في وقائع الحرب الأكثر فتكًا بالأطفال
سمر شمة 9 يناير 2024
هنا/الآن
(Getty, Gaza)
شارك هذا المقال
حجم الخط
"أنا طفل فلسطيني، شربت القهر من صغري، زرعت العز والإصرار في صدري، فمن يرغب بمعرفتي وتكويني، فعنواني: مياه البحر من غزة، إلى الشطآن من يافا، إلى حيفا إلى عكا، وكل القدس في قلبي وفي ديني"- بهذا الوجع النبيل يتحدث الطفل الفلسطيني اليوم وكل يوم، بعد أن تحوّلت غزة إلى مقابر جماعية للصغار والكبار، وهُدمت أحياء ومدارس بأكملها فوق رؤوس ساكنيها المدنيين والتلاميذ، وتحوّلت مراجيح الأطفال وألعابهم وأحلامهم وحقوقهم إلى أكوام من رماد بعد الإبادة الجماعية الممنهجة للفلسطينيين في قطاع غزة وللأطفال تحديدًا في كل ركن من أركانه المستباحة.
لا يسمح الاحتلال لأطفال غزة أن يولدوا صغارًا، وأن يكبروا على مهل ككل أطفال العالم، ولا يسمح لهم أن يركضوا بفرح وأمان على شاطئها الحنون وفي حاراتها العتيقة، ولا أن يستريحوا في أحضان أمهاتهم الدافئة والآمنة كما كل أطفال العالم.
دمرت الحروب العدوانية القديمة والحرب الحالية على غزة كل شيء، أراقت الدماء واستباحت كل الأخلاق والقيم والقوانين والشرائع، وباتت منذ بدء عملية طوفان الأقصى إرهابًا مسلحًا منظمًا أكثر وحشية وإجرامًا وطغيانًا، ونال الأطفال الفلسطينيون في غزة النصيب الأكبر من القتل والإعاقة والتشرد والفقد عما سبق من حروب، وقد أشارت أرقام سلطات غزة الصحية إلى أن أكثر من 40 بالمئة ممن استشهدوا جراء الضربات الإسرائيلية هم من الأطفال، وأن أكثر من 22 ألفًا استشهدوا منذ السابع من أكتوبر الماضي حتى الآن، وأكثر من 57 ألف مصاب وجريح معظمهم من النساء والأطفال بينما تجاوز عدد المعتقلين ثلاثة آلاف معتقل في القطاع وحده منذ بدء الحرب التي دخلت شهرها الرابع حسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
يقول البروفيسور مايكل سباغات، المتخصص في دراسة أعداد القتلى في الصراعات حول العالم: "إن وتيرة القتل في هذه الحرب كانت مرتفعة بشكل استثنائي".
وقال الجراح البريطاني الفلسطيني، الدكتور غسان أبو ستة، الذي كان يعالج أهالي غزة منذ بدء الحرب إلى وقت قريب، إنه يقدر أن ما بين 700– 900 طفل بترت أطرافهم في الحرب وتصاعد العدد كثيرًا مع تصاعد الاعتداءات.
وأكدت لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة قبل نهاية العام المنصرم أن الحرب في غزة أودت بحياة عدد كبير من الأطفال بوحشية غير مسبوقة. في الوقت الذي أكد فيه وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، أن أخبار قتل الأطفال والنساء والرجال أثناء احتمائهم بمدرسة الفاخورة شمالي غزة مأساوية. بينما صرحت منظمة اليونيسيف أن مشاهد القتل والدمار في أعقاب الهجمات على مدرستي الفاخورة وتل الزعتر في القطاع والتي أسفرت عن مقتل عدد كبير من الأطفال والنساء مروعة ومفجعة.
وخاطب جيسون لي، مدير منظمة أنقذوا الأطفال الخيرية في الأراضي الفلسطينية، العالم بعد مقتل وإصابة أكثر من 400 طفل يوميًا قائلًا: "إن الأرقام مروعة، ولا يزال العديد من الأطفال معرضين للخطر الجسيم مع استمرار العنف في غزة، كل خمس دقائق يسقط أطفال لا ذنب لهم ولا حول ولا قوة".
وقالت رئيسة قسم الصحة العامة في جامعة أدنبرة الأسكتلندية في الشهر الأخير من العام الفائت: "هذه الحرب تُوصف بأنها الأكثر فتكًا بالأطفال"، مؤكدة أن خبراء الصحة العالمية يعلمون أن من المرجح أن يلقى عدد كبير من الأطفال حتفهم بسبب الأمراض ونقص الدواء والغذاء والرعاية والمياه.
