تمثال جديد لـ رودان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تمثال جديد لـ رودان



    تمثال جديد لـ رودان
    كريستيان بوبان 23 يناير 2024
    ترجمات
    كريستيان بوبان، Getty
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    ترجمة وتقديم: إسكندر حبش


    تقديم

    كنت في 23 أبريل/ نيسان الماضي، ترجمت وقدمت ثلاثة نصوص للكاتب الفرنسي كريستيان بوبان، وأعطيتها عنوانا عاما هو رسالة طويلة إلى ريلكه، وهو عنوان مختار من جملة نجدها في أحد نصوصه تلك. النصوص الثلاثة هنا، أيضًا أختار لها عنوانًا عامًا مستلًا من جملة ترد في أحد نصوصه. وهي نصوص أجدها دومًا فاتنة.
    منذ كتاباته الأولى سحرني بوبان عبر هذه القدرة على مزج الشعر والفلسفة والسرد في نص واحد، يمتلك مفترقات عدة، لكنه يصل دومًا إلى ما كان يبحث عنه: الكتابة، من دون تحديد ومن دون وضعها في خانة معينة. الأهم ربما، بالنسبة إليه، هو هذا السعي لأن يتملك هذه الفرادة الأسلوبية، وأعتقد أنه نجح في ذلك، ما جعله واحدًا من أبرز كتّاب فرنسا في العقود الأخيرة.


    كريستيان بوبان (1951 – 2022)، هو فعلًا صاحب صوت مخالف، جاء من عالم خاص ومن لغة خاصة، ليؤسس هذه الكتابة البارزة، التي لم تتوقف عن اكتساب مزيد من القراء بعد كل كتاب.

    1 - الحوت الأخضر العينين

    هكذا يبدأ الأمر، يبدأ دائمًا على هذا النحو، يبدأ بالكتب. الكتب الأولى، أولى ليالي القراءة العجائبية، احمرار العيون، القلب الخافق. تأتي القراءة متأخرة جدًا في الحياة: في حوالي سن السادسة أو السابعة، بعد نهاية الأبدية. قبل أن نعرف كيف نقرأ، نستمع إلى الأصوات التي تتهجى العالم، أصوات الأحباء، همهمة الماء الحيّ على رمال الدم. تثير القراءة الغياب الذي يعيدنا إلى هذه الطفولة المبكرة، إلى حافة هذا الحب الذي سيفتقر للكلمات إلى الأبد. نحن خلف باب الكتاب. نستمع إلى صوت واضح لدرجة أننا نحبس أنفاسنا لسماعه. نستمع إلى الصوت الهادئ في الليل المظلم - مثل كلمة صامتة ينام فيها الحزن شيئًا فشيئًا، نومًا هنيئًا لا يمكن وصفه. لدينا عمر. لدينا اسم. لدينا حياة تنتظرك. إنها ليست مصنوعة من أجلك، وليست من أجل أي شخص. إنها تنتظرك. في الثامنة من عمرك، يمكنك تخيّل هذه الأشياء جيدًا، وعليك الاختيار. اختر الله أو الفراغ، العمل أو البطالة، اليأس أو الملل، اختر. لكن ببساطة، وجدنا شيئًا آخر، وجدنا الكتب، مع الكتب التي لم نعد نختارها، نتلقى كل شيء. القراءة هي الحياة بدون مقابل، إنها الحياة بمنأى عن ذلك. نقرأ تحت الملاءات، نقرأ تحت الضوء، إنها مثل مقاومة، قراءة سرية، قراءة في الهواء الطلق. في