حيدر حيدر: رحيل النورس المهاجر
فيصل درّاج
آراء
شارك هذا المقال
حجم الخط
المثقفون الحالمون، بالمعنى النبيل، تلتفّ عليهم أحلامهم، لا تتحقّق ولا يتخلّون عنها، فيؤثرون العزلة والابتعاد عن الناس. كان الصديق حيدر حيدر من هؤلاء، لا هو مع أحلامه، ولا أحلامه عنه ببعيدة. عاش مفارقاته ومضى، إذ القريبُ بعيدٌ، وإذ البعيد يؤنس الروح ويناجيها، ويظل غامضًا.
سمعت باسمه للمرة الأولى في دمشق منتصف الستينيات الماضية ـ كان طلاّب المرحلة الثانوية يقرؤون في تلك الأيام ـ إثْرَ نشره مقالة لها ضجيج في مجلة "الجندي"، حمل فيها على رذائل المدينة، وطالب بثورة يقودها الفلاحون والمعدمون. ترك الجيش بعدها ورحل إلى الجزائر، بلد "المليون شهيد"، أو "المليون والنصف"، كما قال البعض، وعمل مدرسًا في بلد حرّره مقاتلون هذبتهم تجربتهم الكفاحية في الجبال. وسمعت باسمه ثانية حين أصدر روايته "الزمن الموحش، 1972". زمن مديني أفسدته النعمة، عامله حيدر بقسوة طاغية، كما لو كان الزمن الثوري معاديًا لمدينة تنام على بلادة وتستيقظ على أخرى. وكما غادر دمشق في المرة الأولى باحثًا عن نقاء مفقود عاد وغادر الجزائر قاصدًا "بيروت الكفاح المسلح الفلسطيني". اختار هامشًا لا يؤذي تصوراته، عمل "مصحّحًا" في دار نشر "ابن رشد" حيث الكتب والمخطوطات والأخطاء الإملائية وإمكانية الكتابة عن "أحلام موؤودة"، إلى أن غادر مع "المغادرين" عام 1982، وعثر على عمل "صحافي" بين قبرص ويوغوسلافيا، ورجع بعد غربة إلى وطنه السوري.
هجا في روايته "الزمن الموحش" مدينة "بضّة القوام" مترهلة، جميلة النساء، وصيّر الهجاء إلى نقد لاذع في روايته الشهيرة: "وليمة لأعشاب البحر"، التي لم يشهرها نقده اللاذع الفاجع لإخفاق "التحرر العربي"، بل "كلمتان عابرتان" مسّتا، بلا قصد، الإيمان الديني. مر في روايته التي أُسيء فهمها، على واقع جزائري لم يقنعه، وكان حيدر صادفًا متطلبًّا صعب الإقناع، وعلى تجربة ثورية مخفقة في جنوب العراق، قرأ عناصرها وتعرّف على مشاركين فيها، وجمع السلب العربي المتوالد في فصل روائي طويل موضوعه الاستبداد والقهر واغتصاب البشر، محاكيًا الفيلسوف الإنكليزي "هوبز" وحديثه السياسي ـ الفلسفي عن "اللفياثان"، أو "الوحش الأكبر" إذ لا وحشية في الدنيا تساوي قهر المتسلّطين للناس البسطاء، وإذ في اغتيال الأرواح البريئة توطيد لسلطات متوحشة تضع داخلها كل شيء ولا تترك خارجها شيئًا.
على الرغم من استبداد المسافة وسطوة الزمن ما زلت أذكر شرفة "شقة صغيرة" تطل على بحر بيروت، يرتفع فيها صوت "حيدر"، بعد منتصف الليل، مستوعبًا وقائع عشق مضى، ومتخيّلًا جمالًا لا يطفئ إشعاعه الزمن، ومتوقفًا أمام دفء الأبوّة والبنوّة الذي ترجمه بجدارة لاحقًا ابنه المديد: مجد.... كان في النهاية يزفرُ ضحكة متفجرة ويقول: "ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردًا"، وقد يستبدل كلمة السيف بأخرى ساخرة: القرد، ويشير إلى وجهه.... ثم يلقي بالسخرية جانبًا ويستدعي جدًا مرحًا ويقول: القرود وغيرهم إلى جهنم، ما زلت مثل الحصان، ويرتفع صهيلي بعد منتصف الليل، ويعقّب: كلمة صهيل يا صديقي من مفرداتي الأثيرة حال: البرق والومض والرعد، وكل ما تحتضنه "الطبيعة الأولى" التي لا تروّض وتكره الترويض... كان في حيدر شيء من البراري والأشجار المزهرة وبراءة تستعصي على الفساد.
