المدينة باعتبارها سؤالًا إشكاليًا
عبد الرحيم العلام 24 ديسمبر 2023
آراء
عبد الله العروي
شارك هذا المقال
حجم الخط
بمناسبة الاحتفاء بالذكرى التسعين لميلاد عبد الله العروي
تم خلال هذه السنة (2023)، الاحتفاء بذكرى ميلاد المفكر والمؤرخ والروائي المغربي عبد الله العروي، بمناسبة بلوغه سن التسعين، أطال الله في عمره، هو الذي يعد من أبرز المفكرين العرب الذين اتخذوا "التاريخانية" الجديدة مذهبًا وفلسفة ومنهجًا للتحليل، بمثل ما يُعدُّ من أنصار القطيعة مع التراث العربي والإسلامي، ومن دعاة تبني الحداثة الغربية كقيمة إنسانية.
وموازاة مع هذا المسار الفكري الطافح بالعطاء، وبمجموعة من المصنفات الشهيرة المضيئة والمؤثرة، المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية، يعرف عبد الله العروي، كذلك، بإنجازه لبعض الترجمات المهمة لنصوص فكرية غربية مؤسسة، وبكتابته لعدد من النصوص السردية، في تنوعها بين الرواية والسيرة الذهنية واليوميات (الخواطر)...
وفي هذا الإطار، برز عبد الله العروي كاتبًا روائيًا عربيًا وناقدًا أيديولوجيًا وقارئًا كبيرًا للرواية في العالم، وقد صدرت له، في هذا الباب، مجموعة من الروايات، منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، بدءًا بروايته الأولى "الغربة" عام 1971، تلتها نصوص سردية أخرى (اليتيم، الفريق، أوراق، غيلة، خواطر الصباح، استبانة)، في تنوعها، من نص إلى آخر، على مستوى الموضوعات والأسئلة وطرائق السرد، وهو ما جعل تجربته الروائية خصوصًا، في أحد جوانبها، تتميز من حيث كونها جعلت من "المدينة"، في أبعادها الفضائية والإشكالية، سؤالًا مركزيًا في بعض رواياته، وتحديدًا في روايتيه "اليتيم"، و"غيلة".
وجدير بالإشارة، هنا، إلى أن الرواية المغربية، في عدد من نصوصها، قد عملت، بدورها، على تمثل مجموعة من الفضاءات الحضرية، واستيحائها وتشخيصها تخييليًا، بشكل واسع ومهيمن، وبصورة ممتدة في عديد من النصوص الروائية. ويمكن أن نشير، في هذا الإطار، إلى أربعة فضاءات/ مدن رئيسة على الأقل، كان للرواية المغربية معها، وما تزال، النصيب الأوفر على مستوى الكتابة والرصد وبلورة متخيل روائي متنوع بصددها، انطلاقًا من كونها تتقدم باعتبارها فضاءات إشكالية في النصوص الروائية والسير ذاتية التي استوحتها، وليس فقط مسرحًا للأحداث، وبناء المحكي، وتحريك الشخوص. يتعلق الأمر، هنا، بمدن: الدار البيضاء، وفاس، وطنجة، وتطوان، وكلها مدن توجد في صيرورة تخييلية ممتدة، من نص إلى آخر؛ إذ تواصل نصوص الرواية المغربية استيحاءها، وتوسيع أشكالها السردية والحكائية والمرجعية وتنويعها، وإن بدرجات متفاوتة من رواية لأخرى، وأيضًا من روائي إلى آخر.
ولا يعني هذا أنه لا توجد مدن أخرى يبقى لها، هي أيضًا، حضورها المركزي في المتخيل الروائي المغربي، وإن بدرجات متفاوتة، من قبيل مدينتي الرباط، ومراكش، وهو ما تزكيه عناوين بعض النصوص الروائية المكتوبة عن هاتين المدينتين، باللغتين العربية والفرنسية.