الثامنة من العمر، نحب الجُزُر والكنوز والغابات. الحوت الأبيض أيضًا. حوت الماء الأزرق الغامق، البكر. من يحبه يشتهي قتله. إنه بحار. يسعى له لقتله، يبحث عنه في كل مكان في العالم. الأطفال مثل البحارة: أينما ذهبت عيونهم، كل مكان هو هذا المدى السحيق. نتقدم في الكتاب، لغاية القصة العميقة. ندفن أنفسنا في أوضح صور حياتنا، تحت أكوام من الجمل المظلمة. أحيانًا نرفع رؤوسنا، ننظر إلى الخارج. نرى المدينة، نرى المدرسة. نقول إنها الصحراء، ونرى أنها الصحراء، لذلك نعود إلى الكتاب، إلى الحوت الأبيض - إنه أبيض كالحبر، أبيض كالدم. نقضي شتاءات في غرفة القراءة. مواسم أبدية، أمسيات تُنفق مثل الذهب. نرمي الكلمات من النافذة، أمر لا يصدق، ثمة المزيد دائمًا. نقرأ بدون أمر، بدون سبب. القراءة لا يمكن السيطرة عليها. لا أحد يستطيع أن يقرر ذلك بدلًا منك. القراءة مثل الحب أو الطقس الجيد: لا أحد ولا أنت يمكنكما فعل أي شيء حيال ذلك. نقرأ ما لدينا. نقرأ ما نحن عليه. القراءة هي أن نُعلّم أنفسنا في روضة الدم، هي أن نتعلم من معرفة لا تُنسى، نخترعها وحدنا. تتحول الطفولة مع الصفحات. نحن الآن في عمر صعب. هو صعب لأنه غير موجود. نحن الآن في مرحلة المراهقة، كما في ليلة بلا نجوم. نغرم بسيدات رائعات في الكتب. نلامس أياديهن العارية، عند نزيف الروح. نسير إلى جانبهن، في حدائق مسودة بالورود. تنفك الكلمات من السماء الزرقاء. تنتقل ببطء إلى أسفل الصفحة. تحكي عن الخفة والحماس واللعب. تحكي عن الحب الفريد، الحب الأرضي. هو حب يضم الله والملائكة والطبيعة الهائلة. إنه ضئيل، صغير للغاية. يتناسب مع حلق عندليب. ينام في قلب رجل بسيط. تشتعل في الهواء النقي. إنه مثل الهواء الذي ينقصه، إنه مثل الهواء الفائض. إنه مثل الهواء في شعر العشيقة، في تجعيد الشعر على رقبتها: متشابك بلا حدود على لا نهايته. حب يأتي من بعيد. يأتي من أعماق عزلة لا قرارة لها، ومن أبعد من ذلك، من معرفة لذة من دون انحطاط. لا يوجد حب غير هذا الحب البعيد. هناك حب واحد فقط، كما يقولون: قانون واحد، القانون عينه للجميع، الغياب عينه في قلب كل حضور، الغياب نفسه في المعاناة كما في الفرح. ما نتعلمه في الكتب هو أن نقول "أنا أحبك أنت". عليك أن تقول أولًا "أنا". صعب ذلك، إنه مثل ضياع في الغابة، بعيدًا عن المسارات، مثل الخروج من مرض، من مرض الأرواح غير الشخصية، والأرواح المقتولة. ثم عليك أن تقول "أنت". يمكن للمعاناة أن تساعد- معاناة السعادة، والغيرة، والبرد، صراحة فصل على زجاج الدم. كل شيء يمكن أن يساعد بطريقة ما لتقول "أنت"، كل ما هو مفقود وما هو موجود، تحت أنظارنا، في الغياب