كانت أحاديثنا تحتقب، لزومًا، كلامًا عن الرواية والروائيين، وعمّا يستبقيه الزمن من الكتابة الأدبية وعما يزول، أو يجب زواله. كان حيدر لا يميل إلى "الواقعية والواقعيين"، يؤكد أن الواقع قيد، وأن الواقعيين وجوه للسلطة، حتى لو كانوا غير ذلك، وأن على الأديب أن يقصد واقعًا قابلًا للاندثار. يهجو "الواقعية الاشتراكية"، ويذكر روائيين ظفروا بشهرة لا يستحقونها. لم يكن يميل إلى "محفوظ"، و"يحازب" إدوار الخرّاط، الذي جاء بشعار "الحساسية الجديدة"، حيث الكتابة لغة، وعمل في اللغة، وتوليد لغوي يحسنه أدباء يتفرّدون. وواقع الأمر أن تلك "اللغة المستولدة" كانت تعبّر عن ذاتية القائلين بها، لا فرق إن واءمت مواضيعهم، أو لم توائمها. وكثيرًا ما كنّا نختلف في موضوع النثر، الذي يقرر لغة يقترحها موضوعه الأدبي لا الروائي الذي تضعه "ذاتيّته" فوق الأدب، كما لو كانت الكتابة الروائية تنافسًا مدرسيًا في موضوع: الإنشاء. كنا نتشارك في رفض "الواقعية الاشتراكية". يضحك عندها حيدر ويقول: "غريب كيف تكون اشتراكيًا تقليديًا وترفض الواقعية التقليدية؟"، وكنت أرد عليه: لا أميل إلى التقليد في الحياة ولا في الأدب، وأُكمِلُ "ضاحكًا": كيف تستبد يا حيدر باللغة، "تخلقها كما تشاء"، وأنت الكاره لكل أنواع الاستبداد؟ ربما كان شغفه بإكبار اللغة راجعًا إلى "فكر عروبي" ردّد كثيرًا: إن لغة تشتق النهر من النهار لغة لا تموت،.... جملة نطق بها، ربما، زكي الأرسوزي، وردّدها غيره.
كان الصديق السوري، الذي ولد في حصيْن البحر، على ما أذكر، يوزّع كلامًا عن الذكريات والرغبات، ويشير بنبرة حارة إلى دفتر أمامه: هذه الرواية ستعيش طويلًا، تحتاج إلى نقّاد يرقون إلى مقامها، أريد أن تكون نظيرة لرواية ماركيز: "مئة عام من العزلة"، وإلاّ سأحرقها. الرواية هي: "وليمة لأعشاب البحر"، التي تذكرّها في ليلة من ليالي حصار بيروت الإسرائيلي عام 1982 اشتد فيها القصف واشتعلت السماء. انتفض كيانه وارتجفّ غاضبًا ـ كنا في بيت الناشر الراحل سليمان صبح ـ وقال: نسيت الرواية في البيت، وبيتي مرتفع، إذا سقطت عليه قذيفة أُحرقت الرواية، ومضى مسرّعًا وانتظرناه حتى عاد بروايته سليمة بوجه عَلَته صفرة طافية منتصرة...
اقتلعته روايته الأثيرة من مكان آمن، وأرسلت به إلى طريق عمياء حظوظ الهلاك فيها تفوق حظ النجاة.... هل كان يعتقد ذلك الرومانسي البريء أن الخلود لا يخذل أفئدة المتطلعين إليه؟ وأن لغة القلب تقي من الموت، وتعطي لكاتبها الملكوت الذي يريد، تبني له بيتًا مسقوفًا بالعصافير وأحلام الطفولة؟
أذكر زيارتي الأخيرة له بعد رجوعه إلى الوطن، أذكر مكانًا منعزلًا على البحر لاذت به غرفتان: غرفة صغيرة للنوم ومخلّفات الكتب، وأخرى لحاجات النهار، وأذكر حديقة زرع فيها النعنع والبامياء، وأنه فرش في مائدة خضراء حديقته، وأنه بعد منتصف الليل كان يقف فوق حجر مرتفع يناجي السماء، ويهتف باسم الحرية، يحرّض الليل والنجوم اللامعة وأصدقاء ضمّهم التراب، ويعود إلى مكانه مرهقًا. يستجمع بقايا "ضحك" ويقول: ما زلت حصانًا، اجتاحني أكثر من فيضان وبقيت أرضي سليمة...!! استذكرته آنذاك يركض تحت وابل القذائف في ليل مطفأ العيون حريصًا على "مخطوطته"، رأيته متكوّمًا على ذاته يوجّه كلامًا مبحوحًا إلى صديق صامت، و"شتلات" من البامياء، والليل المستكين والذكريات الغافية، وسألت: لماذا تعاودنا الأحلام في ليل صامت على أطراف المدينة؟ وأقول في سرّي: لأنها لن تعود.
