ماذا تبقّى من الغرب؟
عمر كوش
17 يناير 2024
شارك هذا المقال
حجم الخط
مفهوم الغرب هو من المفاهيم الحديثة السائبة، غير المقيدة، إذ يصعب حصره في تعريف معين، كما لا يمكن تحديد مركبات تشييده، لأن التاريخ لم يشهد تشكيل كتلة صلبة تغرب فيها الشمس، وعلى الرغم من تمتعها بطبيعة جمالية، لكنها ذات ملامح سديمية، وبقي معها المفهوم رماديًا، الأمر الذي حذا بالفيلسوف الفرنسي، ريجيس دوبريه، إلى التشديد على أن المنطقة الأوروبية الأطلسية، ليست جغرافيا روحانية باطنية، وليس الغرب إلا بمنزلة اسم مستعار لجغرافيا حلف شمال الأطلسي (دول حلف الناتو)، وذلك في الكتاب الحواري "ماذا تبقى من الغرب؟" (ترجمة مراد دياني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2023)، الذي تبادل فيه ريجيس دوبريه عدة رسائل مع الصحافي والعالم الجيوسياسي الفرنسي رينو جيرار، وشكّل النقاش الذي حملته تلك الرسائل متن هذا الكتاب، الذي طاول مفهوم الغرب وأصوله، ومستقبله، ووحدته، وبنيته، وسياساته، وعوامل نجاحه وعوائق إخفاقاته.
لا يتعين الغرب في الأطروحات الأسطورية التي تحيله إلى الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع، أو عصر التنوير الأوروبي بدءًا من 1750، أو "العالم الحر" بعد عام 1950، أو تلك التي تضعه في حالة عداء دائم مع الشرق في إطار الصراع بين الخير والشر، وبين النور والظلام، والحضارة والهمجية، التي تجسدها تلك الثنائيات المانوية. ويحدد دوبريه "العالم الغربي" بوصفه ناديًا للأغنياء أو أسرة روحية، في نظام سياسي عسكري، قاعدته الأمامية في غرب الغرب، أي الولايات المتحدة الأميركية، وصار يشمل أوروبا الغربية، وأوروبا الشرقية ودول البلطيق، ويمتلك ركائز ودعامات في آسيا والمحيط الهادئ، مع اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، فضلًا عن أستراليا ونيوزيلندا. واللافت هو أن كل تدخلات الولايات المتحدة لحسابها الخاص، خارج إطار حلف شمال الأطلسي، كانت تقوم بها باسم الغرب وأمنه وقيمه.
الأساس الذي انطلق منه مؤلفا الكتاب هو الرد على أطروحات أفول الغرب، ومقولات انحداره ونهايته، التي يجد فيها دوبريه مبالغة كبيرة، بالنظر إلى أن الغرب ما يزال يمتلك أوراقًا كبيرة، حيث يعرض أسس الهيمنة الغربية، التي يصفها بأنّها فن ترغيب السيطرة في قلوب المسيطر عليهم، فيما يكمن أحد أهم أهداف الغرب في تحويل العالم إلى سوق كبيرة، يتحول بموجبها جميع سكانه إلى مستهلكين، مجردين من الذاكرة، ومن القيم، فضلًا عن أنه يمتلك القدرة على تقديم مصالحه الخاصة، بوصفها تعبيرًا عن مصالح الإنسانية، وادعاء تمثيله الكتلة الوحيدة التي تقدم نفسها على أنها المجتمع الدولي.
يعتبر دوبريه أن الغرب يمتلك خمس ركائز، أو عوامل، لنجاح هيمنته، أولى هذه الركائز تتجسد في تماسكه المنقطع النظير، إذ لا تمتلك أي منطقة جيوسياسية مثل التناغم والتماسك الذي يمتلكه الغرب، من خلال منظومة "حلف شمال الأطلسي" الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأميركية، وأصبح الغرب الأطلسي هو الكتلة الوحيدة المتعددة الجنسيات القادرة على القيام بعمليات عسكرية في العالم، وليس هناك أي تجمع قاري يتمتع بمثل هذا القدر من التماسك، فآسيا لا يمكنها الإقرار بريادة أو سيطرة الصين عليها، حيث لا تعترف الهند مثلًا بالصين باعتبارها زعيمة او متحدثة باسمها، فضلًا عن اليابان. كما أنّ الاتحاد الأفريقي يهيم في صراع تدافع ومنابذة، حيث لا تقبل أفريقيا أن تكون نيجيريا ممثلتها، فيما تبرز الولايات المتحدة في العالم الغربي كقوة مهيمنة بفكرة سيطرتها. ويمثل احتكار ما هو كوني ثاني ركائز الهيمنة، حيث يمتلك الغرب مهارة تقديم مصالحه وتمثيلها بوصفها تعبر عن مصالح الإنسانية بأسرها، ممثلة في الحرية والتحرر والتقدم، ويقع فيه قلب القوة العظمى الوحيدة في العالم، كونها صاحبة أكبر قوة عسكرية، وموطن الأمم المتحدة في نيويورك، وقادت الغرب في الحرب على ليبيا باسم المجتمع الدولي، في حين أنه عندما صوت مجلس الأمن على قرار فرض الحظر الجوي على ليبيا، لم تكن نسبة الدول التي صوتت لصالح القرار تتجاوز الـ 10% من عدد سكان العالم. ويعتبر دوبريه أن الغرب بات يمثل أرستقراطية الجنس البشري، باعتبارها كونفدرالية للديمقراطيات التي ترى نفسها بوصفها تحالفًا مقدسًا، والاحقاد التي تثيرها هذه الارستقراطية غير مفهومة بالنسبة إليها، وهذا اللاوعي يصنع ضميرها المرتاح.