الوفير. أخيرًا، عليك أن تقول "حب". يحدث ذلك عند اقتراب نهاية الزمان، ولا يمكن قول ذلك إلا بشرط عدم وجوده. الحرف الأخير صامت، يختفي في التنفس، يختفي مثل الهواء الأزرق على الصفحة، في الحلق. "أنا أحبك أنت". فعل، فاعل، مفعول. ما نتعلمه في الكتب هو قواعد الصمت ودرس النور. يستغرق التعلم وقتًا طويلًا. يستغرق الأمر وقتًا طويلًا للوصول إلى بعضنا البعض. نحن نذهب في مغامرة. نأخذ كتابًا بين أذرعنا، ثم نتركه، وننتقل إلى الكتاب التالي. الكتب مصنوعة من غبار. الكتب مصنوعة من الريح. الكتب مصنوعة من أثمن ما في أحلامنا: الغبار والرياح. نسير هناك، نعبرها. ننساها. أحيانًا يكون الأمر مختلفًا. أحيانًا نبقى بالقرب من الكتاب، بالقرب من النار. أحيانًا نعلم أننا وجدنا كل شيء، دفعة واحدة، في جملة واحدة. جملة بالكاد تعنيك. جملة بالكاد تذكر تأخذك فجأة إلى نهاية أيامك. تقول شيئًا سوف يأتي بعد وقت طويل. تقول أكثر بكثير من أي شيء تقوله. أطلقتها الكونتيسة مورتصوف في كتاب لـ بلزاك. لم يعد بإمكاننا العثور عليه اليوم. ليس مهما. نحتفظ بها في الذاكرة التي سحقها النور. جملة حب جنوني، جملة مثل ثلج. قصة امرأة تمر بصحراء تلو الأخرى، صحراء العالم، صحراء الزواج، صحراء الملل، صحراء العواطف. تمرّ وتمرّ. في النهاية، في أعماق الصحراء، ترحل. ترحل في حالة أفضل بكثير من السعادة. في معاناة لا شيء يستنفدها، ولا حتى المعاناة. في النهاية، من الصعب تصديق أنها ماتت من الحب، الحوت الأبيض، الكونتيسة صاحبة العينين الخضراوين. إنه صوت هذا الموت الذي يقرر كل شيء. إنها نعومة هاتين العينين التي تتفاعل طوال الوقت في المستقبل. نبدأ في الكتابة. لا نكتب لكي نصبح كتّابًا. بل لكي نلحق بصمت هذا الحب الذي ينقص كل حب. كي ننضم إلى الهمجي، المسلوخ، الصافي. نكتب لغة بسيطة. لا فرق بين الحب واللغة والغناء. الغناء هو الحب. الحب هو نهر. يختفي في بعض الأحيان. يغور في الأرض. يتابع مجراه في كثافة لغة. يظهر هنا أو هناك من جديد، لا يقهر، غير قابل للتغيير. نحن أمام الحب كما أمام الكونتيسة مورتصوف. نود مناداتها. نود أن نعانقها. نحبها كثيرا، سنقتلها. نود مناداتها، لكنها كانت قد اختفت في نهاية زقاق، أعجوبة الموسم. لذلك نكتب. لذلك نعود إلى الصحراء لنجد مصدرًا هناك. يحدث هذا بالكتابة. شعور ممزوج بكل شيء، مثل أوراق الشجر مع المطر. إنها فرحة تأتي وتجعلنا غير سعداء. تأتي إلينا من هذه الأغنية التي تنهض من الطفولة والتي تعود إليها. نكتبها للاستماع إليها. للاستماع إلى أغنية نقية جدًا من الحوت ذي العينين الخضراوين. تغني الريح العابرة، الوردة المشتعلة، الحب المحتضر.



