلة ذاتية محضة خاضعة لمصادفات التجارب اليومية ، ولتبدلات الذاكرة والخيال . ان سلسلة التصورات في ظاهرة التداعي تجري كما تجري الصور في الأحلام ، أما الحكم فهو وقوف في جريان هذه السلسلة ( ١ ) . فإذا قلت : الحوت ثديي طردت من ذهني جميع الصور الأخرى المقارنة الصورة الحوت و ثبت معنى واحداً ، وقد أتخيل في الوقت نفسه صوراً اخرى مشابهة للحوت ، ولكن الحكم شيء ، والتخيل شيء آخر .
ينتج من ذلك أن حالة الذهن في الحكم تختلف تماماً : عن . حالته في تداعي الأفكار ، ان الأفكار تتسلسل في التداعي ، كما تتعاقب الصور في الأحلام ، ، فلا سلطان للعقل على تسلسلها ، ولا ارتباط يمين اتجاهها ، وهي تظهر وتغيب من غير أن يكون لي فيها اختيار .
وقد فرق العلماء بين تداعي الأفكار ، وارتباط الأفكار ( ۲ ) ، فقالوا ان التداعي آلي والارتباط منطقي ، وان العقل يكون في الأول منفعلا ، وفي الثاني فاعلاء أما أثر التداعي في الحكم أي أثر هذا التسلسل الالي في الارتباط المنطقي ، فهو أن تداعي الأفكار يهيء للعقل عناصر الحكم ، فينتخب من بينها صفة تصلح للإسناد . فالحكم فعل نفسي عال يستعين بتداعي الأفكار على ايجاد عناصر الاسناد ، ولكن روابطه المنطقية لا تنحل الى التتابع الآلي ، والتسلسل التلقائي .
الحكم تحليل وتركيب - ليس الحكم كما زعم فـ فلاسفة التداعي تركيباً فقط . وانما هو تركيب وتحليل معاً . اننا لاندرك المحمول الذي في الحكم منفصلا عن الموضوع ، بلندر که في أول الأمر متحداً به . نعم ان المنطقي يؤلف الجمل من الالفاظ ، والقضايا من الحدود ، ولكن هذا التركيب المنطقي لا ينطبق على حقيقة الفعل النفسي .
انظر الى الطفل ، انه لا يفرق بين المحمول ، والموضوع ، ولا بين الصفة ، والموصوف ) بل يلقي على الاشياء نظرة تركيبية مبهمة . وكثيراً ما يستعمل لفظاً واحداً الدلالة على الحكم كقوله ( سخن ) عن الحليب الحار ، أو عن احتراق لسانه به . إذن فالحكم ليس مركباً عند الطفل من حدين منفصلين .
وهذا يدل على أن احكامنا الاولى ليست واضحة الحدود ، بينة الأجزاء ، والعناصر . ونحن لا ندرك في البدء وقوع النسبة بين امرين إدراكاً واضحاً ، بل نشعر بها شعوراً غامضاً ، ثم تحللها إلى عناصرها ، فالحكم في نظر المنطقي تركيب ، ولكنه في نظر النفسي تحليل ، ولنبين ذلك ببعض الأمثلة :
المثال الأول : لننظر أولاً في حكم مؤلف من مدركات حسية ، كقولنا الثلجأ بيض . ان هذا الحكم لا يكون تركيباً إلا إذا تصورنا الثلج منفصلا عن الأبيض ، ولكننا في الواقع لا نتصور أحد هذين الأمرين منفصلا عن الآخر ، بل نتصور هما معاً ، . هبني صعدت جبلا مغطى بالثلج . إن الثلج الذي أراء أمامي كثير الصفات ، فهو أبيض ، وبارد ، وناعم ، الخ .. ولو جردته من صفاته هذه لما كان ثلجاً . فأنا لا ادرك معنى الثلج مستقلا عن صفاته هذه ، بل ادر كه ، وادرك صفاته كلها إدراكاً حدسياً واحداً غير منقسم ، ولو أدركت معنى الثلج مستقلا عن معنى البياض ، لما جمعت بينهما في حكم حملي مطلق ، كما في قولي : الثلج أبيض ، ولا كتفيت بحكم امكاني ، كقولي : من الممكن أن يكون الثلج أبيض . فهذا الحكم المطلق يدل إذن على أن إدراكي للثلج إدراك حدسي ، لا تفترق فيه الصور ، بل تتجمع بعضها فوق بعض تجمعاً مبهماً .
