"كتاب الاحتفاء": كمال عبد اللطيف يحتفي بالفكر والإبداع العربي
عبد الرحيم العلام
آراء
شارك هذا المقال
حجم الخط
يواصل المفكر المغربي كمال عبد اللطيف، بسخاء وعمق نادرين، بناء مشروعه الفكري والنظري، منذ أن شرع في تشييده في سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم، ليمتد مشروعًا مضيئًا ومؤثرًا في المشهد الفكري العربي، وفي أجيال من المفكرين الجدد والباحثين والمتلقين في العالم العربي، وهو ما جعل منه مشروعًا ديناميًا، متجددًا ومفتوحًا باستمرار على مزيد من الأسئلة المخصبة والإنتاج المتواتر.
بموازاة مع انشغالاته الفكرية، يواصل عبد اللطيف عشقه للكتابة المفتوحة على التأمل والسؤال والذات والذاكرة، سواء عبر ما ينشره في الناس من كتب ودراسات، هنا وهناك، أو عبر ما يواصل كتابته، بكل رغبة والتزام، من مقالات ونصوص متفرقة، في الفكر والفلسفة والسياسة والأدب، وحول قضايا الراهن العربي والدولي، في هذا المنبر الإعلامي، السياسي والثقافي العربي أو ذاك.
وتشهد اليوم صفحات جريدة "العربي الجديد"، وكذا ملحقها الثقافي المضيء "ضفة ثالثة"، وغيرهما من المنابر، على مدى أهمية رسالة التنوير وحجمها، تلك التي يواصل كمال عبد اللطيف النهوض بها، تجاه مجتمعه العربي، في راهنه ومستقبله، مساهما بذلك في نهضته وتنويره، بمثل ما يتابع مفكرنا عن كثب حركية المجتمع العربي في تطوره وتغيره وأزماته، محللًا إشكالاته وعثراته وإكراهاته، مهتمًا، في الوقت نفسه، بإنتاج بعض رموزه، من المفكرين والفلاسفة والمبدعين، من الرعيل الأول المؤسس ومن الأجيال المتعاقبة، من بينهم من قضوا ومن لا زالوا أحياء، مخلدا ذكراهم ومحتفيًا بهم، وراصدًا، في الآن ذاته، بكل دراية وتمكن وبصيرة، مسارهم في الفكر والكتابة، متناولًا مصنفاتهم واجتهاداتهم، ومركبًا لأسئلتها ونتائجها.
وخلال هذه الأيام الأخيرة من السنة الجارية 2023، يطل علينا عبد اللطيف، من خلال ثلاثة كتب مضيئة حول مواضيع مختلفة، وإن كان يلفها نوع من التداخل والتحاور فيما بينها، وخصوصًا على مستوى ما يجمع بينها من قواسم مشتركة ومثيرة، من كتاب لآخر، وذلك من منطلق طبيعة انشغالاته بالفكر الفلسفي والإبداع الأدبي، على حد سواء. هكذا، يواصل عبد اللطيف، عبر كتبه الثلاثة الصادرة حديثًا، إثراء مشروعه المتنامي مع الدراسات الفكرية والفلسفية، مواظبًا على إغناء المكتبة العربية، بمزيد من الكتابات والأبحاث والدراسات المتجددة باستمرار. يتعلق الأمر، هنا، بكتاب "الفكر الفلسفي في المغرب" (منتدى المعارف، ط1، بيروت 2023)، وكتاب "درس العروي" (منشورات المتوسط، ط1، إيطاليا 2023)، و"كتاب الاحتفاء" (منتدى المعارف، ط 1، بيروت 2023).
