عن استدعاء التاريخ لتشكيل الوعي وخلق الهوية
عمر كوش
حجم الخط
يتخذ برنارد لويس في كتابه "التاريخ: استذكاره واستعادته واختلاقه" (ترجمة أحمد العبدة، مراجعة شكري مجاهد، منتدى العلاقات الدولية، الدوحة، 2023) من الاحتفالات التي اعتمدت على أسطورة الملك قورش الكبير الفارسية وأسطورة مسادا اليهودية، كمثالين على التوظيفات السياسية والعسكرية، التي يتم فيها اختلاق التاريخ، واستذكاره واستعادته، حيث دأبت إيران إبان فترة الشاه رضا بهلوي على الاحتفال بذكرى الملك قورش، فيما بادرت إسرائيل إلى إحياء مسادا، وصيّرتها إلى ما يشبه طقس عبادة وطنية. وجرت عمليات تحويل كلا الاحتفالين إلى مهرجانات وطنية كبيرة، تتجسد فيها معاني البطولة والتفاني التي توظف قوميًا، إرضاء للنزعات الشوفينية والعنصرية، وذلك على الرغم من أن كلا الموضوعين يشتركان في ملمح آخر، يتمثل في أن شعوبهما نسيتهما، وكانا مجهولين لديهم، ثم جرت عمليات استعادتهما من مصادر خارجية، بدوافع سياسية وأيديولوجية قومية، هدفها تشكيل وعي جديد بالذات، وخلق هوية معنية.
يرى لويس أن هناك طرقًا عديدة لتعريف التاريخ وتقسيمه، تقليديًا من خلال الإجابة عن أسئلة: من ومتى وأين؟ ثم أصبحت أكثر تعقيدًا في عصرنا، فطرحت: ماذا وكيف؟ ثم على المستوى الفكري تم طرح سؤال: لماذا؟ أما في الجانب المنهجي فيُقسم التاريخ من خلال أنواع المصادر وطريقة استخدامها، في حين أن الجانب الأيديولوجي يهتم أكثر بالوظيفة والهدف المرتبطين بالمؤرخ نفسه، وكثيرين غيره، أكثر من التاريخ. وبناء عليه، يمكن تمييز ثلاثة أنواع للتاريخ، يتمثل أولها بالتاريخ المُتذكر، ويتكون مما يختاره المجتمع من مقولات حول الماضي بدلًا من الماضي الحقيقي، ويتضمن الذكريات والسير الشخصية لكبار رجالات الحضارة وتقاليدها، حسبما وردت في كتبها المقدسة، ونصوصها المعبرة، وتاريخها الموروث، والتي تشكل بما يمكن وصفة بالذاكرة الجماعية لمجتمع أو أمة أو كيان ما. وقد شاع التاريخ المتذكر على اختلاف أشكاله بين جميع المكونات البشرية، وجسّد الحقيقة الشعورية والرمزية حسبما تفهمها الجماعات البشرية، حتى عندما يكون غير دقيق التفاصيل. ويحفظ هذا التاريخ في الاحتفالات التذكارية والدينية، وفي الكلمات والطقوس المرتبطة بها، وكذلك في المهرجانات والدراما والأغاني والسير والملاحم والقصص الشعبية، إضافة إلى الاحتفالات الرسمية ومراحل التعليم الأساسي.
ثاني أنواع التاريخ يمثله التاريخ المستعاد، الذي يشمل تاريخ الأحداث والحركات والأشخاص والأفكار المنسية، أي تلك التي نبذتها الذاكرة الجماعية في فترة ما، ثم جرت عملية استعادتها عبر دراسات علمية أكاديمية، خضعت إلى عمليات إعادة تشكيل. وتجري استعادة هذا التاريخ نتيجة اكتشاف وإعادة تقييم الماضي من خلال النقد الأكاديمي، وبدأ في الأساس مع الحداثة الأوروبية، حيث لم يكن القدماء مهتمين بالتاريخ القديم باستثناءات قليلة.
