سكِّين النحت": معاناةَ أنْ تشعرَ بالعدَمِ وأَنتَ في الوجود
أنور محمد
حجم الخط
في المجموعة القصصية الأولى "سكِّين النحت" للكاتبة الكويتية أفراح الهندال (المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2023) هناك بحثٌ عن الحريَّة باعتبارها سقف التحدي للإنسان؛ إما يحيا أو يموت دونها. وهذا ما اشتغلت عليه الهندال في قصصها الـ 39، فتتعرَّض شخصيات المجموعة في قصصها القصيرة والقصيرة جدًا للاضطهاد والتغييب القسري، وهي تنتقل من المعقول إلى اللامعقول، فتسرد وفي أجواء كابوسية استهزاء وسخرية هذه الشخصيات من المصير المأساوي الذي تُساق إليه عمدًا، فلا يسقطون في حفرة الجبرية المعتقدية أو الاجتماعية.
في قصتها "شكوى الجدران" تضعنا الهندال في مبنى عالي الجدران، أعمدةُ سورِه مُدبَّبة لا يمكنُ مجرَّد التفكير بالقفز من عليها حتى ولا القطط، ولا يمكن للأصوات؛ أصوات المحتجزين (أطفال)؛ أن يسمعها أحدٌ مهما ارتفع صراخهم وعويلهم. لكن لمَّا سَمَعَ مَنْ سَمِعَ، وجاء ليعرفَ ما يجري؛ وهُم المحقِّقون، لم يصدِّقوا أنَّ بطلة القصَّة تحاول إنقاذهم وقد علا صوت بكائهم. كيف يصدِّقون؟ ولماذا يتزنَّر ويتحصَّن السيِّد القابع في صمته بالوشاة والمُخبرين الذين يمحون اللون الأسود لون الموت والاحتجاج على استبداده، ويستبدلونه باللون الأبيض، ويمحون كلَّ عبارات الغضب. الهندال في هذه القصة تستدعي الأنا المفكِّرة، فالإنسان هو من يخلق الحريَّة، كما فعلت باحتجاجها، لمَّا علَّمت الأطفال البكاء- والطفل يجيد البكاء بالفطرة أكثر من الضحك، للتعبير عن الرفض والجوع والألم. هي هنا تنحتُ بحدِّ السؤال اللماذائي؛ وهو سؤال فلسفي لتكشف عن معاناة الشعور. لماذا السؤالية هي لماذا احتجاجية عن لا عقلانية ما يحدث. أفراح الهندال تسرد حكاياتها بشعورٍ مأساوي، وهو الشعور الذي يُباطن الوعي.
في قصتها "سكِّين النحت" ترسمُ صورة حسِّية بإدراكٍ بصري واعٍ لما آل إليه رأسها بسكِّين؛ بسكاكين النحَّات: "النّحات الذي سَمَّرني على الكرسي، شكّل وجهي من جديد؛ عينان.. أنف... وجبين بلا نُدوب. أتقنَ تسوية ذقني بأصابعه، كان يكشط زوائد الطّين ويربِّت عليها، أدهشَ الحضورَ المتحلِّق حولنا برأس رطبٍ وليِّن بلا فم، فَمِي بين كفّيه، مَسَحَهُ بردائِه، تحوَّلتْ لطخاتُ الطين إلى كلمات، لم يتمكَّن من مجاراة مديحهم". إنَّها تُصوِّر رأسًا وقد نحته النحات بشكل لا عقلاني، لا واقعي، ولا يحاكي الصورة الأصل- وجهٌ بلا فم، ذلك كموضوع للتأمل والاستبصار والرفض. نحَّاتٌ بسكِّينه شوَّه رأسها، والرأس لا القدمين هو الهوية. أفراح الهندال تريدنا– وقصصها ذات رؤى فلسفية- أن نعبر من المرئي إلى الَّلامرئي. صحيح أنَّ قصص المجموعة "سكين النحت" واقعية، ولكنَّها تفلتُ من الواقع إلى الَّلاواقع/ اللامعقول الذي كما لو إنَّه صار معقولًا. هناك صور لوقائع تُدرك بالمحسوس، وعلاقاتها- العلاقات فيما بينها قد تكون؛ أو تبدو حقيقية، ولكنَّها في الفنون، هنا القصص؛ هي علاقاتٌ مجازية، وهي عند القاصَّة رسائل اكتشاف، فقد قيَّدها النحَّات بالطين، وثمَّة فوهة تحاول الخروج منها؛ ولكنَّها لا تخرج، حتى لمَّا حاولت الصراخ مستنجدةً برأسها الممرَّغ على الطاولة راحَ صوتها، وخارت قواها.