كانت عناوين أعماله الأدبية "تغويني" بالقراءة، أقرأ فيها شخصية حيدر قبل لغته: أذكر منها روايته القصيرة: "الفهد" (1977) سجل فيها ملامح فلاّح مقهور يحمل حقوقه على كتفيه ويقاتل وحيدًا. رواية صارت فيلمًا. ومجموعتيه القصصيتين: "الفيضان"، و"حكايات النورس المهاجر"، إذ في العنوان الأول ما يكتسح السدود والحدود، وفي الثاني طائر مشاكس أحمر العينين يُؤْثر الرحيل، قدر ما استطاع.
تحيل أقدار حيدر على أحلام الإنسان المتمرد وأوهامه. يبدأ غاضبًا تضيق به الأمكنة واللغة، تعالجه الأيام فينحسر الغضب، ويكتفي ببقعة منعزلة تتوسّد خضرة عارضة. وهو في الحالين مرآة جيل لم يحقق ما يريد، واستمر في الحياة والمقاومة. تحزّب قدر ما أتيح له التحزّب، وأراد تعليم جيل "نقي"، ووقف قريبًا من كفاح مسلح، ونظّم إرادته، وعاد إلى حيث كان. شهد صعود الأحزاب وغروبها وانتصار ثورة مسلحة وتحولاّتها، وراقب كفاحًا فلسطينيًا مسلحًا استفرقته أخطاء كثيرة. صادف مساره "فهودًا" مبتورة المسير وفيضانًا تائه الاتجاهات ونوارس متكسرة الأجنحة، ومع أنه كتب "رواية غاضبة" غاض الغضب في أراضي الرمل والغبار، أوجزها مبكرًا في قصة قصيرة عنوانها: "آكل القات"، إن كانت الذاكرة قادرة على الوقوف، سردت حكايات إنسان أطال الحلم والنوم، غزاه النمل وأجهز عليه من دون أن يستيقظ. تأتي أحلام الغافلين بالموت المبين وتساقط عظامهم على قارعة الطريق، أو "خضراء الدمن"، بلغة عربية عريضة المنكبين.
لم تكن أحلام حيدر حيدر قابلة للتحقق، لا بسبب نقص في الموهبة والنزاهة والشجاعة والتكامل المعنوي ـ الأخلاقي، ولكن بسبب عثار الطريق ومنظور مسكون برومانسية فادحة رأت الثورة في النقاء وأبصرت النقاء في زمن طبيعي ينكر دلالات المدينة، وينكر معها قيم الحداثة الاجتماعية، كما لو كانت الحداثة في الأدب، أو القول بها، بديلًا عن حداثة خارج الأدب، تختار اللغة قبل أن تقرأ الواقع.
رحل الصديق حيدر حيدر في الخامس من مايو/ أيار 2023، ورحل معه نموذج من المثقفين آمن بالتحرر الوطني ـ الاجتماعي بلا مساومة، ورحّل معه "فيضانه" والنوارس المهاجرة المتعددة الحكايات. استبقى وراءه درسًا في صلابة الروح والكرامة الذاتية، وأطياف ريفي جميل عالي الصهيل.
عاش ستة وثمانين عامًا من دون أن يحني رأسه، أو أن يتنازل عن كبرياءٍ لازمه طيلة حياته.
في رحيل حيدر حيدر يتناقص الضوء قليلًا، ويستفقده قراءٌ علمهم أن الكتابة فعل أخلاقي لا يُباع ولا يُشترى.
