كيف يمكن أن تكون الرواية ميدانا لكشف خبيئات النفس وتخيّلاتها.-مصطفى عطية جمعة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كيف يمكن أن تكون الرواية ميدانا لكشف خبيئات النفس وتخيّلاتها.-مصطفى عطية جمعة



    مصطفى عطية جمعة

    الرواية وكشف خبيئة النفس البشرية
    5 - سبتمبر - 2023م

    كيف يمكن أن تكون الرواية ميدانا لكشف خبيئات النفس وتخيّلاتها؟ يشكّل هذا السؤال سبيلا لقراءة تمثلات الذات الإنسانية وقضاياها وآلامها روائيا، لأن أبرز ما تقدمه الرواية لقرائها أنها تكشف عن الحياة الباطنية للشخصيات، فمن المتوقع أن الحيوات الداخلية التي يعزوها المؤلف لشخصياته، قد رُسِمت بدافع من استبطان الروائي اليقظ لنفسه، ومحاولته فهم شخصياته، حيث تتوافر للروائي فضاءات كبيرة يمكن أن يستثمرها في الغوص في أعماق شخصياته وتحليلها.
    ولذا، يرى أوستن وارين ورينيه ويلك في كتابهما نظرية الأدب أن الروايات العظيمة هي مراجع لعلماء النفس، أو تواريخ لحالات معينة، أي تكون أمثلة نموذجية توضيحية، ولكن الواقع يشير إلى أن علماء النفس يستعملون الرواية فقط من أجل قيمتها النموذجية المعممة، ما يشير إلى البعد النفسي الكبير الذي يصوغه الروائي، وهو يقدم شخصيات روايته إلى القارئ، وهنا تثار إشكالية عن كيفية تعرف الروائي على أعماق شخصياته؛ خاصة أن بعضها تكون شخصيات تاريخية، أو أن الروائي نفسه يعبر عن عوالم إنسانية وقضايا وهموم لم يعشها، إلا أن براعته في الصياغة والتأليف والبنية النصية، تجعل الشخصية واضحة بكل أعماقها وحركتها ومواقفها أمام القارئ. والجواب عن هذه الإشكالية، يتوقف على موهبة الروائي، التي تتيح له فهم الشخصيات بعمق، وممارسة استبطان ذاتي من نوع خاص، بأن يتعمق – فكرا وتأملا -الشخصيةَ المستهدفة، ومن ثم يتمثلها في خياله، ويرسمها في سطوره، وقد يندهش القارئ ويظن أنه كان على صلة ما بالشخصية، أو بأحد قريب منها.
    وبعض شخصيات الروايات الخالدة والمتميزة تشكّل فكر القارئ، ونفسيته، وتصبح نموذجا يستحضره في تفكيره؛ ويقتدي بها في حياته، مثل العظماء والحكماء والرومانسيين. وهناك شخصيات أدبية (في الرواية والمسرح والأساطير) استدل بها علماء النفس في بحوثهم، واتخذوا منها نماذج للبرهنة والإشارة على بعض نظرياتهم النفسية. وقد أشاد «سيغموند فرويد» في كتابه «مساهمة في تاريخ حركة التحليل النفسي» بأهمية إدخال التحليل النفسي إلى العلم والأدب، وأيضا باستعانة علماء النفس في تحليلاتهم وتنظيراتهم بأمثلة من الآداب والفنون، حيث يشير إلى دراسات رائدة قام بها عدد من أصدقائه وتلامذته، وقرأوا فيها الأساطير والميثولوجيا والفولكلور، وطبيعة الإبداع الشعري، والروائي، وسائر السرديات المتصورة بالديانات الطوطمية، وربط الهواجس الدينية بالإيروسية المنحرفة، وكذلك العلاقات غير الشرعية مع المحارم، وتوبيخ الضمير الناتج عن السقوط في المحرمات الدينية والاجتماعية.

  • #2
    وبعض شخصيات الروايات الخالدة والمتميزة تشكّل فكر القارئ، ونفسيته، وتصبح نموذجا يستحضره في تفكيره؛ ويقتدي بها في حياته، مثل العظماء والحكماء والرومانسيين. وهناك شخصيات أدبية (في الرواية والمسرح والأساطير) استدل بها علماء النفس في بحوثهم، واتخذوا منها نماذج للبرهنة والإشارة على بعض نظرياتهم النفسية.