أما ثالث أنواع التاريخ، فهو التاريخ المختلق، الذي يوجه نحو غرض بعينه. وقد يُخترع، فُيبتكر أو يُفسر في ضوء التاريخ المتذكر والمستعاد إن أمكن. وهو ليس بدعة جديدة، بل مورس في العصور القديمة أيضًا، وشاع بين كل الجماعات، بدءًا من الأساطير البطولية القديمة للقبائل البدوية، وصولًا إلى التاريخ الرسمي السوفياتي، وحركة المراجعة التاريخية الأميركية.
يتخذ لويس من المقدمة النظرية، الخاصة بأنواع التاريخ، سندًا للنظر فيما يثيره مثالاه، قورش ومسادا، من مشكلات في دراسة التاريخ اليهودي والتاريخ الفارسي، مرجعًا اهتمام اليهود بالتاريخ إلى العهد القديم، ثم مسيرة إبراهيم وهجرته من أور الكلدانية إلى مصر، وخروج القبائل اليهودية منها. ولا يخفي شكواه من فقر الأدب اليهودي التاريخي في العصور الوسطى، وتناثره، بل وتناقضه الصارخ مع الكتابات اليهودية التاريخية السابقة، ومع الكتابة التاريخية المعاصرة، النصرانية والإسلامية بشكل خاص. ويرجع أسباب ذلك إلى عدم وجود نقطة محورية، يتمركز عليها، حيث يستلزم التاريخ محورًا يدور حوله، مثل بلد أو دولة أو أسرة حاكمة، وليس حول فكرة أو منحى أو موضوع.
يرى لويس أن هناك تشابهًا مذهلًا بين موقف اليهود وموقف المسلمين الشيعة في مقاربتهم للتاريخ، فيما يعتبر أن أهمية التاريخ بالنسبة إلى المسلمين السنة كانت هائلة، وغير محدودة، حيث بدأ إيمانهم برسالة النبي محمد وهو حدث تاريخي، كما أنه لا يمكن معرفة ظروف الوحي والتنزيل إلا من خلال الذاكرة والتسجيل، أي من خلال حفظ ونقل ما كتبه مؤرخو الإسلام الأوائل. والسنّة تاريخية في جوهرها، وعُرفت في تواترها وتشكيلها أساس العقائد والشريعة الإسلامية. أما وجهة نظر الشيعة فهي مختلفة تمامًا، إذ أن الخليفة علي بن أبي طالب هو الخليفة الشرعي الوحيد بالنسبة إليهم بعد النبي، وجميع الخلفاء الآخرين مغتصبون للخلافة، واتخذ التاريخ بعد مقتل علي منحًى خاطئًا، فصارت الأمة الإسلامية تعيش في ضلالة، إذا جاز التعبير. وعليه، يرى لويس بالانطلاق من أن الشيعة لا يقيمون أي اعتبار لأفعال الحكام المغتصبين وأحكام الفقهاء المخالفين، أن التاريخ الشيعي ضعيف بالمقارنة مع التاريخ السني، ومنشغل بمخاوف مماثلة لتلك التي لدى اليهود، والمتمثلة بمعاناة شهداء الشيعة والأئمة، وسلسلة انتقال الإمامة، ومع علامات ونذر قدوم المهدي، بوصفه المرسل الذي سيعيد التاريخ بالنسبة إليهم، كما بالنسبة إلى اليهود، إلى مساره الصحيح، وينفّذ إرادة الله على الأرض. يتناول لويس الفتح الإسلامي بوصفه غزوًا لبلاد فارس وبلدان الشرق الأوسط، أفضى إلى تغييرات جذرية وانقطاعات مع ماضي شعوبها، حيث جلب دينًا جديدًا. وكانت التغييرات اللاحقة أكبر مما وقعت في العالم النصراني، فقد انتصرت النصرانية على الإمبراطورية الرومانية عن طريق التحول لا الغزو، وأبقت على الدولة الرومانية والقانون الروماني، وتعلمت العيش مع التراث اللاتيني واليوناني. أما الإسلام فقد أنشأ دولة الخلافة، وجلب اللغة العربية وكتابه المقدس القرآن. وجرى تدمير الدول القديمة، ونُسيت اللغات وحتى النصوص القديمة. ويسوق لويس هذه التصورات بناء على مماهاة مصطنعة، يحكمها اعتباره الإسلام هو الأمة التي ينتمي إليها المسلم، والتاريخ الذي يعنيه هو تاريخ الحلفاء وخلفائهم، أبطاله هم المقاتلون في حروب الإسلام المقدسة على أسلافه الوثنيين أو النصارى. لكنه سرعان ما يناقض نفسه حين يتحدث عن العثمانيين الأتراك، وعن تبني الفرس الإسلام والحرف العربي، وحفاظهم على لغتهم وشعورهم القوي بالهوية الثقافية المنفصلة. والواقع هناك أمثلة كثيرة على احتفاظ الشعوب الإسلامية بلغاتها الخاصة وتاريخها وثقافاتها، وحتى أن كثيرًا من العرب المسيحيين وسواهم حافظوا على ديانتهم، واليهود كذلك.
