"بازار الفريسة": تحوّلات مثقّف من المقاومة لـ"الخيانة"
عمر شبانة
20 يناير 2024
شارك هذا المقال
حجم الخط
في روايته الجديدة "بازار الفريسة"، يتنقل بنا الكاتب الروائي سامح خالد، مع "البطلة" هالة جبران، الكاتبة المسرحيّة، وزوجها المثقف و"المناضل" الراحل رشيد مرعي، في فضاءات روائية غنيّة بالحكايات والتأمّلات والآراء، حول نموذج شخصية هذا المثقف المناضل، ومسيرته الغامضة لدى زوجته هالة ولدى رفاقه. ربّما كان من الصعب القطع في ما إذا كان رشيد مرعي، بطل هذه الرواية، بدأ حياته مثقّفًا انتهازيًّا وصوليًّا، لكونه وصل إلى هذه النهاية في مرحلة أخيرة من حياته، أم أنّه أصبح كذلك ضمن تحوّلات جذرية في مسيرته التي بدأت نضالية ـ ثقافية، وانتهى معها إلى "خائن" لتجربته وقضيته الفلسطينيّة؟
هنا إضاءات على أبرز محاور الرواية.
الرواية الصادرة في (المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمّان وبيروت) تنطوي على قدر من السخرية السّوداء، والواقعية الممزوجة بشيء من التخييل الروائي، تأتي على لسان "بطلة" هي هالة اللبنانيّة (مسيحيّة) المتزوجة من الفلسطينيّ/ الأردنيّ رشيد مرعي، حيث تقوم هالة هذه بمحاكمة مسيرة رشيد وتجربته ما بين النضال في صفوف المقاومة الفلسطينية ومركز الأبحاث وبين انتقاله إلى التعاون مع السفارة الأميركية. فهي تنتقل مع رشيد بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، إلى عمّان، وعلى مضض تبدأ التكيّف مع المكان الجديد المملّ مقارنة مع بيروت وحيويّتها.
تبدأ الرواية بوقوف هالة (البطلة ـ الراوية) أمام صورة زوجها المتوفّى رشيد لمساءلته عن غيابه، وعن مسيرته وتجربته السياسية، وتنتهي بتخلّيها عنه بعد انكشاف فضائحه المرتبطة بعلاقاته مع السفارة الأميركية... في البداية، نحن أمام رسالة وزارة الخارجية الأميركية إلى سفرائها، وسفيرها في الأردن خصوصًا، توجّههم للاهتمام بالشؤون الداخلية الأردنية/ الفلسطينية، السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها، هذا الاهتمام الذي سوف يتجسّد في علاقة السفارة الأميركية في عمّان مع النخب السياسية والثقافية الأردنية، ومع مؤسسات المجتمع المدني من خلال تمويلها للقيام بالأبحاث والدراسات حول قضايا تتعلق بالسياسات الأميركية في المنطقة، وقضايا تخصّ المرأة والمجتمع والجماعات "المتطرّفة"، وغير ذلك من القضايا. (هل من رمزية لكونها لبنانية وكونه فلسطينيًّا؟! هل نفهم أن وضع المقاومة في لبنان قد فضح طبيعة هذه المقاومة؟ وتزداد فضيحة مثقف المقاومة بعودته إلى الأردن والإغراءات؟).
صورة من صور المثقف
الرواية التي تحاكم المثقف والمناضل الفاسد، بل الخائن لقضيّته وثقافته، من خلال "بطلتها" هالة، تأخذنا أيضًا في رحلة مع الأردن المجتمع والدولة، في فضاءات مكانية بأبعادها الاجتماعية والسياسية والثقافية المتنوعة. الفضاءات "العمّانيّة" تحتل مساحة واسعة، بدءًا من شرق عمّان في ماركا الشماليّة التي سكنها رشيد حين عودته من بيروت بعد خروج المقاومة (1982)، ثم جبل التاج، وانتقالًا إلى وسط عمّان (البلد القديمة) بمطاعمها ومقاهيها وآثارها، ثم في جبل اللويبدة وجبل عمّان، من الدوّار الأوّل العتيق، وصولًا إلى المناطق الحديثة في حي أمّ أذينة، الحي الأرستقراطيّ الذي سيشتري فيه رشيد بيتًا حين يغتني بفضل تمويل السفارة الأميركيّة للنشاطات البحثية التي تخدم سياسات أميركا.