    واستعان فرويد بالأدب منذ بداياته النظرية الأولى، فهو لم يكف منذ عام 1897، عن ربط قراءته لـ»أوديب ملكا» لسوفولكل، و»هاملت» لشكسبير، بتحليل مرضاه، وبتحليله الذاتي لنفسه، بغية إنشاء واحد من مفاهميه الأساسية، سُميَ تحديدا «عقدة أوديب». وقد أضاف فرويد إلى هاتين المأساتين في عام 1928؛ روايةَ «الإخوة كرامازوف» لدستويفسكي، فلا يمكن فصل نظريات التحليل النفسي عن الأساطير والأعمال الأدبية والحكايات. فميدان علم النفس والرواية واحد، ألا وهو الذات الإنسانية؛ الفردية والجمعية، وكلٌ يقرأها من زاويته الخاصة، فالروائي يصف الشخصيات، ويعرض – على قدر ما يستطيع – أعماقها، ويشير إلى دوافعها، ضمن بنية أساسها الحكاية، محددة الزمان والمكان، مترابطة الأحداث، بما يتيح للقارئ أن يعي أسباب حركة الشخصيات في مسرح الأحداث، وأبعادها.
    وقد يشير الروائي إلى أفعال غير مفهومةٍ دوافعُها من قِبل بعض الشخصيات، وربما تكون هناك شخصيات مختلفة نفسيا وعصابيا، يشير إليها الروائي في متنه النصي، ثم يأتي دور عالم النفس في التحليل العلمي، حيث يقرأ الشخصيات المصاغة على الورق، في الروايات أو السرديات الأسطورية، ومن ثم يحللها في ضوء أدواته ومنهجياته المستقاة من أبحاث التحليل النفسي، فتصبح الرواية ميدانا لعلم النفس، مثلما يصبح علم النفس سببا في فهم شخصيات روائية حيّرت الروائي وهو يعرض أعماقها وتصرفاتها الغريبة، ومواقفها المحملة بالقلق والانفصامية والغموض، أو حتى بالفرادة والعبقرية والطموح والنبل.
    وقد كان هذا النهج سببا في تأسيس منهجية نقدية عنوانها: النقد التحليلي النفسي، والمؤسس على الممارسة التحليلية النفسية، هي في جوهرها اختيار مبتكر للكلام والخطاب، فالأدب الشفهي أو المكتوب ممارسة لغوية قادرة على ابتداع حيز مميز على هامش المتطلبات الاعتيادية للتواصل، فكل من الأدب والتحليل النفسي يعتمدان على عمل اللغة والتخييل؛ وأدى هذا التداخل إلى وجود مفاهيم نفسية تساهم في إضاءة النص الأدبي مثل: الوعي، واللاوعي، المحارم، الخصاء، النرجسية، الأم الذكرية، اسم الأب، الفموية، الأعضاء الجنسية، والرغبة ، والكبت، والتأويل، إلخ، ما جعل الروائيين يهرعون إلى نظريات التحليل النفسي لمزيد من التثقيف الذاتي، من أجل فهم الشخصيات التي يتناولونها في سردياتهم، وهو ما ساهم كثيرا في تطور الفن الروائي، وجعل المؤلف على وعي بأعماق الشخصيات، وعلى دراية أكثر بدوافعها النفسية، وإمكانية إقناع القارئ بها. كما وفّر منهجية متكاملة للناقد الأدبي، في قراءة تحليلية عميقة لما يحفل به النص من شخصيات بعقدها النفسية ومكوناتها، فكأن الإبداع والنقد يمتاحان من شجرة علم النفس التي أينعت وأثمرت منذ نهاية القرن التاسع عشر وإلى يومنا.
    ومن هنا نجزم بأنه من المهم فهم النصوص الروائية في علاقاتها بقضايا الإنسان والمجتمع من خلال القراءة النفسية، فالإنسان ليس جسدا متحركا في فضاء المكان، وفي تقلبات الزمان، وإنما هو نفسية وأفكار، وعقد ومشاعر، وإذا غفل عنها الروائي يكون نصه جافا سطحيا، يكتفي برصد ظواهر الحركة والأحداث، ولا يغوص في الشخصيات. والأمر نفسه مع الناقد، الذي إن وعى منهجيات النقد النفسي التحليلي، فإنه سيكون قادرا على فك الكثير من شيفرات النص، وهو ما يسمى «المنعرج التأويلي»، والذي يتجاوز شكلية النص الروائي، ويتوقف عندما يبوح به النص، في الأحداث والشخصيات والرموز، التي لن تُفهَم إلا ضمن السياق الخاص بالحلم أو بالصراع النفسي للذات، كما يتم تحليل خطابات النص (الحوارات والمتن السردي)، وفق مفاهيم الوعي، أو البحث عن إشارات اللاوعي وتأويلها.


    *مصطفى عطية جمعة
    كاتب مصري

    تعليق

    يعمل...
    X