بالانتقال إلى استذكار التاريخ عبر الذاكرة الجماعية للجماعات، فإن تعبيراتها المبكرة تأخذ طابعًا أدبيًا وثقافيًا عبر الأغاني والملاحم والبطولات والسير والمرويات، إضافة إلى الأعياد بأنواعها، لكن لويس يركز على الأعياد الدينية فقط، حيث يحتفل اليهود بخمسة أعياد، وكلها أعياد تاريخية، فهناك عيد الفصح، وهو يذكر بالخروج. واثنان آخران لأعياد الحصاد، والعيدان الأصغران، وهما عيد المساخر والأنوار. أما النصرانية فتبدأ بسلسلة واحدة من الأحداث في التاريخ وقبل كل شيء بالحقيقة المركزية للصلب، حيث يحتفل سنويًا بأعياد الجمعة العظيمة وعيد الفصح، والعيد التاريخي النصراني الكبير هو عيد الميلاد. والتناقض بين عيد الميلاد وعيد الفصح لافت ودالّ، لأن أحدهما يحيي ذكرى ميلاد المسيح والآخر موته وقيامته. أما الإسلام فهو دين تاريخي أكثر من النصرانية واليهودية، لأن لويس يعتبر أنه نشأ عن سلسلة من الأحداث التاريخية، التي لا نظير لها في النصرانية واليهودية، حيث يبدأ التاريخ بالمعنى التقليدي بسيرة مؤسس الإسلام، في حين أن الأعياد ليست تاريخية بالدرجة الأولى، ومع ذلك يحتفل بمولد النبي لكنه احتفال ثانوي.
في العصور الحديثة، اتخذت الدول أعيادًا وطنية، لتوفير مناسبات للاحتفاء وإلقاء الخطب والاحتفالات، لكنها لم تلغِ الأعياد الدينية، وبقيت أشكال أخرى من التاريخ مع بقاء العادات والشرائع القديمة. وهناك الكتابات التاريخية التي كتبت بهدف تسجيل أحداث الماضي للإعلام والإرشاد للحاضر والمستقبل. وهنا تتجلى مهمة المؤرخ النقدي، المتمثلة في إدراكه حقيقة وضرورة الابتعاد عن الولاءات والتحيزات والأحكام المسبقة، التي لا تبتعد كثيرًا عما قام به برنارد لويس نفسه، عبر أحكامه المنتقصة من الإسلام، الذي يمثل بالنسبة إليه جميع المسلمين مع الحضارة الإسلامية، فالمشكلة في أطروحات لويس، وتناوله للتاريخ، أنه يفسر كل الحوادث التاريخية من منطلق ديني محض، مع تحيّز واضح لليهودية وللنصرانية، فالصراعات التي عرفها التاريخ، قديمه وحديثه، ليس بين دول أو أمم أو إمبراطوريات، وإنما هي صدام بين حضارات، محركها الأساسي هو الدين، لذلك لا يولي أي أهمية للعوامل الجيوسياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في تاريخ الجماعات والأمم، مما يفقد أطروحاته وآراءه حياديتها ونزاهتها العلمية، وبالتالي تفقد أهميتها، بالنظر إلى قصوره في تقديم دراسات متماسكة تبين حقيقة ما جرى في التاريخ كما هو.