تُفصح الرواية عن طبيعة وعي كاتبها للمجتمع الأردني ومكوّناته الأساسية التي يعبّر عنها بعبارة "الأصول والمنابت"، من سوريّين وفلسطينيّين وشركس وأرمن وغيرهم، مجتمع يجمع حداثة التكنولوجيا والمولات والمقاهي المفتوحة لجلسات نسائية جريئة ومنفتحة اجتماعيًّا، من جهة، لكنه من جهة مقابلة مفتوح على عشائرية وقبَلية تلغي هذا الوجه الحداثيّ. وهو أيضًا مجتمع يعاني انتشار ظواهر الفساد والمخدرات، كما هي الحال مع هشام ابن هالة ورشيد. وربما كان من المهمّ أيضًا تناول الحياة الثقافية وأمراضها المتمثلة في عدد من المظاهر، أبرزها حضور روائية وفنانة تشكيلية فوضويّتين هما صديقتا "البطلة" هالة، وسلوكياتهما الاستعراضية في المقاهي... وغير ذلك.
من بين شخوص الرواية الجديرين بالتوقف شخصية "الرفيق سامي"، أحد رفاق رشيد السابقين، الذي ينتهي صاحب مكتبة صغيرة في وسط البلد، يبيع الكتب الثقافية والأدبية، ولكنه مضطر أيضًا لبيع كتب السحر والجن والطبخ، في زمن تراجع الكتاب الورقيّ أمام الإلكترونيّ، وتلجأ هالة إلى سامي ليكشف لها عن شيء من أسرار زوجها الراحل رشيد، في ظل ما يُشاع في الإعلام وفي مواقع التواصل عن فساده وعلاقاته المشبوهة، فيؤكد لها كثيرًا من الإشاعات.
ولكن الذي يحسم لها أمر الشبهات حول رشيد هو ما تقدّمه لها المحامية (سارة جلال) التي تتصل بها وتقدم نفسها بوصفها ابنة "جلال الكرّام"، الذي عمل لفترة مع رشيد في مركز "جسور الحوار للدراسات"، وحين يشك جلال هذا في عمل رشيد ونشاطات المركز المشبوهة، يبدأ البحث والتنقيب عن المموّلين والمهمّات التي يقوم بها، ليكتشف حقيقة ما يقوم به رشيد ومركزه من التعامل مع مؤسسات تتعامل بدورها مع إسرائيل، فيطرده رشيد، ويحتفظ (جلال) بتلك الأنشطة في ملفّ تقدّمه المحامية إلى هالة، فتتأكد هذه من الشائعات، وتنتهي إلى القناعة بحقيقة زوجها الراحل.
ومع شخصية هالة، ونبشها حول شخصية زوجها الراحل، وما يتخلل قصة حياتهما من شخوص وحوادث، يقدّم الروائي سردًا على قدر من التشويق، بقدر ما يطرح من الأسئلة حول مجموعة من القضايا الثقافية والسياسية والاجتماعية. وهو إذ يحاكم شخصيّة مثقف مناضل ومآلاته، فإنّما يحاكم تجربة المقاومة الفلسطينية، وما اكتنف هذه التجربة من فساد وتجاوزات في لبنان، خصوصًا في ما كان يسمّى "جمهوريّة الفاكهاني"، ومآلاتها بعد الخروج من بيروت، إلى تونس واليمن وسورية، وغيرها. ومن خلال عودة رشيد إلى عمّان، يعمل الروائي على محاكمة العمل السياسي والثقافي في الأردن، والظروف التي تسمح بالعمل والتعاون مع السفارات. فواحدة من المهمّات التي يقوم بها مركز "جسور..." بتكليف من السفارة الأميركية هي البحث في موضوع ممتلكات اليهود في الدول العربية التي تم طردهم أو تهجيرهم منها بعد قيام دولة الكيان الصهيونيّ. وهو ملفّ يرتبط بسفارة هذا الكيان في عمّان.