صورٌ لا واقعية، صورٌ صادمة للتراب/ الطين الثقيل القاسي وهو بين حدَّيْن؛ حدُّ التكتُّل والالتحام، وحدُّ الانحلال. رأسها منزوعٌ مقصوصٌ- هي ذبيحة على يد النحَّات، فتتداخل لا عقلانية الفعل الآني مع عقلانية التجريد. ماذا يريدُ النحَات، وماذا تفعلُ سكِّينه؟ وهل تَحْدُثُ سقطةُ الموت؛ السقوط في العدم. الهندال تعيش حالة شعورية واعية، تعيش معاناة الواقع وجوره وظلمه، لكنَّها معاناةٌ فلسفية، مُعاناةَ أنْ تشعرَ بالعدمِ/ الموت وأنتَ في الوجود، والنحَّاتُ المستبدُّ يمثِّلُ ويُقصِّبُ أفكارك وأحلامك. القاصَّة في لهيب، تراها في قصصها التي في مجموعتها "سكِّين النحت" تنتشلُ شخصياتها القصيرة والقصيرة جدًا حتى لا تغتسل بماء الحياة القذر؛ ماء السجن الذي قذَّرَهُ حَمَلَةُ رايات السلم والاجتماع المدني. فلا فرقَ بين السجن وقضبانه وحرَّاسه بقبضاتهم الفولاذية وأسلحتهم النارية، وبين الحياة خارج السجن. ففي قصة "وصية الخروج" وهنا الخروج من السجن، توصي سجينها الخارج بأن لا يتوهَّم ولا يخلط ما بين الهتافات وبين الأغنية، وما بين التهمة والغضب من العدالة المعلَّقة على واجهات أبنية المدينة، هي وصايا، ولكنَّها للسخرية. فلما قِيدَ السجينُ المتَّهم من محاكمته الأخيرة: و"أُقفلت البوابة خلفه؛ ارتطمَ بمشهد الناس المُساقين كقطيعٍ بتُهم تهدِّدُ الأمن العام: "الإضراب عن الموت"، "سرقة متعلقات معيشة من الحدائق والبيوت والمدارس"، "كسر حظر الخروج من المقابر المخصَّصة لأمثالهم من غير المسجَّلين في قيد الحياة". لم يعرف إذا ما كان خَرَجَ أمْ دَخَلَ السجن للتوّ!". الكاتبة لا تخلط، هي تخرق القاعدة التي تقول: السلطان فوق النقد- طيِّب! وهذه الحشود القطعان مّنْ جرَّدها مِنْ مَلكاتها العقلية، ومن مُمْكِناتها، وَحَبَسَها إِنْ في السجن الصغير أو القفص الكبير؟ أليس السلطان ونظامه المُتسلِّط.
