حقيقة المعاني العامة من الوجهة الفلسفية .. التجريد والتعميم
حقيقة المعاني العامة من الوجهة الفلسفية
كان أرسطو يقول : لا علم إلا بالكليات ، لأن الحوادث الجزئية ، والموجودات الفردية سريعة التبدل ، كثيرة التغير والتحول ، لا ينشأ عنها إلا معرفة ناقصة ، وهذا يوضح 6 لنا سبب اهتمام الفلاسفة منذ القدم بالبحث في قيمة التصورات وأثرها في العلم ، إذا كان التصور أساس العلم ، كان على الفيلسوف أن يبين لنا هل التصور مطابق للحقائق الحسية الموجودة خارج النفس ، أم هو أمر عقلي محض لا أثر للوجود الخارجي في تكوينه ؟
لا شك أن للتصور قيمة عملية ، لأنه يمين على الفعل ، وله قيمة اجتماعية ، لأنه يعين على الفهم والأفهام ، ويقرب العقول بعضها من بعض ، حتى يتكون منها عقل جماعي ؛ إلا أن هذه الصفات لا توجب أن يكون التصور مطابقاً للوجود الخارجي . نعم ان التصور آلة عمل ، ولكن آلة العمل ليست بالضرورة نسخة مطابقة للوجود الحسي .
ومع ذلك فقد زعم بعض الفلاسفة منذ القدم ، أن قيمة التصور من حيث هو آلة عمل ومن حيث هو أيضا وسيلة لاتصال العقول بعضها ببعض ، إنما تنشأ ، عن مطابقته للوجود الخارجي ؛ فكل معنى متصور له في الوجود مثال . ولنبحث الآن في علاقة التصور بالوجود .
١ - وجود الذوات - للمعقولات وجود مفارق .
قال بعضهم : ليست التصورات مطابقة للوجود الخارجي فحسب ، وإنما هي مقومة له ، موجودة لذاتها وبذاتها . ولنقرب الآن هذا الرأي العجيب من الأذهان .
١ - الواقعية أو الوجودية Réalisme
- لماذا كانت المعقولات موجودة خارج العقل ؟ لننظر إلى الأفراد والموجودات الحسية . ان هذه الأشياء لم توجد منذ القدم ولا تبقى موجودة إلى الأبد ، بل تزول كما زال غيرها من قبل ، ثم انها تتغير وتتبدل دائماً من الحياة إلى الموت . وهي كثيرة لا يتناهى عددها ، فلا تصلح أن تكون معقولات مجردة ، كلما حاولنا إدراكها وتحديدها تبدلت وتغيرت ، كأنها ( بروته ) الذي جاء ذكره في الأساطير لا تقبض عليه إلا ليستحيل إلى شيء آخر .
أما المعاني الكلية أي المعقولات ، فهي موجودة قبل الأشياء الحسية وبعدها . انها كما قال ( أفلاطون ) مثل خالدة لا تدثر ، وصور معقولة لا تتغير ، معرفة محددة ، لا تناقض فيها . كل معنى منها مثال تنج المحسوسات على صورته . وهي تثبت الفكر ، وتعينه على إدراك الهوية وراء التغير ، والوحده وراء الكثرة .
والثابت الخالد أحق بالوجود من المتغير الفاني ، والواحد أثبت من الكثير المتفرق ، وإذن المعنى أو التصور العام أثبت وجوداً من الفرد ، وهو مطلق الوجود ، أما الفردي فشرطي نسبي ان حقيقة الإنسان أثبت وجوداً من شخص سقراط .