يعتبر دوبريه أن عامل النجاح الثالث للغرب هو تجسيده مدرسة أطر العالم، عبر تكوين النخب الدولية في جامعاته ومؤسساته المالية على غرار صندوق النقد أو البنك الدوليين، حيث يستقطب الغرب جميع نخب العالم، ويتموقع كحاضنة للإطارات الوافدة من جميع أنحاء العالم، وبالتالي يمتلك الغرب القدرة على جمع نخب العالم في جامعاته ومؤسساته، وبشكل لم يحالف الحظ أي إمبراطورية في العالم للتمتع به، حيث تبرز الولايات المتحدة كحاضنة عظمى، إذ ليس ثمة بلد هامشي، أو أقلية، أو دين إلا وله فيها ممثلون عنه لديهم موطئ قدم ومنافذ في الكونغرس أو في الإدارة الأميركية، فضلًا عن إمكانية تبني عناصر أجنبية إليها، وبما يشكل انفتاحًا للآفاق ذا طابع هوياتي لم تحظَ به أي امبراطورية في العالم من قبل.
الأساس الذي انطلق منه مؤلفا الكتاب رينو جيرار (يمين) وريجيس دوبريه هو الرد على أطروحات أفول الغرب، ومقولات انحداره ونهايته، التي يجد فيها دوبريه مبالغة كبيرة |
"يبدي جيرار أسفه على السياسة الخارجية الغربية، وتدخلات الولايات المتحدة التي تستحضر اعتبارات "إنسانية" في كل مرة تدخلت فيها عسكريًا" |
من جهته، يضع رينو جيرار نفسه في موقع المدافع عن عالم الغرب وقيمه، من خلال توليه مهمة الرد على انتقادات دوبريه، والقول إن ميزة الغرب أنه قائم على سيادة القانون، فيما يعاني العالم من دكتاتوريات بأشكال وصور مختلفة، إضافة إلى البعد المسيحي بوصفه أهم السمات المميزة للغرب. ثم يسعى جاهدًا للتأكيد على عدم تنافر الغرب مع روسيا وأوراسيا، وتمييزها عن مناطق أخرى لا تشترك مع الغرب في المرجعية المسيحية، معتبرًا أنه في ثلاثينيات القرن الماضي، أدار الغربيون ظهورهم لجوزيف ستالين الذي لم يكن عدوا يسعى إلى خرابهم، مثلما كانت ألمانيا النازية، وهو أمر دفع الغرب ثمنه لاحقًا. وحين يصل إلى المرحلة الراهنة، يتحدث عما يسميه الطيش الغربي حيال روسيا إبان الأزمة الأوكرانية، مؤكدًا أن فلاديمير بوتين ليس عدوًا للغرب، بل منافسه في لعبة النفوذ بأوكرانيا، بينما يُرجع الفشل الغربي في التعامل مع بوتين إلى نفوذ المحافظين الجدد ومراكز الفكر والرأي الأميركية، التي لم تستطع التمييز بين الأطراف الغربية ذات طابع الاستبداد الشرقي، لكنها غير معادية جوهريًا للغرب.
يبدي جيرار أسفه على السياسة الخارجية الغربية، وتدخلات الولايات المتحدة التي تستحضر اعتبارات "إنسانية" في كل مرة تدخلت فيها عسكريًا، حسب زعمه، ويقرر بأن التدخلات العسكرية الغربية ضد الصرب في كوسوفو لم تثمر إنتاجًا عكسيًا، بينما كل التدخلات "الإنسانية" في أرض الإسلام فشلت فشلًا ذريعًا، ليستنتج وبشكل اعتباطي أن عدو الغرب الرئيسي هو الإسلام السياسي الدولي، فيما النزعتان القوميتان الروسية والصينية ليستا عدوتي الغرب. والغريب أنه، بعكس دوبريه، يطلق أحكامه دون تحليل أو تدليل، وهو ما يظهر بشكل فاقع عند تطرقه للثورات العربية، والثورة السورية بشكل خاص، مرددًا مثل رئيسه إيمانويل ماكرون أن بشار الأسد يقتل السوريين ولم يقتل فرنسيين، لذلك فهو ليس عدوًا لفرنسا. والأهم بالنسبة إليه هو إن كان الأسد مكروهًا في بلده مثلما كان ستالين، إلا أنه لا يحلم بدمار الغرب!
- عنوان الكتاب: ماذا تبقى من الغرب؟
- المؤلف: ريجيس دوبريه ورينو جيرار
- المترجم: مراد دياني