أمثال بلادنا: زوّادة أولادنا وكل الأجيال
سمر شمة 19 يناير 2024
اجتماع
تعبر الأمثال عن الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
يعدّ التراث الفلسطيني بمثابة الهوية الشاهدة على حضارة الفلسطينيين، ومن المرتكزات الأساسية لها، فيه تتجلى خصوصيتهم كشعب عريق في التراث المادي واللامادي الضارب جذوره في عمق التاريخ. وقد واجه الشعب الفلسطيني محاولات الصهاينة المستمرة لطمس تراثه وإلغائه بأشدّ الطرق والوسائل وحشية وفتكًا، بعد أن شكل هذا التراث رأس الحربة في الدفاع عن وجود هذا الشعب. ويتجلى ذلك بوضوح في الحرب الهمجية الحالية والسابقة على غزة، حيث قام الاحتلال بتدمير البيوت والمدارس والمواقع الأثرية والجامعات والمراكز الفلسطينية التراثية، وهجّرت وقتلت الحرب عددًا كبيرًا من العاملين في مختلف جوانب التراث الشعبي الفلسطيني، في محاولة لنسف الذاكرة الفلسطينية وتدميرها.
ولكنّ الشعب الفلسطيني يحاول دائمًا أينما حلّ التمسك بتراثه الذي يعدُّ ثروة ضخمة في الأدب والقيم والعادات والتقاليد والمعارف الشعبية والثقافية والفنون التشكيلية والطقوس الدينية، إضافة إلى الحكايات والأحاجي والألغاز والألعاب الشعبية والأكلات والملابس والفن المعماري والزجل والموسيقى والأمثال الشعبية التي تتردد على لسان الأجيال المتعاقبة، والتي تُعد ركنًا هامًا من أركان هذا التراث الشعبي الموغل في القدم، لبلاغة تعبيرها عن مختلف تجارب المجتمع الفلسطيني، وطرق حياته، وأخلاقياته، وعاداته، وهي تفيض حكمة وخصوصية، نشتمّ منها رائحة حارات فلسطين وبياراتها وبحرها وأرضها، وحكمة الأم والجد والأب والجدة، وقوة المرأة الفلسطينية، وبطولات الفلسطينيين وحنينهم الدائم لكل بقعة من أرض فلسطين المحتلة، وإصرارهم على العودة.
وقد ساهمت الأمثال الشعبية الفلسطينية إسهامًا كبيرًا في توثيق جزء مهم من الذاكرة الفلسطينية، وهناك عدد كبير جدًا منها لا يمكن جمعه إلا في موسوعة.
وعبّرت هذه الأمثال عن الصراع الذي خاضه ويخوضه شعب فلسطين ضد الاحتلال منذ أكثر من سبعين عامًا، وعن توقه الدائم للحرية واستعادة أرضه ووطنه. وكانت بمثابة الناقل للرسائل، والتاريخ، والصراعات، وجسّدت معاناة شعب كامل وكفاحه ضد المحتل، وروت قصصه وسردياته في سعيه لتحقيق النصر على العدو والعودة المشروعة إلى الوطن.
وقد جاءت بعض الأمثال الشعبية الفلسطينية لتعكس قيمة الأرض عند الفلسطينيين، وأهمية التشبث بها، وهنالك أمثلة كثيرة على ذلك، نذكر منها:
ــ "الأرض كالعرض": وهو مثل يدل على قيمة الأرض لدى الشعب الفلسطيني، وأنها ثابتة وعظيمة، وتنتظر عودة أصحابها مهما طال الزمن.
ــ "الأرض بالشبر؟ قالوا: لا الأرض بالظفر": وهو يؤكد على أن الأرض لا تقاس بالشبر، لأنها غالية على قلوب الفلسطينيين.
ــ "الزرع للزرّاع والأرض لأهلها": ويعني أن الأرض تظل لأصحابها، وهي ملكهم مهما كثر وتتابع عليها الزارعون.
ــ "اثنين يوجبوا الموت: الأرض والعرض" و"بيّاع أرضه ضاع عرضه" و"اللي مالوش جذر بيمّوت قهر" و"اللي ما عنده عطن، ما الو وطن" و"الأرض لا بتنحرق ولا بتنسرق": هذه الأمثال جميعها تركزّ على قيمة الأرض، وضرورة أن تكون للفلسطينيين جذور وأرض وزرع في فلسطين، وأنها ثابتة تنتظر العودة.
