كيف نقرأ (أو لا نقرأ) أعمالَ الهويات المهمَّشة
نور هندي 19 يناير 2024
ترجمات
نور هندي
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
لم أذهب يومًا إلى فلسطين رغم أني أكتب عنها طوال الوقت. لا أعرف دائمًا الفارق بين حرفي "ع" و"غ" في العربية. لا أعرف كيف ألفُّ كوفيةً حول عنقي. لا أحب الحمّص. أفضّل قراءة جورج إبراهيم، ولينا خلف تفاحة، على الكتاب المعتمد المكرّس، مثل محمود درويش. لا أزال أحاول أن أوفّق بين هوياتي. نزوحاتي العديدة. صعوبة الرؤية (وعدم الرؤية)؛ الرغبة بأن أكون مرئية (وغير مرئية). الامتياز الكبير الذي يمنحه العيش في أميركا، حيث الطائرة المسيّرة هي طيرٌ في السماء أنظر إليه أثناء تنزهي في الحديقة العامة. ليست قنبلة، ليست رمزًا للخوف، ليست إشارة للذعر وضرورةِ إحناءِ الرأس بسرعة. وحشةُ العيش في أميركا، أن أدفع ثمن القنابل التي تقتل شعبي. لغتي صوتٌ أحاول الوصول إليه بلساني، ثقيلةٌ وغير دقيقة.
ثمة صورة فوتوغرافية لا أستطيع التوقف عن النظر إليها. في الصورة، تلوّح دارين طاطور، ذات الخمسة وثلاثين عامًا، لحشد من المصوّرين. إنه يوم مشمس. يوم من سبتمبر. طاطور تبتسم. هذا فعل مقاومة.
التُقطت الصورة بعد ساعات من إطلاق سراح طاطور من السجن. زعمت السلطات الإسرائيلية حينها أن قصيدتها "قاوم، يا شعبي، قاومهم" تحرّض على العنف. نُشرِت القصيدة على موقع يوتيوب. في الفيديو، تقرأ طاطور قصيدتها، ووراءها خلفية من صور فلسطينيين يقاومون الاحتلال الإسرائيلي. وبعد أسبوع من نشر القصيدة، اعتُقلت طاطور وسُجنت لثلاثة أشهر. في السجن، جرّدها الحراس من أدوات الكتابة، لذلك استخدمت الجزء المنزلق المكسور من سحّاب ونقشت قصائدها على الجدار. وبعد خروجها من السجن، وُضِعت في الإقامة الجبرية في المنزل، وحُرِمت من الاتصال بالإنترنت. قضت طاطور اثنين وأربعين يومًا إضافيًا في السجن. وعند إطلاق سراحها في العشرين من سبتمبر/ أيلول 2018، التُقِطت هذه الصورة. طاطور تبتسم. وتقول: "أندم على إرسالي إلى السجن بسبب قصيدة، لكن سيكون من المستحيل إيقاف كتابتي".
أنا وطاطور مختلفتان جدًا. ما يربط بيننا هو الولاء لأرض مستعمرة من قبل بلد عازم على محو الفلسطينيين من الوجود. ما يفرّقنا هو سياسة رفضت عودة والدي إلى فلسطين لمدة خمس عشرة سنة بسبب عمله مع منظمة التحرير الفلسطينية. لكنني هنا، وطاطور هناك. عندما تكتب طاطور، يظهر الجيش الإسرائيلي أمام بابها فورًا، على بعد ثوان من هدم منزلها. عندما أكتب، تكون العواقب أقل وضوحًا وغير معّينة. ليس في وسعي تحديدها.
تكتب طاطور بالعربية. ليس بوسعي قراءة قصائدها بالعربية. أنا أكتب بالإنكليزية. قد لا نتواصل أنا وطاطور أبدًا. والسبب الوحيد الذي جعلني قادرة على فهم قصيدة "قاوم، يا شعبي، قاومهم" هو أن طاطور تلقي القصيدة. كما أنها تُرجمت إلى الإنكليزية بفضل المترجم طارق الحيدر، ومجلة "آراب ليت(ArabLit.org)" الإلكترونية.
