عندما يتحدث الطب بلغة الأدب
مها عبد الله
24 يناير 2024
حجم الخط
يعد كتاب "الطب السردي والعلاج السردي بالعربية" من تأليف د. حشلافي حميد (دار الوتد للكتب والمطبوعات، 2020) فريدًا من نوعه في المكتبة العربية، وفيه يكتسي الطب حلّة وجدانية في ارتياده على نحو مثير للانتباه أروقة الأدب، بفروعه الإنسانية المتشابكة في اللغة والشعر والنفس والرواية والاجتماع، ليظهر الطب فيها منسجمًا وهو يضفي بعدًا إنسانيًا في علاقة الاستشفاء بين الطبيب ومريضه! ومع استحداث فرع (الطب السردي) في الجامعات الغربية كتخصص أكاديمي، أصبح لزامًا استحداث مثيله في الجامعات العربية بما يتفق وهويته الثقافية. لذا، يجتهد مؤلف الكتاب في طرح مفهوم (الطب السردي) من خلال بحث موضوعي يستعين فيه بالمراجع العربية في الطب والأدب، بغية محاكاة التوجه العالمي الحديث. فيقول في نبرة عربية خالصة لا تشوبها شائبة: "إن اللغة هي الركيزة الأساسية في المعاملات الاجتماعية وعماد الهوية الوطنية، وبالتالي كان لا بد من إدراج السرد باللغة العربية في منهجية الطب السردي والمتابعة العلاجية بالسرد العربي، ليتسنى للطبيب والمعالج العربي التجاوب مع مريضه".
والمؤلف طبيب وأستاذ جامعي في كلية الطب بجامعة وهران الجزائرية، وهو إضافة إلى تخصصه المهني، كاتب وروائي، وله العديد من الإصدارات العلمية والفكرية تصب في نفس المجال.
تعتمد هذه المراجعة للكتاب، مثلما ذكرنا، على الطبعة الأولى الصادرة منه عام 2020 عن (دار الوتد للكتب والمطبوعات)، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يحدد المؤلف مرحلتين أساسيتين لفحص المريض تبدأ بمرحلة (الاستجواب الطبي)، وهي مرحلة تكشف ابتداءً تاريخ المرض ومراحل تطوره وسمات المريض الشخصية، وهي مرحلة يحددها الطب الإكلينيكي بمدة لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة، والطب النفسي والعقلي بثلاثين دقيقة. تُعد هذه المرحلة مبدئية في تشخيص المرض فضلًا عن أهميتها في تأسيس عماد الثقة بين المريض والطبيب، تليها مرحلة (الفحص العيادي) بما فيها من فحص سريري وتحليل مخبري وعلاج دوائي. بيد أن مظاهر الإشكالية تبدأ مع الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم الرقمي المعاصر، وتمكّن الآلة الذكية فيه من إجراء العمليات الجراحية الدقيقة، وإصدار الرأي الطبي على بُعد آلاف الأميال الفاصلة بين المريض والطبيب، فضلًا عن تطوير برمجيات تعنى بأمراض معينة، وتطبيقات تقيّم حالة المريض المزاجية، وأدوات للقياس النفسي تخدم المصحات العقلية، ما مكّن من استخلاص مخرجات تُغني عن مرحلة المساءلة الطبية. إن برمجة الممارسة الطبية أتت على العلاقة الإنسانية بين المريض والطبيب، وأربكت العلاقة العلاجية السليمة القائمة على الثقة المتبادلة بينهما. لذا، فقد "كان لا بد لها من تنظير في إطار رسمي مسند على منهجية علمية واضحة المعالم، التي تسمح بتجديد إحدى ركائز الفحص العيادي الذي يخص الاستجواب الطبي، ومن خلاله استرجاع الحلقة المفقودة أو تعزيز مشاعر التجاوب لدى الأطباء نحو مرضاهم، وهي كلها عمليات تهدف إلى أنسنة المهنة النبيلة التي ضيعت مقاصدها خلال العقود الأخيرة من زماننا".