    2 - الأدلة المحطمة على وجود الله

    إنها نافذة في غرفة. إنها حياة بطيئة في نهار واحد. إنها نافذة في الحياة البطيئة. يمرّ الضوء هادئًا وواضحًا. إنه نور الربيع. إنه حلو للعين ومرير قليلًا للقلب. إنه مثل النبيذ الجديد قليلًا، الذي لا يزال أخضر. تشاهده يمرّ لساعات. أنت لا تعرف شيئًا أفضل لتفعله في حياتك من هذه النظرة التي تذهب إلى اللانهاية، متحررة من نفسها. هناك جمال لا يتحقق إلا هناك، في هذا الذكاء العظيم الذي يقدمه للعقل الزمن الفارغ والسماء الصافية. شجرة تتكئ بكتفها الورقي على النافذة. إنها شجرة قوية، مرهفة. ترتفع بقوة إلى السماء. تُعتم النهار، تُعمي الفكر. نحن بحاجة إلى شيء واحد فقط لمعرفة كل الأشياء. نحتاج إلى وجه واحد فقط لنستمتع بكل الوجوه. شجرة تكفي لنرى. نتعلم أن نرى كما نتعلم المشي بعد مرض طويل: خطوة بخطوة، حلمًا بعد حلم. شجرة واحدة تكفي، ورقة واحدة من هذه الشجرة، فكرة واحدة من هذه الورقة تُنسى في المساء. في كثير من الأحيان، قبل النوم، تتخيل شجرة الكستناء هذه، في الليل، مغطاة بالنجوم. في الوقت الذي لا تستطيع رؤيتها، تتخيلها أعظم بكثير. وفي ظلها تكتب. وفي ظلها على الصفحة تتعلم الأساسيات: الجمال والقوة والموت. الطفولة أيضا، لا يمكن اقتلاعها من جذورها. يمكنك أن تغادر كل الأشياء. يمكنك أن تبتعد عن كل شيء ما عدا هذه الشجرة. ما يضيء حياتنا ليس أمرًا يمكننا قوله أو الاحتفاظ به. ما نقوله هو الصمت. ما نحتفظ به يضيع. ليس لدينا سيطرة على حياتنا أكثر من حفنة من الماء الصافي. نحن لا نملك إلا ما يفلت منّا ويتغذى من حبنا: شجرة في الحلم، وجه في الصمت، نور في السماء. ما تبقى ليس شيئًا. ما تبقى هو كل ما نرميه في أيام الغضب، في ساعات الترتيب. هناك من يرمي. وهناك من يحرس. هناك من ينهب منزله بانتظام، أو ينهب حدود الذاكرة، زاوية الحب. يجلبون النظام. يخلقون فراغًا، معتقدين أنهم يخلقون النظام. يرمون. إنها طريقة الجنازة، طريقة لترويض الغياب، مثل إزالة الحصى من الطريق الذي سيأتي عليه الموت. وهناك من يحرس. إنهم يتراكمون في الدرج، في كلمة واحدة، في الحب. إنهم لا يخسرون شيئًا. يقولون: لسنا على بينة من الأمر. حتى لو كانوا يعرفون، فإنهم لا يعرفون أبدًا. حتى لو علموا أنهم لن يعودوا أبدًا إلى الرسائل القديمة والصناديق الصدئة والأدوية القديمة والغراميات العتيقة. من المؤسف أنهم يحتفظون بها. أولئك الذين يحتفظون مثل أولئك الذين يرمون، متساوون أمام الشيء الفريد، أمام الشيء الذي سيحل محل كل الأشياء. أولئك الذين يحررون أنفسهم مثل أولئك الذين يثقلون أنفسهم. هناك دائمًا شيء واحد لا يمكنك التخلص منه أبدًا. إنه ليس بالضرورة شيئًا. يمكن أن يكون ضوءًا، أو توقعًا، أو اسمًا واحدًا. يمكن أن يكون بقعة على الحائط، أو شجرة في النافذة، أو حتى وقتًا معينًا من اليوم. إنه شيء نقع في حبه من دون سبب، من دون حاجة. إنه الإخلاص الصامت لما يمضي ويبقى. إنه حب صامت، غير متحرك: يستقر في أعماق النفس كما في قاع البوتقة. ويترك القليل من الضوء، وغبار السماء الزرقاء. يمكن أن يحدث هذا مع كتاب أو مع كوب غير متطابق أو مع الموسيقى. يمكن أن يحدث هذا مع أي جزء من العالم - أو من الروح. ويبقى معك. ويتبعك أينما ذهبت. يمر الوقت والقلب يتعب. وهناك هذا الشيء - أوراق الشجر هذه، هذا الضوء، هذا الاسم. من وقت لآخر، تفكر فيها بشكل صحيح، كما تسأل: بشكل منفصل، في صمت. وترى أن هذا الشيء لم يشِخ ولم يتغير. يلمع مثل اليوم الأول الذي اخترته فيه. وترى أن هذا الشيء الذي اختارك، الذي ينيرك ويحفظك، يبقى هنا ببساطة. تتعلق به. تقول لنفسك: ما الذي يهمني؟ على ماذا تعتمد الحياة، حياتي، كل حياة، أي حياة. لا تتمسك بأي شيء. بأشياء لا تصل إلى شيء. وهذا الشيء، ما هو الغرض منه. أولًا لا شيء. يتم طرحها من الفائدة المميتة لكل شيء في الحياة. تلمع بسبب عدم جدواها. إنها زائدة عن حدها بشكل افتراضي. ما لا فائدة منه ينفع في أشياء كثيرة. يأخذ مكان العالم - أو الروح أو الجمال الذي لم يتم الوصول إليه أبدًا. وهذا يحل محل كل شيء. يمكنك ترك كل شيء ما عدا هذا الشيء. إلا هذا الاسم، إلا هذه السماء الربيعية في الحياة التي تنطفئ إلى الأبد. الضعف يبقيك هناك، ويعيدك إلى هناك في كل مرة.
