الكلمة والصورة... الحُرّتان طبعًا... حربٌ على أعداء الحريّة
عمر شبانة
هنا/الآن
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمّة فرق شاسع بين صحافيّ/ كاتب ومراسل حربيّ ميدانيّ "مشتبك" و"حامل رسالة" من جهة، وآخر يمكن أن يكون "محايدًا" يكتفي بنقل الخبر والصّورة، من دون أدنى حدّ من التفاعل. المسألة تتعلّق بما إذا كنتَ تحمل قضيّة، ومدى ارتباطك بها وإيمانك بالدفاع عنها، أو أنّك تؤدي وظيفة "مهنة" تعتاش منها. والأمر نفسه ينطبق على أشكال الإبداع وأنواعه وأجناسه.
في البداية، ولها ما قبلها، كان اغتيال المبدع الكبير غسّان كنفاني علامة بارزة على منهج الصهيونيّة في التعامل مع الكلمة ووسائل التعبير، وبعده بدأ مسلسل الاغتيالات المُمنهج والمخطّط له، فاغتالت عددًا من المبدعين الفلسطينيّين، والعرب أيضًا في بعض الحالات.
[من الذاكرة: صديق كاتب وصحافيّ كتب مقالة عن غياب الديمقراطية في البلد، جرى اعتقاله لما يقارب أربعة شهور. تحقيقات كثيرة ومحقّقون كُثر، تعذيب نفسانيّ في البداية، أسئلة حول دوافعه والدّافعين وراءه، مطالبات بالاعتراف والتعاون، وعروض بما يريد من "مناصب"، وسياسة العصا والجزرة المعروفة، لكنّه لم يكن "يتعاون". ثمّ جاءت مرحلة التعذيب الجسديّ. ساحة خاصّة وجلّادون كان يصفهم المحقّق نفسه بأنّهم "همَج"، و"وحوش" ينفّذون الأوامر بلا تردّد أو سؤال. وكانت رحلة مع التعذيب العبثيّ، سِياط ودم. كأنّه عدوّ شرس يسعى إلى انتصار. هي رحلة دمويّة شرسة لم يعرف ما هدفها؛ هل يشكّل مقالٌ صحافي تلك الخطورة؟!].
ما يقارب مئة شهيد من الصّحافيّين ـ المراسلين الحربيّين، حتّى الآن، في غزّة والضفة الغربيّة والجنوب اللبنانيّ، هم ضحايا الآلة العسكريّة والعقليّة الصهيونيّة في الحرب على غزّة، وهم مؤشّر على طبيعة الحرب الإعلاميّة، والحرب على الإعلام المرئي والمسموع. ومرّة أخرى نقف على تأثير الصورة والفيديو في صورة المتحاربين من جهة، ومسارات المعارك من جهة ثانية وأساسيّة. هذا ما تثبته الحرب على غزّة التي يريد الصهيونيّ ـ الإسرائيليّ أن يكتم الأصوات والصّور ويحجبها عن جمهوره أوّلًا، وعن العالم أيضًا، ظنًّا منه بإمكانية فرض سيطرته على هذا الإعلام.
كثرٌ هم الصحافيّون ـ المراسلون الحربيّون الفلسطينيّون الذين برزت أسماؤهم، وكان لهم حضور مميّز في الحرب على غزّة، وقبلها، وضمن ذيولها في الضفّة الغربيّة، وكذلك في الحدود مع لبنان. لكنّ ثمّة نماذج يمكن اعتبارها استثنائيّة، لأسباب تتعلّق بالجمع بين القدرات المهنيّة والقدرة على حمل رسالة تجعل المُراسل يتجاوز مأساته الإنسانية، ليصنع أنموذج الصحافي ـ المراسل الحربيّ الفذّ، حيث يفقد هذا المُراسل كثيرًا من أهله وأقربائه أو أصدقائه، ورغم ذلك يستمرّ في أداء رسالته الإعلاميّة، مقتحمًا مواقع الخطر بلا حساب ولا خوف على مصيره الشخصيّ.