في قصَّتها "غرفتي... قفصٌ صغير" لا يفارقها إحساسها الساخر بالسجن، فتستغرق في رسم صورٍ بمنتهى التجريد التعبيري؛ ثعلبٌ يدخل غرفتها فيقلب سافلها عاليها. هي تُقدِّر أنَّ ثعلبًا بعثرَ أوراقها، علب أحذيتها، أدراج خزانتها- وهذا ليس إدراكًا بصريًا خادعًا. أفراح ترسم صورة حسِّية سوريالية عاشتها بإحساسها، رَسَمَتها، نحَتتْها صورة من الواقع، ولكن لتُحيلُنا إلى ما فوق الواقع/ الخيال: "عرفتُ أنَّه كان يُفتِّشُ عن الرِّيشِ في غرفتي حين وجدتُ من بين الأوراق المُجعَّدة قصاصةُ كتبتُ فيها "ليتني حمامة"، كان ذلك قبل أعوامٍ طويلة، على مقربة من السَّماء". تكوينٌ تكشف فيه أفراح عن معيارية الحواس، وعن جشع الغريزة. فالثعلب وقد قرأ في قصاصة الورق أنَّها تتمنى أن تكون حمامة، كأنَّه قبضَ على رحيق حياة، فقام ببعثرة المكان بحثًا عن الريش- ريش الحمامة. هنا الدهشة، الهندال تحقِّق الدهشة في صورةٍ لا أساسَ لها في الواقع، لقد حلَّقت في تخييلها فيما كانت ترى بعين بصيرتها ما لم نره نحن من تمزقات وتناقضات، فرسمت صورة من تأملات وإشراقات؛ صورة نرى فيها ما يجب أن نراه، وليس الصورة التي تعكسها المرآة، الصورة التي كنَّا نريد أن نرسمها لمَّا كُنَّا أطفالًا؛ فنضحكُ ضحكةً ساخرة، ولا نعرفُ أنَّها ساخرة.
أفراح الهندال في مجموعتها هذه تحاول أن تُحرِّر الوعي من قيود الواقع، فنعيش ولو لحظةً في الحلم، فنذهب إلى أقاصي تخوم الحريَّة.
أنور محمد
حجم الخط
في المجموعة القصصية الأولى "سكِّين النحت" للكاتبة الكويتية أفراح الهندال (المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2023) هناك بحثٌ عن الحريَّة باعتبارها سقف التحدي للإنسان؛ إما يحيا أو يموت دونها. وهذا ما اشتغلت عليه الهندال في قصصها الـ 39، فتتعرَّض شخصيات المجموعة في قصصها القصيرة والقصيرة جدًا للاضطهاد والتغييب القسري، وهي تنتقل من المعقول إلى اللامعقول، فتسرد وفي أجواء كابوسية استهزاء وسخرية هذه الشخصيات من المصير المأساوي الذي تُساق إليه عمدًا، فلا يسقطون في حفرة الجبرية المعتقدية أو الاجتماعية.
في قصتها "شكوى الجدران" تضعنا الهندال في مبنى عالي الجدران، أعمدةُ سورِه مُدبَّبة لا يمكنُ مجرَّد التفكير بالقفز من عليها حتى ولا القطط، ولا يمكن للأصوات؛ أصوات المحتجزين (أطفال)؛ أن يسمعها أحدٌ مهما ارتفع صراخهم وعويلهم. لكن لمَّا سَمَعَ مَنْ سَمِعَ، وجاء ليعرفَ ما يجري؛ وهُم المحقِّقون، لم يصدِّقوا أنَّ بطلة القصَّة تحاول إنقاذهم وقد علا صوت بكائهم. كيف يصدِّقون؟ ولماذا يتزنَّر ويتحصَّن السيِّد القابع في صمته بالوشاة والمُخبرين الذين يمحون اللون الأسود لون الموت والاحتجاج على استبداده، ويستبدلونه باللون الأبيض، ويمحون كلَّ عبارات الغضب. الهندال في هذه القصة تستدعي الأنا المفكِّرة، فالإنسان هو من يخلق الحريَّة، كما فعلت باحتجاجها، لمَّا علَّمت الأطفال البكاء- والطفل يجيد البكاء بالفطرة أكثر من الضحك، للتعبير عن الرفض والجوع والألم. هي هنا تنحتُ بحدِّ السؤال اللماذائي؛ وهو سؤال فلسفي لتكشف عن معاناة الشعور. لماذا السؤالية هي لماذا احتجاجية عن لا عقلانية ما يحدث. أفراح الهندال تسرد حكاياتها بشعورٍ مأساوي، وهو الشعور الذي يُباطن الوعي.