٢ - كيف تشرق المعقولات على العقل
العقل لا يبدع المعاني العامة التي يتصورها ، بل يقبلها قبولاً ، ولولا حجاب الحس ، لأدركها وتأملها مباشرة . فعلى طالب الفكرة أن يتجرد من جسده ، ويخرج من كهف الحواس ، ويستبدل الحقائق بالظلال . ويرتقي من عالم الحسن إلى أنوار العــالم المعقول ، عالم المثل ، ان جدل ( أفلاطون ) انتقال من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات ، وهــــــو في الوقت نفسه تخلية ، وتجلية ، وتحلية ، ور- ورجوع إلى الذات ، وصعود إلى الحق . والنفس عند تأمل المثل تعود إلى حقيقتها الاولى ، وتدرك ما كانت عليه من العلم قبل اتصالها بالجسد ينتج من ذلك أن الفلسفة طريقة فكرية ، وسلوك خلقي معا ، تنتقل بها النفس من الحدس الحسي إلى الحدس الفكري ، وتتجرد عن الجسد . فهي إذن تعلم الموت ، وهي تجعل سقراط يتلذذ بتجرع السم لعلمه انه لا حق بموكب الآلهة ، لتأمل المثل . وقد شرحنا رموز هذه الأسطورة سابقاً وبينا بعض معانيها .
قيمة هذا الرأي
اننا نعجب اليوم لهذه الآراء ، ونستبعد تفسير حقيقة المعاني العامة على هذا الوجه ولكن هل بطلت آراء أفلاطون كلها في أيامنا هذه ؟ وهل ألقى العلم بها ظهرياً .
لنبين أولاً أن بعض العلماء المتقدمين قرروا ثبوت الأنواع . ولا يزال هناك اليوم فريق من علماء الحياة يؤيدون ذلك . ومعنى ثبوت الأنواع أن هناك مثالاً ثابتاً للنوع لا يتبدل رغم تبدل الأفراد .
ولنبين ثانياً أن أكثر العلماء يعتقدون أن قوانين العلم هي قوانين الطبيعة ، وأن العقل لا يخترعها اختراعاً ، بل يكشف عنها كشفاً . وهي ثابتة تحيط بالحوادث ، كما تحيط الأنواع بالأفراد . ومعنى ذلك أن وراء الحوادث المتغيرة وحدة ثابتة . فالنوع أثبت وجود آمن الفرد ، كما أن القانون أثبت وجود أمن الحوادث الظاهرة ، فمسألة وجود الذوات إذن مسألة قديمة ، إلا أن العلماء كلما بحثوا في قيمة العلم وفي مطابقة القوانين العلمية لحقائق الطبيعة ، عادوا اليها وأثاروها من جديد .
ب - التصورية - Gonceptualisme
ليست الفكرة ذات وجود مفارق ، وإنماهي صورة عقلية منتزعة من الموجودات الخارجية . لقد لام أرسطو أفلاطون منذ القدم على قوله ان للمثل وجوداً مستقلا عن العقل ، فقال ليس الوجود الحقيقي للإنسان ، وإنما هو لـ ( بريكلس ) و ( السبياد ) . ومع ذلك فإن الفكرة لا تفارق العقل ، وهي مطابقة للوجود الخارجي .
١ - التصورية القديمة . - ان لكل فرد عند أرسطو ، مادة تفصله عن غيره من الأفراد ، وصورة توحد ما بينه وبين جميع أفراد النوع والمادة والصورة متحدثان في جواهر الأشياء ، أما المادة فهي القوة التي تتجه نحو الفعل ، وأما الصورة فهي الفعل الذي تتحقق فيه القوة ، فلا وجود لإحداهما إذن دون الاخرى . إلا أن العقل يستطيع أن يعقل الصورة مجردة عن المادة فيعزلها عن الموجودات الحسية ، ويكون منها الفكرة ، ولا وجود المجردة إلا في العقل .
٢ - التصورية الحديثة . - يقتصر المحدثون من أصحاب هذا المذهب على القول : إن للأفراد صفات متشابهة ، وصفات مختلفة ، وإن العقل ينتزع الصفات المتشابهة ويجردها عن غيرها ، ويكون منها المعاني العامة . ان الصفات المتشابهة ليست مفارقة في الأفراد للصفات المختلفه ، ولكنها موجودة فيهم ، ومقومة لذواتهم .