بين الواقع والتخييل
وبصرف النظر عن "حقيقية" الرسائل المتبادلة بين السفارة الأميركية في عمّان وبين مركز "جسور الحوار" الذي أسّسه ويديره رشيد مرعي، أو أن الرسائل متخيّلة ضمن السرد الروائيّ، فإنّنا حيال عمل روائيّ واقعي يشهد على مرحلة ممتدّة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وحتى بدايات الألفية الثالثة، لكنه واقع ممزوج بقدر كبير من التخييل الروائي، ينجح الكاتب في مزجه على نحو يكاد يجعل القارئ لا يعرف الحقيقة من الخيال. فهو يكتب مستعينًا بالمعلومات والمعرفة بالمجتمع وعالم الثقافة ومراكز البحث، بل لعلّه يذكّرنا ببعض أصحاب هذه المراكز العاملة في نطاق مؤسسات المجتمع المدني، فمنها ـ ومن أصحابها ـ ما لا يهمّه أي محظورات، فهو مستعدّ للقيام بكلّ المهمّات "القذرة" بالتعاون مع السفارات والمؤسسات الدولية لـ"حقوق المرأة"، أو "حقوق الإنسان"، أو الحريّات الصحافيّة"، أو "حوار الثقافات"، و"حوار الديانات"، وغير ذلك.
رواية غير مسبوقة في المشهد الروائي الأردنيّ، ليس على مستوى مضمونها ومقولاتها فقط، بل على صعيد بناء مسبوك لشخصيّتها الأساسية (هالة)، وحياتها في تنقّلها بين عمّان وبيروت، وفي قراءة أحوالها النفسيّة، وفي القلق والأحلام والكوابيس التي تعيشها في ما يتعلّق بزوجها وعلاقتها معه منذ اللقاء الأول في مكتب من مكاتب المقاومة، حتى رحيله، وصولًا إلى الكشف عن أسراره وخبايا عمله. وذلك كله في حبكات سردية لا تنطوي على أي تنظير أو ادّعاءات تُذكر.
***
ملحوظة: الرواية منعتها الرقابة الأردنية من التوزيع في الأردن. وعن هذا المنع، كتب المؤلف على صفحته على فيسبوك كلمة هنا بعض منها: "قرّرت الرقابة التابعة لهيئة الإعلام، وبصورة قاطعة، إيقاف توزيع روايتي الجديدة "بازار الفريسة" الصادرة مؤخرًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمّان وبيروت، وطلبت من الناشر إعادة نسخ الرواية المتوفرة في مكتب المؤسسة في عمّان إلى بيروت، وعدم توزيع الرواية داخل الأردن، وذلك بدعوى احتوائها على شتائم، علمًا أن تلك الشتائم لا تتجاوز الأربعة، أو الخمسة، وهي ترِد على لسان الشخصيات المتخيّلة، وورودها ضروري في الحوار، فهي تكشف أمزجة تلك الشخصيات وخلفياتها النفسية والاجتماعية، إلا أن بعض من قرأوا الرواية فسّروا قرار إعادة تصديرها ومنع توزيعها في الأردن بأنه عائد إلى إطارها السياسي، وما تضمّن من تفاصيل لعمل السفارات الأجنبية والمنظمات المموّلة من الخارج، على الرغم من أن الأحداث من الواضح أنها متخيلة وغير حقيقية تمامًا، حتى لو كان لها أصل واقعي".