يعي لويس أن التاريخ النقدي يبدأ من عدم التسليم بالذاكرة الجماعية، والرغبة في معالجة نواقصها، وأن المؤرخ النقدي لا يقبل ما يقدمه التاريخ المتذكر أو المستعاد، لأنه غير دقيق ومعيب ومضلل، وتنحصر الأغراض الرئيسية له في تذكر الماضي، وتبرير الحاضر المختلف بشأنه، إضافة إلى أن الماضي غالبًا ما يتم استخدامه للتنبؤ بالمستقبل، وربما التحكم به. أما اختراع التاريخ، فيهدف بالدرجة الأولى إلى تلميع وتزيين الحاضر، وتصحيح وإزالة ما هو مقيت في الماضي، وإحلال شيء آخر أكثر قبولًا مكانه، وأكثر ملاءمة للغرض المطروح من أجله.
غير أن النقد التاريخي لا يعني نقد التاريخ الديني، أي تبيان جوانب قصوره وزلاته وسوى ذلك، بقدر ما يعني النقد الذي ينطلق من المفهوم السامي للتاريخ، أي نقد كل شيء في الحياة يتسم بالزيف والوضاعة والانحطاط.
الحاصل أن مجمل أطروحات لويس، تثير، من جديد، إشكالية علاقة المعرفة بالسلطة، التي طورها الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، وأدخلها لويس في سياقات جديدة من توظيف المعرفة وتجييرها، في إطارها النظري، خدمة لسلطة السياسة، أو بالأحرى سلطة المتنفذين في الولايات المتحدة، حيث قدم أنموذجًا لهذا النوع من الخدمات والتوظيفات، وفي الجانب الأكثر إطلاقية وتحيّزًا وغطرسة، فلم يتوان عن تجيير كثير من معرفته العلمية ليرفد أفكار الصراع والصدام بين الثقافات والحضارات، وخاصة الصراع بين الإسلام والنصرانية التي تقف من خلفها اليهودية، وقد لاقت توظيفاته رواجًا كبيرًا بين رموز المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية، وخاصة في عهد جورج بوش الابن.
عمر كوش
حجم الخط
يتخذ برنارد لويس في كتابه "التاريخ: استذكاره واستعادته واختلاقه" (ترجمة أحمد العبدة، مراجعة شكري مجاهد، منتدى العلاقات الدولية، الدوحة، 2023) من الاحتفالات التي اعتمدت على أسطورة الملك قورش الكبير الفارسية وأسطورة مسادا اليهودية، كمثالين على التوظيفات السياسية والعسكرية، التي يتم فيها اختلاق التاريخ، واستذكاره واستعادته، حيث دأبت إيران إبان فترة الشاه رضا بهلوي على الاحتفال بذكرى الملك قورش، فيما بادرت إسرائيل إلى إحياء مسادا، وصيّرتها إلى ما يشبه طقس عبادة وطنية. وجرت عمليات تحويل كلا الاحتفالين إلى مهرجانات وطنية كبيرة، تتجسد فيها معاني البطولة والتفاني التي توظف قوميًا، إرضاء للنزعات الشوفينية والعنصرية، وذلك على الرغم من أن كلا الموضوعين يشتركان في ملمح آخر، يتمثل في أن شعوبهما نسيتهما، وكانا مجهولين لديهم، ثم جرت عمليات استعادتهما من مصادر خارجية، بدوافع سياسية وأيديولوجية قومية، هدفها تشكيل وعي جديد بالذات، وخلق هوية معنية.