الشّاهد الشّهيد
لا ننسى، ابتداءُ، أن الصحافيّ والمراسل يقدّم ما يطلبه صاحب المنبر الإعلاميّ، أو القنوات الفضائيّة التي يختار العمل معها، المالك الذي يقدّم التمويل كما يرى نوعم تشومسكي في تحديده لشروط ومحدِّدات العمل الإعلاميّ ككلّ، فـ"في النهاية، تدير وسائل الإعلام شركات كبرى تسعى إلى تحقيق الربح، ولذا فإنها ستنشر المقالات التي تساهم في تحقيق أكبر قدر من الربح"، ولا أظنّه يقصد الربحَ الماديّ (الماليّ) فقط، بل يذهب إلى الربح المعنويّ، ودعم الرسالة التي يريد صاحب المنبر توجيهها.
"ما يقارب مئة شهيد من الصّحافيّين ـ المراسلين الحربيّين، حتّى الآن، في غزّة والضفة الغربيّة والجنوب اللبنانيّ، هم ضحايا الآلة العسكريّة والعقليّة الصهيونيّة في الحرب على غزّة" |
بخوذته وسُترته ـ درعه الحربيّة الواقية، والشّعار الذي يميّزه بوصفه (press)، و"مايك" البثّ، بمن في ذلك من يقف ويتحرك وراء الكاميرا، في جحيم بين فريقين متحاربَين بضراوة، يظهر المُراسل الحربيّ في موقع المحارب الثالث بين الطرفَين، محارب سلاحه الكاميرا والكلمة، وفي إمكانه أن يُحدث أثرًا أكيدًا في المعركة. وهذا مبرّر استهدافه لقمع صوته وحجب حامل الكاميرا من ورائه، وهو ما نشاهد على الشاشات مباشرة، من دون اعتبار للتأثير على صورة من يمارس القمع، لأنّ ثمن هذا القمع، كما يعتقد الطرف القامع، الذي يحظى بحماية ودعم قوى عُظمى في العالَم، يظلّ أقلّ من ثمن وصول صوت هذا المراسل وصورته البليغة.
صحافيّون كُثر، ومراسلون من ميدان الحرب، قدّموا، خلال هذه الحرب، نماذج تمثّل نمطًا "غير طبيعي"، بل إنّها فوق ما هو طبيعيّ للمراسل حامل الرسالة، وليس الصحافيّ الموظّف، والفارق كبير بين الموظّف وحامل الرسالة المؤمن بتوصيل رسالته. نماذج مثاليّة للجمع بين المهنية والرسالية. منهم مَن استُهدف مباشرة فكان هو نفسه ضحيّةً وخبرًا، ورأينا كيف يصبح الشّاهد شهيدًا لرسالته،ومنهم مَن فقد عددًا من أفراد أسْرته وحتى زملائه، وسَرعان ما نهض من "نكبته" الخاصّة ليواصل حمل رسالته المقدّسة. نتوقّف هنا عند اللقاء بين ما هو إعلامي وما هو إنسانيّ في العمل الصّحافيّ والإعلاميّ. كيف يتمكّن هذا المراسل الحربيّ من القيام بدوره بعد لحظات من خسارته عددًا من أقرب المقرّبين من أهله، من أسرته وعائلته المتمثلة في زوجته وأبنائه وعدد من أقاربه.
ومنذ استهداف شيرين أبو عاقلة واغتيالها، شيرين الفلسطينية التي لم يعرف كثيرون أنّها مسيحية قبل تشييعها في الكنيسة، لأنّها لا تميّز بين مسيحيّ ومسلم، ولا حتى يهوديّ غير صهيونيّ.. شيرين الفلسطينية حاملة الجنسيّة الأميركيّة التي لم تتحرّك أميركا للدفاع عن قضيّة استهدافها، عرفنا أنموذجًا جديدًا للصحافيّة والمراسلة الحربيّة التي تجسّد الصحافيّين حمَلة الرسالة، رسالة الصحافة الحرّة، التي ندعوها السّلطة الرابعة. السّلطة التي تستهدفها قوّات الكيان الصهيونيّ لما لها من أثر في عرض الوقائع بالصورة والصوت.
