في أصول فلسطين وتاريخها وهويّتها وتراثها الثقافيّ
أوس يعقوب 24 يناير 2024
استعادات
شارك هذا المقال
حجم الخط
في كتابيه "فلسطين: أربعة آلاف عام في التربية والتعليم" (طبعة أولى 2024)، و"فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ" (طبعة أولى 2020 وثانية 2022)، يتابع المؤرّخ الفلسطينيّ، بروفيسور نور مصالحة، اشتغاله على المسألة الفلسطينيّة قضيّة وتاريخًا بأبعادها السياسيّة والحضاريّة والثقافيّة المختلفة؛ وإن كان قد قدّم في كتابه الأوّل "فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ" أصول فلسطين وتاريخها وثقافتها وهويّتها، متتبّعًا، بالعودة إلى المصادر التاريخيّة، كيفية تطوّر الهويّة الفلسطينيّة عبر العصور، ومُثبتًا، بالاستناد إلى الأدلّة الأثريّة، أنّ الفلسطينيّين هُم أهل البلاد وجذورهم ضاربة في أعماقها، فإنّه يغوص في كتابه الثاني "فلسطين: أربعة آلاف عام في التربية والتعليم" في التاريخ الثقافيّ للفلسطينيّين، مُسلّطًا الضوء على تاريخ العلوم الفلسطينيّة، مع التركيز على الكتابة والتعليم والإنتاج الأدبيّ والثورات الفكريّة في البلاد، وذلك بالعودة إلى أربعة آلاف عام من تاريخ فلسطين. وهذه العودة تضعنا كقرّاء "أمام كنز معرفيّ وثقافيّ، قليلًا ما عرفت حضارات أخرى مثيلًا له في مخزونه العلميّ والتربويّ والتعليميّ المتراكم عبر مرور حضارات متعدّدة على فلسطين، البلد الذي حافظ على اسمه واسم شعبه الفلسطينيّ على مدى حقب حضاريّة مرّ بها هذا البلد على مدى القرون الماضية"، كما جاء في مقدّمة الكتاب.
فلسطين موقع عالميّ للتعليم الكلاسيكيّ وإنتاج المعرفة
عن مركز دراسات الوحدة العربيّة في بيروت، صدرت أخيرًا نسخة من كتاب "فلسطين: أربعة آلاف عام في التربية والتعليم"، بترجمة د. فكتور سحّاب، وكانت النسخة الإنكليزيّة صدرت في آذار/ مارس 2022. يقع الكتاب في خمسمائة وعشر صفحات، ويحتوي على أحد عشر فصلًا، فضلًا عن المقدّمة والمراجع والفهرس، وتكمن أهمّيّته في وضع المشتغلين والمهتمّين بتاريخ فلسطين الحضاريّ والثقافيّ أمام كنز معرفيّ وثقافيّ متعدّد الأوجه قليلًا ما عرفت حضارات المنطقة مثيلًا له، وذلك بالعودة إلى أربعة آلاف عام من تاريخ فلسطين. يكشف لنا المؤلف في كتابه هذا بالبحث والتقصي والأدلّة والبراهين المخزون العلميّ والتربويّ والتعليميّ الذي تراكم عبر مرور العديد من الحضارات على أرض فلسطين، وبالتالي يكشف لنا زيف السرديّة الصهيونيّة التي تزعم افتقار أرض فلسطين والفلسطينيّين إلى المخزون الحضاريّ والثقافيّ والمعرفيّ والعلميّ.
وعبر خمسمائة وعشر صفحات يستعرض المؤلّف، التاريخ الثقافيّ المميّز للفلسطينيّين من خلال الإضاءة على تاريخ العلوم الفلسطينيّة بأكمله، بما في ذلك الكتابة والتعليم والإنتاج الأدبيّ والثورات الفكريّة التي عرفتها.
يُثبت مصالحة، عبر تسليط الضوء على تراث فلسطين الثقافيّ الطويل، أن بلاده ليست مجرد "أرض مقدّسة" للديانات السماويّة الأربع: الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة والسامريّة، ناهيك عن إثباته أنّ فلسطين هي موقع عالميّ رئيسيّ للتعليم الكلاسيكيّ وإنتاج المعرفة بلغات متعدّدة، منها السومريّة والكنعانيّة والسريانيّة والعربيّة والعبريّة واللاتينيّة.
ووفقًا لكلمة الناشر، فإنّ هذا التشبّع الثقافيّ للبلاد: "لا يظهر في المساجد والكنائس والمعابد اليهوديّة التاريخيّة فقط، بل يظهر أيضًا في المنح الدراسية والمدارس التاريخيّة والكليّات والجامعات والمكتبات العالميّة الشهيرة ومراكز الأرشيف، التي اختزنتها بلاد الفلسطينيّين عبر أربعة آلاف عام".
منظور جديد لتاريخ فلسطين الطويل
صدر كتاب "فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ"، عام 2018 باللغة الإنكليزيّة، وفي عام 2020 صدرت طبعته الأولى باللغة العربيّة بترجمة أنجزها د. فيكتور سحّاب، وبعد عامين صدرت طبعة ثانية منه، عن مركز دراسات الوحدة العربيّة أيضًا.
في هذا الكتاب يقدّم مصالحة قراءة جديّة جديدة، مستندة إلى أدلّة أثريّة، لتطوّر هويّة فلسطين وتجربتها عبر الزمان، كاشفًا عن ثقافات ومجتمعات ذات عمق وتعقيد مذهلين يمتدّان إلى بدايات التاريخ المسجّل قبل آلاف السنين، بالاستناد إلى نصوص فرعونيّة وآشوريّة حتى التاريخ الحديث، ساعيًا إلى التحقّق من كيفية تطوّر الهويّة الفلسطينيّة والتواريخ واللغات والثقافات والحضارات عبر العصور ابتداءً من العصر البرونزيّ (3300 - 1000 ــ قبل التأريخ السائد: ق ت س) إلى يومنا هذا.
في عام 2020 تواصلت مع بروفيسور مصالحة عبر البريد الإلكترونيّ بشأن إجراء حوار معه حول هذا الكتاب، وكان أن أنجزنا حوارنا بعد عدّة اتّصالات، ونشر الحوار في مجلّة "رمّان الثقافيّة" بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.
كان هذا الحوار فرصة سانحة للتعرّف أكثر على اشتغال مصالحة المعرفيّ حول موضوع مؤلّفه الذي نستعرضه هنا، والذي بيّن لنا أنّه "يعتمد على جبال من الحقائق والأدلّة والاكتشافات الأثريّة المهمّة، بينما العديد من الكتب المنشورة في الغرب عن فلسطين القديمة تستند إلى الأساطير الدينيّة أو الأسطورة الموجودة في العهد القديم، وليست إلى الحقائق التاريخيّة التي تدعمها الأدلّة الأثريّة العلمية". وأضاف أنّ الكتاب "يجلب منظورًا جديدًا لتاريخ فلسطين الطويل، حيث أنّه ليس فقط عن فلسطين بالمعنى الضيق فهو يعلّمنا كيف نتعلّم التاريخ الطويل لفلسطين ضمن سياقها القديم الأوسع في الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط وهي منطقة كانت مهد الحضارات". يتابع قائلًا: "يُظهر الكتاب أنّ فلسطين كانت دائمًا مكتظة بالثقافة والتاريخ، ويصف الأدوار المهمّة التي لعبتها اللغات في فلسطين القديمة، بما في ذلك اليونانيّة والآراميّة والسريانيّة والعربيّة. كما يعرض أدلّة على الكتابة العربيّة في فلسطين قبل الإسلام بمئات السنين".
يقع الكتاب في أربعمائة وثمانين صفحة، وهو ممتدّ على عشرة فصول وأغلب الفصول متفرعة من عشرة إلى تسعة ويصل بعض الفصول إلى خمسة عشر مبحثًا. وفي محتواه يتابع الكتاب تطوّر هويّة فلسطين عبر الزمن بالعودة إلى تواريخ الأماكن، وآثار الشعوب والحضارات التي فكّك المؤلف نصوصها ليقدّم الأدلّة القاطعة على أنّ "الإرث التاريخيّ للفلسطينيّين سبق ولادة الحركة الوطنيّة في العهد العثمانيّ المتأخر، وظهور الحركة الصهيونيّة الاستعماريّة"، جازمًا أنّ "اسم فلسطين هو الأكثر شيوعًا في الاستخدام منذ العصر البرونزيّ المتأخر (منذ 1300 ق. م) حتّى اليوم"، لافتًا إلى أنّ أقدم الأسماء المعروفة لفلسطين ورد ذكرها في قصّة سينوهة المصريّة وكانت "ريتينو" و"دجاهي"، القصّة التي تمّ اعتماد القرن الرابع عشر قبل الميلاد زمنًا لنشوئها، أطلقت على المناطق الساحليّة في شرق البحر المتوسط اسم "ريتينو" وشملت "عمورو" في الشمال ولبنان وشمال نهر الليطاني، أمّا "دجاهي" فقد أُطلق على المنطقة الجنوبيّة من "ريتينو" وصولًا إلى عسقلان وربّما غزّة.