وإذا كان القارئ العربي المنشغل بقضايا الفكر الفلسفي قد استأنس بكتابات كمال عبد اللطيف الفكرية، وباجتهاداته وحواراته المتواصلة في مجال الفكر الفلسفي العربي، كما تعكسها كتبه العديدة المنشورة، على مدى عقود زمنية خلت، منذ كتابه الأول "سلامة موسى وإشكالية النهضة" (1982)، وصولًا إلى كتابيه عن "الفكر الفلسفي في المغرب" و"درس العروي"، فإن كتابه الثالث بعنوانه الدال "كتاب الاحتفاء"، يعد تجربة كتابية أخرى مغايرة، على مستوى حرصه على تنويع صيغ الكتابة عنده، مع أنه كتاب لا يبدو غريبًا، بشكل كلي، عن الكتابين الآخرين وغيرهما من مصنفاته، وتحديدًا على مستوى مساهمة المؤلف، من موقعه الاعتباري المؤثر في المشهد الفكري والثقافي العربي، في ترسيخ ثقافة الاعتراف والاحتفاء برموز الثقافة والفكر والإبداع في مجتمعنا الثقافي العربي، وتلك إحدى خصاله الحميدة، من منطلق ما يعرف به عبد اللطيف من علاقات إنسانية وثقافية ومهنية كثيرة ومتينة وواسعة ومتواصلة مع أجيال من المفكرين والأدباء والمثقفين، ومن المشرفين على المؤسسات السياسية والأكاديمية والثقافية والإعلامية في العالم العربي، ممن تجمعه بهم وشائج معينة، من أساتذته وزملائه وأقرانه ورفاق الدرب، في الجامعة وفي المؤسسات الأكاديمية والثقافية، وخارجها، ومن غيرهم ممن ارتبط بهم من خلال قراءته لأعمالهم والكتابة عنها، فضلًا عن تقديره لمكانتهم الإنسانية والرمزية في الثقافة والجامعة، وإبرازه لمزاياهم وفضائلهم ومشاريعهم الفكرية، ومناقشته لآرائهم ومواقفهم، وللقيم التي حرصوا على الالتزام بها في أعمالهم وفي حياتهم، وعلى بلورتها في الثقافة المغربية والعربية. وهو ما يجعل من حضور عبد اللطيف في هذا المحفل التكريمي والاحتفائي، أو ذاك، أمرًا مرحبًا به ومرغوبًا فيه، على اعتبار أن شهادته في هذا المحتفى به أو ذاك، تبقى لها قيمة خاصة.
لقد جمع كمال عبد اللطيف في "كتاب الاحتفاء" عددًا من الكلمات التي أعدّها، بطريقته الخاصة، لمناسبات حصل فيها تكريم من احتفي بهم وبأعمالهم، كما قال... إنهم مجموعة من المفكرين والمبدعين من المغرب ومن المحيط المغاربي والأفق العربي، يبلغ عددهم في الكتاب تسعة عشر فاعلًا، تعبيرًا منه عن مدى اعتزازه بالمشترك الجامع في الثقافة العربية، في انتماء هؤلاء المحتفى بهم وبتجاربهم ونصوصهم، إلى أجيال مختلفة، من رعيل الرواد المؤسسين للقول الفلسفي في الجامعة المغربية وفي دوائر الثقافة المغربية والعربية، ومن الأجيال اللاحقة من المفكرين والأدباء، وجميعهم تجمعهم بالكاتب علاقة ما، إنسانية ووجدانية ورمزية، تمتد أحيانًا لأزيد من أربعة عقود، من بينهم أساتذته في الجامعة في مرحلة التكوين، وأقرانه وأصدقاؤه، ممن يعتز بصداقتهم وبرصيدها الرمزي والوجداني في حياته... لذا، فالاحتفاء بآثار هؤلاء، حسب عبد اللطيف، يندرج ضمن الفضائل النبيلة، حيث تنتعش بواسطتها وعن طريقها، قيم الاعتراف بجهود الباحثين وأدوارهم في التاريخ والفكر والإبداع، بمثل ما يشكل موقف اعتراف معلن بالجهد والمثابرة والأدوار، التي مارسها إنتاجهم في مجتمعنا، كما يشكل موقف تقدير وامتنان، لمختلف الخيرات الرمزية التي ركبوا في حياتنا (ص7).
وهذا البعد المجسد لقيم الاعتراف والاحتفاء لدى عبد اللطيف، يجد صداه لدى مجموعة من أصدقائه وأقرانه، ممن احتفى بهم المؤلف في كتابه، حيث حصل، في مناسبة سابقة، أن كان عبد اللطيف هو المحتفى به هذه المرة، حيث تم جمع تلك الشهادات والكلمات المقدمة في حقه، خلال لقاء تكريمي له، من تنظيم اتحاد كتاب المغرب، في كتاب بعنوان: "كمال عبد اللطيف: شغف الفكر والحياة" (منشورات المكتبة الوطنية للمملكة المغربية واتحاد كتاب المغرب، 2012)، ساهمت فيه نخبة من المفكرين، ممن بادلوا كمال تحية الاعتراف والتقدير، فبادلهم، هو أيضا، تحية الوفاء والعرفان في كتابه الجديد: (سعيد بنسعيد العلوي، عبد الله ساعف، سالم يفوت، عبد السلام بنعبد العالي، عبد الإله بلقزيز، محمد وقيدي)، كما ساهم في اللقاء والكتاب معا كاتب هذه المقالة نفسه.