وقصارى القول ، ليس للكليات وجود في العالم الخارجي ، ولكن لها وجوداً في العقل لا غير ، والعقل لا يخترعها اختراعاً ، بل ينتزعها من الموجودات الخارجية انتزاعاً ، ويجردها تجريداً يجمع بـ به الصفات الذاتية بعضها إلى بعض . والذاتي أثبت وجوداً من سائر الصفات الاخرى .
ج - الاسمية Nominalisme - الفكرة إشارة أو رمز .
زعم الاسميون أن المعنى العام ليس موجوداً في الذهن . ولا خارج الذهن ، وإنما هو لفظ لا غير .
١ - الاسمية القديمة . - قال قدماء الاسميين لا وجود للكليات في العقل . كما أنه لا وجود ، لأن جميع الموجودات فردية وجزئية ، إلا أن الإنسان قد اخترع الأسماء للدلالة على بعض الأشياء المتشابهة ، وان هي إلا أسماء ، ما أنزل الله بها من سلطان . والتفكير هو الكلام ، والفكرة هي اللفظ flatus vocis » ، أي نفحة من نفحات لها في العالم الخارجي " الصوت تذكرنا بالأشياء الفردية .
٢ - الاسمية الحديثة . - لهذه النظرية في الفلسفة الحديثة صور مختلفة ، منها مذهب فلاسفة التداعي الذين زعموا أن التصور أو المعنى الكلي لفظ يثبت بالتداعي صوراً نفسية كثيرة ، وأن هذه الصور إذا حذفت من المعنى الكلي لم يبق منه إلا اللفظ . ومنها مذهب فلاسفة البر غمانتية ( أو فلاسفة الذرائع ) الذين زعموا أن تصوراتنا الكلية اصطلاحات ومواضعات موافقة ، تعين الناس على التفاهم . وأن العلم المؤلف من هذه التصورات ، إنما جيدة الوضع . فالتصور ليس ذا وجود حقيقي ، وإنما هو آلة عمل تعين على الانتفاع بالظواهر لإرضاء الحاجات ، والمعنى الصحيح هو المعنى النافع ، كالمنشار والمطرقة . ونقول بعبارة أوضح : لو كان لنا حاجات غير حاجاتنا الحاضرة ، وحواس وأعضاء غير هذه ، لكانت تصوراتنا مختلفة عما عليه الآن .
النتيجة
- إن مذهب اللفظية يثير الكثير من الشبهات التي لا يمكن حلها : منها أن هذا المذهب يجعل الفكر تابعاً للصور والألفاظ ، مع أن الفكر متقدم على اللفظ ، مبدع له ، أضف إلى ذلك أن الفكر يجاوز الصور ويحيط بها ، فلا تجد بين بعض التصورات الكلية والصور الجزئية الدالة عليها اتصالاً أو اتفاقاً . ان تصور العلاقة بين الشيئين يختلف عن كل من هذين الشيئين .
إن المعاني العامة ليست مجرد ألفاظ ورموز ، لأنه لا قيمة لهذه الرموز والاشارات إلا بالمعاني العامة التي تدل عليها . إن الرياضي يستعمل حروفاً مختلفة مثل ( ب ، ح ، د ) ، و ( س ، ع ، ف ) ويعلم أنه يستعمل الاولى للكميات المعلومة ، والثانية للكميات المجهولة . فدلالة الاشارات تابعة إذن للاصطلاح ، والوضع ، والتجربة ، وفاعلية الفكر .
وقصارى القول : إن في كل من المذاهب السابقة شيئاً من الحقيقة . فالوجودية مصيبة في قولها إن موضوع العلم مشتمل على الامور الثابتة . والتصورية مصيبة في قولها إن التصورات الكلية لا توجد إلا في العقل . والاسمية مصيبة في بيان تأثير الألفاظ والصور الحسية ، والحاجات العملية ، في نشوء الفكر ، إلا أن كلا من هذه المذاهب يضخم كما رأيت ناحية نظره ، فينتهي به الأمر إلى نظريات لا تؤيدها التجربة .