في مقابل ذلك، نجد من بين الروائيين المغاربة من ارتبط إنتاجه الروائي، في معظم نصوصه، وبشكل مهيمن، بفضاء/ مدينة معينة: "فاس" (محمد عز الدين التازي)، "الدار البيضاء" (عبد الله العروي، وأحمد المديني، ومحمد زفزاف، ومبارك ربيع، ومحمد صوف)، "طنجة" (محمد شكري)... وهو ما يعني أن هؤلاء الروائيين المغاربة المكرسين، وغيرهم من الروائيين المتعاقبين، وإن عملوا على تنويع فضاءات نصوصهم المدينية، فإن مركزية أحد تلك الفضاءات في كتاباتهم، باعتباره ثيمة مهيمنة، إنما تعكس، في المقابل، جانبًا من الوفاء الإبداعي والوجداني لإحدى تلك المدن، والوعي بهذا المتعدد المختلف في هذه المدينة، أو تلك، كما فعل مبارك ربيع في ثلاثيته الروائية عن مدينة "الدار البيضاء" بعنوان موحد "درب السلطان"، وبعناوين فرعية لأسماء أماكن، وكما هو الشأن كذلك بالنسبة لمدينتي "فاس"، و"الرباط"، لدى مجموعة من الروائيين المغاربة، من قبيل عبد الكريم غلاب، ومحمد عز الدين التازي، ومحمد برادة، وعبد الكبير الخطيبي، والطاهر بن جلون، وعبد اللطيف اللعبي، وغيرهم...
وكما هي الحال بالنسبة لمدن هامشية أخرى، بدأت تتبلور تخييليًا، بفعل انتماء روائيين إليها، ويكفي أن نشير، هنا، إلى بعض المدن الصغرى، التي أضحت مرتبطة روائيًا برواية المدينة المغربية، انطلاقًا مما تصوغه هذه المدينة، أو تلك، من وجوه للتحول والتغيير، ومما تحدده من مصائر لها ولشخوصها ولمستقبلها، من قبيل مدن: القنيطرة، وبني ملال، وجرادة، والصويرة، وأسفي، والشاون، ووزان، وغيرها.
"من بين الأسئلة التي خصها العروي باهتمام متزايد، في رواياته وفي أحاديثه النظرية والنقدية حول الرواية، تصوره لطبيعة العلاقة الجدلية القائمة بين الرواية والمدينة، وخصوصًا مدينة "الدار البيضاء"" |
وبغاية الاقتراب أكثر من طبيعة هذا التفاعل الجدلي والممتد بين الرواية المغربية وبعض المدن الروائية المركزية، باعتباره تفاعلًا وسؤالًا إشكاليًا فيها، سنتناول، في المستوى التحليلي، جانبًا من العلائق القائمة في نصوص الرواية المغربية بين المدينة والرواية، من خلال نصوص الروائي عبد الله العروي، في علاقة بعضها بمدينة "الدار البيضاء" تحديدًا، التي تعرف بهيمنة سؤال المدينة فيها، بشكل بؤري ولافت، في صورها وتلويناتها التخييلية والدلالية المختلفة، على اعتبار أنها هيمنة تشكل لدى العروي سؤالًا روائيًا ممتدًا، وإشكالًا قائمًا في رواياته...
هكذا، تبدو علاقة روايات عبد الله العروي بـ"المدينة" علاقة خاصة، يحكمها بعدان أساسيان على الأقل: بعد نظري وبعد تخييلي. فمن شأن المتأمل في كتابات العروي النظرية والنقدية، أن يلمس عن كثب أن بعض اجتهاداته النظرية وآرائه النقدية حول الرواية عموما تتمظهر، بشكل مباشر، في نصوصه الروائية، وفي غيرها من نصوص الرواية العربية.
ومن بين تلك الأسئلة التي خصها العروي باهتمام متزايد، في رواياته وفي أحاديثه النظرية والنقدية حول الرواية، تصوره لطبيعة العلاقة الجدلية القائمة بين الرواية والمدينة، وخصوصًا مدينة "الدار البيضاء"، هاته المدينة التي خصها باهتمام خاص وممتد في نصوصه الروائية... وهي علاقة تبدو في العمق، ومنذ الوهلة الأولى، غير متكافئة، كما في قول العروي، في سياق خارج روائي، في حوار أجراه معه الناقد المغربي محمد الداهي، في كتاب "من التاريخ إلى الحب" (1996): "لم مدينة الدار البيضاء (بالمغرب) لم تكن مسرحًا لرواية؟ لأنها لا توجد فيها شوارع كبرى تكون ملتقى مشاريع الشخصيات، أين هو الميدان، أو الساحة الكبيرة، على نحو ما يوجد في بطرسبورغ".