نماذج مقابلة "مِهنيّة" موجَّهة
وفي المقابل، ينبغي تناول أنموذج الصّحافي المِهني، أو "المحايد"، إذا جاز هذا التصنيف، لأنّه موجّه لتوصيل رسالة ورواية ما، ونقرأ عن هذا الجانب من حوار مع الكاتبة والصحافية الإسبانية تيريزا أرانغورين: "أكتب من أجل تفكيك السردية الصّهيونيّة، إن دور الصحافة في مناطق الحرب والصراع هو دور أساسي، وفي بعض الأحيان يكون الصحافيّون هم الشهود الوحيدون على الفظائع التي ستبقى مخفية من دون عملهم، ولكن يجب أن أقول أيضًا إن جزءًا ممّن يعملون في مهنة الصحافة يتخلّى عن واجبه والتزامه الأخلاقيّ، فعلى سبيل المثال، عندما يتمّ نقل تصريحات الجيش الإسرائيليّ وكأنّها حقائق مثبتة"، وتضيف "يقول مثلًا صوت المراسل: ’قصف الجيش الإسرائيليّ منشآت عدة تابعة لحماس في غزة’، بينما تظهر لنا صور لعشرات الجثث من الأطفال والمدنيّين الذين سحقتهم القنابل، إنّ هذه الممارسة هي التي تحوّل الصّحافيّ إلى ’ناطق رسميّ’ للخطاب الإسرائيليّ، أي لقوّة الاحتلال، وللأسف إن هذه الممارسة تتكرّر بشكل متزايد وتفقد المهنة برمّتها مصداقيّتها" (ضفّة ثالثة).
"تجسِّد شيرين أبو عاقلة، وهي الفلسطينية حاملة الجنسيّة الأميركيّة التي لم تتحرّك أميركا للدفاع عن قضيّة استهدافها، أنموذجًا جديدًا للصحافيّة والمراسلة الحربيّة حاملة رسالة الصحافة الحرّة" |
يتعلّق ذلك كلّه بما يمكن تسميته "أيديولوجيا الإبادة"، وهي الأيديولوجيا التي تستند إليها الصهيونية في القتل تجاه "الغوييم"، شعبًا وصحافيّين، هذه الأيديولوجيا المتولّدة من هلوسات التوراة وخرافاتها تجاه الآخر، وحتى تجاه الربّ. نقرأ ما يقوله الباحث والكاتب منير العكش في كتابه الصّادر حديثًا "اليهود والعنف: كيف يصبح الدّين شرًّا، نظرة موحّدة للعنف في تاريخ الأديان الثلاثة"، حيث يرى أنّ اليهود يدّعون "أنّهم أنبل من ربّهم وأطهر وأكرم أخلاقًا"، وهذا هو أساس لأيديولوجيا التفوّق التي تبيح مبدأ إبادة "الآخر". ويواصل العكش أنّ رواة نصوص هذه الذهنيّة "يتلذّذون بشاعريّة معصرة غضب الربّ: ووحشيّ عصرها "دم شعوب الأرض"، كما ورد في إشعيا". بل إنّهم"كانوا يتقدّسون بمشاهد التطهير العرقيّ، والجرائم التي ارتُكبت في أرض مصر في حقّ كلّ بيت وطفل مصريّ: يروونها بروح مختنقة بالشماتة تتواضع أمامها ألف أوشفيتز... ويزعمون أن ربّهم الذي خلقوه على صورتهم ومن ضلع بداوتهم يُسرّ برائحة الجثث المشويّة".
هكذا يمكننا أن نفهم هذه العقلية "الخرافية" لهذا الكيان وجيشه ومكوّناته. وهي ـ كما يوضح العكش "الذهنيّة التي أسّسها الآباء الأنبياء من مادّة حياتهم الصحراويّة، وما زالت فاعلة في سلوك مُستعمِري فلسطين وأخلاقهم، الثابت الوحيد والفاعل في هذا التاريخ. إنها، إضافة إلى بصماتها القوية على تاريخ المسيحية والإسلام، لم ترسم صورة لذهنية الماضي البعيد وحسب، بل إنها تحكمت بمسار المستقبل؛ مسار حركات الاستعمار والاستيطان والتمييز العنصري والإبادات الجماعيّة".
لكنّنا لا نستطيع أن نكتفي باتّهام هذه العقلية الخرافية في تفسير ما يجري اليوم في غزة وفلسطين، منذ خمسة وسبعين عامًا، إذ إن هذه العقلية كانت المادة التي استثمرتها الحركة الصهيونية، ومن ورائها الكولونياليّة العالميّة، لإقامة الكيان الصهيوني، ليكون "بارجة حربيّة" متقدّمة في حرب الاستعمار الحديث على الشعوب، ولتحقيق مصالحه في الهيمنة على العالم واستغلال ثرواته، كما كانت الحال مع السكّان الأصليّين لأميركا، ومن يسمَّون "الهنود الحمر"، لنكون أمام صورة استعمارية جديدة، بأقنعة توراتية يحميها الربّ.