المثال الثاني : ولننظر الآن في حكم مؤلف من حدود عقلية مجردة ، كقولنا : العدالة فضيلة . ان هذا الحكم لا يمكن أن يكون تركيباً إلا إذا تصورنا كلا من الحدين منفصلا عن الآخر ، ولكني حينما أقول : العدالة فضيلة ، لا أتصور العدالة منفصلة عن الفضيلة ، بل أتصور هما معاً . وكيف أستطيع أن أتصور العدالة مجردة من كل صفة . ليست هذه العدالة المجردة إلا لفظاً فارغاً ، أما العدالة التي أدركها فتتضمن كثيراً من الصفات ، فهي فضيلة متوسطة بين الظلم والانظلام ، وهي نادرة ، ومحببة إلى القلب ، وهي أساس الملك ، ، الخ فأنا أتصور هذا المجموع كله قبل تصور الأجزاء ، ولكن تصوري له تصور مبهم . غامض لا يتضح إلا بالتحليل ، وهو أن انتزع منه صفة من الصفات ، وأن أجعلها محمولاً ، ثم أسندها إلى الموضوع وأقول : العدالة فضيلة .
ينتج من هذا كله أن الحكم تحليل بين تركيبين ، فنحن ندرك الأشياء بالحدس إدراكا تركيبياً مبهماً ، ثم نرجعها بالتحليل إلى عناصرها المختلفة ، ثم نسند بعض هذه العناصر إلى بعض ، ونؤلف منها حكماً . فما هي العوامل التي تعين على هذا التحليل ؟
هناك مسألتان .
١ - كيف نجزيء هذا المجموع المبهم إلى محمول وموضوع
لنرجع إلى الأمثلة التي قدمناها . اني أشعر وأنا أمشي فوق الثلج بالبرودة ، والبياض ، والنعومة ، وجهر العينين من لمعان الشمس ، وطقطقة حوافر النيل ، وغير ذلك من الإحساسات المشتبكة . فأي شيء من هذه الأشياء أجعله موضوعاً ، وأيها أجعله محمولاً ؟. كيف يمكنني أن افرق بينها فأجعل بعضها ثابتا ، والآخر متغيراً . ان انتخاب الموضوع يرجع بنا إلى تصور الشيء الخارجي . أما تصور المحمول فيتم بالإحساسات الاخرى التي لم أدخلها في تصور الموضوع . وتصور الشيء الخارجي في مثالنا هذا ، هو تصور معنى الثلج ، فكيف اولف معنى الثلج ؟ اني اقسم الصفات التي أحس بها قسمين : أحدهما ثابت ، والآخر متغير ، فأولف معنى الثلج من الصفات الثابتة ، وأجعله موضوعا ، ثم اتخذ إحدى الصفات المتغيرة وأجعلها محمولاً . قد يكون الثلج رخصا ، أو صلبا ، نظيفا ، أو وسخا ، مبعثراً ، أو متراكما ، وقد يتغير حجمه ؛ ويتبدل شكله ، ولونه ، من غير أن ينقلب إلى شيء آخر ، بل يبقى هو ذاته . فالصفات المتغيرة أعراض لا يؤثر تبدلها في حقيقة الشيء ؟ أما الصفات الثابتة كالامتداد ، والوزن ، والكتلة ، وغيرها فهي التي يتألف منها الجوهر . فنحن تجعل هذا الثابت موضوعا للحكم ، ونجعل المتغير من الصفات محمولاً .
ينتج من ذلك ان الحكم تحليل نرجع ما فيه من المركبات النفسية المبهمة إلى عناصر ثابتة وعناصر متغيرة ، فنجعل الثابت منها موضوعا ، والمتغير محمولاً .