عمر شبانة
20 يناير 2024
شارك هذا المقال
حجم الخط
في روايته الجديدة "بازار الفريسة"، يتنقل بنا الكاتب الروائي سامح خالد، مع "البطلة" هالة جبران، الكاتبة المسرحيّة، وزوجها المثقف و"المناضل" الراحل رشيد مرعي، في فضاءات روائية غنيّة بالحكايات والتأمّلات والآراء، حول نموذج شخصية هذا المثقف المناضل، ومسيرته الغامضة لدى زوجته هالة ولدى رفاقه. ربّما كان من الصعب القطع في ما إذا كان رشيد مرعي، بطل هذه الرواية، بدأ حياته مثقّفًا انتهازيًّا وصوليًّا، لكونه وصل إلى هذه النهاية في مرحلة أخيرة من حياته، أم أنّه أصبح كذلك ضمن تحوّلات جذرية في مسيرته التي بدأت نضالية ـ ثقافية، وانتهى معها إلى "خائن" لتجربته وقضيته الفلسطينيّة؟
هنا إضاءات على أبرز محاور الرواية.
الرواية الصادرة في (المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمّان وبيروت) تنطوي على قدر من السخرية السّوداء، والواقعية الممزوجة بشيء من التخييل الروائي، تأتي على لسان "بطلة" هي هالة اللبنانيّة (مسيحيّة) المتزوجة من الفلسطينيّ/ الأردنيّ رشيد مرعي، حيث تقوم هالة هذه بمحاكمة مسيرة رشيد وتجربته ما بين النضال في صفوف المقاومة الفلسطينية ومركز الأبحاث وبين انتقاله إلى التعاون مع السفارة الأميركية. فهي تنتقل مع رشيد بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، إلى عمّان، وعلى مضض تبدأ التكيّف مع المكان الجديد المملّ مقارنة مع بيروت وحيويّتها.
تبدأ الرواية بوقوف هالة (البطلة ـ الراوية) أمام صورة زوجها المتوفّى رشيد لمساءلته عن غيابه، وعن مسيرته وتجربته السياسية، وتنتهي بتخلّيها عنه بعد انكشاف فضائحه المرتبطة بعلاقاته مع السفارة الأميركية... في البداية، نحن أمام رسالة وزارة الخارجية الأميركية إلى سفرائها، وسفيرها في الأردن خصوصًا، توجّههم للاهتمام بالشؤون الداخلية الأردنية/ الفلسطينية، السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها، هذا الاهتمام الذي سوف يتجسّد في علاقة السفارة الأميركية في عمّان مع النخب السياسية والثقافية الأردنية، ومع مؤسسات المجتمع المدني من خلال تمويلها للقيام بالأبحاث والدراسات حول قضايا تتعلق بالسياسات الأميركية في المنطقة، وقضايا تخصّ المرأة والمجتمع والجماعات "المتطرّفة"، وغير ذلك من القضايا. (هل من رمزية لكونها لبنانية وكونه فلسطينيًّا؟! هل نفهم أن وضع المقاومة في لبنان قد فضح طبيعة هذه المقاومة؟ وتزداد فضيحة مثقف المقاومة بعودته إلى الأردن والإغراءات؟).
صورة من صور المثقف
الرواية التي تحاكم المثقف والمناضل الفاسد، بل الخائن لقضيّته وثقافته، من خلال "بطلتها" هالة، تأخذنا أيضًا في رحلة مع الأردن المجتمع والدولة، في فضاءات مكانية بأبعادها الاجتماعية والسياسية والثقافية المتنوعة. الفضاءات "العمّانيّة" تحتل مساحة واسعة، بدءًا من شرق عمّان في ماركا الشماليّة التي سكنها رشيد حين عودته من بيروت بعد خروج المقاومة (1982)، ثم جبل التاج، وانتقالًا إلى وسط عمّان (البلد القديمة) بمطاعمها ومقاهيها وآثارها، ثم في جبل اللويبدة وجبل عمّان، من الدوّار الأوّل العتيق، وصولًا إلى المناطق الحديثة في حي أمّ أذينة، الحي الأرستقراطيّ الذي سيشتري فيه رشيد بيتًا حين يغتني بفضل تمويل السفارة الأميركيّة للنشاطات البحثية التي تخدم سياسات أميركا.