حقيقة المعاني العامة من الوجهة الفلسفية
كان أرسطو يقول : لا علم إلا بالكليات ، لأن الحوادث الجزئية ، والموجودات الفردية سريعة التبدل ، كثيرة التغير والتحول ، لا ينشأ عنها إلا معرفة ناقصة ، وهذا يوضح 6 لنا سبب اهتمام الفلاسفة منذ القدم بالبحث في قيمة التصورات وأثرها في العلم ، إذا كان التصور أساس العلم ، كان على الفيلسوف أن يبين لنا هل التصور مطابق للحقائق الحسية الموجودة خارج النفس ، أم هو أمر عقلي محض لا أثر للوجود الخارجي في تكوينه ؟
لا شك أن للتصور قيمة عملية ، لأنه يمين على الفعل ، وله قيمة اجتماعية ، لأنه يعين على الفهم والأفهام ، ويقرب العقول بعضها من بعض ، حتى يتكون منها عقل جماعي ؛ إلا أن هذه الصفات لا توجب أن يكون التصور مطابقاً للوجود الخارجي . نعم ان التصور آلة عمل ، ولكن آلة العمل ليست بالضرورة نسخة مطابقة للوجود الحسي .
ومع ذلك فقد زعم بعض الفلاسفة منذ القدم ، أن قيمة التصور من حيث هو آلة عمل ومن حيث هو أيضا وسيلة لاتصال العقول بعضها ببعض ، إنما تنشأ ، عن مطابقته للوجود الخارجي ؛ فكل معنى متصور له في الوجود مثال . ولنبحث الآن في علاقة التصور بالوجود .
١ - وجود الذوات - للمعقولات وجود مفارق .
قال بعضهم : ليست التصورات مطابقة للوجود الخارجي فحسب ، وإنما هي مقومة له ، موجودة لذاتها وبذاتها . ولنقرب الآن هذا الرأي العجيب من الأذهان .
١ - الواقعية أو الوجودية Réalisme
- لماذا كانت المعقولات موجودة خارج العقل ؟ لننظر إلى الأفراد والموجودات الحسية . ان هذه الأشياء لم توجد منذ القدم ولا تبقى موجودة إلى الأبد ، بل تزول كما زال غيرها من قبل ، ثم انها تتغير وتتبدل دائماً من الحياة إلى الموت . وهي كثيرة لا يتناهى عددها ، فلا تصلح أن تكون معقولات مجردة ، كلما حاولنا إدراكها وتحديدها تبدلت وتغيرت ، كأنها ( بروته ) الذي جاء ذكره في الأساطير لا تقبض عليه إلا ليستحيل إلى شيء آخر .
أما المعاني الكلية أي المعقولات ، فهي موجودة قبل الأشياء الحسية وبعدها . انها كما قال ( أفلاطون ) مثل خالدة لا تدثر ، وصور معقولة لا تتغير ، معرفة محددة ، لا تناقض فيها . كل معنى منها مثال تنج المحسوسات على صورته . وهي تثبت الفكر ، وتعينه على إدراك الهوية وراء التغير ، والوحده وراء الكثرة .
والثابت الخالد أحق بالوجود من المتغير الفاني ، والواحد أثبت من الكثير المتفرق ، وإذن المعنى أو التصور العام أثبت وجوداً من الفرد ، وهو مطلق الوجود ، أما الفردي فشرطي نسبي ان حقيقة الإنسان أثبت وجوداً من شخص سقراط .