مقاربة بين الطب والأدب
الطب كفن يعني بالحياة الإنسانية ويمدّها بروح المعرفة بلا اعتبارات عرقية ولا ظرفية، والأدب كفن يتجسّد في مشهد أو نغمة أو لوحة تُضفي لمسة من ذوق وجمال وإحساس... يتأصل البعد الإنساني كمقصد خير يشترك بينهما. ومن هنا، يتحدث المؤلف عن (السرد الأدبي) كمصطلح غربي حديث النشأة، والذي يُترجم إلى العربية بـ "علم السرد أو السردية"، وينقسم حسب البنية السردية إلى: "السرد أو المروي، السارد أو المؤلف أو الراوي، المسرود له أو القارئ أو المروي له"، وهو المصطلح الذي يقود بدوره للحديث عن تحليل الخطاب السردي، من خلال الذوق الثقافي لكل كاتب، كالسردية الدلالية والسردية اللسانية، والعنصر الزمني الذي يقسّمه بين سرد لاحق وسرد سابق وسرد متزامن... فيصفه كما لو أنه: "إعادة متجددة للحياة تجتمع فيه أسس الحياة من شخصيات وأحداث، وما يؤطرها معًا من زمان ومكان تدخل في صراع يحافظ على حياة السرد وسيرورة الحكي، وفق تعدد لغوي". يستمر المؤلف لكي يؤكد على المنهجية المشتركة التي تربط بين السرد الأدبي والنقد الأدبي بما يقابلها في علم النفس والطب العقلي، إذ تبدو عملية دراسة الخطاب الأدبي مشابهة لدراسة خطاب المريض الذي يدلو به أثناء مرحلة استجوابه لدى الطبيب، وهو كما أشار إليه أحد النقاد، وصف لا يخص علّة ما بعينها، بل يكشف عن جذورها التي قد تكون ضاربة في أعماق النفس: "فالنص لا يختلف في هذه الحالة عن شكوى يقدمها المريض إلى الطبيب المعالج ليكشف من خلالها عن العلل، فهي تدين صاحبها وتقدم عقدة جلية أمام الفحص السريري، وذلك لا يسمح للتجربة الأدبية بالاستمرار والخلود بل يتراجع ظلها إلى تسجيل آثار العلل الملتصقة بصاحبها". لذا، يوضح المؤلف هدف الطب السردي الذي يتمثّل في تقديم "فرصة لمعالجة الأبعاد الدينية والروحانية لتجربة المريض"، إذ يظهر الطب السردي كمهارة يتوجّب على الطبيب الممارس اكتسابها وإتقانها من خلال ما يتلقّاه في سرد المريض، بما يمكّنه من الإحاطة بقصصه المروية عن نفسه ومن ثم استيعابها وتحليلها ونقل خبراتها.