صحيفة "وول ستريت جورنال" أكدت من جانبها على أن ما يقرب من 40 بالمئة من الذين لقوا حتفهم في غزة هم من الأطفال، وأن نصف سكان غزة البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة هم من بين السكان الأصغر سنًا في العالم ونصفهم تحت سن 18 عامًا وفقًا لمكتب المراجع السكانية غير الربحي بواشنطن.
ويعرف العالم الصامت غالبًا والقلق أحيانًا أن إسرائيل تنتهك كل ما أقرته المنظمات والدول والهيئات بشأن أخلاقيات الحرب، وتنتهك كل يوم ما حدده مجلس الأمن الدولي من مبادئ لانتهاكات يعتبرها جسيمة في أوقات الحرب وهي: قتل الأطفال وتشويههم وتجنيدهم في الحروب، الهجمات على المدارس والمستشفيات، والعنف الجنسي والإغتصاب، واختطاف الأطفال ومنع وصول المساعدات الإنسانية إليهم. وقد دان المجلس مرارًا هذه الإنتهاكات في أماكن مختلفة من العالم لكنه في حرب الإبادة الجماعية على غزة وأطفالها بقي متفرجًا وعاجزًا عن إصدار قرار بوقف إطلاق النار في هذه الحرب الهمجية.
والمعروف أن الأمم المتحدة اعتمدت إعلان حقوق الطفل منذ عام 1959، واتفاقية حقوق الطفل منذ عام 1989، وفي الثاني من كانون الأول/ ديسمبر عام 1990 دخلت اتفاقية حقوق الطفل حيز التنفيذ وهي تهدف إلى توفير الحماية للأطفال في كل الأوقات بما فيها أوقات الحرب.
وفي 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1959 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان حقوق الطفل، ومنذ عام 1990 يحتفي العالم باليوم العالمي للطفل. وهذا العالم نفسه احتفل العام المنصرم بمنظماته ومؤسساته الراعية للطفولة بهذا اليوم بينما أطفال غزة يغرقون بدمائهم وآلامهم، يعيشون بلا مأوى وبلا طعام ولا دواء يواجهون برد الطبيعة والقصف اليومي الذي لا يتوقف لا ليلًا ولا نهارًا.
من منا يستطيع أن ينسى ما تعرض له أطفال غزة من قتل وتدمير واغتيال للطفولة والانسانية؟ ومن منا يستطيع أن ينسى الطفل عوني الدوس من غزة الذي نشر فيديو في آب/ أغسطس 2022 أعلن فيه عن طموحه في إنشاء قناة خاصة للألعاب على موقع يوتيوب قائلًا: "الآن اسمحوا لي أن أعرفكم بنفسي، أنا فلسطيني من غزة، عّمري 12 عامًا، وهدفي هو الوصول إلى مئة ألف مشترك أو مليون في القناة"؛ وبعد أكثر من عام أصبح عوني من أوائل الشهداء الأطفال في غزة؟
من منا يستطيع أن ينسى فاجعة أم يوسف التي أبكت العالم وهي تبحث عن ابنها يوسف الأبيضاني الحلو شعره كيرلي وعمره 7 سنوات، من ينساها وهي تبحث عنه تائهة في المشفى بعد أن قصف الاحتلال منزلهم ليتفاجأ والده الدكتور محمد حميد أبو موسى الذي يعمل في المشفى بأن جثة ابنه الحلو يوسف بين جثث الشهداء... من منا ينسى صوتها ووجعها واستباحة أمومتها؟
"منظمة "هيومن رايتس ووتش" كانت قد صرحت في آب/ أغسطس الماضي أن إسرائيل تقتل الأطفال دون مساءلة، وأن عام 2022 كان أكثر الأعوام دموية للأطفال الفلسطينيين للضفة الغربية منذ 15 عامًا، وأن عام 2023 مستمر بالوتيرة نفسها ولكن بجرائم أكثر فتكًا ووحشية" |
والطفلة فاطمة التي ولدت لأسرتها بعد انتظار 14 عامًا، وكانت في المشفى تبكي من شدة الألم بعد أن تمكنت مع والدتها من الخروج من تحت ركام منزلهما بعد تعرضه للقصف ولكن كان لا بد من بتر ساقيها بعد نجاتها من الموت.
وأميرة الطفلة التي قتل الاحتلال والدتها وسبعة من أخوتها، وقال والدها إنهم نزحوا من منزلهم في حي الزيتون بعد تحذيرات من جيش العدو بالإخلاء وانتقلوا إلى رفح في جنوب غزة، حيث تم قصفهم وقُتلت زوجته وأطفاله، لكنه يشعر بالامتنان من الله لأن ابنه البالغ من العمر 18 شهرًا وثلاثًا من بناته قد نجوا بأعجوبة.