٢ - كيف ننتخب المحمول ونفضله على سائر الصفات الاخرى ؟
ان صفات الثلج المتغيرة كثيرة ، فكيف فرقت بينها . لماذا قلت : الثلج أبيض بدلاً من أن أقول : الثلج بارد ، الثلج ناعم ، الخ .. ؟ ان لمشاغلنا الحاضرة أثراً في هذا الانتخاب ، كما أن لقانون الاهتمام عملا في هذا التحليل ، والعلاقات التي ننتبه لها هي العلاقات المبنية على منافعنا ، المتصلة بأعمالنا . لذلك قال الحكماء : الحكم لا يدل على علاقة بين الأشياء المستقلة عنا ، بل يدل على علاقة بيننا وبين الأشياء ، فهو يدل أولاً على وجود الذات العاقلة ، ويدل ثانيا على وجود الشيء ومطابقته لتصور العقل ، ويقرر أخيراً أن العلاقة التي اشتمل عليها التصديق علاقة موضوعية مطلقة . فقولك : سقراط حكيم ، يشتمل على ثلاثة تصديقات :
١ - التصديق بوجودك .
٢ - التصديق بأن تصور العقل مطابق لحقيقة الشيء .
٣ - التصديق بأن كل إنسان يحكم بما حكمت به أنت .
وأقوى هذه التصديقات دلالة على حقيقة الحكم ، التصديق الأول ، لأنه يقلب العلاقة التي بين الموضوع والمحمول إلى علاقة بيننا وبين الأشياء .
وهذا يدل أيضا على أن لقوة الحكم علاقة مباشرة بالعمل والحياة ، ولا غرو ، فإن الشعور وسيلة للدفاع عن النفس ، وسلاح في معترك الحياة ، وعامل من عوامل التكيف .
ومن مصلحة الإنسان في الدفاع عن نفسه ، أن يرجع المركب إلى البسيط ، أي أن يرد هذه الإحساسات المشتبكة التي تحيط به إلى علاقات بسيطة ، وأن يتعودأنماطا من الفعل أقل اختلافا من ضروب الحس ، فلا تعجب للعقل اذا حلل معطيات التجربة المتغيرة ، وكشف بتحليله هذا . العلاقات الثابتة الصالحة للعمل . قال ( رويسن ) : ان الطفل الذي يمد يده إلى كل سائل أبيض ، يحكم على طريقته وبصورة حركية ، بوجود المشابهة بين الأشياء . والسنجاب الذي يقفز من شجرة إلى اخرى يقدر المسافة بالطريقة نفسها . ان هذه الأحكام الأولية شبيهة بالعادات الحركية ، إنها تجمع بين محاسن العادة ومضارها . فمن حاسنها أنها تسهل العمل ، وتجعله سريعا . ومن مضارها انها تدعو إلى الرضا بالطرق متفقا التقريبية ، والحلول السطحية . ولكننا إذا أردنا أن يكون عملنا مطابقا للأشياء كل المطابقة ، صححنا تصوراتنا العامة ، وأعدنا النظر فيها ، وأوضحناها بحمل بعض الصفات عليها . وهكذا يتكون الحكم من الموضوع والمحمول ، فالموضوع يشتمل على العلاقات العامة الثابتة ، والمحمول يدل على الصفات المتغيرة . وغاية كل حكم أن يجعل التصور مع الحاضر الذي نحن فيه . لنحلل قولنا : هذه الساعة من ذهب . ان معنى الساعة يشتمل بالقوة على أحكام كثيرة ، ولكن هذه الأحكام الممكنة لا تنتقل من القوة إلى الفعل ، إلا بتأثير الحاجة . لأني إذا أردت أن أبيع الساعة قلت أمام الشاري : هذه الساعة من ذهب ترغيبا له في شرائها ، فالمحمول يوضح الموضوع المبهم ويجعله بينا . والتصور نفسه حكم ، أو هو امكان عدد غير معين من الاحكام ، ولكن الحكم الذي يتضمنه التصور حكم مبهم غامض ، على عكس الحكم المؤلف من الموضوع ، والمحمول ، فهو أثبت من التصور ، وأكثر وضوحاً منه .
و قصارى القول ان الحكم تحليل لمعطيات الحس المبهمة ، وهو خاضع لغرائز الحياة والعادات السابقة ، والحاجات الحاضرة ، غايته انتزاع علاقة عامة كائنة بيننا وبين الاشياء لا علاقة كائنة بين موضوع ، ومحمول ، مستقلين عن أذهاننا •
تعليق