"تبدو علاقة روايات العروي بـ"المدينة" علاقة خاصة، يحكمها بعدان أساسيان على الأقل: بعد نظري وبعد تخييلي" |
وفي المقابل، يقول السارد في رواية "اليتيم" الصادرة عام 1978: "البيضاء مدينة بلا قلب، لأن قلوب سكانها تتعلق بميادين غير موجودة فيها..." (ص ص133 ـ 134)، ونقرأ في رواية "غيلة"، الصادرة عام 1998، أي بعد مرور عشرين عاما من صدور رواية "اليتيم"، ما يشبه الكلام السابق عن مدينة "الدار البيضاء": "مدينة بلا قلب، غاب فوق الزفت، بدون معالم ولا شارات. عادة تشاد المدينة حول نصب يكون هو المركز، تسمى باسمه وتحتمي بحماه..."(ص15). ويضيف صوت روائي آخر في رواية "اليتيم": "الميادين في البيضاء قليلة، أو قل منعدمة، لهذا ساكن البيضاء غير مرتبط بمدينته. الميدان عالم مقفول مثل مراح الدار، البيضاء مدينة مفتوحة على المستقبل غير المتناهي (..) آسف لانعدام الميادين فيها..." (ص126).
هكذا، إذًا، يبدو، من خلال الشواهد الثلاثة السابقة، في تباين مرجعها زمنيًا، أن ثمة معطيين أساسيين (محتملين) على الأقل، يجسدان فضاء المدينة ويبلورانه كإشكال في الرواية المغربية عمومًا، وفي روايات العروي تحديدًا: المعطى الطبوغرافي والمعطى المرتبط بـ"الرومانيسك"، في مفهومه الحديث. يقول العروي في سياق نظري آخر، في كتاب "من التاريخ إلى الحب": "فالأشخاص الذين نراهم في الدار البيضاء ليسوا في المستوى (...) هل يمكن أن نستخرج منهم روائية، أو ما أسميه بالسيروية، وهو ما أترجم به مصطلح (romanesque) هذا الشيء الذي يستطيع أن يكون مادة للرواية أسميه بالسيروية، أي مادة لسيرة روائية. فهذا الشيء غير موجود عندنا. إذًا، فما هو المخرج؟ المخرج هو أن نجعل من المادة الروائية مادة إشكالية...".
وهو ما يشكل من المدينة في كتابات عبد الله العروي علامة دالة من علامات الامتداد لديه في التفكير، وفي الوعي النظري، وفي الكتابة الروائية، من رواية لأخرى: (الصديقية) في روايتي "اليتيم"، و"الفريق"، (الدار البيضاء) في روايتي "اليتيم"، و"غيلة"، (مراكش) في رواية "اليتيم"، والسيرة الذهنية "أوراق"، (باريس) في نصوص "اليتيم"، و"أوراق"، و"غيلة"، كما هو الشأن كذلك بالنسبة لامتداد شخصيتي "إدريس" و"شعيب" في نصوص الكاتب نفسه، في محاولة منه بذلك صياغة "نظرية خاصة بمدينة "الدار البيضاء"، بمثل ما قام الروائي الفرنسي بلزاك، الذي يحضر بكثافة داخل أقوال عبد الله العروي، بصياغته، هو أيضًا، لنظريته عن مدينة "باريس"، وأسطورتها الروائية.
غير أنه بالرغم من الموقف السابق للعروي من المدينة المغربية، ومن "الدار البيضاء" تحديدًا، على المستوى الروائي، فإن رواياته التي تشخص في مجملها فضاء مدينة "الدار البيضاء" كإشكال روائي، إنما تتوخى بذلك لملمة صورة معينة لهذه المدينة بشكل عام، وقد أضحت في وضعية "اللا مدينة".
من هنا، يبدو أن روايات العروي لم تقرأ من هذه الزاوية بما يلزم، مع أهمية ما يمكن أن تقدمه المدينة في نصوصه الروائية للمتلقي عمومًا من إمكانات وافرة لصياغة التآويل وإنتاج الدلالات، انطلاقًا من مختلف تجلياتها التخييلية، في امتدادها وتشابهها، منها ما يرتبط بالمعطى التاريخي والبنيوي والسلوكي والاجتماعي والثقافي والسياسي، ومنها ما يرتبط بالمعطى الحكائي والسردي، هذا الذي يصبح في إمكانه، هنا، الكشف عن تحول الأوعاء لدى الشخوص في روايات العروي، انطلاقًا من طبيعة العلاقة التي تشيدها الشخوص مع المدينة، ومن طبيعة الإحساس القائم لديها تجاهها.