    "اختر الله أو الفراغ، العمل أو البطالة، اليأس أو الملل، اختر. لكن ببساطة، وجدنا شيئًا آخر، وجدنا الكتب، مع الكتب التي لم نعد نختارها، نتلقى كل شيء. القراءة هي الحياة بدون مقابل، إنها الحياة بمنأى عن ذلك"
    إن منحدر الضعف اللطيف يدفعك، جسدًا وروحًا، نحو هذا الشيء الوحيد كما لو كان نحو ملجأ. إنه لغز لا شيء. إنه لغز الطفولة. إنها عادة تأتي من الطفولة، وهي احتفال محترم في كل مكان في غرف الأطفال: هذا الاضطراب. هذا الحصاد من التفاهة في الأدراج. هذه القطع من القماش، وذيول المذنبات، وهذه الدانتيل الملائكية. كل هذه اللاأشياء التي تعطي لها الطفولة قيمة. ما تعطيه قيمة، يعطيك قيمة في المقابل. إنها ملكك فقط، لذا فهي لك أنت. الآباء لا يعرفون شيئا عن غرف الأطفال. إنهم يؤمنون بالنظام. يصرخون من وقت لآخر. فقط دعهم يصرخون، دعهم يأمرون. الأقوى من أي شيء آخر: الأشياء المختارة التي تعود بسرعة كبيرة إلى الغرفة المرتبة. أهداف التتويج، الأدلة المحطمة على وجود الله. تجد هذه الفوضى في غرف الأطفال، في غرفة الكتابة. هذا الهوس بالاحتفاظ بغصن، أو حجر، أو صمت قريب منك، تجده في قصة باسكال، في القصة المعروفة باسم الذكرى: في ليلة الاثنين 23 نوفمبر 1654، كتب باسكال بعض الجمل التي لا يمكن وضعها في أي كتاب. سجّل شيئًا رآه بنظرة خاطفة إلى الأبد. أحتفظ بنور في تلك الليلة طوال ليل الدنيا. إنه نجم في جبين الله. إنها شمس في الحبر الأسود. يكتب على ورقة ثم يخيطها في بطانة صدريته. أصبحت خطوط الحبر الآن غير مرئية لأي شخص، وقبل كل شيء لمؤلفها. على الأقل يستطيع، بالضغط الخفيف بيده على المادة، أن يسمع ثنية اللفافة. تمر ثماني سنوات. ثماني سنوات تنزلق على حبة الورق من دون أن تفسدها. في 19 أغسطس 1662، في الساعة الواحدة صباحًا، توفي باسكال. إنه مثل طفل ضائع في مدرسة باردة وفارغة. يموت ويضيع في آلاف الأيام التي يولد فيها كل شيء من جديد بدونه. إن محو هذا الرجل تحت القليل من الأرض، ثم بشكل أعمق، تحت اسمه، جعل أفكاره مألوفة لنا. وقد جمعنا مؤلفاته في كتاب. لقد تعلمنا أن نسمع كلماته بقوة مثل الذهب. لكننا نفتقر إلى النعمة التي تسمح لنا بقراءة هذه الورقة المؤرخة في نوفمبر 1654 - هذا القسم الرقيق من الورق بين قلبه والعالم. هذه الورقة قريبة من لا شيء. لقد كانت تأكل قوته. وأعطته جسدًا من نور، محترقًا حتى الدم. لقد جعلت قلبها يبدو وكأنه غرفة نوم طفل، فوضوية بشكل لا يصدق.