أي وجع وأي إجرام وأي عار أبدي على العالم من كل ما حدث ومن هذا الحوار الذي دار بين طفل فلسطيني وطبيبه المعالج، بعد أن افتقد الطفل الأمل بالعيش بسبب ما يراه من مجازر وموت فسأل الطبيب: بضلّ عايش؟، آااه بضّلّك عايش.
لقد قالت الأمم المتحدة إن إسرائيل قتلت خلال شهر من حربها على القطاع المحاصر من الأطفال ما يفوق عدد الأطفال الذين قتلوا في 22 صراعًا مسلحًا حول العالم خلال 4 سنوات. وهذا ما أكدته الأمينة التنفيذية للأسكوا، بينما أكدت مؤسسات حقوقية أن الغارات الإسرائيلية تقتل طفلًا فلسطينيًا كل سبع دقائق في غزة في رقم غير مسبوق في التاريخ المعاصر.
إن قتل الأطفال الفلسطينيين من قبل قوات الاحتلال ليس جديدًا بل هو متواصل بوحشية ومنهجية مدروسة منذ مجزرة دير ياسين 1948، وحروب الصهاينة على العرب منذ 1956 حتى الآن. وكان القتل وما يزال من خلال القصف والمجازر والتصفيات الجماعية كما في قبية 1953 حين دمرت إسرائيل مدرسة للأطفال، وفي كفر قاسم 1956، وفي مدرسة ابتدائية في بحر البقر أثناء حرب الاستنزاف مع مصر 1970 حين قتلت إسرائيل 46 تلميذًا وجرحت خمسين آخرين معظمهم بُترت أطرافهم والمدرسة دُمرت بالكامل، وفي مجزرة قانا بلبنان 1996 وفي المذبحة الثانية في قانا 2006 والتي راح ضحيتها أعداد كبيرة من الأطفال والكبار، وخلال الانتفاضة الأولى 1987–1993 قتلت إسرائيل 213 طفلًا عدا قتلها الأطفال الأجنّة مستهدفة النساء الفلسطينيات الحوامل بقنابل الغاز المسيل للدموع داخل أماكن مغلقة، وفي الانتفاضة الثانية 2000–2004 قتلت إسرائيل أكثر من 500 طفل فلسطيني وجرحت أكثر من ألف، وفي عدوانها على غزة 2008 قتلت 1400 فلسطيني بينهم 313 طفلًا إضافة إلى ما قتلته في مجازر صبرا وشاتيلا وجنين ونابلس وغيرها وغيرها.
منظمة "هيومن رايتس ووتش" كانت قد صرحت في آب/ أغسطس الماضي أن إسرائيل تقتل الأطفال دون مساءلة، وأن عام 2022 كان أكثر الأعوام دموية للأطفال الفلسطينيين للضفة الغربية منذ 15 عامًا، وأن عام 2023 مستمر بالوتيرة نفسها ولكن بجرائم أكثر فتكًا ووحشية.
وقالت المنظمة إنها حققت في مقتل محمود السعدي (17 عامًا) الذي قتلته القوات الإسرائيلية أثناء سيره إلى المدرسة بالقرب من مخيم جنين في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 على مقربة من الشارع الذي استشهدت فيه مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة في 11 أيار/ مايو 2022.
"يؤكد باحثون أن أحد أسباب هذا الإجرام جاء تنفيذًا لتعاليمهم التوراتية التي تقول: "وتحطم أطفالهم أمام عيونهم"، هذا إلى جانب ما يبذله منظرو الصهيونية والحاخامات من جهود لتغذية العنصرية ونظرية الإبادة العرقية" |
وعندما نحاول استعراض جرائم الصهاينة وقتلهم للأطفال نجد أنه لا يمكننا حصرها والإحاطة بها لاستمرارها وتصاعدها على مدى عقود، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: لماذا يقتل الصهاينة أطفال فلسطين بإصرار وتعمدٍ ومنهجية؟
يقول الباحثون إن السبب يعود إلى خوف العدو منهم ومن المستقبل الذي سيتحولون فيه إلى أبطال ومقاتلين، إضافة إلى أنهم يعتبرون كل طفل فلسطيني هو "إرهابي" مستقبلًا، على حدّ زعمهم. بينما يؤكد باحثون آخرون أن أحد أسباب هذا الإجرام جاء تنفيذًا لتعاليمهم التوراتية التي تقول: "وتحطم أطفالهم أمام عيونهم"، هذا إلى جانب ما يبذله منظرو الصهيونية والحاخامات من جهود لتغذية العنصرية ونظرية الإبادة العرقية. بينما يشير بعض الكتاب إلى أن قوانين القتل والذبح استندت إلى أيديولوجية عنصرية منها ما يستند على الشريعة ومنها ما يستند على السحر والشعوذة. وأشاروا أيضًا إلى أن اليهود في جميع مجالات حياتهم يعتمدون على التلمود وفتاوى الحاخامات، ولكن هناك من يقول بأن اليهود ليسوا جميعًا مؤمنين بأن قتل الأطفال فضيلة وأن هناك منهم من دعم العدوان على غزة وهناك من وقف ضده مؤكدًا أن ذلك يتعارض مع الدين اليهودي وينتهك أسسه.