ويُعدُّ المثل الشعبي المقاوم جزءًا من المشهد الثقافي الفلسطيني، وقد شدّدت بعض الأمثال على ضرورة مواجهة الأعداء، وعلى حقيقة الاحتلال الذي يريد إبعاد أصحاب الأرض الحقيقيين عن وطنهم، واحتلاله، ونشر المستوطنات فيه:
ــ "اليهود عايزين بلاد بلا عباد": وهو مثل قيل منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
ــ "لو عكا بتخاف من الموج ما سكنت على الشط": وهو يعبّر عن صمود أهل عكا وشجاعتهم.
ــ "اربط إصبعك مليح لا بِدمي ولا بيقيح": وهو يعبر عن أن الانسان عندما يصرّ على هدفه لا بد وأن يصل إليه.
ــ "اللي ما بوخد حقه عنب بوخده زبيب": وهذا يعني أن الحق سينتصر مهما طال الزمن.
ــ "جولة الباطل ساعة، وجولة الحق إلى قيام الساعة"، و"النار ولا العار"، و"قهر الرجال ذل والموت أهون منه": وهذه تشير إلى انتصار الحق مهما مرّ من الزمن، وأن الفلسطيني لا يقبل القهر والذل.
وهنالك أمثال شعبية عن الإباء، وضرورة السعي للوصول إلى الهدف المنشود:
ــ "اركب العالي ولا تبالي"، و"الحرّ كرامته رأسماله"، و"إن عاشرت عاشر أمير، وإن لبست البس حرير"، و"عزّ نفسك تجدها"، و"كون رأس ولا تكون ذنب": كلها أمثال تحضّ على الدفاع عن الكرامة والعزة.
وكما هو معروف، فإن الشعب الفلسطيني عانى كثيرًا من الاعتقالات التعسفية والأسر والتعذيب، وهو ما يجري الآن في غزة وفلسطين. لقد دفع الشعب الفلسطيني أثمانًا باهظة من عمر أبنائه وأحفاده وآبائه وأمهاته وأجداده لمقاومة الاحتلال البغيض، والدفاع عن فلسطين، وهنالك أمثال شعبية كثيرة تحدثت عن ذلك منها:
ــ "عمر السجن ما سكّر أبوابه على حدا"، و"ما غايب إلا غايب اللحود"، و"اللي غايب بظل قلبه ذايب". وهي أمثال تؤكد أن الغائب سيعود ما دام حيًا، وتحض على الأمل والثقة بأن الأسرى والمعتقلين سيعودون إلى أهلهم ومنازلهم.
وكان الأجداد قد تناقلوا أمثالًا كثيرة عن الاغتراب، بعد أن تشتتت العوائل الفلسطينية في كل بقاع العالم، تحمل مفاتيح بيوتها العتيقة في انتظار العودة، نذكر منها:
ــ "بلادك ولو شحّت مريه": أي أن البلاد غالية مهما تعرضت للمصائب، وأن النفس تحب الوطن مهما واجهت من صعاب.
ــ "اتغربنا تا نشبع مرقه": أي غربتنا لم تنفعنا، و"الغربة تربة": وهذا المثل يجعل البعد عن الأهل والوطن موتًا، و"الغربة مرّة" و"الغريب أعمى ولو بصير" و"البلاد طلبت أهلها": وهذا يدل على صعوبات الغربة، وحنين المغترب للعودة.
والمُلاحظ أن المرأة الفلسطينية وصفاتها ومواقفها نالت قسطًا كبيرًا من الأمثال الشعبية، نذكر منها:
ــ "المرة عماره"، و"بنت الرجال ما بتهاب الرجال"، و"جوزت بنتي لأرتاح من بلاها، اجتني وأربعة وراها"، و"خود الأصيلة ولو على حصيرة". وهي أمثال تقول بأن المرأة تبني وتعمّر، وهي قوية وشجاعة، لكنها أحيانًا تتعرض لبعض المشكلات الاجتماعية التي تجعلها تلجأ مع أولادها إلى أهلها.
لم تترك الأمثال الشعبية الفلسطينية مجالًا من مجالات الحياة إلا وتناولته إيجابًا وسلبًا، إنها سجل عظيم، وقاموس كبير فيه فلسفة شعبية معبرة عن كل شيء بتلقائية ولغة مكثفة وبساطة وخفة دم أحيانًا:
ــ "ابعد عن الشر وغني له"، و"اتبدلت غزلانها بقرودها"، و"اتلم المتعوس على خايب الرجا"، و"اجا يكحلها عماها"، و"اطعم الثم تستحي العين"، و"أكل الرجال على قد أفعالها": وهي تنتقد بسخرية وفكاهة بعض السلوكيات والظواهر في الحياة.
وهنالك أمثال شعبية أيضًا عن الحظ:
ــ "درهم بخت ولا خزاين مال"، و"السعيدة لقت حديدة".