وهو ما يعني أن سؤال المدينة في روايات عبد الله العروي يغدو سؤالًا إشكاليًا، لا يرتبط فقط بالمعطى النصي/ التخييلي، بقدر ما يتجاوز ذلك إلى التفكير، عبر هذا السؤال نفسه، في مفهوم "الرواية " بشكل عام، أو في ما يسميه العروي بـ"الرواية الكبرى"، في تمييزه لها عن "القصة القصيرة". وقد يكون ذلك، ربما، من بين الأسباب التي جعلته، في فترة سابقة، يفضل تجنيس أحد نصوصه، وهو رواية "الغربة" باعتبارها "قصة"، في تمييزه لها عن "الرواية"، هاته التي تستوجب في نظره نوعًا معينًا من المدن ذات الميادين الكبرى والشوارع الفسيحة، والتي يتحقق داخلها ما يسميه العروي نفسه بـ"المصادفة"، باعتبارها العنصر الآخر الذي يتأسس عليه مفهوم الرواية عنده، وكما تمكن هو نفسه من توظيفه بعمق في روايته "غيلة"، بحيث تصبح "المصادفة"، هنا، هي الخيط الرابط والمؤطر لتشابك الأحداث والشخوص: "فبالمصادفة تلتقي الشخصيات، وبالمصادفة يتم الاهتمام بالأحداث، وبالمصادفة يتم العثور على أشياء. كل الشخصيات تترقب المـصادفات، بل حتى القارئ ينجذب ويتلذذ بمتابعة هذا السيل المتدفق من المصادفات والتي لعبت دورها في كل مرحلة من مراحل التحقيق..." (غيلة، ص140).
هكذا، نجد في رواية "غيلة" حديثًا مستفيضًا عن المدينة، سواء عبر المقارنة في هذه الرواية بين مدن: الدار البيضاء والرباط وباريس، أو عبر لعبة التذكر، أو، أيضًا، عبر مطارحة مشكل المدينة عمومًا، في المغرب، وإبراز ما يطاولها من هجمات متلاحقة، ومن تشويه لمجالها وذاكرتها العمرانية، ثم من خلال دخول شخوص رواية "غيلة" في حديث مع السارد (الذي هو الكاتب الضمني) بخصوص مواقفه السابقة من العلاقة القائمة بين الفن الحديث وفضاء المدينة الكبيرة، وهي مواقف تتطابق، في هذا الإطار، مع ما سبق للعروي نفسه أن كتبه في روايته "اليتيم"، وقاله في أحاديثه المنشورة، وخصوصًا في كتابه ـ حواره: "من التاريخ إلى الحب".
عدا ذلك، يتوالى السرد في رواية "غيلة" في شكل انسيابي عن مشكل المدينة، حيث إن المقصود في الرواية هو إنجاز شريط حول "مصير المدينة" (ص16) التي هي الدار البيضاء، ليصبح في الإمكان، هنا، معاينة أشكال محددة من التقاطع الحكائي عن مدينة "الدار البيضاء"، على مستوى بعض نصوص العروي الروائية...
بل إن السارد في رواية "غيلة" عادة ما يزاوج بين صورتين واقعيتين، هما صورة "المدينة" وصورة "الشخصية الروائية" التي تمثلها "عائشة مغران" في الرواية، وهي الشخصية التي أعجب بها الروائي عبد الله العروي كثيرًا في روايته، بمثل إعجابه بالشخصية الواقعية المرجعية؛ يتعلق الأمر، هنا، بالصحافية المغربية "عائشة المكي"التي توفيت في ظروف غامضة، هاجرت إلى الدار البيضاء، وقد تحولت إلى شخصية روائية، وهي في مقتبل العمر، أحبت المدينة ووصفتها بدقة العالم وحساسية الشاعر. لماذا لا نستوحي من حياتها الخط الواصل لشريطنا حول البيضاء حتى يشعر المشاهد أن ما صدم عائشة وسحقها من دون سابق إنذار قد يصدم المدينة أيضًا ويدفعها إلى الهاوية؟، على حد تعبير السارد في الرواية (غيلة، ص12).
هكذا، إذًا، تصبح الكتابة في رواية "غيلة" لعبد الله العروي بمثابة صرخة مدوية للفت الانتباه إلى ما آلت إليه مدينة "الدار البيضاء" خصوصًا، من أوضاع مخيفة ومتردية تمس ذاكرة جيل بكامله، بما يوازيها من شعور لدى الشخوص بالاغتراب داخل هذه المدينة، أو بالأحرى باغتراب جيل بكامله داخل وطن بكامله.