وفي السياق يشير مصالحة إلى أنّ المُكتشفات الأثريّة الحديثة في فلسطين، والنقوش المحفورة على الجدران والهياكل والنُصب التذكاريّة وكذلك المقابر الفِلِستيّة المكتشفة أخيرًا في عسقلان والتي تعود إلى 3000 عام، قد أدّت إلى تعديل لفهمنا تاريخ فلسطين القديم.
في مقدّمة الكتاب التي جاءت بعنوان "فلسطين: الاسم الشائع المُستخدَم عبر التاريخ القديم"، وتحت عنوان فرعي: "كينونة فلسطين، وصيرورة فلسطين، إعادة تخيّل الهويّة المكانيّة من الإقليميّة إلى الوطنيّة"، يرى مصالحة أنّ لتاريخ فلسطين، بخلاف السرديّات الأسطوريّة في العهد القديم، "بدايات" متعدّدة. قد تطوّرت فكرة فلسطين عبر الزمن، من فعل هذه "البدايات" المتعدّدة، إلى مفهوم جيوسياسيّ وكيان سياسيّ إقليميّ (Territorial Polity) متميّز. غالبًا ما يقارَب مفهوم فلسطين على نحو مجرّد أو لا تاريخيّ، بدلًا من مقاربته في سياق كيان تطوّرت حدوده الجغرافيّة، والإداريّة، والموضعيّة، والثقافيّة، وتبدّلت في ثلاث ألفيّات من السنين.
لكن ليس ثمّة أفكار خالصة أو مفهوم مثاليّ لفلسطين بهذه الصفة؛ فالأدلّة التجريبيّة والتجربة البشريّة أساسيّة في تكوين الأفكار والمعرفة عن فلسطين. جدير بالملاحظة أنّنا لا نعرف فلسطين فقط "من الخارج" من خلال ملاحظات وتعميمات، بل أيضًا "من الداخل" بواسطة التجارب المتجسّدة والمشاعر. لقد نظر المؤرّخون الإغريق الكلاسيكيّون - الّذين كانوا من أوائل مَنْ أشاعوا مفهوم فلسطين - إلى الزمن بطريقتين مختلفتين: خرونوس (khronos)، الطريقة الّتي يقيس بها البشر الوقت كمّيًّا وزمنيًّا: الأيّام، والأشهر، والسنوات، والقرون؛ وكايروس (kairos)، الطريقة التي يواجه بها البشر التجارب ويتذكّرون بعض اللحظات أو الأحداث المعيّنة من منظور وبمنظور خاصّ. نتيجة لهذا التمييز بين مفهومي الزمن المختلفين، يستكشف هذا الكتاب التطوّر المتعدّد الخطوط لمفهوم فلسطين وتجارب فلسطين خلال الزمان وعبره. في حين يركّز الكتاب أعلى تركيز، على الأدلّة والشهادات المعاصرة (Synchronic)، إلّا أنّه يحلّل مفهوم فلسطين على نحو متزامن (Synchronically) ومقارن عبر الزمن (Diachronically).
ويوضّح مصالحة في المقدّمة أنّ استدعاء الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ بوصفه صراعًا ما بين ثنائيّة العرب مقابل اليهود في فلسطين أمر مضلّل جدًا، ويشير إلى أنّ الفلسطينيّين يمارسون انتماءهم لبلدهم إفراديًّا وجماعيًّا، وأنّه وعلى الرغم من أنّ الاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ قد سلبهم حقّهم في تقرير المصير في وطنهم التاريخيّ، إلاّ أنّهم مواظبون على الحديث عن بلادنا فلسطين أو فلسطيننا أو البلاد، وهو بحدِّ ذاته يعبر عن عقلية وطنيّة تجاه كلمة "إسرائيل".
ويشير الأكاديميّ والمؤرّخ الفلسطينيّ في فقرة فرعيّة في المقدّمة إلى "التفريق بين فلسطين، الشام، بلاد الشام وسورية المعاصرة: فلسطين كمقاطعة إداريّة مسلمة، الشام كمنطقة جغرافيّة إسلاميّة". يقول: "لقرابة خمسة قرون، من عام 630 حتى الغزو الصليبيّ لفلسطين عام 1099 ميلاديّة، وإنشاء أوّل مملكة لاتينيّة صليبيّة في القدس (1099-1187م)، فقد وجدت المقاطعة العربيّة الإسلاميّة الرسمية "جند فلسطين" ضمن نطاق جغرافي أوسع هو "منطقة الشام". وبحسب علم الخرائط والجغرافيا المسلمة، كانت "الشام" منطقة جغرافيّة واسعة تضمّنت مقاطعات هي اليوم سورية، فلسطين/ "إسرائيل"، لبنان، الأردن وجنوب تركيا. ولعدّة عقود، تكوّنت "الشام" من عدّة مقاطعات مسلمة، ومن ضمنها فلسطين".
ويذكر المؤلّف أنّ المهمّة، التي يضطّلع بها هذا الكتاب هي "تحدّي المنهج الكولونياليّ وتحدّي الأسطورة الخبيثة، التي تروّج لفلسطين على أنّها أرض بلا شعب. كما يجادل بشأن قراءة تاريخ فلسطين بعيون سكّان فلسطين الأصليّين".
يتابع قوله في المقدّمة إنّ "الفلسطينيّين هم سكّان فلسطين الأصليّون؛ جذورهم المحلّيّة مغروسة عميقًا في تراب فلسطين، كما أنّ تراثهم التاريخيّ وهويّتهم الأصيلة قد سبقا بوقت طويل نشوء الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة الناشئة في المرحلة الأخيرة من الإمبراطوريّة العثمانيّة ومجيء المستوطنين الصهاينة قبيل الحرب العالميّة الأولى".
نور مصالحة: وُلدَ في الجليل عام 1957، درس في الجامعة العبريّة- القدس وجامعة لندن، وهو مدير سابق لمركز الدين والتاريخ في جامعة سانت ماري في لندن. وحاليًا عضو في مركز الدراسات الفلسطينيّة في كلّيّة الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة (SOAS) التابعة لجامعة لندن؛ وعضو في لجنة تحكيم جائزة الكتاب الفلسطينيّ (لندن)؛ وهو محرّر دوريّة مجلّة "الأرض المقدّسة ودراسات فلسطين"، التي تصدر عن جامعة أدنبرة. وعمل محاضرًا في عدّة جامعات، منها جامعة بير زيت في الضفّة الغربيّة المحتلّة.
ألّف باللغتين الإنكليزيّة والعربيّة عدّة كتب حول القضيّة الفلسطينيّة، منها: "التاريخ الشفويّ للنكبة الفلسطينيّة" (بالاشتراك مع نهلة عبده - زعبي، 2019)؛ "لاهوت التحرير في فلسطين" (2014)؛ "الكتاب المقدّس الصهيونيّ: سابقة توراتيّة، والاستعمار ومحو الذاكرة" (2013)؛ "نكبة فلسطين: إنهاء استعمار التاريخ، وسرد التابع، واستعادة الذاكرة" (2012)؛ "الكارثة في الذاكرة: فلسطين وإسرائيل واللاجئون الداخليون" (2005)؛ "سياسة الإنكار: إسرائيل ومشكلة اللاجئين الفلسطينيّين" (2003)؛ "أرض أكثر وعرب أقلّ: سياسة الترانسفير الإسرائيليّة في التطبيق 1949 – 1996" (2002)؛ "إسرائيل الكبرى والفلسطينيّون: سياسة التوسّع 1967 - 2000" (2001)؛ "أرض بلا شعب: إسرائيل، الترحيل والفلسطينيّين" (1997)؛ "طرد الفلسطينيّين – مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيّ 1882 – 1948" (1992)؛ "إسرائيل وسياسة النفي – الصهيونيّة واللاجئون الفلسطينيّون" (2003).