تفهم طاطور المضامين السياسية لكلماتها، وأن كتابتَها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بهويتها كفلسطينية. تقول: "القضية سياسية منذ البداية، لأنني فلسطينية...". تعرف طاطور أن كلماتها كافية لتلهم الناس، لجعلهم يبكون، لتذكيرهم بوطنهم، وحثّهم على التحرك. وهذا هو تمامًا السبب في أن فيديو قصيدتها حصل على أكثر من 17000 مشاهدة على يوتيوب، وأنه كان كافيًا لسجنها في بلد يدّعي حرية التعبير.
حتى لو لم يكن الشخص يفهم العربية، ففي وسعه أن يفهم سريعًا سبب انتشار القصيدة على نطاق واسع. إنها متعددة الأنماط، تستخدم مزيجًا من الموسيقى، الصورة، الفيديو والتعليق الصوتي. تقع القصيدة في حوالي 13 سطرًا تقريبًا، وتعتمد على لغة قوية: "في قدسي، ضمّدتُ جراحي وبثثتُ همومي لله"، ثم لاحقًا "قاومْ أطماع المستوطن/ واتبعْ قافلة الشهداء". كما أن فيها استخدامًا مؤثرًا للتكرار مع جملة "قاوم، يا شعبي، قاومهم"، التي تتكرر عبر القصيدة.
في الفيديو، الموسيقى في الخلفية درامية ومؤثرة، تتصاعد تدريجيًا. بالإضافة إلى صوت طاطور الناعم، إنما الحازم، الذي يحثّ المشاهدين على أن "يقاوموا"، مع ترك صمت وافر بين كلماتها. وبينما المشاهدون يتأملون في قصيدة طاطور، يتكرر تجميع من الفيديوهات. ثمة علم فلسطيني يرقص في الريح، أطفال يرمون الحجارة على جنود إسرائيليين، إطارُ سيارة يحترق، والصورة الشنيعة لجنود إسرائيليين يطاردون محتجين فلسطينيين.
***
عندما سمعتُ القصيدة أولّ مرة، لم أستطع التوقف عن البكاء. إنه التكرار، الموسيقى، صوت طاطور. لقد جعلتني أريد أن أفعل شيئًا. لكن ما هو؟ وبعد أن انجلت الحماسة الأولى، أمضيتُ شهورًا وأنا أتابع قضية طاطور التي كنت قد سمعتُ بها عام 2018، رغم أن طاطور سُجنت في عام 2015، ثم مرة أخرى في عام 2018 (لم تغلق قضيتها رسميًا حتى سبتمبر/ أيلول عام 2019). كذلك، أمضيتُ شهورًا وأنا أحاول أن أوفق بين حريتي وامتيازي كشاعرة وكاتبة في الولايات المتحدة، رغم أني أفهم حقًا الحالة السياسية الذي وضعتني هنا وجعلتني أميركية، لذلك ربما لا تكون كلمتا "حرية" و"امتياز" هما الكلمتان الملائمتان. أو ربما تكونان كذلك. لا أعرف.
"أنا ودارين طاطور مختلفتان جدًا. ما يربط بيننا هو الولاء لأرض مستعمرة من قبل بلد عازم على محو الفلسطينيين من الوجود" |
طوال حياتي وأنا أمارس الكتابة. أكتب عن أشياء صغيرة: الانفصالات، الشجارات مع والديّ، الزهور. وعن أشياء كبيرة: عن كوني فلسطينية، كوني مهاجرة، كوني كويريّة (من أحرار الجنس). وهذه الأشياء تمتزج بكتابتي بطرق أتحكم بها ولا أتحكم. أؤمن حقًا أن القصائد تأتي من مكان آخر، مكان أبعد. أحاول أن أكون شجاعة في كتابتي، لكن لديّ شكوكي ومخاوفي.
عندما بدأتُ الكتابة، لم أكن أفكر بالسياسة، أو الهوية. على الأقل، ليس بالقوة ذاتها التي تفكر فيها طاطور بتلك الأشياء. أو ربما ليس بالوعي ذاته. نعم، كتبتُ عن النزوح، عن كوني فلسطينية. لكنني لم أكن أنظر إلى هذه الأشياء بوصفها "سياسية". كانت واقع حياتي فحسب. ولم أكن أرى القصائد كأفعال مقاومة، أو احتجاج.