تُفصح الرواية عن طبيعة وعي كاتبها للمجتمع الأردني ومكوّناته الأساسية التي يعبّر عنها بعبارة "الأصول والمنابت"، من سوريّين وفلسطينيّين وشركس وأرمن وغيرهم، مجتمع يجمع حداثة التكنولوجيا والمولات والمقاهي المفتوحة لجلسات نسائية جريئة ومنفتحة اجتماعيًّا، من جهة، لكنه من جهة مقابلة مفتوح على عشائرية وقبَلية تلغي هذا الوجه الحداثيّ. وهو أيضًا مجتمع يعاني انتشار ظواهر الفساد والمخدرات، كما هي الحال مع هشام ابن هالة ورشيد. وربما كان من المهمّ أيضًا تناول الحياة الثقافية وأمراضها المتمثلة في عدد من المظاهر، أبرزها حضور روائية وفنانة تشكيلية فوضويّتين هما صديقتا "البطلة" هالة، وسلوكياتهما الاستعراضية في المقاهي... وغير ذلك.
من بين شخوص الرواية الجديرين بالتوقف شخصية "الرفيق سامي"، أحد رفاق رشيد السابقين، الذي ينتهي صاحب مكتبة صغيرة في وسط البلد، يبيع الكتب الثقافية والأدبية، ولكنه مضطر أيضًا لبيع كتب السحر والجن والطبخ، في زمن تراجع الكتاب الورقيّ أمام الإلكترونيّ، وتلجأ هالة إلى سامي ليكشف لها عن شيء من أسرار زوجها الراحل رشيد، في ظل ما يُشاع في الإعلام وفي مواقع التواصل عن فساده وعلاقاته المشبوهة، فيؤكد لها كثيرًا من الإشاعات.
ولكن الذي يحسم لها أمر الشبهات حول رشيد هو ما تقدّمه لها المحامية (سارة جلال) التي تتصل بها وتقدم نفسها بوصفها ابنة "جلال الكرّام"، الذي عمل لفترة مع رشيد في مركز "جسور الحوار للدراسات"، وحين يشك جلال هذا في عمل رشيد ونشاطات المركز المشبوهة، يبدأ البحث والتنقيب عن المموّلين والمهمّات التي يقوم بها، ليكتشف حقيقة ما يقوم به رشيد ومركزه من التعامل مع مؤسسات تتعامل بدورها مع إسرائيل، فيطرده رشيد، ويحتفظ (جلال) بتلك الأنشطة في ملفّ تقدّمه المحامية إلى هالة، فتتأكد هذه من الشائعات، وتنتهي إلى القناعة بحقيقة زوجها الراحل.
"تُفصح الرواية عن طبيعة وعي كاتبها للمجتمع الأردني ومكوّناته الأساسية التي يعبّر عنها بعبارة "الأصول والمنابت"، من سوريّين وفلسطينيّين وشركس وأرمن وغيرهم" |
ومع شخصية هالة، ونبشها حول شخصية زوجها الراحل، وما يتخلل قصة حياتهما من شخوص وحوادث، يقدّم الروائي سردًا على قدر من التشويق، بقدر ما يطرح من الأسئلة حول مجموعة من القضايا الثقافية والسياسية والاجتماعية. وهو إذ يحاكم شخصيّة مثقف مناضل ومآلاته، فإنّما يحاكم تجربة المقاومة الفلسطينية، وما اكتنف هذه التجربة من فساد وتجاوزات في لبنان، خصوصًا في ما كان يسمّى "جمهوريّة الفاكهاني"، ومآلاتها بعد الخروج من بيروت، إلى تونس واليمن وسورية، وغيرها. ومن خلال عودة رشيد إلى عمّان، يعمل الروائي على محاكمة العمل السياسي والثقافي في الأردن، والظروف التي تسمح بالعمل والتعاون مع السفارات. فواحدة من المهمّات التي يقوم بها مركز "جسور..." بتكليف من السفارة الأميركية هي البحث في موضوع ممتلكات اليهود في الدول العربية التي تم طردهم أو تهجيرهم منها بعد قيام دولة الكيان الصهيونيّ. وهو ملفّ يرتبط بسفارة هذا الكيان في عمّان.