يرى لويس أن هناك طرقًا عديدة لتعريف التاريخ وتقسيمه، تقليديًا من خلال الإجابة عن أسئلة: من ومتى وأين؟ ثم أصبحت أكثر تعقيدًا في عصرنا، فطرحت: ماذا وكيف؟ ثم على المستوى الفكري تم طرح سؤال: لماذا؟ أما في الجانب المنهجي فيُقسم التاريخ من خلال أنواع المصادر وطريقة استخدامها، في حين أن الجانب الأيديولوجي يهتم أكثر بالوظيفة والهدف المرتبطين بالمؤرخ نفسه، وكثيرين غيره، أكثر من التاريخ. وبناء عليه، يمكن تمييز ثلاثة أنواع للتاريخ، يتمثل أولها بالتاريخ المُتذكر، ويتكون مما يختاره المجتمع من مقولات حول الماضي بدلًا من الماضي الحقيقي، ويتضمن الذكريات والسير الشخصية لكبار رجالات الحضارة وتقاليدها، حسبما وردت في كتبها المقدسة، ونصوصها المعبرة، وتاريخها الموروث، والتي تشكل بما يمكن وصفة بالذاكرة الجماعية لمجتمع أو أمة أو كيان ما. وقد شاع التاريخ المتذكر على اختلاف أشكاله بين جميع المكونات البشرية، وجسّد الحقيقة الشعورية والرمزية حسبما تفهمها الجماعات البشرية، حتى عندما يكون غير دقيق التفاصيل. ويحفظ هذا التاريخ في الاحتفالات التذكارية والدينية، وفي الكلمات والطقوس المرتبطة بها، وكذلك في المهرجانات والدراما والأغاني والسير والملاحم والقصص الشعبية، إضافة إلى الاحتفالات الرسمية ومراحل التعليم الأساسي.
ثاني أنواع التاريخ يمثله التاريخ المستعاد، الذي يشمل تاريخ الأحداث والحركات والأشخاص والأفكار المنسية، أي تلك التي نبذتها الذاكرة الجماعية في فترة ما، ثم جرت عملية استعادتها عبر دراسات علمية أكاديمية، خضعت إلى عمليات إعادة تشكيل. وتجري استعادة هذا التاريخ نتيجة اكتشاف وإعادة تقييم الماضي من خلال النقد الأكاديمي، وبدأ في الأساس مع الحداثة الأوروبية، حيث لم يكن القدماء مهتمين بالتاريخ القديم باستثناءات قليلة.
أما ثالث أنواع التاريخ، فهو التاريخ المختلق، الذي يوجه نحو غرض بعينه. وقد يُخترع، فُيبتكر أو يُفسر في ضوء التاريخ المتذكر والمستعاد إن أمكن. وهو ليس بدعة جديدة، بل مورس في العصور القديمة أيضًا، وشاع بين كل الجماعات، بدءًا من الأساطير البطولية القديمة للقبائل البدوية، وصولًا إلى التاريخ الرسمي السوفياتي، وحركة المراجعة التاريخية الأميركية.
"يرى لويس أن هناك تشابهًا مذهلًا بين موقف اليهود وموقف المسلمين الشيعة في مقاربتهم للتاريخ، فيما يعتبر أن أهمية التاريخ بالنسبة إلى المسلمين السنة كانت هائلة، وغير محدودة، حيث بدأ إيمانهم برسالة النبي محمد وهو حدث تاريخي" |
يرى لويس أن هناك تشابهًا مذهلًا بين موقف اليهود وموقف المسلمين الشيعة في مقاربتهم للتاريخ، فيما يعتبر أن أهمية التاريخ بالنسبة إلى المسلمين السنة كانت هائلة، وغير محدودة، حيث بدأ إيمانهم برسالة النبي محمد وهو حدث تاريخي، كما أنه لا يمكن معرفة ظروف الوحي والتنزيل إلا من خلال الذاكرة والتسجيل، أي من خلال حفظ ونقل ما كتبه مؤرخو الإسلام الأوائل. والسنّة تاريخية في جوهرها، وعُرفت في تواترها وتشكيلها أساس العقائد والشريعة الإسلامية. أما وجهة نظر الشيعة فهي مختلفة تمامًا، إذ أن الخليفة علي بن أبي طالب هو الخليفة الشرعي الوحيد