لم أعتقد حتى بأني كنتُ أكتب عن الهوية والسياسة إلى أن أشار شخص إلى ذلك. في ورشاتِ العمل الجامعية، أصبحتْ زهوري الذابلة مجازات لبلدٍ آخذ بالتلاشي، سواء أردتُ لها كذلك أم لا. طيوري أصبحت طيارات مسيَّرة. بيتي أصبح نزوحًا. حتى الآن، في برنامج الماجستير الذي أنا فيه، اعتقد زميل دراسة أبيض أنني استخدمتُ صورة محددة بسبب "إرثي الهندي". على الدوام، أنا أُقرَأ. لا أُقرَأ. أُقرَأ على نحو خاطئ. وعندما كنتُ أتقدم إلى برامج الماجستير، حثّني الآخرون على كتابة قصائد عن هويتي لكي يبدو كما لو أن لديّ "غاية".
والآن لديّ غاية؟ أنا شاعرة فلسطينية ـ أميركية. قرأتُ درويش. درستُ كنفاني. أحيانًا أستخدم اللغة العربية في كتابتي، لكنني أعاني مع الحروف. أكتبُ عن فلسطين والحمّص وأميركا وكويريّتي، وكل ما بين ذلك. أنا في برنامج ماجستير للشعر، حيث أجلس في صفوف غالبيتُها من البيض، وأتظاهر بأني أعرف أجوبةَ الأسئلة. أحاول أن أشغل حيّزًا كامرأة مسلمة. كامرأة كويريّة مسلمة. كامرأة كويريّة فلسطينية ـ أميركية مسلمة.
أول مرة كتبتُ عن فلسطين كانت بعد لقائي بنعومي شهاب ناي. وبعد أن أعطتني الإذن، سألتُها سؤالًا معقدًا للغاية عن معنى أن يكون المرء فلسطينيًا، عندما انتهت من قراءة الشعر. ونعم، لقد طلبتُ الإذن. لأني كنت في حاجة إلى من يخبرني أنه لا بأس بالكتابة عن والدي الفلسطيني الذي استحوذتْ صدمته النفسية وغضبه وإحساسه بالذنب على معظم طفولتي. لأني كنتُ أحاول أن أفهم الاستعمار وأثره على عائلتي، لكني لم أكن أملك اللغة.
لأن لغتي العربية لا تزال تنقصها الكياسة. لأني لم أكن أعرف بوجود شعراء أحياء، ناهيك عن شعراء فلسطينيين ـ أميركيين، وعن شاعرات فلسطينيات ـ أميركيات. لأن هذه الهويات وتقاطعاتها وتراكماتها أثارت اهتمامي، لأني أردتُ أن أُرَى. لأنه أن تتم رؤيتي من قبل شخص ما، في مكان ما، شخصٍ أشعر أنه يكتب لي ولأجلي، فذلك أظهر لي أنه من الممكن أن أكون موجودة في عالم شعرتُ في أغلب الأحيان بأني لا أنتمي إليه.
***
لا أقصد أن أغتّمَ لجهلي. أعتقد أني أقصد أن أحاول الإجابة عن سؤال يتعلق بمعنى أن يتم تصنيفك كـ"شاعر سياسي"، أو "شاعر هوية"، في بلد هو ذاته لم يتصالح مع هويته. في بلد يتم تصنيف قصائدي فيه على أنها "مشحونة سياسيًا"، كما لو كان لدي الخيار قط. أقصد أن أفهم ما تقوله طاطور حين تقول "القضية سياسية منذ البداية لأنني فلسطينية...".
أعتقد أننا حين نتحدث عن السياسة على الورق، فإننا نسأل عمّا هو على المحك. بالنسبة إلى طاطور، تلك المخاطر عالية، لأن قصيدة كان يمكن أن تنهي حياتها، كان يمكن أن تسلبها قدرتها على الكتابة. يقول صديقي كيفين لاتيمر إن الشعراء غير المهمَّشين يكتبون والقنابل في أيديهم، بينما الشعراء المهمَّشون يكتبون بعد أن تُرمى القنابل وينزف الجميع. إنه يحاول أن يثبت أن كلّ الفن سياسي، سواء أكنتَ شخصًا أبيض متوافق الجنس، أو أي شخص آخر. فأنت إما تحمل القنبلة، أو تجمع الأشلاء. وقول إن الشعر ليس سياسيًا يقدّم خدمة للامبالاة، ما يعني الكتابة والقنبلة في يدك.