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب
استعادات
24 يناير 2024
في أصول فلسطين وتاريخها وهويّتها وتراثها الثقافيّ
استعادات
13 يناير 2024
غزّة في نصوص المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة العرب والمسلمين والأوروبيين
استعادات
3 يناير 2024
"تحيا فلسطين": أغنية سويدية تحوّلت لأيقونة تضامن زمن الطوفان
آثار
23 ديسمبر 2023
"دير سانت هيلاريون" بغزة: أكبر موقع أثري منذ البيزنطيين
ذكرى نيكوس كزانتزاكي: جانب من إخفاقاته مع كتابة السيناريو
عبد الرحيم العلام 23 يناير 2024
استعادات
شارك هذا المقال
حجم الخط
احتفى العالم مؤخرًا بمرور 140 سنة على ولادة الكاتب اليوناني الشهير نيكوس كزانتزاكي (1883-1957)، هو الذي ظلت أعماله الإبداعية خالدة إلى اليوم، منها ما تم تحويله إلى أفلام سينمائية، وتحديدًا روايته الشهيرة "زوربا اليوناني"، التي ظلت هي والفيلم المستوحى منها، الحامل لعنوان الرواية نفسه، من إخراج مايكل كوكايانيس (ظهر الفيلم سنة 1964)، منتشرين بين أوساط القراء والمتلقين والمشاهدين، في مختلف بقاع العالم؛ إذ ترجمت رواية "زوربا اليوناني" إلى عديد من اللغات في العالم، ومنها اللغة العربية، كما أن رقصة الفيلم الشهيرة، التي أداها الممثل العالمي أنطوني كوين، وموسيقاها، لا زالت مشاهدها ممتدة فينا، كأيقونة فنية كونية في السينما العالمية، تتلقفها أجيال تلو أخرى، من شرائح الفنانين والجماهير في العالم...
ومن بين الدوافع المباشرة التي جعلتني أهتم بشخصية نيكوس كزانتزاكي، في زخمها الإبداعي والفكري، وفي نجاحاتها وإحباطاتها، كوني عضوًا في "جمعية أصدقاء نيكوس كزانتزاكي الدولية" (فرع المغرب). فقد قام بعض المهتمين بالإرث الثقافي والأدبي لنيكوس كزانتزاكي، بتأسيس جمعية حملت اسم "جمعية أصدقاء كزانتزاكي الدولية"، بجنيف عام 1988، وهي جمعية لم تلبث أن توسعت فروعها في جميع أنحاء العالم، ومن بينها المغرب، بحيث تمكنت هذه الجمعية من أن تستقطب من حولها العديد من المنخرطين والمتعاطفين، ومن شأن المطّلع على منشوراتها أن يتبين له أن الاهتمام بنيكوس كزانتزاكي لم يكن عاديًا، لأن كزانتزاكي لم يكن كاتبا عاديًا، هو أيضًا.
فضلًا عن ذلك، كنت قد شاركت في بعض اللقاءات الموازية بالمغرب، التي تناولت إبداع نيكوس كزانتزاكي وفكره وثقافته، وخصوصا تلك الندوة التي نظمها فرع الجمعية بمدينة الدار البيضاء، سنة 1997، وصدرت أشغالها في كتاب بعنوان "نيكوس كزانتزاكي: الهوية والثقافة"، ضمن سلسلة "كتابات حول كزانتزاكي (1)"، وهي السلسلة الأولى من نوعها حول نيكوس كزانتزاكي. وكان جورج ستاسيناكيس، رئيس الجمعية الدولية لأصدقاء نيكوس كزانتزاكي، وراء صدور هذا الكتاب...
عدا ذلك، كانت تصلني، باستمرار، بعض منشورات الجمعية الدولية لأصدقاء كزانتزاكي، منها مجلة نصف شهرية، كانت تصدر تحت اسم "Le Regard Crétois" (النظرة الكريتية) التي تصدرها الجمعية باللغة الفرنسية، شأنها في ذلك شأن "Le Bulettin" (النشرة)، قبل أن تتوقفا معًا، مأسوفًا عليهما.
لا أحد يشكك في قيمة هذا الكاتب اليوناني، ولا في أهمية كتاباته وعمق ثقافته وموسوعيته وتعدد اهتماماته، الأمر الذي يجعل منه، وباعتراف الجميع، كاتبًا كونيًا واستثنائيًا. ولا يمكن تلمس الملامح العامة لاستثنائية كزانتزاكي، على مستوى رحلاته وتنقلاته داخل بقاع مختلفة من العالم، بل أيضًا من خلال البعد الإنساني الذي تكشف عنه مؤلفاته العديدة وفلسفته الخاصة في الحياة والكتابة.
لقد كتب كزانتزاكي جل مؤلفاته وإبداعاته خارج أي نطاق شوفيني ضيق، يمكن التفكير فيه... صحيح أن "كريت"، مسقط رأسه، قد شغلت نظرته إلى العالم، لكنه كان يكتب للإنسانية جمعاء. كتب للشرق، كما كتب للغرب. كتب للمسيحية وللإسلام، كتب لكل الثقافات، وبعدة لغات. أحب عدة فلسفات (لأفلاطون وهوميروس وهايدغر ونيتشه وغوتة وفلسفة التصوف الإسلامي ودانتي وبرغسون)، كما استلهم عدة آداب وتفاعل مع مجموعة من المرجعيات، ثقافية ودينية وأدبية...
إلى جانب ذلك، كتب داخل عدة أجناس أدبية وفي مجالات تعبيرية مختلفة، كتب الشعر الغنائي والملحمي، والمسرحية، والسيناريو، والرواية، والتراجيديا، والكوميديا، والبحث، وتاريخ الآداب، والفلسفة، والترجمة، كما كتب للأطفال، وألف في الرحلة...
ظهر نيكوس كزانتزاكي لأول مرة في المجال الأدبي، وعمره 23 سنة، عبر كتابته لبحث عنونه بـ"مرض القرن". كما كتب نصا مسرحيا، ونشر أول عمل أدبي له. بعد ذلك، توالت كتاباته في كل سنة تقريبًا، إلى أن توفي خارج وطنه، في النمسا.
هكذا، نجد أن البعد الإنساني عند كزانتزاكي، لا يمكن تلمسه فقط من خلال كتاباته عن شعوب عديدة وحضارات مختلفة، وعن قضايا إنسانية متنوعة، وهو ما جعل أعماله تترجم إلى عديد من لغات العالم، بما فيها اللغة العربية، بل يمكن تلمسه، أيضًا، من خلال علاقة كزانتزاكي بأشياء صغيرة قد تبدو تافهة بالنسبة للبعض.
وهذه الروح الطافحة بالزخم الإنساني وبالتسامح الكوني، سبق للسيدة إليني، زوجة كزانتزاكي، أن حكت عن بعض جوانبها الخاصة، ومن خلالها يمكن أن نستشف مدى عمق الجانب الإنساني في شخصية كزانتزاكي، من ذلك، مثلًا، حكايته عن النعل الذي أهدي له من طرف أحد أصدقائه، فرفض كزانتزاكي أن يلقي به في صندوق القمامة، بعد أن أصبح باليًا، كما طلبت منه زوجته ذلك، حيث فضل أن يضعه داخل سماط صغير، ووضع إلى جانبه ليمونة قطفها من الحديقة، ثم انتظر حلول الليل ليلقي بالعلبة في البحر.
نفس هذه الروح، أيضًا، حكت عنها إليني، فيما يتصل بتسامح كزانتزاكي حتى مع خصومه، ونخص بالذكر، هنا، عدو كزانتزاكي، السيد سبيروميلا، هذا الذي كان يشتم كزانتزاكي باستمرار في جريدة ''إستيا"، كما تردد على السويد لمحاولة إفشال منح كزانتزاكي جائزة نوبل...
وإذا كانت النزعة التشاؤمية والعدمية هي التي تسيطر على كزانتزاكي، فهو لم يفقد ثقته في الإنسان عمومًا، هو الذي قال: "أنا تشاؤمي عدمي، لا أتمنى شيئًا، ولا أنتظر شيئًا، لكن الإنسان هو كل شيء، الإنسان يمكن أن يذهب بعيدًا، إلى أقصى مدى، إلى الهناك...". وحتى الفقر يورده أكثر روعة، قائلًا: "أنا أفضل الفقر على الخلعة المذهبة". وتضيف إليني بقولها: إن كزانتزاكي كان بالفعل إنسانًا يمدك بالشجاعة والثقة في النفس، إنه شيء جميل أن تنظر إليه وتحس بنفسك رائعًا أكثر مما كنت...
زار كزانتزاكي العديد من البلدان والمدن في العالم، فتشبع بحضارتها وثقافتها وعاداتها، فعكست أعماله كل ذلك، زار فرنسا ودرس بها، كما تابع في جامعتها دروس برغسون. ثم زار سويسرا وألمانيا وفيينا وبرلين وإيطاليا والاتحاد السوفياتي وفلسطين وقبرص وإسبانيا ومصر وتشيكوسلوفاكيا واليابان والصين وبريطانيا وهولندا والألزاس، وغيرها. كما تقلد بعض المناصب العليا: كاتب عام للاتحاد الاشتراكي العمالي، عام 1945. بعد ذلك، أصبح وزيرًا بدون حقيبة في حكومة سوفوبيس. وتم تنصيبه عام 1947 مستشارا في الأدب باليونيسكو، ثم استقال من هذا المنصب في العام الموالي.