٢ - كيف تشرق المعقولات على العقل
العقل لا يبدع المعاني العامة التي يتصورها ، بل يقبلها قبولاً ، ولولا حجاب الحس ، لأدركها وتأملها مباشرة . فعلى طالب الفكرة أن يتجرد من جسده ، ويخرج من كهف الحواس ، ويستبدل الحقائق بالظلال . ويرتقي من عالم الحسن إلى أنوار العــالم المعقول ، عالم المثل ، ان جدل ( أفلاطون ) انتقال من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات ، وهــــــو في الوقت نفسه تخلية ، وتجلية ، وتحلية ، ور- ورجوع إلى الذات ، وصعود إلى الحق . والنفس عند تأمل المثل تعود إلى حقيقتها الاولى ، وتدرك ما كانت عليه من العلم قبل اتصالها بالجسد ينتج من ذلك أن الفلسفة طريقة فكرية ، وسلوك خلقي معا ، تنتقل بها النفس من الحدس الحسي إلى الحدس الفكري ، وتتجرد عن الجسد . فهي إذن تعلم الموت ، وهي تجعل سقراط يتلذذ بتجرع السم لعلمه انه لا حق بموكب الآلهة ، لتأمل المثل . وقد شرحنا رموز هذه الأسطورة سابقاً وبينا بعض معانيها .
قيمة هذا الرأي
اننا نعجب اليوم لهذه الآراء ، ونستبعد تفسير حقيقة المعاني العامة على هذا الوجه ولكن هل بطلت آراء أفلاطون كلها في أيامنا هذه ؟ وهل ألقى العلم بها ظهرياً .
لنبين أولاً أن بعض العلماء المتقدمين قرروا ثبوت الأنواع . ولا يزال هناك اليوم فريق من علماء الحياة يؤيدون ذلك . ومعنى ثبوت الأنواع أن هناك مثالاً ثابتاً للنوع لا يتبدل رغم تبدل الأفراد .
ولنبين ثانياً أن أكثر العلماء يعتقدون أن قوانين العلم هي قوانين الطبيعة ، وأن العقل لا يخترعها اختراعاً ، بل يكشف عنها كشفاً . وهي ثابتة تحيط بالحوادث ، كما تحيط الأنواع بالأفراد . ومعنى ذلك أن وراء الحوادث المتغيرة وحدة ثابتة . فالنوع أثبت وجود آمن الفرد ، كما أن القانون أثبت وجود أمن الحوادث الظاهرة ، فمسألة وجود الذوات إذن مسألة قديمة ، إلا أن العلماء كلما بحثوا في قيمة العلم وفي مطابقة القوانين العلمية لحقائق الطبيعة ، عادوا اليها وأثاروها من جديد .
ب - التصورية - Gonceptualisme
ليست الفكرة ذات وجود مفارق ، وإنماهي صورة عقلية منتزعة من الموجودات الخارجية . لقد لام أرسطو أفلاطون منذ القدم على قوله ان للمثل وجوداً مستقلا عن العقل ، فقال ليس الوجود الحقيقي للإنسان ، وإنما هو لـ ( بريكلس ) و ( السبياد ) . ومع ذلك فإن الفكرة لا تفارق العقل ، وهي مطابقة للوجود الخارجي .
١ - التصورية القديمة . - ان لكل فرد عند أرسطو ، مادة تفصله عن غيره من الأفراد ، وصورة توحد ما بينه وبين جميع أفراد النوع والمادة والصورة متحدثان في جواهر الأشياء ، أما المادة فهي القوة التي تتجه نحو الفعل ، وأما الصورة فهي الفعل الذي تتحقق فيه القوة ، فلا وجود لإحداهما إذن دون الاخرى . إلا أن العقل يستطيع أن يعقل الصورة مجردة عن المادة فيعزلها عن الموجودات الحسية ، ويكون منها الفكرة ، ولا وجود المجردة إلا في العقل .
٢ - التصورية الحديثة . - يقتصر المحدثون من أصحاب هذا المذهب على القول : إن للأفراد صفات متشابهة ، وصفات مختلفة ، وإن العقل ينتزع الصفات المتشابهة ويجردها عن غيرها ، ويكون منها المعاني العامة . ان الصفات المتشابهة ليست مفارقة في الأفراد للصفات المختلفه ، ولكنها موجودة فيهم ، ومقومة لذواتهم .