فيصل درّاج
آراء
شارك هذا المقال
حجم الخط
المثقفون الحالمون، بالمعنى النبيل، تلتفّ عليهم أحلامهم، لا تتحقّق ولا يتخلّون عنها، فيؤثرون العزلة والابتعاد عن الناس. كان الصديق حيدر حيدر من هؤلاء، لا هو مع أحلامه، ولا أحلامه عنه ببعيدة. عاش مفارقاته ومضى، إذ القريبُ بعيدٌ، وإذ البعيد يؤنس الروح ويناجيها، ويظل غامضًا.
سمعت باسمه للمرة الأولى في دمشق منتصف الستينيات الماضية ـ كان طلاّب المرحلة الثانوية يقرؤون في تلك الأيام ـ إثْرَ نشره مقالة لها ضجيج في مجلة "الجندي"، حمل فيها على رذائل المدينة، وطالب بثورة يقودها الفلاحون والمعدمون. ترك الجيش بعدها ورحل إلى الجزائر، بلد "المليون شهيد"، أو "المليون والنصف"، كما قال البعض، وعمل مدرسًا في بلد حرّره مقاتلون هذبتهم تجربتهم الكفاحية في الجبال. وسمعت باسمه ثانية حين أصدر روايته "الزمن الموحش، 1972". زمن مديني أفسدته النعمة، عامله حيدر بقسوة طاغية، كما لو كان الزمن الثوري معاديًا لمدينة تنام على بلادة وتستيقظ على أخرى. وكما غادر دمشق في المرة الأولى باحثًا عن نقاء مفقود عاد وغادر الجزائر قاصدًا "بيروت الكفاح المسلح الفلسطيني". اختار هامشًا لا يؤذي تصوراته، عمل "مصحّحًا" في دار نشر "ابن رشد" حيث الكتب والمخطوطات والأخطاء الإملائية وإمكانية الكتابة عن "أحلام موؤودة"، إلى أن غادر مع "المغادرين" عام 1982، وعثر على عمل "صحافي" بين قبرص ويوغوسلافيا، ورجع بعد غربة إلى وطنه السوري.
هجا في روايته "الزمن الموحش" مدينة "بضّة القوام" مترهلة، جميلة النساء، وصيّر الهجاء إلى نقد لاذع في روايته الشهيرة: "وليمة لأعشاب البحر"، التي لم يشهرها نقده اللاذع الفاجع لإخفاق "التحرر العربي"، بل "كلمتان عابرتان" مسّتا، بلا قصد، الإيمان الديني. مر في روايته التي أُسيء فهمها، على واقع جزائري لم يقنعه، وكان حيدر صادفًا متطلبًّا صعب الإقناع، وعلى تجربة ثورية مخفقة في جنوب العراق، قرأ عناصرها وتعرّف على مشاركين فيها، وجمع السلب العربي المتوالد في فصل روائي طويل موضوعه الاستبداد والقهر واغتصاب البشر، محاكيًا الفيلسوف الإنكليزي "هوبز" وحديثه السياسي ـ الفلسفي عن "اللفياثان"، أو "الوحش الأكبر" إذ لا وحشية في الدنيا تساوي قهر المتسلّطين للناس البسطاء، وإذ في اغتيال الأرواح البريئة توطيد لسلطات متوحشة تضع داخلها كل شيء ولا تترك خارجها شيئًا.
على الرغم من استبداد المسافة وسطوة الزمن ما زلت أذكر شرفة "شقة صغيرة" تطل على بحر بيروت، يرتفع فيها صوت "حيدر"، بعد منتصف الليل، مستوعبًا وقائع عشق مضى، ومتخيّلًا جمالًا لا يطفئ إشعاعه الزمن، ومتوقفًا أمام دفء الأبوّة والبنوّة الذي ترجمه بجدارة لاحقًا ابنه المديد: مجد.... كان في النهاية يزفرُ ضحكة متفجرة ويقول: "ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردًا"، وقد يستبدل كلمة السيف بأخرى ساخرة: القرد، ويشير إلى وجهه.... ثم يلقي بالسخرية جانبًا ويستدعي جدًا مرحًا ويقول: القرود وغيرهم إلى جهنم، ما زلت مثل الحصان، ويرتفع صهيلي بعد منتصف الليل، ويعقّب: كلمة صهيل يا صديقي من مفرداتي الأثيرة حال: البرق والومض والرعد، وكل ما تحتضنه "الطبيعة الأولى" التي لا تروّض وتكره الترويض... كان في حيدر شيء من البراري والأشجار المزهرة وبراءة تستعصي على الفساد.
"لم تكن أحلام حيدر حيدر قابلة للتحقق، لا بسبب نقص في الموهبة والنزاهة والشجاعة والتكامل المعنوي ـ الأخلاقي، ولكن بسبب عثار الطريق ومنظور مسكون برومانسية فادحة رأت الثورة في النقاء" |
كانت أحاديثنا تحتقب، لزومًا، كلامًا عن الرواية والروائيين، وعمّا يستبقيه الزمن من الكتابة الأدبية وعما يزول، أو يجب زواله. كان حيدر لا يميل إلى "الواقعية والواقعيين"، يؤكد أن الواقع قيد، وأن الواقعيين وجوه للسلطة، حتى لو كانوا غير ذلك، وأن على الأديب أن يقصد واقعًا قابلًا للاندثار. يهجو "الواقعية الاشتراكية"، ويذكر روائيين ظفروا بشهرة لا يستحقونها. لم يكن يميل إلى "محفوظ"، و"يحازب" إدوار الخرّاط، الذي جاء بشعار "الحساسية الجديدة"، حيث الكتابة لغة، وعمل في اللغة، وتوليد لغوي يحسنه أدباء يتفرّدون. وواقع الأمر أن تلك "اللغة المستولدة" كانت تعبّر عن ذاتية القائلين بها، لا فرق إن واءمت مواضيعهم، أو لم توائمها. وكثيرًا ما كنّا نختلف في موضوع النثر، الذي يقرر لغة يقترحها موضوعه الأدبي لا الروائي الذي تضعه "ذاتيّته" فوق الأدب، كما لو كانت الكتابة الروائية تنافسًا مدرسيًا في موضوع: الإنشاء. كنا نتشارك في رفض "الواقعية الاشتراكية". يضحك عندها حيدر ويقول: "غريب كيف تكون اشتراكيًا تقليديًا وترفض الواقعية التقليدية؟"، وكنت أرد عليه: لا أميل إلى التقليد في الحياة ولا في الأدب، وأُكمِلُ "ضاحكًا": كيف تستبد يا حيدر باللغة، "تخلقها كما تشاء"، وأنت الكاره لكل أنواع الاستبداد؟ ربما كان شغفه بإكبار اللغة راجعًا إلى "فكر عروبي" ردّد كثيرًا: إن لغة تشتق النهر من النهار لغة لا تموت،.... جملة نطق بها، ربما، زكي الأرسوزي، وردّدها غيره.
كان الصديق السوري، الذي ولد في حصيْن البحر، على ما أذكر، يوزّع كلامًا عن الذكريات والرغبات، ويشير بنبرة حارة إلى دفتر أمامه: هذه الرواية ستعيش طويلًا، تحتاج إلى نقّاد يرقون إلى مقامها، أريد أن تكون نظيرة لرواية ماركيز: "مئة عام من العزلة"، وإلاّ سأحرقها. الرواية هي: "وليمة لأعشاب البحر"، التي تذكرّها في ليلة من ليالي حصار بيروت الإسرائيلي عام 1982 اشتد فيها القصف واشتعلت السماء. انتفض كيانه وارتجفّ غاضبًا ـ كنا في بيت الناشر الراحل سليمان صبح ـ وقال: نسيت الرواية في البيت، وبيتي مرتفع، إذا سقطت عليه قذيفة أُحرقت الرواية، ومضى مسرّعًا وانتظرناه حتى عاد بروايته سليمة بوجه عَلَته صفرة طافية منتصرة...