    "المفكر" في حديقة متحف رودان
    3 - الفكر المتجول
    مغروم أنت بامرأة شابة. من أجل الحب، لا تعرف سواها، ومن هذه المعرفة الغامضة يتكشف لك اسمك. بدافع الحب تفصلها عن كل الكائنات الحيّة والكواكب. تقوم بتثبيتها في وسط المناظر الطبيعية، في حدقة عينيك. تضع بعض الأشياء المألوفة حولها: حفنة من الكرز، تجاعيد تنورة، سماء انتظار. كلما نظرت إلى الأشياء من حولك، كلما ظهرت هي أكثر. شفتاها، بخاصة. شفتاها الحمراوتان، الأحمر الندي بحيث تتكهن بالكارثة حتى قبل أن تزدهر السعادة، حتى قبل موسم الحب القصير. لكنك بعيد عن ذلك كله. أنت في وسط المياه. ينبض قلبك، يتجمد صدغاك، أنت في حالة فريدة وبسيطة. لا يوجد سواها في العالم. ولا عالم إلا من خلالها. إنها في طريقتك في التحدث والصمت. إنها طريقتك في الانتقال من دون ملل إلى الملل – وأي انشغال يأخذك بعيدًا عنها يبدو مملًا بشكل عميق. لها هذا النور الذي نسبغه على الله، على النهار الذي يمر. منها تنطلق كل الجمالات. كل الوضوح ينبع منها. لا ترى إلا من خلالها. الرؤية بالنسبة لك تعني دائمًا تقديم نظرتك لشخص واحد فقط. إنه الذهاب بعيدًا في الحلم وإعادة الزهور من مقاطعاتك البعيدة. فلا حب بدون هذا العنف الذي يذيب العالم ولا يبقى منه إلا جسد واحد تداعبه كل الأسماء وبكل اللغات. لا يوجد حب من دون هذا الاعتقاد المجنون، من دون هذا الخطأ الحقيقي. بشغف تنظر إليها. بشغف تتعلم. لا نتعلم إلا من المرأة. لا نتعلم إلا مما تتركه لنا من جهل في أيامنا وليالينا. الوقت يمضي. مدة الحب ليست مدة. الوقت الذي نمضيه في الحب ليس زمنًا، بل نور، قصبة من نور، هدوء صمت، ثلج من لحم ناعم. وتأتي الغيرة ذات يوم. لقد تغيرت الصورة الرئيسية. انتعشت الألوان. تلاشى الأساسي في الخلفية، في زاوية غامضة. نرى من دون أن نرى بعد. مع الغيرة يأتي الزمن، الأبدية الشريرة. أنت لا تختار الغيرة، كما أنك لا تختار الحب. أنت تدخل إلى أراضي ذاتك الغريبة، هذه المناطق الحدودية حيث لم يعد هناك شيء مرغوب فيه أو مُفَكر فيه. أنت وحيد ولكنك لست وحدك في عزلتك. أنت تعاني من الأفكار المتجولة. إنها فكرة لا تعرف ما تفكر فيه، وفوق كل شيء لا ترغب في تحقيق ما تفكر فيه، وإخراجه إلى ضوء النهار. يبدو الأمر وكأنه فكرة تهرب من شيء ما، ولا تنشغل إلا بما تهرب منه، والذي تبحث عنه. التي تسعى إليها أثناء الهروب منه. في بعض الأحيان، يظهر وجه الحبيب في نهاية أحلامك، كما لو أن هذه الكتلة من التفكير خرجت إلى النور من خلال لمسها، من خلال مصادفة هذا الوجه المرتبك المتفاجئ. أنت لا تقول أي شيء. لا يوجد ما يقال. أنت تنظر إلى هذا الوجه. تنظر إلى