بين الواقع والتخييل
وبصرف النظر عن "حقيقية" الرسائل المتبادلة بين السفارة الأميركية في عمّان وبين مركز "جسور الحوار" الذي أسّسه ويديره رشيد مرعي، أو أن الرسائل متخيّلة ضمن السرد الروائيّ، فإنّنا حيال عمل روائيّ واقعي يشهد على مرحلة ممتدّة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وحتى بدايات الألفية الثالثة، لكنه واقع ممزوج بقدر كبير من التخييل الروائي، ينجح الكاتب في مزجه على نحو يكاد يجعل القارئ لا يعرف الحقيقة من الخيال. فهو يكتب مستعينًا بالمعلومات والمعرفة بالمجتمع وعالم الثقافة ومراكز البحث، بل لعلّه يذكّرنا ببعض أصحاب هذه المراكز العاملة في نطاق مؤسسات المجتمع المدني، فمنها ـ ومن أصحابها ـ ما لا يهمّه أي محظورات، فهو مستعدّ للقيام بكلّ المهمّات "القذرة" بالتعاون مع السفارات والمؤسسات الدولية لـ"حقوق المرأة"، أو "حقوق الإنسان"، أو الحريّات الصحافيّة"، أو "حوار الثقافات"، و"حوار الديانات"، وغير ذلك.
رواية غير مسبوقة في المشهد الروائي الأردنيّ، ليس على مستوى مضمونها ومقولاتها فقط، بل على صعيد بناء مسبوك لشخصيّتها الأساسية (هالة)، وحياتها في تنقّلها بين عمّان وبيروت، وفي قراءة أحوالها النفسيّة، وفي القلق والأحلام والكوابيس التي تعيشها في ما يتعلّق بزوجها وعلاقتها معه منذ اللقاء الأول في مكتب من مكاتب المقاومة، حتى رحيله، وصولًا إلى الكشف عن أسراره وخبايا عمله. وذلك كله في حبكات سردية لا تنطوي على أي تنظير أو ادّعاءات تُذكر.
***
ملحوظة: الرواية منعتها الرقابة الأردنية من التوزيع في الأردن. وعن هذا المنع، كتب المؤلف على صفحته على فيسبوك كلمة هنا بعض منها: "قرّرت الرقابة التابعة لهيئة الإعلام، وبصورة قاطعة، إيقاف توزيع روايتي الجديدة "بازار الفريسة" الصادرة مؤخرًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمّان وبيروت، وطلبت من الناشر إعادة نسخ الرواية المتوفرة في مكتب المؤسسة في عمّان إلى بيروت، وعدم توزيع الرواية داخل الأردن، وذلك بدعوى احتوائها على شتائم، علمًا أن تلك الشتائم لا تتجاوز الأربعة، أو الخمسة، وهي ترِد على لسان الشخصيات المتخيّلة، وورودها ضروري في الحوار، فهي تكشف أمزجة تلك الشخصيات وخلفياتها النفسية والاجتماعية، إلا أن بعض من قرأوا الرواية فسّروا قرار إعادة تصديرها ومنع توزيعها في الأردن بأنه عائد إلى إطارها السياسي، وما تضمّن من تفاصيل لعمل السفارات الأجنبية والمنظمات المموّلة من الخارج، على الرغم من أن الأحداث من الواضح أنها متخيلة وغير حقيقية تمامًا، حتى لو كان لها أصل واقعي".