وأمثال عن الحسد:
- "عندي عيش وعندك عيش، فراغة العين ليش"، و"طبخته على النار وعينه على طبخة الجار".
وأمثال عن الزيتون:
ــ "أيلول دباغ الزيتون"، و"الزيت عماد البيت"، و"القمح والزيت سبعين في البيت": وهي تشير إلى أهمية الزيت والزيتون عند الفلسطينيين الذين يحثون الناس على زراعته.
وهنالك أمثال قديمة اجتماعية وأسرية، مثل:
ــ "ابن أمي ذهب في كمّي"، و"أخوك من أمك متل الذهب اللي في كمّك"، و"البنت بلا خلق دالية بلا ورق". وهي تشجع على تعزيز العلاقات الأسرية، وتشير إلى أهمية الأخلاق.
والأمثال الشعبية هي تعبير عفوي عن مواقف وأحداث تمر بها حياة البشر، ومهما اندثرت الأجيال فإن حكمهم وأمثالهم تبقى وتتوارث فنأخذ منها العبر ونستخدمها للتعبير المختصر عن مواقف معينة، وهي في العموم تكون أحيانًا مستمدة من حادثة معينة، كالمثل القائل: "برضه راكب"، وهو عن حادثة اعتقال الشيخ حامد، قائد فصيل ثورة 1936 في الناصرة، وكان ضريرًا ومختبئًا في قرية معلول، حيث طوق الجيش البريطاني القرية، وحين وجدوه في عليّة أحد البيوت تمّ اعتقاله، ولما رفض أن يمشي اضطر أحد الجنود أن يحمله على ظهره، وعندها علّق الشيخ قائلًا: "برضه راكب"، فذهب قوله مثلًا يستعمل للتأكيد على عدم الاستسلام في الأوقات الصعبة.
ومنها ما استمد من حكاية أو نكتة شعبية؛ مثال ذلك حكاية جحا عندما باع بيته من دون المسمار الموجود في الحائط، والذي استغلّه للبقاء في المنزل حتى رحيل المشتري، فأصبحت الحكاية مثلًا يقول: "مثل مسمار جحا".
ومنها أيضًا ما استمد من التراث الأدبي الشعبي: من سيرة عنترة، أو تغريبة بني هلال، وغيرها، حيث يُقال: "عنتر أسود وصيته أبيض"، و"كثر الهم بُقتل، أما فضاوة البال بتقوي العزايم".
ومنها ما اُقتبس عن الفصحى بنصه، أو بشيء من التغيير، مثل: "الساكت عن الحق شيطان أخرس"، و"دوام الحال من المحال".
وهنالك الأمثال المستمدة من الأغاني الشعبية، مثل: "عيشة بالذل ما نرضى بها"، و"كلمة يا ريت ما بتعمر بيت"، أو المستمدة من الطبيعة والجغرافية المناخية والزراعية: "إن غيمت باكر إحمل عصاتك وسافر، وإن غيمت عشيّة شوف لك مغارة دفيّة".
وهنالك الأمثال المستمدة من أعماق النفس البشرية، أو التجربة الانسانية: "ما شجرة إلا هزتها رياح، ولا سكرة إلا وإلها مفتاح"، و"القرد بعين أمه غزال".
وهنالك أمثال أيضًا مستمدة من معتقدات قديمة: "كُل بالدين ولا تشتغل يوم الاثنين". ومن تعابير أحبها الناس وأُعجبوا بسخريتها: "خزقنا الدف وبطلنا الغنا" و"أعور ويغامز القمر".
والمستمدة من التعامل مع شعوب وثقافات أخرى: "الحق مثل الفلين ما يفرق"، و"لا تكون راس لأنه الراس كثير الأوجاع".
وللأمثال الشعبية مضامين قيمية تعبر عن مواقف من الحياة والمجتمع، مثل التي تتحدث عن الموقف من الحاكم، أو المرأة، أو الصراحة، أو الرياء، مثل: "نوم الظالمين عبادة"، و"اقعد أعوج واحكي صحيح"، و"بعد الأم احفروطمّ". ولها مضامين إنسانية عامة: "شو صبّرك على المّر غير الأمرّ منه"، ومنها ما يحمل في جوهره تعابير عامة وتشبيهات: "بيسرق الكحل من العين"، و"واحد حامل ذقنه والثاني تعبان فيها".
وهنالك أمثال فلسطينية تحمل خلاصة التجربة السياسية التي عاشها الشعب الفلسطيني بآلامها ومرارتها: "ما بيجي من الغرب إشي بيسرّ القلب".