اعتبرت رواية" زوربا اليوناني" من بين أعمق النصوص السردية التي كتبها ومن أهمها على الإطلاق، كما اعتبرت أحسن كتاب أجنبي بفرنسا لعام 1954. أمام كل هذا الزخم الذي طبع حياة كزانتزاكي، فقد حيّرت سيرته الباحثين في العالم، من جيل لآخر، نتيجة لما طبعها من تحولات وتناقضات ومآلات، بالنظر لما عرفت به شخصيته من امتلاء في المغامرات والمسارات والارتحالات. وفي هذا الإطار، يُعرف عنه أنه قد تكونت لديه علاقة خاصة بالعالمين العربي والإسلامي، بمثل ما عرف بصولاته وجولاته في بعض البلدان العربية والإسلامية. ورغم ما تميزت به علاقة كزانتزاكي بالحضارة العربية والإسلامية من زخم وإعجاب، فقد انطبعت أيضًا بالمفارقة؛ إذ انعكست، بشكل أو بآخر، على بعض كتاباته الموازية، في مجالات أخرى غير الرواية، ومنها تحديدًا كتابته للسيناريو، وإن لم تحظ عنده بما يلزم من تحاليل واهتمام وتفكيك لدوافعها وأسرارها، اعتبارًا لكون تجربة كزانتزاكي مع كتابة السيناريو تطرح أكثر من علامة تعجب واستفهام، فقد كتب تسعة سيناريوهات، من بينها سيناريوهات عن شخصيات ذائعة الصيت: النبي محمد، بوذا، لينين، دون كيخوته... غير أنه لم يفلح في تقديم أي واحد من هذه السيناريوهات على الشاشة، وتلك كانت رغبته الكبيرة التي أصيبت، في نهاية الأمر، بالفشل، خلافًا لروايتيه "زوربا اليوناني" و"الإغواء الأخير للمسيح" اللتين عرفتا معا طريقهما إلى السينما.
وفي هذا الصدد، يعتبر جورج أمية ويانيس من بين أهم الباحثين الذين درسوا هذا المظهر الأدبي والفني (أي السيناريو) عند كزانتزاكي وعرفوا به. ومن بين تلك السيناريوهات التي كتبها مباشرة باللغة الفرنسية، نتوقف، هنا، عند سيناريو غريب جدًا، عنونه بـ "محمد"، كتبه عن "النبي محمد"، وهو عبارة عن بيوغرافيا مصغرة، تحكي "حياة النبي محمد"، في بعض مراحلها، منذ ظهور الإسلام إلى وفاة الرسول. وقد نشر هذا السيناريو، ولأول مرة، في أحد أعداد مجلة "le regard crétois".
والملاحظ بهذا الخصوص، هو أن كتابة كزانتزاكي للسيناريوهات، عمومًا، كانت تخضع دائمًا لشروط وإرغامات وسياقات مرجعية، غالبًا ما كانت هي التي تتحكم في عملية الكتابة، ومن بينها، على الخصوص، العنصر المادي. فقد كان كزانتزاكي، في بعض المرات، يكتب تحت ضغط ظروف مادية قاهرة، ووفق تصور محدد لكتابة السيناريو، أي وفق تصوره هو لجمهور/ متلق خاص يكتب له كزانتزاكي السيناريوهات، حيث كان، في كل مرة، يعتقد أنه سيحالفه حظ إخراج هذا السيناريو، أو ذاك، للسينما...
كان كزانتزاكي يتحدث إلى زوجته، وإلى بعض أصدقائه، عن مشاريعه على مستوى كتابة السيناريو. كان يخاطبهم، مثلًا، بقوله إن كتابته لسيناريو عن "دون كيخوته" سيروق الإسبان، كما أن كتابته لسيناريو عن "لينين" سيلقى نجاحًا في الاتحاد السوفياتي (وقتئذ)، في حين أن كتابته لسيناريو عن النبي "محمد" سيرضي، في نظره، الفرنسيين، على اعتبار أن هؤلاء كانت لديهم، وقتئذ، مستعمرات إسلامية، ومن بينها المغرب.
وهذا الطابع الارتجالي الضيق الذي كان يتحكم في كتابة كزانتزاكي للسيناريو، هو ما جعله يسقط في شرك عديد من المغالطات، كما هي الحال فيما يتصل بكتابته لتلك السيرة المصغرة للنبي محمد، وبرواية سيرة الإسلام بعيدًا عن حقيقتها. وقد نجد له بعض العذر في ذلك، قد اعتمد في كتابته لذات السيناريو على كتاب واحد فقط، صدر بفرنسا، باعتباره مرجعًا أساسيًا وأحاديًا، وهو الكتاب الذي بعث به إلى كزانتزاكي، بناء على طلبه، أحد أصدقائه بفرنسا، ويتعلق الأمر، في اعتقادي، بكتاب "محمد" لمكسيم رودنسون، رغم أنه لم تتم الإشارة المباشرة إلى ذلك.
من ثم، كثرت المغالطات في سيناريو "محمد"، سواء ما يتصل منها برسم صورة "للنبي محمد"، أو بقصة نزول الوحي عليه، أو بزيجاته (وخصوصا زواجه من عائشة) وأفعاله وهجرته، وغيرها من المواقف والوقائع التي تتنافى وما رواه الإسلام والرواة عن "النبي محمد"، وعن صحابته الذين نسب إليهم كزانتزاكي أفعالا تتنافى وحقيقة حيواتهم، وخصوصًا ما يتصل منها بقصص إسلامهم وإيمانهم ودفاعهم عن الإسلام، وذلك إذا ما قورنت هذه السيرة بما رواه الإسلام، مثلًا، عن صحابة الرسول... وهي مغالطات يصعب حصرها جميعها في مقام كهذا، لكونها تثير بعض المواقف المضحكة والساخرة، أكثر مما تثيره من قدسية وإدراك وتأثير.
فما يهمنا، هنا، هو إبراز جانب من الإخفاقات التي طاولت كزانتزاكي في حياته، وإن بقيت، رغم كل ذلك، إخفاقات غنية بالزخم الإنساني والإبداعي والفلسفي الكوني، كما أنها إخفاقات كان من الممكن، ربما، أن يتفاداها، وبالتالي أن يتجنب السقوط في فخاخ كتابة "متخيل سيرة مغلوطة"، قد يثير من الحساسيات أكثر مما يثير من وظائف معرفية أو جمالية أو فرجوية، أو حتى مادية. ويجسد فشل سيناريو "محمد"، وغيره من السيناريوهات الأخرى، خير دليل على ذلك.
لقد كان هدف كزانتزاكي من وراء كتابته للسيناريوهات، عمومًا، يكمن، في حقيقة الأمر، في مجرد إرضاء لرغبات ومشاعر الآخرين، وإن كان ذلك يتم على حساب مشاعر متلقين آخرين، وإرضاء لرغبة ذاتية للكاتب نفسه، تلك المتمثلة أساسًا في الحصول على "مقابل" عن ذلك، سواء كان مقابلًا ماديًا، مرتبطًا بالمراهنة على تحقيق رواج تجاري لـ"سلعة" مطبوعة بالارتجال، والتي كان من شأنها أن توفر لكزانتزاكي عائدات مالية، كان هو في أمس الحاجة إليها في تلك الفترة، وكما اعترف هو نفسه بذلك، حيث كان يحكي لزوجته، في رسائله، عن مشاكله المادية التي لن يحلها، في نظره، سوى كتابته للسيناريو..، أو كان مقابلًا معنويًا، وإبداعيًا، مرتبطًا برغبة كزانتزاكي في اقتحام مجال تعبيري آخر انشغل به، لكنه لم يفلح أبدًا في النجاح في كتابته.
وفي هذا السياق نفسه، حصل أن إحدى الشركات السينمائية بهوليوود طلبت من كزانتزاكي أن يكتب لها قصة عن عائلة يونانية، وهي القصة التي وفر لها كل جهوده ووقته وقدراته وإمكاناته الإبداعية والمعرفية، لعله يقتحم بها مرة أخرى مجال السينما، إلا أن "لجنة شركة فوكس"(Vox) العالمية قررت، بعد أن اطلعت على القصة، أن ترفضها، بالنظر إلى عدم خضوعها للشروط التي اقترحتها الشركة المذكورة، وهو ما أضاف فشلًا آخر لتجربة كزانتزاكي على مستوى اقتحام عالم السينما، بالرغم من زمالته للعديد من المخرجين السينمائيين العالميين، وزياراته المتكررة لموسكو للالتقاء بسينمائيي الاتحاد السوفياتي.