في قصتها "سكِّين النحت" ترسمُ صورة حسِّية بإدراكٍ بصري واعٍ لما آل إليه رأسها بسكِّين؛ بسكاكين النحَّات: "النّحات الذي سَمَّرني على الكرسي، شكّل وجهي من جديد؛ عينان.. أنف... وجبين بلا نُدوب. أتقنَ تسوية ذقني بأصابعه، كان يكشط زوائد الطّين ويربِّت عليها، أدهشَ الحضورَ المتحلِّق حولنا برأس رطبٍ وليِّن بلا فم، فَمِي بين كفّيه، مَسَحَهُ بردائِه، تحوَّلتْ لطخاتُ الطين إلى كلمات، لم يتمكَّن من مجاراة مديحهم". إنَّها تُصوِّر رأسًا وقد نحته النحات بشكل لا عقلاني، لا واقعي، ولا يحاكي الصورة الأصل- وجهٌ بلا فم، ذلك كموضوع للتأمل والاستبصار والرفض. نحَّاتٌ بسكِّينه شوَّه رأسها، والرأس لا القدمين هو الهوية. أفراح الهندال تريدنا– وقصصها ذات رؤى فلسفية- أن نعبر من المرئي إلى الَّلامرئي. صحيح أنَّ قصص المجموعة "سكين النحت" واقعية، ولكنَّها تفلتُ من الواقع إلى الَّلاواقع/ اللامعقول الذي كما لو إنَّه صار معقولًا. هناك صور لوقائع تُدرك بالمحسوس، وعلاقاتها- العلاقات فيما بينها قد تكون؛ أو تبدو حقيقية، ولكنَّها في الفنون، هنا القصص؛ هي علاقاتٌ مجازية، وهي عند القاصَّة رسائل اكتشاف، فقد قيَّدها النحَّات بالطين، وثمَّة فوهة تحاول الخروج منها؛ ولكنَّها لا تخرج، حتى لمَّا حاولت الصراخ مستنجدةً برأسها الممرَّغ على الطاولة راحَ صوتها، وخارت قواها.
"تتعرَّض شخصيات المجموعة في قصصها القصيرة والقصيرة جدًا للاضطهاد والتغييب القسري، وهي تنتقل من المعقول إلى اللامعقول، فتسرد وفي أجواء كابوسية استهزاء وسخرية هذه الشخصيات من المصير المأساوي الذي تُساق إليه عمدًا" |
في قصَّتها "غرفتي... قفصٌ صغير" لا يفارقها إحساسها الساخر بالسجن، فتستغرق في رسم صورٍ بمنتهى التجريد التعبيري؛ ثعلبٌ يدخل غرفتها فيقلب سافلها عاليها. هي تُقدِّر أنَّ ثعلبًا بعثرَ أوراقها، علب أحذيتها، أدراج خزانتها- وهذا ليس إدراكًا بصريًا خادعًا. أفراح ترسم صورة حسِّية سوريالية عاشتها بإحساسها، رَسَمَتها، نحَتتْها صورة من الواقع، ولكن لتُحيلُنا إلى ما فوق الواقع/ الخيال: "عرفتُ أنَّه كان يُفتِّشُ عن الرِّيشِ في غرفتي حين وجدتُ من بين الأوراق المُجعَّدة قصاصةُ كتبتُ فيها "ليتني حمامة"، كان ذلك قبل أعوامٍ طويلة، على مقربة من السَّماء". تكوينٌ تكشف فيه أفراح عن معيارية الحواس، وعن جشع الغريزة. فالثعلب وقد قرأ في قصاصة الورق أنَّها تتمنى أن تكون حمامة، كأنَّه قبضَ على رحيق حياة، فقام ببعثرة المكان بحثًا عن الريش- ريش الحمامة. هنا الدهشة، الهندال تحقِّق الدهشة في صورةٍ لا أساسَ لها في الواقع، لقد حلَّقت في تخييلها فيما كانت ترى بعين بصيرتها ما لم نره نحن من تمزقات وتناقضات، فرسمت صورة من تأملات وإشراقات؛ صورة نرى فيها ما يجب أن نراه، وليس الصورة التي تعكسها المرآة، الصورة التي كنَّا نريد أن نرسمها لمَّا كُنَّا أطفالًا؛ فنضحكُ ضحكةً ساخرة، ولا نعرفُ أنَّها ساخرة.
أفراح الهندال في مجموعتها هذه تحاول أن تُحرِّر الوعي من قيود الواقع، فنعيش ولو لحظةً في الحلم، فنذهب إلى أقاصي تخوم الحريَّة.