ولهذه الأمثال الشعبية وظيفتها الإجتماعية والسياسية والثقافية، وهي جملة مفيدة موجزة متوارثة وشفافة، محكمة البناء، بليغة العبارة، وشائعة الاستخدام عند مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية، متنوعة وواضحة وقصيرة، ومعظمها باللغة العامية، تجمع بين الحكمة والسخرية، وهذا أسلوب أدبي جميل يحمل الفكرة والفائدة والحكمة، وفي الوقت نفسه يحمل الشدّة والقسوة والتهكم وتضخيم الأمور. والأمثلة على ذلك لا تُعدّ ولا تحصى، ومنها: "إجت الحزينة تفرح ما لاقاتش إلها مطرح"، و"اسأل عن الجار قبل الدار"، "و"خالف تُعرف"، و"فرخ البط عوّام"، و"ما بعد الضيق إلا الفرج"، و"اللي بيطلع من داره بينقل مقداره".
وقد تحدث الباحثون في التراث عن قصص الأمثال الشعبية كما وردت في الحقيقة، فالمثل الشعبي هو نتاج حياة وتجارب عاشها الناس عبر العصور، والأمثلة على ذلك كثيرة وطريفة، منها المثل القائل: "إجاك يا بلوط مين يعرفك"، وهو عن رجل أراد استغفال الناس في سوق شعبية وخداعهم لكي يبيع البلوط على أنه كستناء، ويبدو أن الحيلة انطلت على بعضهم إلى أن جاء رجل وسأله: بكم تبيع البلوط يا رجل، فخاف وتمتم في سره المثل المذكور. و"دخول الحمام مش زي خروجه"، وهو عن رجل افتتح حمامًا تركيًا وأبلغ الناس أن الدخول مجاني، ثم حجز ملابسهم ورفض تسليمها لهم إلا بمقابل مالي، ولما واجهوه بوعده لهم قال هذا المثل.
والمثل القائل: "عادت حليمة إلى عادتها القديمة"، وهو عن زوجة حاتم الطائي المعروف بكرمه، والمعروفة ببخلها الشديد، حيث كانت تبخل بالسمن أثناء طهيها للطعام، فتقلل منه كثيرًا، فقال لها زوجها: إن الأقدمين قالوا: كلما وضعت المرأة ملعقة سمن في الطعام زاد الله من عمرها، فراحت تضع كميات كبيرة من السمن في الأكل، إلى أن توفي ابنها الوحيد فراحت تتمنى الموت، ولذلك عادت إلى عادتها القديمة بتقليل السمن في الطعام، فقال الناس عنها هذا المثل.
الأمثال الشعبية من مفردات التراث بالنسبة لشعوب العالم كافة، ولا يوجد شعب عربي لا يمتلك عددًا كبيرًا منها يتم تداوله كل يوم لنقل الرسائل والتاريخ والصراعات، وتجسيد معاناة كل شعب، وتفاصيل حياته، وخلاصة تجاربه وأفكاره. ورغم أن الأمثال الشعبية الفلسطينية لها قوامها الخاص، وطعمها المميز، ولكن منابعها هي ذاتها منابع أمثال الشعوب العربية الأخرى، ولذلك تتردد الأمثال نفسها في المجتمعات العربية، ولكن باللهجات المحلية، وبعضها بالفصحى: "لا يفل الحديد إلا الحديد"، و"أصابع إيدك مو متل بعضها"، وفي فلسطين يُقال: "أصابع إيدك مش زي بعضها". ويؤكد الباحثون أن الأمثال الشعبية هي نتاج لتداخلات التاريخ والثقافة والجغرافية والأدب والاقتصاد والدين والعادات والتقاليد، وهي فن عبقري لفلسفة الحياة الناقدة والعميقة.
والأمثال الشعبية الفلسطينية يرددها الفلسطينيون أينما حلوا، حتى وهم يواجهون أعتى الأسلحة وأكثر الأعداء إجرامًا وقتلًا وتدميرًا للحضارات. ولكنهم لا ينسون أبدًا المثل القائل: "عيشة بالذل ما نرضى بها"، و"البيت بيت أبونا، أجو الغرب يطردونا"، و"الباطل ما لوش رجلين"، وهذه رسائل بسيطة وشعبية تعلن بأن الفلسطينيين يرفضون الذل والهوان، ويضحون بدمائهم وحياتهم وحياة أبنائهم وأحبائهم، لأن الحق لا يضيع طالما بقي من يطالب به: "ما بضيع حق ووراه مطالب"، و"يا جبل ما يهزك ريح"...