بالنسبة إليهم بعد النبي، وجميع الخلفاء الآخرين مغتصبون للخلافة، واتخذ التاريخ بعد مقتل علي منحًى خاطئًا، فصارت الأمة الإسلامية تعيش في ضلالة، إذا جاز التعبير. وعليه، يرى لويس بالانطلاق من أن الشيعة لا يقيمون أي اعتبار لأفعال الحكام المغتصبين وأحكام الفقهاء المخالفين، أن التاريخ الشيعي ضعيف بالمقارنة مع التاريخ السني، ومنشغل بمخاوف مماثلة لتلك التي لدى اليهود، والمتمثلة بمعاناة شهداء الشيعة والأئمة، وسلسلة انتقال الإمامة، ومع علامات ونذر قدوم المهدي، بوصفه المرسل الذي سيعيد التاريخ بالنسبة إليهم، كما بالنسبة إلى اليهود، إلى مساره الصحيح، وينفّذ إرادة الله على الأرض. يتناول لويس الفتح الإسلامي بوصفه غزوًا لبلاد فارس وبلدان الشرق الأوسط، أفضى إلى تغييرات جذرية وانقطاعات مع ماضي شعوبها، حيث جلب دينًا جديدًا. وكانت التغييرات اللاحقة أكبر مما وقعت في العالم النصراني، فقد انتصرت النصرانية على الإمبراطورية الرومانية عن طريق التحول لا الغزو، وأبقت على الدولة الرومانية والقانون الروماني، وتعلمت العيش مع التراث اللاتيني واليوناني. أما الإسلام فقد أنشأ دولة الخلافة، وجلب اللغة العربية وكتابه المقدس القرآن. وجرى تدمير الدول القديمة، ونُسيت اللغات وحتى النصوص القديمة. ويسوق لويس هذه التصورات بناء على مماهاة مصطنعة، يحكمها اعتباره الإسلام هو الأمة التي ينتمي إليها المسلم، والتاريخ الذي يعنيه هو تاريخ الحلفاء وخلفائهم، أبطاله هم المقاتلون في حروب الإسلام المقدسة على أسلافه الوثنيين أو النصارى. لكنه سرعان ما يناقض نفسه حين يتحدث عن العثمانيين الأتراك، وعن تبني الفرس الإسلام والحرف العربي، وحفاظهم على لغتهم وشعورهم القوي بالهوية الثقافية المنفصلة. والواقع هناك أمثلة كثيرة على احتفاظ الشعوب الإسلامية بلغاتها الخاصة وتاريخها وثقافاتها، وحتى أن كثيرًا من العرب المسيحيين وسواهم حافظوا على ديانتهم، واليهود كذلك.
بالانتقال إلى استذكار التاريخ عبر الذاكرة الجماعية للجماعات، فإن تعبيراتها المبكرة تأخذ طابعًا أدبيًا وثقافيًا عبر الأغاني والملاحم والبطولات والسير والمرويات، إضافة إلى الأعياد بأنواعها، لكن لويس يركز على الأعياد الدينية فقط، حيث يحتفل اليهود بخمسة أعياد، وكلها أعياد تاريخية، فهناك عيد الفصح، وهو يذكر بالخروج. واثنان آخران لأعياد الحصاد، والعيدان الأصغران، وهما عيد المساخر والأنوار. أما النصرانية فتبدأ بسلسلة واحدة من الأحداث في التاريخ وقبل كل شيء بالحقيقة المركزية للصلب، حيث يحتفل سنويًا بأعياد الجمعة العظيمة وعيد الفصح، والعيد التاريخي النصراني الكبير هو عيد الميلاد. والتناقض بين عيد الميلاد وعيد الفصح لافت ودالّ، لأن أحدهما يحيي ذكرى ميلاد المسيح والآخر موته وقيامته. أما الإسلام فهو دين تاريخي أكثر من النصرانية واليهودية، لأن لويس يعتبر أنه نشأ عن سلسلة من الأحداث التاريخية، التي لا نظير لها في النصرانية واليهودية، حيث يبدأ التاريخ بالمعنى التقليدي بسيرة مؤسس الإسلام، في حين أن الأعياد ليست تاريخية بالدرجة الأولى، ومع ذلك يحتفل بمولد النبي لكنه احتفال ثانوي.