على أية حال، كيف يمكن للشعر ألا يكون سياسيًا؟ لا تمضي لحظة في يومي من غير أن أفكر بفلسطين. كيف يمكنني ذلك؟ من الطعام الذي ألتهمه، إلى اللغة التي أتحدث بها، لوجودي برمته في أميركا. كلّه سياسي. وإذا كان الشعراء غير المهمَّشين الذين يكتبون والقنابل في أيديهم لا يرون فنهم على أنه سياسي، فذلك لأنهم يعتقدون بأن بياضهم وكونهم متوافقي الجنس هو الوضع المعياري. إنهم ليسوا مضطرين للتفكير بالقوة ذاتها بهذه المواضيع (رغم أن عليهم ذلك)، تمامًا لأنهم في موقع السلطة في المجتمع.
الفارق بسيط. العشبُ في قصيدة أحد الشعراء قد يكون مجرد عشب، لكن العشب في قصيدة ليلى لونغ سولدجير "38" يصبح ممثِّلًا لشعب داكوتا المتضورين جوعًا، والعنف الواقع عليهم من قبل القوى الاستعمارية. في قصيدة "38"، تقتبس سولدجير عن التاجر أندرو ميريك، الذي يرد على مجاعة شعب داكوتا بالقول: "إذا كانوا جائعين، فليأكلوا العشب". بهذه الطريقة يصبح العشب ممثِّلًا للثمانية وثلاثين رجلًا من داكوتا الذين أعدمهم الرئيس أبراهام لينكون، ويقوم العشب برثائهم، كما يمثّل القسوة الآنفة الذكر. في كلتا الحالتين، العشب سياسي. ليس هذا هو السؤال. السؤال هو في ما إذا كان الشاعر يريد أن يقرّ بالمضامين السياسية للعشب (أو لأي صورة/ موتيفة/ استعارة)، أي أرض يوجد هذا العشب عليها، من يملكه، من مات هناك، من تم محوه، وكيف تم محوهم. إن هوية ليلى لونغ سولدجير كمواطنة من شعب أوجلالا لاكوتا يمنعها من رؤية العشب كمجرد عشب. ما أتحدث عنه هو السلطة. من يملك العشب؟ من يجب أن يستعيد العشب من خلال قصائده؟ وهل هذه الاستعادة تكريمٌ بحت، حزن، أغنية، قبر، أو نطاقُ تأثيرٍ يائس؟
لا أعرف إن كنت سأستمر في الكتابة لو كنتُ مكان طاطور. لا أعرف إذا كان "من المستحيل إيقاف كتابتي". لا أعرف إذا كنتُ أؤمن بسلطة الكتابة إلى ذلك الحدّ. رغم أنها قد أنقذتني، رغم أنها لا تزال تنقذني.
***
قبل بضعة أشهر، في مناقشة عامة، طُلِب مني أن أديرها في يونغزتاون، أوهايو، وكانت تدور حول الهوية الثقافية في الكتابة والنشر، قال واحد من الجمهور: "كلما همّشت نفسك أكثر، قلّت سلطتك السياسية". قال شخص آخر شيئًا عن الرجوع إلى ذواتنا. عن "مواجهة" هوياتنا. عن الشعور بالاستغلال الذي تمارسه صناعةُ نشر تدعمنا شكليًّا. عن تقاطعات العرق والجنسانية، عن الحريات الزائفة، عن تسييس هوياتنا.
وكوني أدير الجلسة، قمتُ بطرح الأسئلة بثقةِ من لديها الأجوبة للأسئلة التي تطرحها. أومأتُ برأسي. قلتُ "أها" في الميكروفون. استمعتُ. ذكر فيليب ميتيرز أن الكتّاب حول العالم يجرَّدون من جوائزهم، ومن التقدير، بسبب دعمهم العلني لحركة "المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات". فكرتُ بسيرتي الذاتية التي كُتب فيها: "نور هندي: شاعرة فلسطينية ـ أميركية". فكرتُ في العواقب. قلتُ "أها" في الميكروفون.
"الأزهار في قصائدي كانت أزهارًا. السماء لم تكن فيها طائرات مسيَّرة. والمنزل كان بيتًا. غير مهدَّم. وساكنوه لم يكونوا ينزفون" |
لكني لم أكن أعرف شيئًا، أو كنتُ أعرف أشياء كثيرة. لا أعرف. أعتقد أن ما أحاول فهمه الآن هو كيف أكتب. لقد عرفتُ فلسطين على الدوام، أشجارَ تينها، حزنها. عرفتُ كويريّتي على الدوام، الطرقَ التي غرّبتني بها وأربكتني. لكنْ، عندما بدأتُ الكتابة، لم أكن أفكر بهذه الأشياء بهذه القوة. الأزهار في قصائدي كانت أزهارًا. السماء لم تكن فيها طائرات مسيَّرة. والمنزل كان بيتًا. غير مهدَّم. وساكنوه لم يكونوا ينزفون.