سمر شمة 19 يناير 2024
اجتماع
تعبر الأمثال عن الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
يعدّ التراث الفلسطيني بمثابة الهوية الشاهدة على حضارة الفلسطينيين، ومن المرتكزات الأساسية لها، فيه تتجلى خصوصيتهم كشعب عريق في التراث المادي واللامادي الضارب جذوره في عمق التاريخ. وقد واجه الشعب الفلسطيني محاولات الصهاينة المستمرة لطمس تراثه وإلغائه بأشدّ الطرق والوسائل وحشية وفتكًا، بعد أن شكل هذا التراث رأس الحربة في الدفاع عن وجود هذا الشعب. ويتجلى ذلك بوضوح في الحرب الهمجية الحالية والسابقة على غزة، حيث قام الاحتلال بتدمير البيوت والمدارس والمواقع الأثرية والجامعات والمراكز الفلسطينية التراثية، وهجّرت وقتلت الحرب عددًا كبيرًا من العاملين في مختلف جوانب التراث الشعبي الفلسطيني، في محاولة لنسف الذاكرة الفلسطينية وتدميرها.
ولكنّ الشعب الفلسطيني يحاول دائمًا أينما حلّ التمسك بتراثه الذي يعدُّ ثروة ضخمة في الأدب والقيم والعادات والتقاليد والمعارف الشعبية والثقافية والفنون التشكيلية والطقوس الدينية، إضافة إلى الحكايات والأحاجي والألغاز والألعاب الشعبية والأكلات والملابس والفن المعماري والزجل والموسيقى والأمثال الشعبية التي تتردد على لسان الأجيال المتعاقبة، والتي تُعد ركنًا هامًا من أركان هذا التراث الشعبي الموغل في القدم، لبلاغة تعبيرها عن مختلف تجارب المجتمع الفلسطيني، وطرق حياته، وأخلاقياته، وعاداته، وهي تفيض حكمة وخصوصية، نشتمّ منها رائحة حارات فلسطين وبياراتها وبحرها وأرضها، وحكمة الأم والجد والأب والجدة، وقوة المرأة الفلسطينية، وبطولات الفلسطينيين وحنينهم الدائم لكل بقعة من أرض فلسطين المحتلة، وإصرارهم على العودة.
وقد ساهمت الأمثال الشعبية الفلسطينية إسهامًا كبيرًا في توثيق جزء مهم من الذاكرة الفلسطينية، وهناك عدد كبير جدًا منها لا يمكن جمعه إلا في موسوعة.
"الأمثال الشعبية من مفردات التراث بالنسبة لشعوب العالم كافة، ولا يوجد شعب عربي لا يمتلك عددًا كبيرًا منها يتم تداوله كل يوم لنقل الرسائل والتاريخ والصراعات" |
وعبّرت هذه الأمثال عن الصراع الذي خاضه ويخوضه شعب فلسطين ضد الاحتلال منذ أكثر من سبعين عامًا، وعن توقه الدائم للحرية واستعادة أرضه ووطنه. وكانت بمثابة الناقل للرسائل، والتاريخ، والصراعات، وجسّدت معاناة شعب كامل وكفاحه ضد المحتل، وروت قصصه وسردياته في سعيه لتحقيق النصر على العدو والعودة المشروعة إلى الوطن.
وقد جاءت بعض الأمثال الشعبية الفلسطينية لتعكس قيمة الأرض عند الفلسطينيين، وأهمية التشبث بها، وهنالك أمثلة كثيرة على ذلك، نذكر منها:
ــ "الأرض كالعرض": وهو مثل يدل على قيمة الأرض لدى الشعب الفلسطيني، وأنها ثابتة وعظيمة، وتنتظر عودة أصحابها مهما طال الزمن.
ــ "الأرض بالشبر؟ قالوا: لا الأرض بالظفر": وهو يؤكد على أن الأرض لا تقاس بالشبر، لأنها غالية على قلوب الفلسطينيين.
ــ "الزرع للزرّاع والأرض لأهلها": ويعني أن الأرض تظل لأصحابها، وهي ملكهم مهما كثر وتتابع عليها الزارعون.
ــ "اثنين يوجبوا الموت: الأرض والعرض" و"بيّاع أرضه ضاع عرضه" و"اللي مالوش جذر بيمّوت قهر" و"اللي ما عنده عطن، ما الو وطن" و"الأرض لا بتنحرق ولا بتنسرق": هذه الأمثال جميعها تركزّ على قيمة الأرض، وضرورة أن تكون للفلسطينيين جذور وأرض وزرع في فلسطين، وأنها ثابتة تنتظر العودة.
