في تحوّل الموت إلى موضوعٍ وراوٍ وحبكةٍ في الأدب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في تحوّل الموت إلى موضوعٍ وراوٍ وحبكةٍ في الأدب



    في تحوّل الموت إلى موضوعٍ وراوٍ وحبكةٍ في الأدب
    مناهل السهوي
    استعادات
    (Getty)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    واحدة من الروايات التي لا يمكن نسيانها حين نأتي على ذكر الموت هي رواية "الغريب" لألبير كامو، وتحوي كذلك أبرز المقدمات في عالم الرواية والتي تبدأ بفكرة الموت: "اليوم ماتت أمي أو ربما بالأمس، لا أعرف". وظف الكتّاب الموت في الأدب بطرق عديدة وقد يعني أشياء مختلفة لكن الأكيد أن الأدب يجعلنا أكثر وعيًا بالموت، وإحدى مهام الأدب هي إدراك معنى الموت ومنح الحياة والموت على حد سواء قالبًا أقرب لإدراك وفهم الإنسان.

    إدراك الحياة من خلال الموت

    اختلفت رؤية الموت على مرّ الزمان، وقد يبدو أنه من أكثر الموضوعات التي تم توظيفها وتغيير معناها، فالموت يعني للبعض النهاية وللبعض بداية أخرى، يعتبر كذلك عقابًا وللمتألم يشبه الراحة، ولأن الموت موضوعٌ متجذر في مخاوف ووعي البشر، وظفه الأدب بطرق مختلفة وقدمه على أطباق مختلفة من الحبكات، ويبدو أن الموت كان أهم ما امتلك الأدب على مر الزمان كموضوع فاستخدم لخلق تأثيرات عاطفية وتقلبات في الحبكة والتشويق فهو دومًا حاضر بطرق وأساليب مختلفة.

    رواية "الغابة النرويجية" لهاروكي موراكامي هي في ظاهرها قصة حب حزينة لكنها أيضًا تدور حول الموت، إذ يحدث الموت ويوجد على طول الرواية، فتروى قصص الانتحار والوفيات المبكرة، ويتم تصوير الموت كجزء طبيعي وضروري من وجودنا كبشر، ما يجدر الإشارة له في رواية هاروكي هو أنها تسلط الضوء على فكرة مؤلمة وهي أن الموت المفاجئ يكاد يكون مصحوبًا على الدوام بشكل آخر من الموت وهو أطول وأكثر وجعًا ويحصل في عقل مَن فقد أحبته أو نجا.

    كتابة الموت تدفعنا للتفكير أكثر بقصر حياتنا وهشاشتها وهذا يساعد فعليًا في تجاوز المصاعب أو المشاكل اليومية التي نجدها في بعض الأحيان معقدة وصعبة، إن إدراك محدودية الحياة قد يقودنا بالتالي إلى التفكير في الحالة الإنسانية أو إلى تنظيم حياتنا والنظر إليها بطريقة مختلفة على الأقل.

    الموت أقل قسوة من الحياة

    لن ننسى أن الأدب هو أحد أشكال الخلود بالنسبة للقصة أو حتى للكاتب، الكتّاب لا يموتون، يستمرون في رواية حكاياتهم كلما فتح قارئ كتبهم، وهذا الأمر هو عكس الفناء والموت، وكأن الموت بتحويله إلى موضوع أدبي يفقد قدرًا من سلطته علينا.

    في رواية "الموت عمل شاق" للروائي السوري خالد خليفة، الموت ليس هو الحدث الروائي الذي يقود القصة وحسب، بل يغدو مرافقًا للإنسان وأقل قسوة من الحياة، فوالد بلبل الذي يوصي أن يدفن في قريته شمال سورية، تبدأ جثته بالتفسخ بينما يحاول أبناؤه نقل جثمانه من دمشق، وعبور حواجز التفتيش ومصاعب أخرى لتنفيذ وصية والدهم. تبدأ القصة من لحظة الموت، والموت هو العمود الفقري للرواية والعبء بالمعنى الروائي لكن ليس بمعنى الفقد، فليست المأساة هي الفقد الذي حدث بالفعل بل بكيفية دفن هذه الجثة.

    برأي أرسطو في كتابه "فن الشعر"، تدفع المأساة القراء إلى التنفيس، أو تطهير الروح، من خلال مشاهدة أعمال مأساوية. حتى في الأدب القديم، كان المؤلفون يستخدمون الموت كموضوع لإثارة استجابة عاطفية لدى القارئ أو الجمهور. لم يكن الموت يومًا موضوعًا هامشيًا في الأدب. فبدأت حكايات الموت منذ ملحمة جلجامش القديمة في بلاد ما بين النهرين وفي الأساطير اليونانية القديمة، قدمت حرب طروادة مساحة لعدد لا يحصى من القصص، بما في ذلك الإلياذة والأوديسة لهوميروس، وتروي كلتا القصتين العديد من المعارك الطويلة ومشاهد الموت المروعة.




    كيلا ننسى الموت

    يعتقد البعض أن الموت يسلب الحياة معناها لأن كل شيء سيصل إلى نهايته بجميع الحالات ويعتقد آخرون أن الموت يعطي معنى للحياة لأنه يدفعنا لعيش اللحظة الحالية. إحدى نهايات الموت المأساوية وغير المتوقعة، هي موت ماثيو في رواية "آن في المرتفعات الخضراء" للكاتبة الكندية لوسي مود مونتغمري، جاء موت ماثيو عكس كل خطوط الأمل التي تحكمت بشخصيات الرواية، كل الأحداث تشي بأن العُقد ومشاكل المشاكسة آن ستحل في النهاية، عالم آن الساحر، الأكمام المنفوخة، الطبيعة والتعلم كلها كانت تفاصيل إيجابية، وفجأة يموت ماثيو، الرجل الطيب الذي لمحت الكاتبة عدة مرات أن قلبه متعب، لكن رواية "آن في المرتفعات الخضراء" هي من تلك الروايات التي تجعلك تصدق أن الحياة يجب أن تكون جيدة وأن كل شي يمكن أن يحل في النهاية، وربما موت ماثيو هو تذكير للقارئ كيلا يصير حالمًا، هو تذكير أنك تستطيع أن تكون حالمًا وأن الحياة تستحق العيش لكن دون أن تنسى الموت تمامًا.

    الموت هو الراوي

    يتحول الموت إلى البطل والرواي في رواية "سارقة الكتب" للكاتب الأسترالي ماركوس زوساك. الموت هو الراوي العالم بكل شيء، وعلى الرغم من أن راوينا يؤكد أن القصة هي قصة ليزيل، الفتاة ذات التسع سنوات، إلا أن القصة تُروى من خلال وجهة نظر الموت الذي يحاول الحفاظ على قدر من المسافة بينه وبين البشر الأحياء، لكنه لا ينجح دائمًا. طوال الرواية، يقدم الموت جوانب فكاهية أو إعلامية أو مظلمة كما أنه يحب استباق الأحداث وتخطي الجدول الزمني للقصة، والكشف عن الأحداث القادمة ثم الاعتذار عن الكشف عن أجزاء من القصة. يرى الموت نفسه ككيان مرهق، وهو في وضع سيء لأنه لا يستطيع إيقاف وظيفته أبدًا وهي جمع الأرواح، الموت هنا كيان عاطفي، يريد أن يتعاطف القارئ معه، وألّا يعامل كحاصد الأرواح السيء.

    المثير في رواية الموت للحكاية هو دفعنا لرؤية إنسانيتنا بطريقة مغايرة، ليس هذا وحسب فهو ليس راويًا حياديًا بل متورط في القصة مثلنا تمامًا.

    وهكذا اختلفت وظيفة الموت الذي يستخدم عادة لتقوية وتعزيز الحبكة، وفي كثير من الأحيان يستخدم كخاتمة وهو يكفي كخاتمة إذ أن قوته موجودة فيه بالفعل، لكنه أيضًا أثبت قوته كراوٍ أيضًا.

    وبين الموت كموضوع أو طريقة إثارة عاطفية أو نقطة انطلاق للرواية، يثبت أنه الموضوع الأكثر انتشارًا والأصعب على الإطلاق... إنه داخلنا وحولنا، وعلى صفحات الكتب، مخيفًا وطيبًا، عالمًا بكل شيء وغائبًا عنّا.


يعمل...
X