وتكمن أهمية هذه الكلمات الاحتفائية، كما تضمنها "كتاب الاحتفاء"، في جانب منها، في كونها تبدو بعيدة تمامًا عن أية مجاملة للمحتفى بهم، أو لمنجزهم الفكري والأدبي، وأيضًا في كونها تشكل سلسلة شهادات ممتدة في الزمن وفي الأجيال المتعاقبة، في اختلاف كل كلمة عن الأخرى، رغم بروز بعض القواسم المشتركة فيما بينها، بحسب ما كان يقتضيه سياق الاحتفاء ومناسبته، ومستوى اقتراب المؤلف من المحتفى بهم ومن آثارهم، بشكل تتسلل معه، في بعض كلمات الاحتفاء والاعتراف، عناصر من السيرة الذاتية والفكرية الجامعة بين المؤلف والمحتفى بهم، وذلك بشكل يجعلنا نحن وكأننا نقرأ كتابًا حول "بيوغرافيات" معرفية وفكرية وأدبية لأجيال من المفكرين والفلاسفة والأدباء، في تداخل مدهش ومركز لهذه "البيوغرافيات" في هذا الكتاب، ونقرأ أيضًا كتابًا في "سيرة الفكر والفلسفة والأدب والثقافة العربية".
"يكتب كمال عبد اللطيف عن مجموعة من الأسماء، في حضورها وغيابها، لكن عن قرب مسافة منها، سواء كان هذا القرب تكوينيًا أو معرفيًا أو وجدانيًا أو ذاتيًا، بل إن المؤلف نفسه يعلن، في بعض المرات، انخراطه التام مع ضيوف كتابه، في أفقهم المعرفي والفكري والأدبي" |
هكذا، إذًا، يكتب عبد اللطيف عن مجموعة من الأسماء، في حضورها وغيابها، لكن عن قرب مسافة منها، سواء كان هذا القرب تكوينيًا أو معرفيًا أو وجدانيًا أو ذاتيًا، بل إن المؤلف نفسه يعلن، في بعض المرات، انخراطه التام مع ضيوف كتابه، في أفقهم المعرفي والفكري والأدبي، ما دام أن كمال عبد اللطيف لا يبدو غريبًا عن تلك المجالات التي يتحرك فيها أولئك المحتفى بهم، باعتباره، هو أيضًا، أحد الفاعلين المؤثرين فيها، وذلك بشكل يصبح معه المؤلف نفسه عنصرًا مقحمًا ومشاركًا في هذا المشروع البيوغرافي المتعدد، بشكل تنتفي معه أية مسافة أو غرابة بينه وبين كثير ممن احتفى بهم.
فعلى سبيل المثال، نجد أن حديث عبد اللطيف في كلمتيه عن "أحمد اليابوري" و"سالم يفوت"، يبدو، في العمق، حديثًا شخصيًا، نوستالجيًا ومذوتًا، وذلك من منطلق "وشائج من القربى الودية"، كما يسميها المؤلف، متحدثًا عن "سالم يفوت" الذي يخاطبه هو و"عبد الله ساعف"، في كلمتيه عنهما، بـ"الأخ"، في كونها وشائج قائمة بين عبد اللطيف وبعض المحتفى بهم، ما يجعلنا أمام سرود تتداخل فيهما الذوات، حيث يحصل أن يقحم المؤلف ذاته، من حين لآخر، في كلماته واستعاداته وذكرياته عن المحتفى بهما (اليابوري ويفوت، على سبيل المثال)، مستخدمًا ضمير المتكلم في حديثه عنهما...