ويُعدُّ المثل الشعبي المقاوم جزءًا من المشهد الثقافي الفلسطيني، وقد شدّدت بعض الأمثال على ضرورة مواجهة الأعداء، وعلى حقيقة الاحتلال الذي يريد إبعاد أصحاب الأرض الحقيقيين عن وطنهم، واحتلاله، ونشر المستوطنات فيه:
ــ "اليهود عايزين بلاد بلا عباد": وهو مثل قيل منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
ــ "لو عكا بتخاف من الموج ما سكنت على الشط": وهو يعبّر عن صمود أهل عكا وشجاعتهم.
ــ "اربط إصبعك مليح لا بِدمي ولا بيقيح": وهو يعبر عن أن الانسان عندما يصرّ على هدفه لا بد وأن يصل إليه.
ــ "اللي ما بوخد حقه عنب بوخده زبيب": وهذا يعني أن الحق سينتصر مهما طال الزمن.
ــ "جولة الباطل ساعة، وجولة الحق إلى قيام الساعة"، و"النار ولا العار"، و"قهر الرجال ذل والموت أهون منه": وهذه تشير إلى انتصار الحق مهما مرّ من الزمن، وأن الفلسطيني لا يقبل القهر والذل.
وهنالك أمثال شعبية عن الإباء، وضرورة السعي للوصول إلى الهدف المنشود:
ــ "اركب العالي ولا تبالي"، و"الحرّ كرامته رأسماله"، و"إن عاشرت عاشر أمير، وإن لبست البس حرير"، و"عزّ نفسك تجدها"، و"كون رأس ولا تكون ذنب": كلها أمثال تحضّ على الدفاع عن الكرامة والعزة.
وكما هو معروف، فإن الشعب الفلسطيني عانى كثيرًا من الاعتقالات التعسفية والأسر والتعذيب، وهو ما يجري الآن في غزة وفلسطين. لقد دفع الشعب الفلسطيني أثمانًا باهظة من عمر أبنائه وأحفاده وآبائه وأمهاته وأجداده لمقاومة الاحتلال البغيض، والدفاع عن فلسطين، وهنالك أمثال شعبية كثيرة تحدثت عن ذلك منها:
ــ "عمر السجن ما سكّر أبوابه على حدا"، و"ما غايب إلا غايب اللحود"، و"اللي غايب بظل قلبه ذايب". وهي أمثال تؤكد أن الغائب سيعود ما دام حيًا، وتحض على الأمل والثقة بأن الأسرى والمعتقلين سيعودون إلى أهلهم ومنازلهم.
وكان الأجداد قد تناقلوا أمثالًا كثيرة عن الاغتراب، بعد أن تشتتت العوائل الفلسطينية في كل بقاع العالم، تحمل مفاتيح بيوتها العتيقة في انتظار العودة، نذكر منها:
ــ "بلادك ولو شحّت مريه": أي أن البلاد غالية مهما تعرضت للمصائب، وأن النفس تحب الوطن مهما واجهت من صعاب.
ــ "اتغربنا تا نشبع مرقه": أي غربتنا لم تنفعنا، و"الغربة تربة": وهذا المثل يجعل البعد عن الأهل والوطن موتًا، و"الغربة مرّة" و"الغريب أعمى ولو بصير" و"البلاد طلبت أهلها": وهذا يدل على صعوبات الغربة، وحنين المغترب للعودة.
والمُلاحظ أن المرأة الفلسطينية وصفاتها ومواقفها نالت قسطًا كبيرًا من الأمثال الشعبية، نذكر منها:
ــ "المرة عماره"، و"بنت الرجال ما بتهاب الرجال"، و"جوزت بنتي لأرتاح من بلاها، اجتني وأربعة وراها"، و"خود الأصيلة ولو على حصيرة". وهي أمثال تقول بأن المرأة تبني وتعمّر، وهي قوية وشجاعة، لكنها أحيانًا تتعرض لبعض المشكلات الاجتماعية التي تجعلها تلجأ مع أولادها إلى أهلها.
لم تترك الأمثال الشعبية الفلسطينية مجالًا من مجالات الحياة إلا وتناولته إيجابًا وسلبًا، إنها سجل عظيم، وقاموس كبير فيه فلسفة شعبية معبرة عن كل شيء بتلقائية ولغة مكثفة وبساطة وخفة دم أحيانًا:
ــ "ابعد عن الشر وغني له"، و"اتبدلت غزلانها بقرودها"، و"اتلم المتعوس على خايب الرجا"، و"اجا يكحلها عماها"، و"اطعم الثم تستحي العين"، و"أكل الرجال على قد أفعالها": وهي تنتقد بسخرية وفكاهة بعض السلوكيات والظواهر في الحياة.
وهنالك أمثال شعبية أيضًا عن الحظ:
ــ "درهم بخت ولا خزاين مال"، و"السعيدة لقت حديدة".