تطلب الكتابة مني دائمًا أن أفضي بمكنونات صدري. أن أقول المزيد. أن أفهم كيفية وضع الخطوط. مكاني في المجتمع. ولا يبدو أبدًا أنه أشعرني حتى بالقليل من الضغط، ما يجعلني حتمًا أفكر في: ما الذي هو على المحك بالنسبة إلي؟ كيف يمكن لسيرتي الذاتية أن تؤثر على قراءة قصائدي؟ كيف تؤثر هويتي على كتابتي؟ كيف تُقرَأ قصائدي؟ كيف يمكن لكويريّتي في آخر المطاف أن تمنع قصائدي التي تتناول فلسطينيّتي من الوصول إلى جمهور معين؟ كيف يمكن أن تقيّمني نسويتي واحتجاجاتي ضد العنف المستمر الذي تتعرض له النساء العربيات على أيدي رجال عرب. لا أعرف كيف أجيب عن أيّ من هذه الأسئلة.
لكن أعرف أنه من المهم طرحها عن نفسي وعن زملائي الذين أتشارك ورشات عمل معهم، عن أساتذتي الذين تبدو قوائم كتبهم مشابهة لهم كثيرًا، أي أنها في أغلبيتها متوافقة الجندر، وبيضاء، وليست مثلية الجنس. وأخيرًا، أن أطرحها على الجماعة الأوسع، حيث من بين 15 مطبوعة رئيسية في عام 2017، وجدت مؤسسة فيدا (مؤسسة نساء في الفنون الأدبية) أن اثنتين فقط نشرتا لحوالي 50% أو أكثر من الكاتبات، وفقط أربع مجلات نشرت لأكثر من 5% من الكتّاب المعرّفين كشرق أوسطيين و/ أو شمال أفريقيين، رغم أن الشرق الأوسط هاجس مستمر لوسائل الإعلام الأميركية.
هذه ليست مجرد أرقام. إنها تظهر كيف نقرأ (أو لا نقرأ) قصائد وأعمال الهويات المهمَّشة، والضغوطات التي تواجهها هذه الهويات عندما تحدق في ورقة بيضاء، وعندما تخضع، وعندما يكون ذلك الصوت هو الصوت الوحيد الذي يمثّل جماعة كاملة. والطريقةُ الوحيدة التي يمكنني فيها الإجابة عن سؤال كيف نكتب هو بأن أسأل كيف نقرأ. على نحو أكثر تحديدًا، كيف أقرأ، وما الذي أبحث عنه في قصيدة، أو نص، ولماذا من المهم بالنسبة إليّ أن أقرأ "شعراء الهوية"، أو القصائد المصنَّفة كقصائد "سياسية"، ولماذا أعطي لهذه الأصوات قيمة أعلى من أصوات الكتّاب غير المهمَّشين الذين أحيانًا، وظاهريًا، لا يكون لديهم أي شيء على المحك عندما يكتبون عن طيور لم يُطلَق عليها الرصاص، أو عشب غير أحمر، أو سطور تصدح من أوان فارغة.
***
عندما أقرأ قصيدة، أريد أن أعرف من الذي سيموت لو لم تكن القصيدة موجودة؟ ما الذي على المحك بالنسبة إلى الشاعر؟ ما الذي يخسره؟ ما الذي يحاول إنقاذه؟ هل القصيدة فعلُ نجاة؟ أفكر بقصيدة طارفيا فَيزُالله (Tarfia Faizullah) "100 جرس" التي تبدأ هكذا: "ماتت أختي. اغتصبني. إنهم يضربونني. أشعر...". تبدأ القصيدة وتنتهي بذلك الإلحاح لدرجة أنني أول مرة قرأتها فيها لم أتنفس إلى أن وصلتُ إلى السطر الأخير. السطور القصيرة للقصيدة تترك أثرًا قويًا، بالإضافة إلى أن معظم الجملة لا يتكون سوى من ثلاثة أو خمسة مقاطع صوتية، ما يعطي القصيدة صوتًا متقطّعًا.