كما تكمن أهمية شهادات "كتاب الاحتفاء"، في كون مجموعة منها، تتجاوز حدود المحكي الذاتي والاستعادي لخيوط تلك العلاقات والوشائج الممتدة، القائمة بين المؤلف والمحتفى بهم، لتنخرط بعض كلمات الاحتفاء في صلب فضاء معرفي مؤطر للنقاش والسؤال والتركيب، وهو فضاء عادة ما يتوسل به المؤلف لعرض المشاريع والأعمال الفكرية لبعض المحتفى بهم ومناقشتها ونقدها، كما في بعض الكلمات التي تنتفي فيها أية علاقة ذاتية قائمة بين المؤلف وضيوف كتابه، كما هي الحال، على سبيل المثال، في كلمة عبد اللطيف الأولى عن "محمد عزيز الحبابي: استئناف القول الفلسفي في الفكر المغربي"، والتي يستهلها، بعد موضعة الحبابي في إطاره المعرفي المؤسس، بالتعرض لمكانة المحتفى به الرمزية في الثقافة المغربية، من خلال حديثه عن إشعاعه الفلسفي في الفكر المغربي، وجهوده الطلائعية في الجامعة والثقافة والأدب، ثم يفتح المؤلف فضاء كلمته عن المحتفى به، بإدخال أسماء أخرى لمفكرين آخرين، مدرجًا بعض مواقفهم وآرائهم في "شخصانية الحبابي الواقعية والإسلامية"، مبرزًا بعض أوجه الالتقاء بين أعمالهم (عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي وعلي أومليل) وأعمال "الحبابي"، وذلك في إطار توسيع النقاش حول بعض أعمال الحبابي الأخيرة (توفي عام 1993)...
وهو المنحى نفسه تقريبًا الذي سلكه عبد اللطيف في بعض كلماته عن مفكرين من المغرب ومن بلدان عربية أخرى، يعرف عن المؤلف انشغاله، وإن بمستويات متباينة، بإنتاجهم الفكري، نذكر هنا: عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وهشام جعيط وعلي أومليل وصادق جلال العظم ومحمد وقيدي وعبد السلام بنعبد العالي...
ويحضر الأدب في "كتاب الاحتفاء"، ممثلًا بالرواية، ابتداء من الشهادة الثالثة عشرة لعبد اللطيف عن "سعيد بنسعيد العلوي"، وذلك بحكم انخراط بنسعيد "في العناية بشغفه الجميل بالأدب الروائي" (ص99)، إلى جانب عمله الأكاديمي في بعض قضايا الفلسفة والفكر الإسلامي، فضلًا عن مهامه الإدارية الجامعية التي تقلدها، وهي تقريبًا الصيغة التي كتب بها المؤلف كلمته عن "بنسالم حميش"، حيث يخصص جزأها الثاني للحديث عن إنتاجه الروائي، في تعدد نصوصه، لكن في تداخله مع الحديث عن منجزاته الفكرية، فيما خص كلمته عن "عبد الإله بلقزيز" للحديث عن نصه ذي المنحى السيرذاتي "ليليات"، فيما يشبه "قراءة عاشقة" للنص...
وهذا العمق لدى عبد اللطيف، في كتابه الجديد، متمثلًا في إدراك الأبعاد الفكرية والإبداعية لمختلف الشخصيات المحتفى بها، وفي القدرة على تركيب منجزها الفكري والنظري والأدبي، داخل حيز ورقي مركز، يبرز المؤلف ليس فقط كاتبًا متمكنًا لشهاداته عن المحتفى بهم، بل يبرزه كذلك قارئًا كبيرًا ونهمًا ومستوعبًا لمنجز هذا المفكر أو ذاك، من المغرب وخارجه، في تلويناتهم الفكرية ونصوصهم المختلفة، مدركًا لخلاصات فكرهم ونتائجه، وهو ما يجعل من عرض جميع محكيات الكتاب وأفكاره، ومختلف الشخصيات المحتفى بها، أمرًا صعبًا، بالنظر لما يطبع الكتاب من زخم في أسمائه وفي المعطيات البيوغرافية والفكرية والأدبية المتعلقة بمجموع المحتفى بهم، وهو ما يجعل من "كتاب الاحتفاء" نافذة مشرعة على مزيد من الأسئلة والنقاشات الموسعة، والتي من شأنها أن تفيد الأجيال المتعاقبة من المفكرين والقراء العرب، وأن تدعمهم في عمليات التفكير في أحوالنا الثقافية والفكرية والأدبية، وذلك بشكل يساهم كذلك في الرقي بصور وعيهم النقدي.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب