هل كان مارسيل بروست كوميديًا؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هل كان مارسيل بروست كوميديًا؟



    هل كان مارسيل بروست كوميديًا؟
    مايكل وود 19 ديسمبر 2023
    ترجمات
    تمثال مارسيل بروست، مستلقيًا، داخل قلعة بريتويل بفرنسا (78Actu©)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    ترجمة: سارة حبيب



    عن حس الفكاهة غير المتوقع في رواية "بحثًا عن الزمن المفقود"



    من بين الدمى الكثيرة التي ذُكِرت في فيلم غريتا غيرويغ "باربي"، كانت ثمة دمية مرتبطة بالزمن والذاكرة، وقد سُميّت حرفيًا نسبة إلى مارسيل بروست. لم تحقق تلك الدمية مبيعات جيدة؛ ربما اختارت شركة ماتيل الكاتب الخطأ. كان بوسعهم أن يختاروا ذات المارسيل، إنما بوصفه كوميديًا، شريكًا فرنسيًا، فلسفيًا، خفيًّا لديكنز.‏ اعتبر النقاد بروست خفيفَ الظل منذ عام 1928- توفي بروست عام 1922. ويحتوي كتاب كريستوفر بريندرغاست "أوهام وآراء مجنونة" (2013) فصلًا عن دعابات بروست. كذلك، في عام 2015، نشرت إليزابيث لادِنسون مقالة رائعة حملت عنوان "بروست والأخوة ماركس" (نسبة إلى الفرقة الكوميدية الأميركية).

    مع هذا، مزعم وجود الكوميديا عند بروست يكون دائمًا مفاجِئًا ويُنسى في الحال. لماذا؟ لا أعرف الإجابة عن هذا السؤال، إنما لديّ تخمين أو اثنان حول أسس ذلك المزعم، ويمكن أن يساعدانا في فهمه على نحو أفضل.

    قرأتُ بروست عندما كنتُ في الجامعة. كنتُ أتطلع إلى التجربة، وعرفتُ أنها ستكون غنية وجدية. ولذلك ظللتُ أؤجِّلها، مُنتظرًا اللحظة التي أكون فيها مستعدًا للثقافة. فتخيلوا دهشتي عندما اكتشفتُ أن كتاب "بحثًا عن الزمن المفقود" كان في حقيقة الأمر خفيفَ الظل. تجلّت إحدى لحظات الفكاهة واضحةً لي في المجلد الأول، ولا تزال واضحة: مضيفةُ مجتمعٍ باريسي، معتادة على أن تضحك بقوة على دعابات ضيوفها، انخلع فكها يومًا لأنها كانت تبالغ في استحسانها للدعابات. هكذا، لم يعد بوسعها أن تضحك، بل باتت تكتفي بالتظاهر بالسرور بأن تحاكي بهجتها بحذر، بينما يضحك زوجها بأعلى صوت يريده. يشكّل هذا مثالًا جيدًا عن نوع الكوميديا التي تسبّب الضحك عادة على تصرفات سخيفة، لكن النكتة البروستية العظيمة مبرّرة ضمن منطق الراوي بالنسبة لما حدث. لم يكن ذلك الحدث جسديًا بقدر ما كان حدثًا لغويًا. لقد كانت السيدة معتادة، كما يتم إعلامنا، على أخذ كل الملاحظات المجازية على نحو حرفي. في الإنكليزية مثلًا كانت لتحطّم جانبي وجهها أو تضحك حتى يطير رأسها (وهو الفهم الحرفي المقابل لمجاز "الضحك على نحو صاخب").