ينفض المؤلف الغبار عن "المقاربة العربية التي أصّلت دعائم الطب السردي منذ قرون خلت على يد جهابذة الطب العربي". ففي حين لم يدرج الغرب الطب تحت منظومة الأدب والعلوم الإنسانية إلا بعد القرن السابع عشر، فقد ظهر بعض أدبائهم المتأخرين متطرّفين، كالأديبة الإنكليزية فيرجينيا وولف التي تناولت في كتابها (المرض) الأدباء بالنقد، لشح إصداراتهم الفكرية في قضايا الصحة، وهي التي كانت تطمح لإجابات طبية- إنسانية وافية عمّا قاسته في حياتها منذ طفولتها، وقد أنهت حياتها بالانتحار في سن التاسعة والخمسين. فكانت تقول: "يبدو لنا على الأقل مفاجئًا أن المرض لا يظهر إلى جانب الحب، النضال، والغيرة من بين الموضوعات الرئيسية للأدب. يجب أن تكون هناك روايات مخصصة لوباء التيفوئيد، أو قصائد للالتهاب الرئوي وقصائد شعرية للألم في الأسنان! ومع ذلك ليس لها وجود". وهناك الفيلسوف جان جاك روسو "الذي كان مولعًا بالطب في بداية حياته، حتى أنه تفنن في إبداعاته الأدبية التي خصّت مواضيع طبية"، وقد شخصّت مجلداته الموسومة بـ (الاعترافات) مرضه بدقة لكن بعد وقت طويل من وفاته، وقد اعتقد بأن مرضه نفسي لا عضوي حين أوصى بتشريح جثته بعد موته، وهو الذي كان يصبّ جام غضبه على أطباء زمانه الذين ارتاد على النبهاء منهم ولم يسعفوه في تشخيص علله. وبعد استعراض ما كان من سخط أدباء الغرب على منظومة الصحة في الحقبة الزمنية التي عايشوها، ينتقل المؤلف إلى أدباء العرب وما نال السرد الطبي من حظ في مآثرهم، فيقول: "لقد حظي اهتمام الأدباء العرب بمواضيع الصحة ومآل معاشهم الشخصي دونما حدود أو عتاب لأفكارهم من طرف غيرهم أو متابعيهم، وغالبًا كانت القصائد الشعرية هي سلاحهم للتعبير عن خلجات أنفسهم". فيتعرّض إلى أحدهم وهو الفيلسوف أبو العلاء المعري الذي عاش زمن الخلافة العباسية و"الذي خبر عن نفسه حين مرضه بالعمى منذ نعومة طفولته، وتدهور حالة صحته حينما كبر سنه ونخر المرض جسده، حتى وصف على لسانه بحبر غيره: مثله في ذلك مثل الثريا كتب إلى الثرى وقد علم الله أن سمعي ثقيل وبصري عن الإبصار نقيل، قُضِيَ عليّ وأنا ابن أربع لا أفرّق بين النازل والطالع. ثم توالت محني، فأشبه شخصي العود المنحني، منيت في أخير عمري بالإقعاد وعداني عن النهضة عاد".
ثم ينتقل الحديث إلى السرد عند أطباء أدباء من الغرب، وقد عُرف منذ الأزمنة السابقة تقمّص الأطباء لفنون الأدب من تأليف ورواية وكتابة، "فكان من ضمنهم الطبيب القاص، الجراح الشاعر، والحكيم الموسيقار". والطبيب إذ يصقل خبرته الطبية بمهارته الأدبية، لا يسرد مجرد حالات مرضية تم تشخيصها، إنما يقدم "تعبيرات على معاش نفسي" جسّدها السرد الطبي من خلال الكتابة والتأليف. ففي العالم الغربي، يبرز الطبيب الأديب الروسي أنطون تشيخوف والذي يُنقل عنه مقولته الشهيرة: "الطب زوجتي والأدب عشيقتي"، وقد آمن بثراء معرفته التي حصّلها في دراسة الطب وممارسته، وأثّرت في نشاطه الأدبي. وقد ضمّن بعض رسائله الأدبية جانبًا من معاناته بمرض السل الرئوي الذي توفي فيه، فضلًا عن تجاربه كطبيب فيما يتعلق بالأمراض العقلية والاضطرابات النفسية. ومن مؤلفاته التي خصّت المرض والمرضى والمعالجين والمستشفيات وبيئة العمل المهنية ككل: رواية البستاني الرئيس، رواية الهارب، رواية الجراحة. وهنالك مواطنه، الطبيب الأديب ميخائيل بولغاكوف الذي سرد حياة الأطباء في المستشفيات من خلال نشره (مذكرات طبيب شاب)، وهو الذي أودع روايته (مورفين) قصة إدمانه ومرض التلف الكلوي الذي مات فيه بعد أن فقد بصره. أما في الأدب الإنكليزي، فيبرع الطبيب الأديب آرثر دويل من خلال سلسلة الأعمال البوليسية الخالدة ببطليها المحقق شيرلوك هولمز ومساعده الطبيب واتسون، بينما يظهر على الجانب الفرنسي الطبيب والأديب فيكتور سيكالين الذي مزج بين شاعرية الأدب ومنهجية الطب في سردية المعاناة المرضية.
يعقب الحديث عن أطباء الغرب الأدباء حديث عن نظرائهم العرب، فقد كان منهم الطبيب القرطبي والأديب والشاعر يحيى ابن هذيل الذي وصفه تلميذه الطبيب لسان الدين ابن الخطيب وصفًا "يؤشر على استعمال فنون الأدب لإجادة التحاضر لطلبة الطب"، وقد ضمّن ابن هذيل آخر أبياته الشعرية آلامه عن مرض الفالج الذي أصابه. أما تلميذه ابن الخطيب، فقد أجاد في تشخيص أعراض العشق الذي صنّفه كمرض نفسي، في كتابه الطبي الوجيز (عمل من طب لمن حب). وهناك كذلك كتاب (دعوة الأطباء) الذي وضعه الطبيب والأديب ابن بطلان، وهو يمثّل "سيرة ذاتية متخيّلة لطبيب جوال" يستخدم فيه براعته اللغوية ممزوجة بصنعته، ليرفع فيه مقام مهنة الطب عن بعض المنتسبين إليه الذين يرجون مرض الناس لضمان معاشهم، وقد شنّع على "الأطباء الدجالين، مشيرًا إلى أن المهنة بعيدة عن الخرافة والشعوذة". وهناك "المترجم الموسوعي والطبيب الإكلينيكي حنين ابن إسحاق الذي كان عارفًا باليونانية والسريانية وفصيحًا بالعربية، التي استطاع بها إنتاجه في الترجمة الطبية أن يغزر مصادر الإبداع الطبي من خلال عناوين مؤلفاته الذكية والمميزة، من بينها: ‘تحفة الأولياء وذخيرة الأطباء‘، وكتاب ‘امتحان الأطباء‘".
أخيرًا، وحسب المؤلف الذي بدا عربيًا خالصًا ذا قضية جادة ومشروع عربي ضخم تشرّف بوضع لبنته الأولى... كلمة حق يقولها في خاتمة كتابه: "نكتب في تخصصاتنا الطبية، فتلك من المهام الأساسية التي توجب علينا أخلاقيًا بهدف التمكين لطلابنا من الاستفادة من عصارة تجاربنا المهنية. نكتب ونحن مستأنسين بموروثنا الثقافي الذي يغذي أطروحاتنا وينير دربنا، ونحن نقتفي ما تركه أجدادنا الأطباء العرب والمسلمين الذين تعالت مخطوطاتهم الموسوعية بين حضارات الأمم، وهم لنا قدوة رغم مرور قرون من الزمن وتباعد المكان، لكن نلتقي في أصول الهوية المعززة باللغة العربية". ثم يقول انتهاءً بلغة يشوبها تواضع العلماء: "هذا الكتاب هو من إحدى المبادرات التي تساند مجهودات الزملاء الأفاضل في الطب، والمضي نحو مشروع كامل ومتكامل لتعريب العلوم الطبية. الكتاب مقتطف من خبرات ميدانية وعصارة لدراسة أكاديمية قد يمهد الطريق لمراجعة أسس التكوين في العلوم الطبية في البلدان العربية ولبناء عنصر الثقة بين المفحوص وطبيبه في العملية العلاجية".
مها عبد الله
24 يناير 2024
حجم الخط
يعد كتاب "الطب السردي والعلاج السردي بالعربية" من تأليف د. حشلافي حميد (دار الوتد للكتب والمطبوعات، 2020) فريدًا من نوعه في المكتبة العربية، وفيه يكتسي الطب حلّة وجدانية في ارتياده على نحو مثير للانتباه أروقة الأدب، بفروعه الإنسانية المتشابكة في اللغة والشعر والنفس والرواية والاجتماع، ليظهر الطب فيها منسجمًا وهو يضفي بعدًا إنسانيًا في علاقة الاستشفاء بين الطبيب ومريضه! ومع استحداث فرع (الطب السردي) في الجامعات الغربية كتخصص أكاديمي، أصبح لزامًا استحداث مثيله في الجامعات العربية بما يتفق وهويته الثقافية. لذا، يجتهد مؤلف الكتاب في طرح مفهوم (الطب السردي) من خلال بحث موضوعي يستعين فيه بالمراجع العربية في الطب والأدب، بغية محاكاة التوجه العالمي الحديث. فيقول في نبرة عربية خالصة لا تشوبها شائبة: "إن اللغة هي الركيزة الأساسية في المعاملات الاجتماعية وعماد الهوية الوطنية، وبالتالي كان لا بد من إدراج السرد باللغة العربية في منهجية الطب السردي والمتابعة العلاجية بالسرد العربي، ليتسنى للطبيب والمعالج العربي التجاوب مع مريضه".
والمؤلف طبيب وأستاذ جامعي في كلية الطب بجامعة وهران الجزائرية، وهو إضافة إلى تخصصه المهني، كاتب وروائي، وله العديد من الإصدارات العلمية والفكرية تصب في نفس المجال.
تعتمد هذه المراجعة للكتاب، مثلما ذكرنا، على الطبعة الأولى الصادرة منه عام 2020 عن (دار الوتد للكتب والمطبوعات)، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يحدد المؤلف مرحلتين أساسيتين لفحص المريض تبدأ بمرحلة (الاستجواب الطبي)، وهي مرحلة تكشف ابتداءً تاريخ المرض ومراحل تطوره وسمات المريض الشخصية، وهي مرحلة يحددها الطب الإكلينيكي بمدة لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة، والطب النفسي والعقلي بثلاثين دقيقة. تُعد هذه المرحلة مبدئية في تشخيص المرض فضلًا عن أهميتها في تأسيس عماد الثقة بين المريض والطبيب، تليها مرحلة (الفحص العيادي) بما فيها من فحص سريري وتحليل مخبري وعلاج دوائي. بيد أن مظاهر الإشكالية تبدأ مع الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم الرقمي المعاصر، وتمكّن الآلة الذكية فيه من إجراء العمليات الجراحية الدقيقة، وإصدار الرأي الطبي على بُعد آلاف الأميال الفاصلة بين المريض والطبيب، فضلًا عن تطوير برمجيات تعنى بأمراض معينة، وتطبيقات تقيّم حالة المريض المزاجية، وأدوات للقياس النفسي تخدم المصحات العقلية، ما مكّن من استخلاص مخرجات تُغني عن مرحلة المساءلة الطبية. إن برمجة الممارسة الطبية أتت على العلاقة الإنسانية بين المريض والطبيب، وأربكت العلاقة العلاجية السليمة القائمة على الثقة المتبادلة بينهما. لذا، فقد "كان لا بد لها من تنظير في إطار رسمي مسند على منهجية علمية واضحة المعالم، التي تسمح بتجديد إحدى ركائز الفحص العيادي الذي يخص الاستجواب الطبي، ومن خلاله استرجاع الحلقة المفقودة أو تعزيز مشاعر التجاوب لدى الأطباء نحو مرضاهم، وهي كلها عمليات تهدف إلى أنسنة المهنة النبيلة التي ضيعت مقاصدها خلال العقود الأخيرة من زماننا".
مقاربة بين الطب والأدب
الطب كفن يعني بالحياة الإنسانية ويمدّها بروح المعرفة بلا اعتبارات عرقية ولا ظرفية، والأدب كفن يتجسّد في مشهد أو نغمة أو لوحة تُضفي لمسة من ذوق وجمال وإحساس... يتأصل البعد الإنساني كمقصد خير يشترك بينهما. ومن هنا، يتحدث المؤلف عن (السرد الأدبي) كمصطلح غربي حديث النشأة، والذي يُترجم إلى العربية بـ "علم السرد أو السردية"، وينقسم حسب البنية السردية إلى: "السرد أو المروي، السارد أو المؤلف أو الراوي، المسرود له أو القارئ أو المروي له"، وهو المصطلح الذي يقود بدوره للحديث عن تحليل الخطاب السردي، من خلال الذوق الثقافي لكل كاتب، كالسردية الدلالية والسردية اللسانية، والعنصر الزمني الذي يقسّمه بين سرد لاحق وسرد سابق وسرد متزامن... فيصفه كما لو أنه: "إعادة متجددة للحياة تجتمع فيه أسس الحياة من شخصيات وأحداث، وما يؤطرها معًا من زمان ومكان تدخل في صراع يحافظ على حياة السرد وسيرورة الحكي، وفق تعدد لغوي". يستمر المؤلف لكي يؤكد على المنهجية المشتركة التي تربط بين السرد الأدبي والنقد الأدبي بما يقابلها في علم النفس والطب العقلي، إذ تبدو عملية دراسة الخطاب الأدبي مشابهة لدراسة خطاب المريض الذي يدلو به أثناء مرحلة استجوابه لدى الطبيب، وهو كما أشار إليه أحد النقاد، وصف لا يخص علّة ما بعينها، بل يكشف عن جذورها التي قد تكون ضاربة في أعماق النفس: "فالنص لا يختلف في هذه الحالة عن شكوى يقدمها المريض إلى الطبيب المعالج ليكشف من خلالها عن العلل، فهي تدين صاحبها وتقدم عقدة جلية أمام الفحص السريري، وذلك لا يسمح للتجربة الأدبية بالاستمرار والخلود بل يتراجع ظلها إلى تسجيل آثار العلل الملتصقة بصاحبها". لذا، يوضح المؤلف هدف الطب السردي الذي يتمثّل في تقديم "فرصة لمعالجة الأبعاد الدينية والروحانية لتجربة المريض"، إذ يظهر الطب السردي كمهارة يتوجّب على الطبيب الممارس اكتسابها وإتقانها من خلال ما يتلقّاه في سرد المريض، بما يمكّنه من الإحاطة بقصصه المروية عن نفسه ومن ثم استيعابها وتحليلها ونقل خبراتها.
"تبدو عملية دراسة الخطاب الأدبي مشابهة لدراسة خطاب المريض الذي يدلو به أثناء مرحلة استجوابه لدى الطبيب، وهو كما أشار إليه أحد النقاد، وصف لا يخص علّة ما بعينها، بل يكشف عن جذورها التي قد تكون ضاربة في أعماق النفس" |
ثم ينتقل الحديث إلى السرد عند أطباء أدباء من الغرب، وقد عُرف منذ الأزمنة السابقة تقمّص الأطباء لفنون الأدب من تأليف ورواية وكتابة، "فكان من ضمنهم الطبيب القاص، الجراح الشاعر، والحكيم الموسيقار". والطبيب إذ يصقل خبرته الطبية بمهارته الأدبية، لا يسرد مجرد حالات مرضية تم تشخيصها، إنما يقدم "تعبيرات على معاش نفسي" جسّدها السرد الطبي من خلال الكتابة والتأليف. ففي العالم الغربي، يبرز الطبيب الأديب الروسي أنطون تشيخوف والذي يُنقل عنه مقولته الشهيرة: "الطب زوجتي والأدب عشيقتي"، وقد آمن بثراء معرفته التي حصّلها في دراسة الطب وممارسته، وأثّرت في نشاطه الأدبي. وقد ضمّن بعض رسائله الأدبية جانبًا من معاناته بمرض السل الرئوي الذي توفي فيه، فضلًا عن تجاربه كطبيب فيما يتعلق بالأمراض العقلية والاضطرابات النفسية. ومن مؤلفاته التي خصّت المرض والمرضى والمعالجين والمستشفيات وبيئة العمل المهنية ككل: رواية البستاني الرئيس، رواية الهارب، رواية الجراحة. وهنالك مواطنه، الطبيب الأديب ميخائيل بولغاكوف الذي سرد حياة الأطباء في المستشفيات من خلال نشره (مذكرات طبيب شاب)، وهو الذي أودع روايته (مورفين) قصة إدمانه ومرض التلف الكلوي الذي مات فيه بعد أن فقد بصره. أما في الأدب الإنكليزي، فيبرع الطبيب الأديب آرثر دويل من خلال سلسلة الأعمال البوليسية الخالدة ببطليها المحقق شيرلوك هولمز ومساعده الطبيب واتسون، بينما يظهر على الجانب الفرنسي الطبيب والأديب فيكتور سيكالين الذي مزج بين شاعرية الأدب ومنهجية الطب في سردية المعاناة المرضية.
يعقب الحديث عن أطباء الغرب الأدباء حديث عن نظرائهم العرب، فقد كان منهم الطبيب القرطبي والأديب والشاعر يحيى ابن هذيل الذي وصفه تلميذه الطبيب لسان الدين ابن الخطيب وصفًا "يؤشر على استعمال فنون الأدب لإجادة التحاضر لطلبة الطب"، وقد ضمّن ابن هذيل آخر أبياته الشعرية آلامه عن مرض الفالج الذي أصابه. أما تلميذه ابن الخطيب، فقد أجاد في تشخيص أعراض العشق الذي صنّفه كمرض نفسي، في كتابه الطبي الوجيز (عمل من طب لمن حب). وهناك كذلك كتاب (دعوة الأطباء) الذي وضعه الطبيب والأديب ابن بطلان، وهو يمثّل "سيرة ذاتية متخيّلة لطبيب جوال" يستخدم فيه براعته اللغوية ممزوجة بصنعته، ليرفع فيه مقام مهنة الطب عن بعض المنتسبين إليه الذين يرجون مرض الناس لضمان معاشهم، وقد شنّع على "الأطباء الدجالين، مشيرًا إلى أن المهنة بعيدة عن الخرافة والشعوذة". وهناك "المترجم الموسوعي والطبيب الإكلينيكي حنين ابن إسحاق الذي كان عارفًا باليونانية والسريانية وفصيحًا بالعربية، التي استطاع بها إنتاجه في الترجمة الطبية أن يغزر مصادر الإبداع الطبي من خلال عناوين مؤلفاته الذكية والمميزة، من بينها: ‘تحفة الأولياء وذخيرة الأطباء‘، وكتاب ‘امتحان الأطباء‘".
أخيرًا، وحسب المؤلف الذي بدا عربيًا خالصًا ذا قضية جادة ومشروع عربي ضخم تشرّف بوضع لبنته الأولى... كلمة حق يقولها في خاتمة كتابه: "نكتب في تخصصاتنا الطبية، فتلك من المهام الأساسية التي توجب علينا أخلاقيًا بهدف التمكين لطلابنا من الاستفادة من عصارة تجاربنا المهنية. نكتب ونحن مستأنسين بموروثنا الثقافي الذي يغذي أطروحاتنا وينير دربنا، ونحن نقتفي ما تركه أجدادنا الأطباء العرب والمسلمين الذين تعالت مخطوطاتهم الموسوعية بين حضارات الأمم، وهم لنا قدوة رغم مرور قرون من الزمن وتباعد المكان، لكن نلتقي في أصول الهوية المعززة باللغة العربية". ثم يقول انتهاءً بلغة يشوبها تواضع العلماء: "هذا الكتاب هو من إحدى المبادرات التي تساند مجهودات الزملاء الأفاضل في الطب، والمضي نحو مشروع كامل ومتكامل لتعريب العلوم الطبية. الكتاب مقتطف من خبرات ميدانية وعصارة لدراسة أكاديمية قد يمهد الطريق لمراجعة أسس التكوين في العلوم الطبية في البلدان العربية ولبناء عنصر الثقة بين المفحوص وطبيبه في العملية العلاجية".