ذلك وجه آخر، إذًا، من إحباطات نيكوس كزانتزاكي، لم يكن معروفًا عنه، وإلى وقت قريب. إلا أنه وجه لا يمكن على أي حال أن يخفي عنا موسوعية كزانتزاكي وكونيته وصدق مشاعره وإنسانيته، على مستوى مسار حياته الطافحة بالعديد من المواقف الإنسانية الكبيرة والمؤثرة.
أوس يعقوب 24 يناير 2024
استعادات
شارك هذا المقال
حجم الخط
في كتابيه "فلسطين: أربعة آلاف عام في التربية والتعليم" (طبعة أولى 2024)، و"فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ" (طبعة أولى 2020 وثانية 2022)، يتابع المؤرّخ الفلسطينيّ، بروفيسور نور مصالحة، اشتغاله على المسألة الفلسطينيّة قضيّة وتاريخًا بأبعادها السياسيّة والحضاريّة والثقافيّة المختلفة؛ وإن كان قد قدّم في كتابه الأوّل "فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ" أصول فلسطين وتاريخها وثقافتها وهويّتها، متتبّعًا، بالعودة إلى المصادر التاريخيّة، كيفية تطوّر الهويّة الفلسطينيّة عبر العصور، ومُثبتًا، بالاستناد إلى الأدلّة الأثريّة، أنّ الفلسطينيّين هُم أهل البلاد وجذورهم ضاربة في أعماقها، فإنّه يغوص في كتابه الثاني "فلسطين: أربعة آلاف عام في التربية والتعليم" في التاريخ الثقافيّ للفلسطينيّين، مُسلّطًا الضوء على تاريخ العلوم الفلسطينيّة، مع التركيز على الكتابة والتعليم والإنتاج الأدبيّ والثورات الفكريّة في البلاد، وذلك بالعودة إلى أربعة آلاف عام من تاريخ فلسطين. وهذه العودة تضعنا كقرّاء "أمام كنز معرفيّ وثقافيّ، قليلًا ما عرفت حضارات أخرى مثيلًا له في مخزونه العلميّ والتربويّ والتعليميّ المتراكم عبر مرور حضارات متعدّدة على فلسطين، البلد الذي حافظ على اسمه واسم شعبه الفلسطينيّ على مدى حقب حضاريّة مرّ بها هذا البلد على مدى القرون الماضية"، كما جاء في مقدّمة الكتاب.
فلسطين موقع عالميّ للتعليم الكلاسيكيّ وإنتاج المعرفة
عن مركز دراسات الوحدة العربيّة في بيروت، صدرت أخيرًا نسخة من كتاب "فلسطين: أربعة آلاف عام في التربية والتعليم"، بترجمة د. فكتور سحّاب، وكانت النسخة الإنكليزيّة صدرت في آذار/ مارس 2022. يقع الكتاب في خمسمائة وعشر صفحات، ويحتوي على أحد عشر فصلًا، فضلًا عن المقدّمة والمراجع والفهرس، وتكمن أهمّيّته في وضع المشتغلين والمهتمّين بتاريخ فلسطين الحضاريّ والثقافيّ أمام كنز معرفيّ وثقافيّ متعدّد الأوجه قليلًا ما عرفت حضارات المنطقة مثيلًا له، وذلك بالعودة إلى أربعة آلاف عام من تاريخ فلسطين. يكشف لنا المؤلف في كتابه هذا بالبحث والتقصي والأدلّة والبراهين المخزون العلميّ والتربويّ والتعليميّ الذي تراكم عبر مرور العديد من الحضارات على أرض فلسطين، وبالتالي يكشف لنا زيف السرديّة الصهيونيّة التي تزعم افتقار أرض فلسطين والفلسطينيّين إلى المخزون الحضاريّ والثقافيّ والمعرفيّ والعلميّ.
وعبر خمسمائة وعشر صفحات يستعرض المؤلّف، التاريخ الثقافيّ المميّز للفلسطينيّين من خلال الإضاءة على تاريخ العلوم الفلسطينيّة بأكمله، بما في ذلك الكتابة والتعليم والإنتاج الأدبيّ والثورات الفكريّة التي عرفتها.
يُثبت مصالحة، عبر تسليط الضوء على تراث فلسطين الثقافيّ الطويل، أن بلاده ليست مجرد "أرض مقدّسة" للديانات السماويّة الأربع: الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة والسامريّة، ناهيك عن إثباته أنّ فلسطين هي موقع عالميّ رئيسيّ للتعليم الكلاسيكيّ وإنتاج المعرفة بلغات متعدّدة، منها السومريّة والكنعانيّة والسريانيّة والعربيّة والعبريّة واللاتينيّة.
ووفقًا لكلمة الناشر، فإنّ هذا التشبّع الثقافيّ للبلاد: "لا يظهر في المساجد والكنائس والمعابد اليهوديّة التاريخيّة فقط، بل يظهر أيضًا في المنح الدراسية والمدارس التاريخيّة والكليّات والجامعات والمكتبات العالميّة الشهيرة ومراكز الأرشيف، التي اختزنتها بلاد الفلسطينيّين عبر أربعة آلاف عام".
يذكر المؤلّف أنّ المهمّة التي اضطّلع بها هي "تحدّي المنهج الكولونياليّ وتحدّي الأسطورة الخبيثة، التي تروّج لفلسطين على أنّها أرض بلا شعب" |
صدر كتاب "فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ"، عام 2018 باللغة الإنكليزيّة، وفي عام 2020 صدرت طبعته الأولى باللغة العربيّة بترجمة أنجزها د. فيكتور سحّاب، وبعد عامين صدرت طبعة ثانية منه، عن مركز دراسات الوحدة العربيّة أيضًا.
في هذا الكتاب يقدّم مصالحة قراءة جديّة جديدة، مستندة إلى أدلّة أثريّة، لتطوّر هويّة فلسطين وتجربتها عبر الزمان، كاشفًا عن ثقافات ومجتمعات ذات عمق وتعقيد مذهلين يمتدّان إلى بدايات التاريخ المسجّل قبل آلاف السنين، بالاستناد إلى نصوص فرعونيّة وآشوريّة حتى التاريخ الحديث، ساعيًا إلى التحقّق من كيفية تطوّر الهويّة الفلسطينيّة والتواريخ واللغات والثقافات والحضارات عبر العصور ابتداءً من العصر البرونزيّ (3300 - 1000 ــ قبل التأريخ السائد: ق ت س) إلى يومنا هذا.
في عام 2020 تواصلت مع بروفيسور مصالحة عبر البريد الإلكترونيّ بشأن إجراء حوار معه حول هذا الكتاب، وكان أن أنجزنا حوارنا بعد عدّة اتّصالات، ونشر الحوار في مجلّة "رمّان الثقافيّة" بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.
كان هذا الحوار فرصة سانحة للتعرّف أكثر على اشتغال مصالحة المعرفيّ حول موضوع مؤلّفه الذي نستعرضه هنا، والذي بيّن لنا أنّه "يعتمد على جبال من الحقائق والأدلّة والاكتشافات الأثريّة المهمّة، بينما العديد من الكتب المنشورة في الغرب عن فلسطين القديمة تستند إلى الأساطير الدينيّة أو الأسطورة الموجودة في العهد القديم، وليست إلى الحقائق التاريخيّة التي تدعمها الأدلّة الأثريّة العلمية". وأضاف أنّ الكتاب "يجلب منظورًا جديدًا لتاريخ فلسطين الطويل، حيث أنّه ليس فقط عن فلسطين بالمعنى الضيق فهو يعلّمنا كيف نتعلّم التاريخ الطويل لفلسطين ضمن سياقها القديم الأوسع في الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط وهي منطقة كانت مهد الحضارات". يتابع قائلًا: "يُظهر الكتاب أنّ فلسطين كانت دائمًا مكتظة بالثقافة والتاريخ، ويصف الأدوار المهمّة التي لعبتها اللغات في فلسطين القديمة، بما في ذلك اليونانيّة والآراميّة والسريانيّة والعربيّة. كما يعرض أدلّة على الكتابة العربيّة في فلسطين قبل الإسلام بمئات السنين".