    كيف يمكن بالضبط لعادة تفكيرٍ أن تسبّب ضررًا جسديًا؟ تبدو الدعابة جديّة متعلقة بسلوك اجتماعي لكنها تتضمن أيضًا نوعًا من الفنتازيا. وليست هذه صيغة الكوميديا الوحيدة عند بروست، لكنها المفضلة عندي، وأود أن أنظر في مثالين آخرين. في المجلد الأخير من "بحثًا عن الزمن المفقود"، يعود الراوي إلى باريس بعد غياب طويل. ويستأنف حياته السابقة بالذهاب إلى حفلة. وفي تلك الحفلة يندهش من أن الجميع قد أصبحوا عجائز. يبدو الراوي ملتصقًا بدهشته لدرجة أنه يتظاهر أنه يرى شيئًا آخر: حفلةٌ راقصة بملابس تنكرية أفرط فيها أصدقاؤه ومعارفه في الأزياء ومستحضرات التجميل؛ الكثير من المساحيق والتجاعيد والشعر الأبيض. لكنه بعد ذلك يتلكأ لوقت أطول مما يجب وبتحذلقٍ أكثر مما يجب في هذا الوهم. وندرك حينها أن المشهد الكامل ليس عن دهشته أو أصدقائه بل عن إنكاره للزمن، عن تقدمه في السن هو ذاته. إنه يعتقد أن هذه نكتة، لكنها ليست كذلك. ليس بالنسبة إليه على أية حال.

    مزعم وجود الكوميديا عند بروست يكون دائمًا مفاجِئًا ويُنسى في الحال
    تتعلق الفكاهة عند بروست بالقراءات الخاطئة وضروب الإفراط في التفسير، وسؤاله عادة ليس ما يحدث بل لمن يحدث ومتى. يتردد صدى منطق بروست في فيلم روبرت زيميكس "من ورّط الأرنب روجر" (1988) عندما يكون بوب هوسكينز وروجر، إنسان وشخصية كرتونية، مقيدين بالأصفاد معًا بالصدفة، ويفقد هوسكينز المفتاح. يعلق الاثنان معًا لفترة من الزمن إلى أن يتملّص روجر محرّرًا يده. فيغضب هوسكينز ويقول: "هل تعني أن كنتَ قادرًا على إخراج يدك من تلك الأصفاد في أي وقت؟" يتفاجأ روجر من السؤال ويقول: "لا، ليس في أي وقت. بل عندما بدا الأمر مضحكًا فحسب".

    نقترب هنا من نظرية الضحك التي ابتكرها هنري برغسون، ابن عم بروست عن طريق الزواج. الإنسان المطواع ذو الصلات يصبح آلة ويسقط في حفرة لم يكن يراها. بالنسبة إلى بروست، لا نفعل هذا بأن نتحول إلى آلة بل بمجرد أن نكون بشرًا— نظريةُ قشرةِ موزٍ أكثرُ اتساعًا. ولا تكمن النكتة عادة في الانزلاق بل في حقيقة أن لا أحد يتوقعه. بوسعنا القول، على نحو مبسّط أكثر مما يجب إنما غير خاطئ، إن الراوي في "بحثًا عن الزمن المفقود" لا يمتلك دومًا حسّ فكاهة بروست. ومع اقتراب انتهاء الرواية، عندما يسير كل شيء على ما يرام بالنسبة إلى الراوي، وتحدث سلسلة من الصدف السعيدة مانحة إياه نظرية جديدة عن الزمن والذاكرة، يعلّق: "بدا... كما لو أن الإشارات التي كان من شأنها... أن تنتشلني من يأسي وتجدّد إيماني بالأدب عازمةٌ على مضاعفة نفسها". تبدو هذه ملاحظة ساذجة ساحرة من قبل الراوي، لكنها بالنسبة إلى المؤلف، منظِّمِ الإشارات المفرطة في حماستها، تذكيرٌ واضح بمن هو الذي يتولى زمام الأمور.
    "لا تكمن النكتة عادة في الانزلاق بل في حقيقة أن لا أحد يتوقعه. بوسعنا القول، على نحو مبسّط أكثر مما يجب إنما غير خاطئ، إن الراوي في "بحثًا عن الزمن المفقود" لا يمتلك دومًا حسّ فكاهة بروست"
    تحدث أحد أفضل أداءات بروست في هذا المسار في المجلد الأول من "بحثًا عن الزمن المفقود": أحاديث الراوي عن استيقاظه في سريره ليلًا وعجزه عن معرفة أين هو في الحال. يتناول الراوي عدة احتمالات ومن ثم يخبرنا أن "ملاك اليقين" قد أصلح الأمور له. إنه الآن مستيقظ وفي منزله، ويعرف مكان كل شيء. لكن، بعد حوالي مئتي صفحة يدرك أنه كان مخطئًا. فيستعرض خطأه من جديد، ثم ينطلق في اتجاهٍ كان الأرنب روجر ليستحسنه بالتأكيد:

    بالطبع، مع اقتراب الصباح، كان الشك الوجيز الذي رافق استيقاظي قد تبدّد منذ وقت طويل. عرفتُ أي غرفة كنتُ فيها بالفعل. أعدتُ بناءها حولي في الظلام... أعدتُ المرايا إلى أماكنها وأرجعتُ الخزانة ذات الأدراج إلى مكانها المعتاد. لكن ما أن تتبع ضوء النهار - ولم يعد موجودًا انعكاسُ جذوةٍ أخيرة حسبته هو النهار على قضيب الستارة النحاسي- الظلامَ، كما لو بالطباشير، شعاعهُ الأول، الأبيض، المُصحِّح، غادرتِ النافذة بستائرها إطارَ الباب الذي وضعتُها فيه بالخطأ، فيما، لكي أفسح مكانًا لها، كان المكتب الذي نقلتْه ذاكرتي إلى هناك على نحو أخرق قد طار بأقصى سرعة، دافعًا الموقد أمامه ومزيحًا حائط الرواق؛ فناء صغير سيمتد في البقعة التي كانت فيها قبل دقيقة لا غير غرفة الملابس، والمنزل الذي أعدتُ بناءه في الظلام سيذهب لينضم إلى المنازل التي لمحتُها في دوامة يقظاتي، مدحورة من قبل العلامة الشاحبة التي خطتّها فوق الستائر إصبعُ الفجر المرفوعةُ. (بروست)

    يمكن أن نفكر بوالت ديزني وبزيميكس، لكن ربما سينما جورج ميلييس، أفلامه المليئة بالسحر المصوَّر، ستكون أقرب إلى هذا التأثير. فماذا نفعل بالمتعة الخالصة التي تمنحها رؤيةُ غرفةٍ تصحّح نفسها بهمّة، مزيجُ الواقعية الحميمة مع الجماداتِ النابضة بالحياة؟ هل المكتب على عجلة من أمره لأنه يشعر بالذنب؟ وكليشيه إصبع الفجر المرفوعة التي تكمل المشهد على نحو يثير الإعجاب. والطبيعة (أو ضوء النهار) هي المعلّم الموَبِّخ الذي يشير للراوي بأن عليه أن يبلي أحسنَ في المرة القادمة.



    مايكل وود (1936-...): حاصل على الدكتوراه من جامعة كامبريدج عام 1962 بأطروحة عنوانها "الوظيفة الدرامية للرمز عند المسرحيين ماترلينك وكلوديل". يدرّس الأدب المقارن في جامعة برينستون. من اهتماماته أدب القرن العشرين، السينما، النظرية الأدبية، تاريخ النقد. من كتبه: "شكوك الساحر: نابوكوف ومخاطر التخييل" (1994)، "أطفال الصمت: عن التخييل المعاصر" (1998)، "الأدب وطعم المعرفة" (2005)، "ييتس والعنف" (2010)، وغيرها.



    رابط النص الأصلي:

    https://lithub.com/was-marcel-proust...h-of-lost-time

    /
    • المترجم: سارة حبيب
يعمل...
X