في العصور الحديثة، اتخذت الدول أعيادًا وطنية، لتوفير مناسبات للاحتفاء وإلقاء الخطب والاحتفالات، لكنها لم تلغِ الأعياد الدينية، وبقيت أشكال أخرى من التاريخ مع بقاء العادات والشرائع القديمة. وهناك الكتابات التاريخية التي كتبت بهدف تسجيل أحداث الماضي للإعلام والإرشاد للحاضر والمستقبل. وهنا تتجلى مهمة المؤرخ النقدي، المتمثلة في إدراكه حقيقة وضرورة الابتعاد عن الولاءات والتحيزات والأحكام المسبقة، التي لا تبتعد كثيرًا عما قام به برنارد لويس نفسه، عبر أحكامه المنتقصة من الإسلام، الذي يمثل بالنسبة إليه جميع المسلمين مع الحضارة الإسلامية، فالمشكلة في أطروحات لويس، وتناوله للتاريخ، أنه يفسر كل الحوادث التاريخية من منطلق ديني محض، مع تحيّز واضح لليهودية وللنصرانية، فالصراعات التي عرفها التاريخ، قديمه وحديثه، ليس بين دول أو أمم أو إمبراطوريات، وإنما هي صدام بين حضارات، محركها الأساسي هو الدين، لذلك لا يولي أي أهمية للعوامل الجيوسياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في تاريخ الجماعات والأمم، مما يفقد أطروحاته وآراءه حياديتها ونزاهتها العلمية، وبالتالي تفقد أهميتها، بالنظر إلى قصوره في تقديم دراسات متماسكة تبين حقيقة ما جرى في التاريخ كما هو.
يعي لويس أن التاريخ النقدي يبدأ من عدم التسليم بالذاكرة الجماعية، والرغبة في معالجة نواقصها، وأن المؤرخ النقدي لا يقبل ما يقدمه التاريخ المتذكر أو المستعاد، لأنه غير دقيق ومعيب ومضلل، وتنحصر الأغراض الرئيسية له في تذكر الماضي، وتبرير الحاضر المختلف بشأنه، إضافة إلى أن الماضي غالبًا ما يتم استخدامه للتنبؤ بالمستقبل، وربما التحكم به. أما اختراع التاريخ، فيهدف بالدرجة الأولى إلى تلميع وتزيين الحاضر، وتصحيح وإزالة ما هو مقيت في الماضي، وإحلال شيء آخر أكثر قبولًا مكانه، وأكثر ملاءمة للغرض المطروح من أجله.
غير أن النقد التاريخي لا يعني نقد التاريخ الديني، أي تبيان جوانب قصوره وزلاته وسوى ذلك، بقدر ما يعني النقد الذي ينطلق من المفهوم السامي للتاريخ، أي نقد كل شيء في الحياة يتسم بالزيف والوضاعة والانحطاط.
الحاصل أن مجمل أطروحات لويس، تثير، من جديد، إشكالية علاقة المعرفة بالسلطة، التي طورها الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، وأدخلها لويس في سياقات جديدة من توظيف المعرفة وتجييرها، في إطارها النظري، خدمة لسلطة السياسة، أو بالأحرى سلطة المتنفذين في الولايات المتحدة، حيث قدم أنموذجًا لهذا النوع من الخدمات والتوظيفات، وفي الجانب الأكثر إطلاقية وتحيّزًا وغطرسة، فلم يتوان عن تجيير كثير من معرفته العلمية ليرفد أفكار الصراع والصدام بين الثقافات والحضارات، وخاصة الصراع بين الإسلام والنصرانية التي تقف من خلفها اليهودية، وقد لاقت توظيفاته رواجًا كبيرًا بين رموز المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية، وخاصة في عهد جورج بوش الابن.
- عنوان الكتاب: التاريخ: استذكاره واستعادته واختلاقه
- المؤلف: برنارد لويس
- المترجم: أحمد العبدة