اقتلعته روايته الأثيرة من مكان آمن، وأرسلت به إلى طريق عمياء حظوظ الهلاك فيها تفوق حظ النجاة.... هل كان يعتقد ذلك الرومانسي البريء أن الخلود لا يخذل أفئدة المتطلعين إليه؟ وأن لغة القلب تقي من الموت، وتعطي لكاتبها الملكوت الذي يريد، تبني له بيتًا مسقوفًا بالعصافير وأحلام الطفولة؟
أذكر زيارتي الأخيرة له بعد رجوعه إلى الوطن، أذكر مكانًا منعزلًا على البحر لاذت به غرفتان: غرفة صغيرة للنوم ومخلّفات الكتب، وأخرى لحاجات النهار، وأذكر حديقة زرع فيها النعنع والبامياء، وأنه فرش في مائدة خضراء حديقته، وأنه بعد منتصف الليل كان يقف فوق حجر مرتفع يناجي السماء، ويهتف باسم الحرية، يحرّض الليل والنجوم اللامعة وأصدقاء ضمّهم التراب، ويعود إلى مكانه مرهقًا. يستجمع بقايا "ضحك" ويقول: ما زلت حصانًا، اجتاحني أكثر من فيضان وبقيت أرضي سليمة...!! استذكرته آنذاك يركض تحت وابل القذائف في ليل مطفأ العيون حريصًا على "مخطوطته"، رأيته متكوّمًا على ذاته يوجّه كلامًا مبحوحًا إلى صديق صامت، و"شتلات" من البامياء، والليل المستكين والذكريات الغافية، وسألت: لماذا تعاودنا الأحلام في ليل صامت على أطراف المدينة؟ وأقول في سرّي: لأنها لن تعود.
كانت عناوين أعماله الأدبية "تغويني" بالقراءة، أقرأ فيها شخصية حيدر قبل لغته: أذكر منها روايته القصيرة: "الفهد" (1977) سجل فيها ملامح فلاّح مقهور يحمل حقوقه على كتفيه ويقاتل وحيدًا. رواية صارت فيلمًا. ومجموعتيه القصصيتين: "الفيضان"، و"حكايات النورس المهاجر"، إذ في العنوان الأول ما يكتسح السدود والحدود، وفي الثاني طائر مشاكس أحمر العينين يُؤْثر الرحيل، قدر ما استطاع.
تحيل أقدار حيدر على أحلام الإنسان المتمرد وأوهامه. يبدأ غاضبًا تضيق به الأمكنة واللغة، تعالجه الأيام فينحسر الغضب، ويكتفي ببقعة منعزلة تتوسّد خضرة عارضة. وهو في الحالين مرآة جيل لم يحقق ما يريد، واستمر في الحياة والمقاومة. تحزّب قدر ما أتيح له التحزّب، وأراد تعليم جيل "نقي"، ووقف قريبًا من كفاح مسلح، ونظّم إرادته، وعاد إلى حيث كان. شهد صعود الأحزاب وغروبها وانتصار ثورة مسلحة وتحولاّتها، وراقب كفاحًا فلسطينيًا مسلحًا استفرقته أخطاء كثيرة. صادف مساره "فهودًا" مبتورة المسير وفيضانًا تائه الاتجاهات ونوارس متكسرة الأجنحة، ومع أنه كتب "رواية غاضبة" غاض الغضب في أراضي الرمل والغبار، أوجزها مبكرًا في قصة قصيرة عنوانها: "آكل القات"، إن كانت الذاكرة قادرة على الوقوف، سردت حكايات إنسان أطال الحلم والنوم، غزاه النمل وأجهز عليه من دون أن يستيقظ. تأتي أحلام الغافلين بالموت المبين وتساقط عظامهم على قارعة الطريق، أو "خضراء الدمن"، بلغة عربية عريضة المنكبين.
لم تكن أحلام حيدر حيدر قابلة للتحقق، لا بسبب نقص في الموهبة والنزاهة والشجاعة والتكامل المعنوي ـ الأخلاقي، ولكن بسبب عثار الطريق ومنظور مسكون برومانسية فادحة رأت الثورة في النقاء وأبصرت النقاء في زمن طبيعي ينكر دلالات المدينة، وينكر معها قيم الحداثة الاجتماعية، كما لو كانت الحداثة في الأدب، أو القول بها، بديلًا عن حداثة خارج الأدب، تختار اللغة قبل أن تقرأ الواقع.
رحل الصديق حيدر حيدر في الخامس من مايو/ أيار 2023، ورحل معه نموذج من المثقفين آمن بالتحرر الوطني ـ الاجتماعي بلا مساومة، ورحّل معه "فيضانه" والنوارس المهاجرة المتعددة الحكايات. استبقى وراءه درسًا في صلابة الروح والكرامة الذاتية، وأطياف ريفي جميل عالي الصهيل.
عاش ستة وثمانين عامًا من دون أن يحني رأسه، أو أن يتنازل عن كبرياءٍ لازمه طيلة حياته.
في رحيل حيدر حيدر يتناقص الضوء قليلًا، ويستفقده قراءٌ علمهم أن الكتابة فعل أخلاقي لا يُباع ولا يُشترى.