وأمثال عن الحسد:
- "عندي عيش وعندك عيش، فراغة العين ليش"، و"طبخته على النار وعينه على طبخة الجار".
وأمثال عن الزيتون:
ــ "أيلول دباغ الزيتون"، و"الزيت عماد البيت"، و"القمح والزيت سبعين في البيت": وهي تشير إلى أهمية الزيت والزيتون عند الفلسطينيين الذين يحثون الناس على زراعته.
وهنالك أمثال قديمة اجتماعية وأسرية، مثل:
ــ "ابن أمي ذهب في كمّي"، و"أخوك من أمك متل الذهب اللي في كمّك"، و"البنت بلا خلق دالية بلا ورق". وهي تشجع على تعزيز العلاقات الأسرية، وتشير إلى أهمية الأخلاق.
والأمثال الشعبية هي تعبير عفوي عن مواقف وأحداث تمر بها حياة البشر، ومهما اندثرت الأجيال فإن حكمهم وأمثالهم تبقى وتتوارث فنأخذ منها العبر ونستخدمها للتعبير المختصر عن مواقف معينة، وهي في العموم تكون أحيانًا مستمدة من حادثة معينة، كالمثل القائل: "برضه راكب"، وهو عن حادثة اعتقال الشيخ حامد، قائد فصيل ثورة 1936 في الناصرة، وكان ضريرًا ومختبئًا في قرية معلول، حيث طوق الجيش البريطاني القرية، وحين وجدوه في عليّة أحد البيوت تمّ اعتقاله، ولما رفض أن يمشي اضطر أحد الجنود أن يحمله على ظهره، وعندها علّق الشيخ قائلًا: "برضه راكب"، فذهب قوله مثلًا يستعمل للتأكيد على عدم الاستسلام في الأوقات الصعبة.
"الأمثال الشعبية الفلسطينية يرددها الفلسطينيون أينما حلوا، حتى وهم يواجهون أعتى الأسلحة وأكثر الأعداء إجرامًا وقتلًا وتدميرًا للحضارات" |
ومنها ما استمد من حكاية أو نكتة شعبية؛ مثال ذلك حكاية جحا عندما باع بيته من دون المسمار الموجود في الحائط، والذي استغلّه للبقاء في المنزل حتى رحيل المشتري، فأصبحت الحكاية مثلًا يقول: "مثل مسمار جحا".
ومنها أيضًا ما استمد من التراث الأدبي الشعبي: من سيرة عنترة، أو تغريبة بني هلال، وغيرها، حيث يُقال: "عنتر أسود وصيته أبيض"، و"كثر الهم بُقتل، أما فضاوة البال بتقوي العزايم".
ومنها ما اُقتبس عن الفصحى بنصه، أو بشيء من التغيير، مثل: "الساكت عن الحق شيطان أخرس"، و"دوام الحال من المحال".
وهنالك الأمثال المستمدة من الأغاني الشعبية، مثل: "عيشة بالذل ما نرضى بها"، و"كلمة يا ريت ما بتعمر بيت"، أو المستمدة من الطبيعة والجغرافية المناخية والزراعية: "إن غيمت باكر إحمل عصاتك وسافر، وإن غيمت عشيّة شوف لك مغارة دفيّة".
وهنالك الأمثال المستمدة من أعماق النفس البشرية، أو التجربة الانسانية: "ما شجرة إلا هزتها رياح، ولا سكرة إلا وإلها مفتاح"، و"القرد بعين أمه غزال".
وهنالك أمثال أيضًا مستمدة من معتقدات قديمة: "كُل بالدين ولا تشتغل يوم الاثنين". ومن تعابير أحبها الناس وأُعجبوا بسخريتها: "خزقنا الدف وبطلنا الغنا" و"أعور ويغامز القمر".
والمستمدة من التعامل مع شعوب وثقافات أخرى: "الحق مثل الفلين ما يفرق"، و"لا تكون راس لأنه الراس كثير الأوجاع".
وللأمثال الشعبية مضامين قيمية تعبر عن مواقف من الحياة والمجتمع، مثل التي تتحدث عن الموقف من الحاكم، أو المرأة، أو الصراحة، أو الرياء، مثل: "نوم الظالمين عبادة"، و"اقعد أعوج واحكي صحيح"، و"بعد الأم احفروطمّ". ولها مضامين إنسانية عامة: "شو صبّرك على المّر غير الأمرّ منه"، ومنها ما يحمل في جوهره تعابير عامة وتشبيهات: "بيسرق الكحل من العين"، و"واحد حامل ذقنه والثاني تعبان فيها".
وهنالك أمثال فلسطينية تحمل خلاصة التجربة السياسية التي عاشها الشعب الفلسطيني بآلامها ومرارتها: "ما بيجي من الغرب إشي بيسرّ القلب".