وقصارى القول ، ليس للكليات وجود في العالم الخارجي ، ولكن لها وجوداً في العقل لا غير ، والعقل لا يخترعها اختراعاً ، بل ينتزعها من الموجودات الخارجية انتزاعاً ، ويجردها تجريداً يجمع بـ به الصفات الذاتية بعضها إلى بعض . والذاتي أثبت وجوداً من سائر الصفات الاخرى .
ج - الاسمية Nominalisme - الفكرة إشارة أو رمز .
زعم الاسميون أن المعنى العام ليس موجوداً في الذهن . ولا خارج الذهن ، وإنما هو لفظ لا غير .
١ - الاسمية القديمة . - قال قدماء الاسميين لا وجود للكليات في العقل . كما أنه لا وجود ، لأن جميع الموجودات فردية وجزئية ، إلا أن الإنسان قد اخترع الأسماء للدلالة على بعض الأشياء المتشابهة ، وان هي إلا أسماء ، ما أنزل الله بها من سلطان . والتفكير هو الكلام ، والفكرة هي اللفظ flatus vocis » ، أي نفحة من نفحات لها في العالم الخارجي " الصوت تذكرنا بالأشياء الفردية .
٢ - الاسمية الحديثة . - لهذه النظرية في الفلسفة الحديثة صور مختلفة ، منها مذهب فلاسفة التداعي الذين زعموا أن التصور أو المعنى الكلي لفظ يثبت بالتداعي صوراً نفسية كثيرة ، وأن هذه الصور إذا حذفت من المعنى الكلي لم يبق منه إلا اللفظ . ومنها مذهب فلاسفة البر غمانتية ( أو فلاسفة الذرائع ) الذين زعموا أن تصوراتنا الكلية اصطلاحات ومواضعات موافقة ، تعين الناس على التفاهم . وأن العلم المؤلف من هذه التصورات ، إنما جيدة الوضع . فالتصور ليس ذا وجود حقيقي ، وإنما هو آلة عمل تعين على الانتفاع بالظواهر لإرضاء الحاجات ، والمعنى الصحيح هو المعنى النافع ، كالمنشار والمطرقة . ونقول بعبارة أوضح : لو كان لنا حاجات غير حاجاتنا الحاضرة ، وحواس وأعضاء غير هذه ، لكانت تصوراتنا مختلفة عما عليه الآن .
النتيجة
- إن مذهب اللفظية يثير الكثير من الشبهات التي لا يمكن حلها : منها أن هذا المذهب يجعل الفكر تابعاً للصور والألفاظ ، مع أن الفكر متقدم على اللفظ ، مبدع له ، أضف إلى ذلك أن الفكر يجاوز الصور ويحيط بها ، فلا تجد بين بعض التصورات الكلية والصور الجزئية الدالة عليها اتصالاً أو اتفاقاً . ان تصور العلاقة بين الشيئين يختلف عن كل من هذين الشيئين .
إن المعاني العامة ليست مجرد ألفاظ ورموز ، لأنه لا قيمة لهذه الرموز والاشارات إلا بالمعاني العامة التي تدل عليها . إن الرياضي يستعمل حروفاً مختلفة مثل ( ب ، ح ، د ) ، و ( س ، ع ، ف ) ويعلم أنه يستعمل الاولى للكميات المعلومة ، والثانية للكميات المجهولة . فدلالة الاشارات تابعة إذن للاصطلاح ، والوضع ، والتجربة ، وفاعلية الفكر .
وقصارى القول : إن في كل من المذاهب السابقة شيئاً من الحقيقة . فالوجودية مصيبة في قولها إن موضوع العلم مشتمل على الامور الثابتة . والتصورية مصيبة في قولها إن التصورات الكلية لا توجد إلا في العقل . والاسمية مصيبة في بيان تأثير الألفاظ والصور الحسية ، والحاجات العملية ، في نشوء الفكر ، إلا أن كلا من هذه المذاهب يضخم كما رأيت ناحية نظره ، فينتهي به الأمر إلى نظريات لا تؤيدها التجربة .
تعليق