يقع الكتاب في أربعمائة وثمانين صفحة، وهو ممتدّ على عشرة فصول وأغلب الفصول متفرعة من عشرة إلى تسعة ويصل بعض الفصول إلى خمسة عشر مبحثًا. وفي محتواه يتابع الكتاب تطوّر هويّة فلسطين عبر الزمن بالعودة إلى تواريخ الأماكن، وآثار الشعوب والحضارات التي فكّك المؤلف نصوصها ليقدّم الأدلّة القاطعة على أنّ "الإرث التاريخيّ للفلسطينيّين سبق ولادة الحركة الوطنيّة في العهد العثمانيّ المتأخر، وظهور الحركة الصهيونيّة الاستعماريّة"، جازمًا أنّ "اسم فلسطين هو الأكثر شيوعًا في الاستخدام منذ العصر البرونزيّ المتأخر (منذ 1300 ق. م) حتّى اليوم"، لافتًا إلى أنّ أقدم الأسماء المعروفة لفلسطين ورد ذكرها في قصّة سينوهة المصريّة وكانت "ريتينو" و"دجاهي"، القصّة التي تمّ اعتماد القرن الرابع عشر قبل الميلاد زمنًا لنشوئها، أطلقت على المناطق الساحليّة في شرق البحر المتوسط اسم "ريتينو" وشملت "عمورو" في الشمال ولبنان وشمال نهر الليطاني، أمّا "دجاهي" فقد أُطلق على المنطقة الجنوبيّة من "ريتينو" وصولًا إلى عسقلان وربّما غزّة.
"يكشف مصالحة زيف السرديّة الصهيونيّة التي تزعم افتقار أرض فلسطين والفلسطينيّين إلى المخزون الحضاريّ والثقافيّ والمعرفيّ والعلميّ" |
في مقدّمة الكتاب التي جاءت بعنوان "فلسطين: الاسم الشائع المُستخدَم عبر التاريخ القديم"، وتحت عنوان فرعي: "كينونة فلسطين، وصيرورة فلسطين، إعادة تخيّل الهويّة المكانيّة من الإقليميّة إلى الوطنيّة"، يرى مصالحة أنّ لتاريخ فلسطين، بخلاف السرديّات الأسطوريّة في العهد القديم، "بدايات" متعدّدة. قد تطوّرت فكرة فلسطين عبر الزمن، من فعل هذه "البدايات" المتعدّدة، إلى مفهوم جيوسياسيّ وكيان سياسيّ إقليميّ (Territorial Polity) متميّز. غالبًا ما يقارَب مفهوم فلسطين على نحو مجرّد أو لا تاريخيّ، بدلًا من مقاربته في سياق كيان تطوّرت حدوده الجغرافيّة، والإداريّة، والموضعيّة، والثقافيّة، وتبدّلت في ثلاث ألفيّات من السنين.
لكن ليس ثمّة أفكار خالصة أو مفهوم مثاليّ لفلسطين بهذه الصفة؛ فالأدلّة التجريبيّة والتجربة البشريّة أساسيّة في تكوين الأفكار والمعرفة عن فلسطين. جدير بالملاحظة أنّنا لا نعرف فلسطين فقط "من الخارج" من خلال ملاحظات وتعميمات، بل أيضًا "من الداخل" بواسطة التجارب المتجسّدة والمشاعر. لقد نظر المؤرّخون الإغريق الكلاسيكيّون - الّذين كانوا من أوائل مَنْ أشاعوا مفهوم فلسطين - إلى الزمن بطريقتين مختلفتين: خرونوس (khronos)، الطريقة الّتي يقيس بها البشر الوقت كمّيًّا وزمنيًّا: الأيّام، والأشهر، والسنوات، والقرون؛ وكايروس (kairos)، الطريقة التي يواجه بها البشر التجارب ويتذكّرون بعض اللحظات أو الأحداث المعيّنة من منظور وبمنظور خاصّ. نتيجة لهذا التمييز بين مفهومي الزمن المختلفين، يستكشف هذا الكتاب التطوّر المتعدّد الخطوط لمفهوم فلسطين وتجارب فلسطين خلال الزمان وعبره. في حين يركّز الكتاب أعلى تركيز، على الأدلّة والشهادات المعاصرة (Synchronic)، إلّا أنّه يحلّل مفهوم فلسطين على نحو متزامن (Synchronically) ومقارن عبر الزمن (Diachronically).
ويوضّح مصالحة في المقدّمة أنّ استدعاء الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ بوصفه صراعًا ما بين ثنائيّة العرب مقابل اليهود في فلسطين أمر مضلّل جدًا، ويشير إلى أنّ الفلسطينيّين يمارسون انتماءهم لبلدهم إفراديًّا وجماعيًّا، وأنّه وعلى الرغم من أنّ الاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ قد سلبهم حقّهم في تقرير المصير في وطنهم التاريخيّ، إلاّ أنّهم مواظبون على الحديث عن بلادنا فلسطين أو فلسطيننا أو البلاد، وهو بحدِّ ذاته يعبر عن عقلية وطنيّة تجاه كلمة "إسرائيل".
ويشير الأكاديميّ والمؤرّخ الفلسطينيّ في فقرة فرعيّة في المقدّمة إلى "التفريق بين فلسطين، الشام، بلاد الشام وسورية المعاصرة: فلسطين كمقاطعة إداريّة مسلمة، الشام كمنطقة جغرافيّة إسلاميّة". يقول: "لقرابة خمسة قرون، من عام 630 حتى الغزو الصليبيّ لفلسطين عام 1099 ميلاديّة، وإنشاء أوّل مملكة لاتينيّة صليبيّة في القدس (1099-1187م)، فقد وجدت المقاطعة العربيّة الإسلاميّة الرسمية "جند فلسطين" ضمن نطاق جغرافي أوسع هو "منطقة الشام". وبحسب علم الخرائط والجغرافيا المسلمة، كانت "الشام" منطقة جغرافيّة واسعة تضمّنت مقاطعات هي اليوم سورية، فلسطين/ "إسرائيل"، لبنان، الأردن وجنوب تركيا. ولعدّة عقود، تكوّنت "الشام" من عدّة مقاطعات مسلمة، ومن ضمنها فلسطين".
ويذكر المؤلّف أنّ المهمّة، التي يضطّلع بها هذا الكتاب هي "تحدّي المنهج الكولونياليّ وتحدّي الأسطورة الخبيثة، التي تروّج لفلسطين على أنّها أرض بلا شعب. كما يجادل بشأن قراءة تاريخ فلسطين بعيون سكّان فلسطين الأصليّين".
يتابع قوله في المقدّمة إنّ "الفلسطينيّين هم سكّان فلسطين الأصليّون؛ جذورهم المحلّيّة مغروسة عميقًا في تراب فلسطين، كما أنّ تراثهم التاريخيّ وهويّتهم الأصيلة قد سبقا بوقت طويل نشوء الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة الناشئة في المرحلة الأخيرة من الإمبراطوريّة العثمانيّة ومجيء المستوطنين الصهاينة قبيل الحرب العالميّة الأولى".
نور مصالحة: وُلدَ في الجليل عام 1957، درس في الجامعة العبريّة- القدس وجامعة لندن، وهو مدير سابق لمركز الدين والتاريخ في جامعة سانت ماري في لندن. وحاليًا عضو في مركز الدراسات الفلسطينيّة في كلّيّة الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة (SOAS) التابعة لجامعة لندن؛ وعضو في لجنة تحكيم جائزة الكتاب الفلسطينيّ (لندن)؛ وهو محرّر دوريّة مجلّة "الأرض المقدّسة ودراسات فلسطين"، التي تصدر عن جامعة أدنبرة. وعمل محاضرًا في عدّة جامعات، منها جامعة بير زيت في الضفّة الغربيّة المحتلّة.
ألّف باللغتين الإنكليزيّة والعربيّة عدّة كتب حول القضيّة الفلسطينيّة، منها: "التاريخ الشفويّ للنكبة الفلسطينيّة" (بالاشتراك مع نهلة عبده - زعبي، 2019)؛ "لاهوت التحرير في فلسطين" (2014)؛ "الكتاب المقدّس الصهيونيّ: سابقة توراتيّة، والاستعمار ومحو الذاكرة" (2013)؛ "نكبة فلسطين: إنهاء استعمار التاريخ، وسرد التابع، واستعادة الذاكرة" (2012)؛ "الكارثة في الذاكرة: فلسطين وإسرائيل واللاجئون الداخليون" (2005)؛ "سياسة الإنكار: إسرائيل ومشكلة اللاجئين الفلسطينيّين" (2003)؛ "أرض أكثر وعرب أقلّ: سياسة الترانسفير الإسرائيليّة في التطبيق 1949 – 1996" (2002)؛ "إسرائيل الكبرى والفلسطينيّون: سياسة التوسّع 1967 - 2000" (2001)؛ "أرض بلا شعب: إسرائيل، الترحيل والفلسطينيّين" (1997)؛ "طرد الفلسطينيّين – مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيّ 1882 – 1948" (1992)؛ "إسرائيل وسياسة النفي – الصهيونيّة واللاجئون الفلسطينيّون" (2003).