أطفال غزة وفلسطين لا يتعرضون للقتل فقط بل يتعرضون للإعاقة وفقدان الأطراف والإصابة بحالات صحية صعبة وبأوضاع نفسية قاهرة. هذا إضافة إلى حملات الاعتقال التعسفية المتواصلة بحقهم والتي وصلت إلى أكثر من 880 حالة اعتقال خلال عملية طوفان الأقصى، كما أعلن نادي الأسير الفلسطيني مؤكدًا أن عام 2023 شهد تصاعدًا في الاعتقالات وبشكل غير مسبوق بحق الأطفال، بينها 145 حالة اعتقال سجلت خلال تشرين الأول/ أكتوبر الماضي وحده، وذكر النادي في بيان له أن المعتقلين يقبعون في سجون عوفر ومجدو والدامون في زنازين غير آدميّة مقيدي الأيدي والأرجل، يتعرضون للعنف الجسدي والنفسي ويُحرمون من النوم وتُنتزع منهم الاعترافات بالإكراه.
يعيش الأطفال في فلسطين المحتلة عمومًا وقطاع غزة خصوصًا ظروفًا قاهرة وصعبة وقد سببت الحروب المتعاقبة عليهم القلق الشديد لهم والخوف من الموت الذي يطاردهم كل ساعة والحزن العميق الذي يصل إلى درجة الإكتئاب، يعيشون ذكريات مؤلمة وفقدًا مستمرًا لا يمكن تحمله وآثارًا نفسية مدمرة.
وفي هذا العالم مزدوج المعايير وفاقد القدرة والرغبة في حماية حقوق الانسان والطفل يعيش الأطفال في أماكن مختلفة حروبًا قاسية ويبلغ عددهم في مناطق النزاعات المسلحة نحو 250 مليون طفل يواجهون المجازر والمذابح والعنف المفرط. وتظهر بيانات من جمعية علم النفس الأميركية أن 50 بالمئة من نسبة 95 بالمئة من المدنيين الذين قتلوا في السنوات الأخيرة في النزاعات المسلحة كانوا أطفالًا.
وحسب منظمة اليونيسيف فإن العدد التقديري للضحايا من الأطفال خلال العقد الماضي بلغ مليوني قتيل و 5 ملايين معاق و 12 مليون طفل بلا مأوى وأكثر من مليون يتيم وعشرة ملايين مصابين بصدمات نفسية، وهذا عار لن يُمحى على جبين الدول والأنظمة والمنظمات التي تتباكى يوميًا على حقوق الطفل وضرورة حمايته.
لقد أصبح الأطفال في عالمنا أهدافًا في النزاعات المسلحة، وأصبح أطفال فلسطين هدفًا يوميًا للاحتلال، ولكن أطفال غزة خصوصا وفلسطين عمومًا يُبهرون العالم بوعيهم وصمودهم وقوتهم، فها هو طفل من غزة يحمل حقيبته المدرسية ويسأله المسعف: هل فيها كتب مدرسية، فيقول له إنه يحمل في حقيبته أشلاء أخيه الذي استشهد في مجزرة من مجازر الاحتلال الوحشية. وها هو طفل غزّاوي آخر يلقن شقيقه الصغير الشهادة وهو يحتضر في أحد المستشفيات، أما الطفل الذي سأله أحد المراسلين على الهواء مباشرة من غزة: ماذا تتمنى أن تكون في المستقبل؟ فقد رد عليه قائلًا: "إحنا في فلسطين ما بنكبرش، إحنا بأي لحظة ممكن نموت وإحنا ماشيين، هيك إحنا وهيك الحياة بفلسطين"، وكأن لسان حاله يقول: "أنا سيف أسلطه على أعداء أوطاني. وأما صمت من هانوا. وأما عهر من خانوا. وإن كانوا من الأعراب لا فخر. فهذا قد يؤرقني. ويخجلني ويدميني. ولكن لا تقل هذا سيعنيني"...