الارتباك. الكذبة الصادقة. من الأفضل أن تتحدث مع شخص آخر، حتى عندما تتحدث معك. من الأفضل أن تنظر إلى شخص آخر، حتى عندما تنظر إليك. من الأحسن. الغيرة هي شعور الطفولة. إنه عنف بسيط مثل إزالة بعض الأعشاب بلفتة واحدة، والجذور التي تأتي معها، وكل الأرض، وكتلة كبيرة من السماء. الغيرة هي معرفة طفولية بالموت. إنها طفولة الموت بداخلك، في أرض الجسد السوداء. كيف. كيف لا تلعن الحب كما هو عليه في قلبك، كما يأتيك منذ الطفولة، من أحلام الطفولة العاصفة الكبيرة. الحب هو اختبار. وهذا الاختبار ذو طبيعة روحية. ما هو ذو نظام روحي هو سبب أعظم فوضى على وجه الأرض، وهذا الاضطراب هو سعادة، وأسعد بكثير من السعادة بشكل عام. حيثما يقودك كل شيء إلى الفرار، تبقى أنت. حيث يقودك كل شيء إلى اللعنة، تفكر ورأسك جاف من الدم. الغيرة لها علاقة بالجنس ولكننا لا نعرف ما هو الجنس. نحن لا نمارس الحب مع الجسد. بل مع وجه. أنت لا تمارس الحب على الوجه. بل على ضياء هذا الوجه، الضوء الخافت لحب بلا وجه ولا جسد. وها أن هذا الوجه يبتعد عنك ويختفي كل النور كما كان قبل ولادته، كما كان قبل أن يكون هناك يوم وليلة. الغيرة تصل إلى الرغبة في ذروتها. الغيرة تمس الله من خلال الجسد. أنت تنظر إلى حبيب الملائكة. هي هكذا. تذهب أينما تريد. إنها تعيش ما تحب أن تعيشه، وهذا هو نبلها. إنها تعيش حياتها من دون أن تكون قادرة على تفسيرها، حتى من دون أن تتخيل أنه ينبغي عليها تفسيرها. لمن على أية حال. إنها تدخل في لغز الحياة بلا دافع، بلا أمل واضح. ومن المعروف أنك ذهبت إليها. هو فهم بعيد المنال. ليس شيء أقرب إلى الله من المرأة. لا شيء أقرب إلى غياب الله من هذه المرأة التي اخترتها من بين كل النساء. نحن لا نعرف شيئًا عن الله. نحن لا نعرف شيئا عن النساء. لا يمكننا أن نقول إلا عن واحدة، في اللحظة التي تتركك فيها، في تلك النهاية غير المحددة للحب، وهي الغيرة. لا يوجد إلا معرفة ما يموت. لا يوجد سوى ضوء في الظلام. في الغيرة يمكنك الوصول إلى المعرفة الأعظم عن نفسك، المعرفة الممزقة من الدمعة، معرفة الحب باعتباره وهمًا رائعًا، باعتباره فشلًا ضروريًا. في الغيرة تفهم أخيرًا أنه لا يوجد شيء تتوقعه من المرأة، إن لم يكن كل شيء، باستثناء هذا الدمار الشامل، وهذا العجز عن الوصول إليك يومًا ما إلى الأبد، هذه استحالة يوم نهائي، حب مثل مرة واحدة فقط. سيستغرق الأمر وقتًا طويلًا لقتل هذه المرأة الشابة. يستغرق الأمر سنوات لمحوها في وجه جديد. أنت تعرف أنه لا توجد نهاية أخرى. تعتقد أن هذه النهاية لن تحدث أبدًا. حتى آخر يوم تعتقد ذلك. حتى نهاية العالم، حتى الحب التالي. في هذا التوقع تكتب.