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب
استعادات
24 يناير 2024
في أصول فلسطين وتاريخها وهويّتها وتراثها الثقافيّ
استعادات
13 يناير 2024
غزّة في نصوص المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة العرب والمسلمين والأوروبيين
استعادات
3 يناير 2024
"تحيا فلسطين": أغنية سويدية تحوّلت لأيقونة تضامن زمن الطوفان
آثار
23 ديسمبر 2023
"دير سانت هيلاريون" بغزة: أكبر موقع أثري منذ البيزنطيين
ذكرى نيكوس كزانتزاكي: جانب من إخفاقاته مع كتابة السيناريو
عبد الرحيم العلام 23 يناير 2024
استعادات
شارك هذا المقال
حجم الخط
احتفى العالم مؤخرًا بمرور 140 سنة على ولادة الكاتب اليوناني الشهير نيكوس كزانتزاكي (1883-1957)، هو الذي ظلت أعماله الإبداعية خالدة إلى اليوم، منها ما تم تحويله إلى أفلام سينمائية، وتحديدًا روايته الشهيرة "زوربا اليوناني"، التي ظلت هي والفيلم المستوحى منها، الحامل لعنوان الرواية نفسه، من إخراج مايكل كوكايانيس (ظهر الفيلم سنة 1964)، منتشرين بين أوساط القراء والمتلقين والمشاهدين، في مختلف بقاع العالم؛ إذ ترجمت رواية "زوربا اليوناني" إلى عديد من اللغات في العالم، ومنها اللغة العربية، كما أن رقصة الفيلم الشهيرة، التي أداها الممثل العالمي أنطوني كوين، وموسيقاها، لا زالت مشاهدها ممتدة فينا، كأيقونة فنية كونية في السينما العالمية، تتلقفها أجيال تلو أخرى، من شرائح الفنانين والجماهير في العالم...
ومن بين الدوافع المباشرة التي جعلتني أهتم بشخصية نيكوس كزانتزاكي، في زخمها الإبداعي والفكري، وفي نجاحاتها وإحباطاتها، كوني عضوًا في "جمعية أصدقاء نيكوس كزانتزاكي الدولية" (فرع المغرب). فقد قام بعض المهتمين بالإرث الثقافي والأدبي لنيكوس كزانتزاكي، بتأسيس جمعية حملت اسم "جمعية أصدقاء كزانتزاكي الدولية"، بجنيف عام 1988، وهي جمعية لم تلبث أن توسعت فروعها في جميع أنحاء العالم، ومن بينها المغرب، بحيث تمكنت هذه الجمعية من أن تستقطب من حولها العديد من المنخرطين والمتعاطفين، ومن شأن المطّلع على منشوراتها أن يتبين له أن الاهتمام بنيكوس كزانتزاكي لم يكن عاديًا، لأن كزانتزاكي لم يكن كاتبا عاديًا، هو أيضًا.
فضلًا عن ذلك، كنت قد شاركت في بعض اللقاءات الموازية بالمغرب، التي تناولت إبداع نيكوس كزانتزاكي وفكره وثقافته، وخصوصا تلك الندوة التي نظمها فرع الجمعية بمدينة الدار البيضاء، سنة 1997، وصدرت أشغالها في كتاب بعنوان "نيكوس كزانتزاكي: الهوية والثقافة"، ضمن سلسلة "كتابات حول كزانتزاكي (1)"، وهي السلسلة الأولى من نوعها حول نيكوس كزانتزاكي. وكان جورج ستاسيناكيس، رئيس الجمعية الدولية لأصدقاء نيكوس كزانتزاكي، وراء صدور هذا الكتاب...
عدا ذلك، كانت تصلني، باستمرار، بعض منشورات الجمعية الدولية لأصدقاء كزانتزاكي، منها مجلة نصف شهرية، كانت تصدر تحت اسم "Le Regard Crétois" (النظرة الكريتية) التي تصدرها الجمعية باللغة الفرنسية، شأنها في ذلك شأن "Le Bulettin" (النشرة)، قبل أن تتوقفا معًا، مأسوفًا عليهما.
لا أحد يشكك في قيمة هذا الكاتب اليوناني، ولا في أهمية كتاباته وعمق ثقافته وموسوعيته وتعدد اهتماماته، الأمر الذي يجعل منه، وباعتراف الجميع، كاتبًا كونيًا واستثنائيًا. ولا يمكن تلمس الملامح العامة لاستثنائية كزانتزاكي، على مستوى رحلاته وتنقلاته داخل بقاع مختلفة من العالم، بل أيضًا من خلال البعد الإنساني الذي تكشف عنه مؤلفاته العديدة وفلسفته الخاصة في الحياة والكتابة.
لقد كتب كزانتزاكي جل مؤلفاته وإبداعاته خارج أي نطاق شوفيني ضيق، يمكن التفكير فيه... صحيح أن "كريت"، مسقط رأسه، قد شغلت نظرته إلى العالم، لكنه كان يكتب للإنسانية جمعاء. كتب للشرق، كما كتب للغرب. كتب للمسيحية وللإسلام، كتب لكل الثقافات، وبعدة لغات. أحب عدة فلسفات (لأفلاطون وهوميروس وهايدغر ونيتشه وغوتة وفلسفة التصوف الإسلامي ودانتي وبرغسون)، كما استلهم عدة آداب وتفاعل مع مجموعة من المرجعيات، ثقافية ودينية وأدبية...
إلى جانب ذلك، كتب داخل عدة أجناس أدبية وفي مجالات تعبيرية مختلفة، كتب الشعر الغنائي والملحمي، والمسرحية، والسيناريو، والرواية، والتراجيديا، والكوميديا، والبحث، وتاريخ الآداب، والفلسفة، والترجمة، كما كتب للأطفال، وألف في الرحلة...
ظهر نيكوس كزانتزاكي لأول مرة في المجال الأدبي، وعمره 23 سنة، عبر كتابته لبحث عنونه بـ"مرض القرن". كما كتب نصا مسرحيا، ونشر أول عمل أدبي له. بعد ذلك، توالت كتاباته في كل سنة تقريبًا، إلى أن توفي خارج وطنه، في النمسا.
هكذا، نجد أن البعد الإنساني عند كزانتزاكي، لا يمكن تلمسه فقط من خلال كتاباته عن شعوب عديدة وحضارات مختلفة، وعن قضايا إنسانية متنوعة، وهو ما جعل أعماله تترجم إلى عديد من لغات العالم، بما فيها اللغة العربية، بل يمكن تلمسه، أيضًا، من خلال علاقة كزانتزاكي بأشياء صغيرة قد تبدو تافهة بالنسبة للبعض.
وهذه الروح الطافحة بالزخم الإنساني وبالتسامح الكوني، سبق للسيدة إليني، زوجة كزانتزاكي، أن حكت عن بعض جوانبها الخاصة، ومن خلالها يمكن أن نستشف مدى عمق الجانب الإنساني في شخصية كزانتزاكي، من ذلك، مثلًا، حكايته عن النعل الذي أهدي له من طرف أحد أصدقائه، فرفض كزانتزاكي أن يلقي به في صندوق القمامة، بعد أن أصبح باليًا، كما طلبت منه زوجته ذلك، حيث فضل أن يضعه داخل سماط صغير، ووضع إلى جانبه ليمونة قطفها من الحديقة، ثم انتظر حلول الليل ليلقي بالعلبة في البحر.
"كتب كزانتزاكي تسعة سيناريوهات، من بينها سيناريوهات عن شخصيات ذائعة الصيت: النبي محمد، بوذا، لينين، دون كيخوته ... غير أنه لم يفلح في تقديم أي واحد من هذه السيناريوهات على الشاشة، وتلك كانت رغبته الكبيرة التي أصيبت، في نهاية الأمر، بالفشل" |
وإذا كانت النزعة التشاؤمية والعدمية هي التي تسيطر على كزانتزاكي، فهو لم يفقد ثقته في الإنسان عمومًا، هو الذي قال: "أنا تشاؤمي عدمي، لا أتمنى شيئًا، ولا أنتظر شيئًا، لكن الإنسان هو كل شيء، الإنسان يمكن أن يذهب بعيدًا، إلى أقصى مدى، إلى الهناك...". وحتى الفقر يورده أكثر روعة، قائلًا: "أنا أفضل الفقر على الخلعة المذهبة". وتضيف إليني بقولها: إن كزانتزاكي كان بالفعل إنسانًا يمدك بالشجاعة والثقة في النفس، إنه شيء جميل أن تنظر إليه وتحس بنفسك رائعًا أكثر مما كنت...
زار كزانتزاكي العديد من البلدان والمدن في العالم، فتشبع بحضارتها وثقافتها وعاداتها، فعكست أعماله كل ذلك، زار فرنسا ودرس بها، كما تابع في جامعتها دروس برغسون. ثم زار سويسرا وألمانيا وفيينا وبرلين وإيطاليا والاتحاد السوفياتي وفلسطين وقبرص وإسبانيا ومصر وتشيكوسلوفاكيا واليابان والصين وبريطانيا وهولندا والألزاس، وغيرها. كما تقلد بعض المناصب العليا: كاتب عام للاتحاد الاشتراكي العمالي، عام 1945. بعد ذلك، أصبح وزيرًا بدون حقيبة في حكومة سوفوبيس. وتم تنصيبه عام 1947 مستشارا في الأدب باليونيسكو، ثم استقال من هذا المنصب في العام الموالي.