ولهذه الأمثال الشعبية وظيفتها الإجتماعية والسياسية والثقافية، وهي جملة مفيدة موجزة متوارثة وشفافة، محكمة البناء، بليغة العبارة، وشائعة الاستخدام عند مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية، متنوعة وواضحة وقصيرة، ومعظمها باللغة العامية، تجمع بين الحكمة والسخرية، وهذا أسلوب أدبي جميل يحمل الفكرة والفائدة والحكمة، وفي الوقت نفسه يحمل الشدّة والقسوة والتهكم وتضخيم الأمور. والأمثلة على ذلك لا تُعدّ ولا تحصى، ومنها: "إجت الحزينة تفرح ما لاقاتش إلها مطرح"، و"اسأل عن الجار قبل الدار"، "و"خالف تُعرف"، و"فرخ البط عوّام"، و"ما بعد الضيق إلا الفرج"، و"اللي بيطلع من داره بينقل مقداره".
وقد تحدث الباحثون في التراث عن قصص الأمثال الشعبية كما وردت في الحقيقة، فالمثل الشعبي هو نتاج حياة وتجارب عاشها الناس عبر العصور، والأمثلة على ذلك كثيرة وطريفة، منها المثل القائل: "إجاك يا بلوط مين يعرفك"، وهو عن رجل أراد استغفال الناس في سوق شعبية وخداعهم لكي يبيع البلوط على أنه كستناء، ويبدو أن الحيلة انطلت على بعضهم إلى أن جاء رجل وسأله: بكم تبيع البلوط يا رجل، فخاف وتمتم في سره المثل المذكور. و"دخول الحمام مش زي خروجه"، وهو عن رجل افتتح حمامًا تركيًا وأبلغ الناس أن الدخول مجاني، ثم حجز ملابسهم ورفض تسليمها لهم إلا بمقابل مالي، ولما واجهوه بوعده لهم قال هذا المثل.
والمثل القائل: "عادت حليمة إلى عادتها القديمة"، وهو عن زوجة حاتم الطائي المعروف بكرمه، والمعروفة ببخلها الشديد، حيث كانت تبخل بالسمن أثناء طهيها للطعام، فتقلل منه كثيرًا، فقال لها زوجها: إن الأقدمين قالوا: كلما وضعت المرأة ملعقة سمن في الطعام زاد الله من عمرها، فراحت تضع كميات كبيرة من السمن في الأكل، إلى أن توفي ابنها الوحيد فراحت تتمنى الموت، ولذلك عادت إلى عادتها القديمة بتقليل السمن في الطعام، فقال الناس عنها هذا المثل.
الأمثال الشعبية من مفردات التراث بالنسبة لشعوب العالم كافة، ولا يوجد شعب عربي لا يمتلك عددًا كبيرًا منها يتم تداوله كل يوم لنقل الرسائل والتاريخ والصراعات، وتجسيد معاناة كل شعب، وتفاصيل حياته، وخلاصة تجاربه وأفكاره. ورغم أن الأمثال الشعبية الفلسطينية لها قوامها الخاص، وطعمها المميز، ولكن منابعها هي ذاتها منابع أمثال الشعوب العربية الأخرى، ولذلك تتردد الأمثال نفسها في المجتمعات العربية، ولكن باللهجات المحلية، وبعضها بالفصحى: "لا يفل الحديد إلا الحديد"، و"أصابع إيدك مو متل بعضها"، وفي فلسطين يُقال: "أصابع إيدك مش زي بعضها". ويؤكد الباحثون أن الأمثال الشعبية هي نتاج لتداخلات التاريخ والثقافة والجغرافية والأدب والاقتصاد والدين والعادات والتقاليد، وهي فن عبقري لفلسفة الحياة الناقدة والعميقة.
والأمثال الشعبية الفلسطينية يرددها الفلسطينيون أينما حلوا، حتى وهم يواجهون أعتى الأسلحة وأكثر الأعداء إجرامًا وقتلًا وتدميرًا للحضارات. ولكنهم لا ينسون أبدًا المثل القائل: "عيشة بالذل ما نرضى بها"، و"البيت بيت أبونا، أجو الغرب يطردونا"، و"الباطل ما لوش رجلين"، وهذه رسائل بسيطة وشعبية تعلن بأن الفلسطينيين يرفضون الذل والهوان، ويضحون بدمائهم وحياتهم وحياة أبنائهم وأحبائهم، لأن الحق لا يضيع طالما بقي من يطالب به: "ما بضيع حق ووراه مطالب"، و"يا جبل ما يهزك ريح"...