القصيدة مكتوبة على شكل مقطع واحد طويل، فلا تعطي أي مهلة. الوقفات في السطر الواحد تخلق معاني متناوبة، يختلط كل معنى منها بالثاني. لنأخذ، على سبيل المثال: "قال، الآن قد رأيتُ فتاة مسلمة/ عارية"، حيث كلمة "عارية" تدوّي، مفاجأة عنيفة، أو كيف أن السطر الأخير من القصيدة الذي يقول "إلى أن صمتت مقابض الأبواب"، يعمل بشكل عكسي ليخلق صوتَ مقبض باب يتم هزّه بعنف، إنما من دون قول ذلك. في مجموعة فَيزُالله الأولى "قُطبة"، تُجري مقابلة مع امرأة من بنغلاديش تعرّضت للاغتصاب والتعذيب خلال حرب التحرير عام 1971. لقد كانت فَيزُالله، على الفور، قادرة على دمج الشخصي والسياسي معًا لصنع قصائد مصيرية، وترفع صوت المهمَّشين.
بالمثل، أفكر بقصيدة فاطمة أصغر "إذا أتوا بحثًا عنّا"، التي هي كذلك مكتوبة على شكل مقطع واحد، لكنها لا تستخدم أي علامات ترقيم، وتتعثر بذاتها قبل أن تصل إلى النهاية. يأتي ذكاء القصيدة من قدرتها على أن ترثي "الزجاج الذي يتهشم في الشارع"، وفي الآن ذاته تحتفي بـ"الرضيع الذي يتدلى من عربة الأطفال/ شعره نافورة من بذور الهندباء". القصيدة احتجاج ضد المحو الذي يقوم به الاستعمار، وهي كذلك ترنيمة للنجاة. إنها تلتقط لحظات صغيرة، جميلة من حياة شخص، "الرجل المسلم الذي يرتشف/ ويسكي من النوع الجيد عند بداية المغرب"، و"المراهق المسلم/ قبعة سناب ـ باك، والأحذية العالية حتى الكاحل". أحب سرعة القصيدة، كما أحب سهولة التنقل الخادعة فيها، الطريقة التي تبدو فيها على لساني، وكيف أنها تفصح عن نفسها بقوة منذ السطر الأول، دافعة إياك إلى القصيدة: "هؤلاء شعبي...". أرى هذه القصيدة فعلَ بهجة ونجاة، لكنها بهجة متجذرة في بصيرة عميقة.
أذكر أصغر، وفَيزُالله (وسأضيف أيضًا صفية سنكلي، جوشوا جينيفر إسبينوزا، مورغان باركر، وكثيرين آخرين غيرهم) لأن قصائدهم أنقذتني. هذه القصائد، في كلّ من محتواها وصنعتها، أمثلة رائعة عن المدى الذي يمكن أن تُدفَع إليه قصيدة، عن السلطة التي يمكن للقصيدة أن تطالب بها وتستردها، عن الأكثر من تاريخ التي يمكن لها أن تحملهم، عن الحسرة التي تناور عبرها وإليها، والتضحيات التي يمكن أن تقوم بها. ثمة كثير يمكن خسارته، ومع ذلك الطريقة الوحيدة للتجلّد هي وجود القصيدة. هذه هي القصائد التي أريد أن أقرأها وأكتبها. القصائد التي "من المستحيل إيقافها"، على حدّ قول طاطور، القصائد "السياسية"، القصائد "المهووسة بالهوية".
"من الممكن سجنُ جسد الشاعر، الفنان أو الكاتب، لكن لا يمكن أبدًا سجن مخيلته"، تكتب طاطور. هذا هو نوع المقاومة والإلحاح الذي أسعى إليه. استحالةُ التوقف، رغم أنه، رغم أنه، رغم أنه، سأقضي حياتي وأنا أطاردها.
نور هندي: شاعرة وصحافية فلسطينية ـ أميركية حاصلة على درجة ماجستير في الشعر من جامعة أكرون. صدرت لها مجموعة شعرية بعنوان: "عزيزي الله. عزيزتي العظام. عزيزي الأصفر" (2022)، وهي تتناول مسائل الاستعمار، الدين، البطريركية، الهوية، وغير ذلك. تعمل حاليًا على تحرير أنطولوجيا شعر فلسطيني مع جورج إبراهيم. تسكن اليوم في ديترويت.
رابط النص الأصلي:
https://gay.medium.com/identity-poli...l-63178356249c
- المترجم: سارة حبيب