اعتبرت رواية" زوربا اليوناني" من بين أعمق النصوص السردية التي كتبها ومن أهمها على الإطلاق، كما اعتبرت أحسن كتاب أجنبي بفرنسا لعام 1954. أمام كل هذا الزخم الذي طبع حياة كزانتزاكي، فقد حيّرت سيرته الباحثين في العالم، من جيل لآخر، نتيجة لما طبعها من تحولات وتناقضات ومآلات، بالنظر لما عرفت به شخصيته من امتلاء في المغامرات والمسارات والارتحالات. وفي هذا الإطار، يُعرف عنه أنه قد تكونت لديه علاقة خاصة بالعالمين العربي والإسلامي، بمثل ما عرف بصولاته وجولاته في بعض البلدان العربية والإسلامية. ورغم ما تميزت به علاقة كزانتزاكي بالحضارة العربية والإسلامية من زخم وإعجاب، فقد انطبعت أيضًا بالمفارقة؛ إذ انعكست، بشكل أو بآخر، على بعض كتاباته الموازية، في مجالات أخرى غير الرواية، ومنها تحديدًا كتابته للسيناريو، وإن لم تحظ عنده بما يلزم من تحاليل واهتمام وتفكيك لدوافعها وأسرارها، اعتبارًا لكون تجربة كزانتزاكي مع كتابة السيناريو تطرح أكثر من علامة تعجب واستفهام، فقد كتب تسعة سيناريوهات، من بينها سيناريوهات عن شخصيات ذائعة الصيت: النبي محمد، بوذا، لينين، دون كيخوته... غير أنه لم يفلح في تقديم أي واحد من هذه السيناريوهات على الشاشة، وتلك كانت رغبته الكبيرة التي أصيبت، في نهاية الأمر، بالفشل، خلافًا لروايتيه "زوربا اليوناني" و"الإغواء الأخير للمسيح" اللتين عرفتا معا طريقهما إلى السينما.
وفي هذا الصدد، يعتبر جورج أمية ويانيس من بين أهم الباحثين الذين درسوا هذا المظهر الأدبي والفني (أي السيناريو) عند كزانتزاكي وعرفوا به. ومن بين تلك السيناريوهات التي كتبها مباشرة باللغة الفرنسية، نتوقف، هنا، عند سيناريو غريب جدًا، عنونه بـ "محمد"، كتبه عن "النبي محمد"، وهو عبارة عن بيوغرافيا مصغرة، تحكي "حياة النبي محمد"، في بعض مراحلها، منذ ظهور الإسلام إلى وفاة الرسول. وقد نشر هذا السيناريو، ولأول مرة، في أحد أعداد مجلة "le regard crétois".
والملاحظ بهذا الخصوص، هو أن كتابة كزانتزاكي للسيناريوهات، عمومًا، كانت تخضع دائمًا لشروط وإرغامات وسياقات مرجعية، غالبًا ما كانت هي التي تتحكم في عملية الكتابة، ومن بينها، على الخصوص، العنصر المادي. فقد كان كزانتزاكي، في بعض المرات، يكتب تحت ضغط ظروف مادية قاهرة، ووفق تصور محدد لكتابة السيناريو، أي وفق تصوره هو لجمهور/ متلق خاص يكتب له كزانتزاكي السيناريوهات، حيث كان، في كل مرة، يعتقد أنه سيحالفه حظ إخراج هذا السيناريو، أو ذاك، للسينما...
كان كزانتزاكي يتحدث إلى زوجته، وإلى بعض أصدقائه، عن مشاريعه على مستوى كتابة السيناريو. كان يخاطبهم، مثلًا، بقوله إن كتابته لسيناريو عن "دون كيخوته" سيروق الإسبان، كما أن كتابته لسيناريو عن "لينين" سيلقى نجاحًا في الاتحاد السوفياتي (وقتئذ)، في حين أن كتابته لسيناريو عن النبي "محمد" سيرضي، في نظره، الفرنسيين، على اعتبار أن هؤلاء كانت لديهم، وقتئذ، مستعمرات إسلامية، ومن بينها المغرب.
"كتابة نيكوس كزانتزاكي للسيناريوهات، عمومًا، كانت تخضع دائمًا لشروط وإرغامات وسياقات مرجعية، غالبًا ما كانت هي التي تتحكم في عملية الكتابة، ومن بينها، على الخصوص، العنصر المادي" |
من ثم، كثرت المغالطات في سيناريو "محمد"، سواء ما يتصل منها برسم صورة "للنبي محمد"، أو بقصة نزول الوحي عليه، أو بزيجاته (وخصوصا زواجه من عائشة) وأفعاله وهجرته، وغيرها من المواقف والوقائع التي تتنافى وما رواه الإسلام والرواة عن "النبي محمد"، وعن صحابته الذين نسب إليهم كزانتزاكي أفعالا تتنافى وحقيقة حيواتهم، وخصوصًا ما يتصل منها بقصص إسلامهم وإيمانهم ودفاعهم عن الإسلام، وذلك إذا ما قورنت هذه السيرة بما رواه الإسلام، مثلًا، عن صحابة الرسول... وهي مغالطات يصعب حصرها جميعها في مقام كهذا، لكونها تثير بعض المواقف المضحكة والساخرة، أكثر مما تثيره من قدسية وإدراك وتأثير.
فما يهمنا، هنا، هو إبراز جانب من الإخفاقات التي طاولت كزانتزاكي في حياته، وإن بقيت، رغم كل ذلك، إخفاقات غنية بالزخم الإنساني والإبداعي والفلسفي الكوني، كما أنها إخفاقات كان من الممكن، ربما، أن يتفاداها، وبالتالي أن يتجنب السقوط في فخاخ كتابة "متخيل سيرة مغلوطة"، قد يثير من الحساسيات أكثر مما يثير من وظائف معرفية أو جمالية أو فرجوية، أو حتى مادية. ويجسد فشل سيناريو "محمد"، وغيره من السيناريوهات الأخرى، خير دليل على ذلك.
لقد كان هدف كزانتزاكي من وراء كتابته للسيناريوهات، عمومًا، يكمن، في حقيقة الأمر، في مجرد إرضاء لرغبات ومشاعر الآخرين، وإن كان ذلك يتم على حساب مشاعر متلقين آخرين، وإرضاء لرغبة ذاتية للكاتب نفسه، تلك المتمثلة أساسًا في الحصول على "مقابل" عن ذلك، سواء كان مقابلًا ماديًا، مرتبطًا بالمراهنة على تحقيق رواج تجاري لـ"سلعة" مطبوعة بالارتجال، والتي كان من شأنها أن توفر لكزانتزاكي عائدات مالية، كان هو في أمس الحاجة إليها في تلك الفترة، وكما اعترف هو نفسه بذلك، حيث كان يحكي لزوجته، في رسائله، عن مشاكله المادية التي لن يحلها، في نظره، سوى كتابته للسيناريو..، أو كان مقابلًا معنويًا، وإبداعيًا، مرتبطًا برغبة كزانتزاكي في اقتحام مجال تعبيري آخر انشغل به، لكنه لم يفلح أبدًا في النجاح في كتابته.
وفي هذا السياق نفسه، حصل أن إحدى الشركات السينمائية بهوليوود طلبت من كزانتزاكي أن يكتب لها قصة عن عائلة يونانية، وهي القصة التي وفر لها كل جهوده ووقته وقدراته وإمكاناته الإبداعية والمعرفية، لعله يقتحم بها مرة أخرى مجال السينما، إلا أن "لجنة شركة فوكس"(Vox) العالمية قررت، بعد أن اطلعت على القصة، أن ترفضها، بالنظر إلى عدم خضوعها للشروط التي اقترحتها الشركة المذكورة، وهو ما أضاف فشلًا آخر لتجربة كزانتزاكي على مستوى اقتحام عالم السينما، بالرغم من زمالته للعديد من المخرجين السينمائيين العالميين، وزياراته المتكررة لموسكو للالتقاء بسينمائيي الاتحاد السوفياتي.
ذلك وجه آخر، إذًا، من إحباطات نيكوس كزانتزاكي، لم يكن معروفًا عنه، وإلى وقت قريب. إلا أنه وجه لا يمكن على أي حال أن يخفي عنا موسوعية كزانتزاكي وكونيته وصدق مشاعره وإنسانيته، على مستوى مسار حياته الطافحة بالعديد من المواقف الإنسانية الكبيرة والمؤثرة.