    "أنت لا تكتب لكي تتذكر. تكتب كمن يجمع عطر زهرة شارفت على الموت، من دون أن يتمكن من علاجها، من دون أن تعرف كيفية إزالة هذه البقعة البنية على البتلة"
    أنت تكتب قصة الحب النقي، قصة حداد الحب النقي. لا يوجد شيء آخر للكتابة عنه، أليس كذلك؟ ليس هناك شيء آخر يمكن أن تغنيه في الحياة سوى الحب الذي هرب من الحياة. أنت لا تكتب لكي تتذكر. تكتب كمن يجمع عطر زهرة شارفت على الموت، من دون أن يتمكن من علاجها، من دون أن تعرف كيفية إزالة هذه البقعة البنية على البتلة، مثل علامة لدغة صغيرة - أسنان حليبية، مميتة. لا شيء آخر مطلوب منك: انتظر. انتظر حتى تُكتب الجملة الأولى أمام عينيك، تلك التي ستعيد كل شيء بتغيير كل شيء: الأماكن والأزمنة والوجوه. في انتظار عودة السنونو إلى عش الحبر، في أغصان عنوان:

    امرأة مع صحراء

    في حديقة متحف رودان، يوجد زوجان يجلسان على مقعد، على حافة مسطح مائي. النور الأبدي في الصباح الباكر. نضارة المقابلة بدون أحكام، من دون انقطاع لمدة ثلاث سنوات بالفعل. إنها ترتدي فستانًا ذا ثنيّات مع حقيبة متجر كبير على ركبتيها. منذ أول النهار وهو يحمل أخبارًا أكبر منه، لا يعرف كيف يتحرر منها. يندمج هذا الخبر مع عزلته. تندمج هذه العزلة القوية المتجددة مع حب جديد أخضعه – من خلال النظرة، ثم من خلال الفكر – إلى جاذبية حضور آخر: شقراء عندما تكون جارتها سمراء، مفعمة بالحيوية كشجرة كرز في الربيع، عندما تتمتع جارتها بظلال صيف ينتهي. كيف يخبرها أن نجمًا قد ظهر، واسمه، الذي لا تزال الشفاه تستخدمه قليلًا، يبدو أقوى وأكثر وعدًا من اسمه؟ ينحني فوق الحصى، ويلتقط الحصى، ويرميها في البركة. ينحني إلى نفسه، حفنة من الكلمات، ملقاة في الماء الهادئ في عيون جارته. إنها تفكر بعناية في مكان مهجور في الحديقة، خلف حمام السباحة. غير قادرة على الحركة، تسأل شيئين، ثلاثة: لن يحدث ذلك مرة أخرى؟ لن يحدث مطلقًا مرة أخرى. من الغد؟ من الغد. الصمت. الصمت مع سقوط الضوء. نحن موجودون قليلًا، إنها معجزة أن هذه الدمعة في العين، هذا الاسم الذي تكتبه على الخد، هذا الاسم الذي تمحوه. الطريق المالح لدمعة على الخد، في الوقت المناسب. نحن موجودون قليلًا جدًا. عندما نقول "أنا"، فإننا لا نقول شيئًا بعد، ضجيجًا بسيطًا، أملًا في شيء قادم. نحن موجودون فقط خارج أنفسنا، في الصدى الذي جاء من بعيد جدًا، وها قد ضاع ولن يعود أبدًا. يستيقظ الرجل، بالفعل على طريق آخر. إنها لا تتحرك. يأتي المساء بالعادة. ويضيع الليل في كل ليالي الدنيا. يأتي يوم جديد، علينا أن نتأمله طويلًا، عند الاستيقاظ، لنرى ما هو جديد. يوجد تمثال جديد لرودان في الحديقة. إنها امرأة، ترتدي فستانًا مطويًا، وتجلس على مقعد.
    • المترجم: إسكندر حبش
يعمل...
X