كيف يتوصل الذهن إلى المعاني العامة .. التجريد والتعميم
كيف يتوصل الذهن إلى المعاني العامة
ما هو منشأ المعاني العامة ؟
الفرضية الأولى - الذهن يبدأ بالجزئي .
هذه فرضية التجريبيين الذين يزعمون أن المعاني العامة تتألف من الادراكات الجزئية أو الفردية . ولكننا إذا تذكرنا ما قلناه في بحث الادراك تبين لنا أن الذهن لا يبتدىء بالادراك بالجزئي ، أو الفردي الذي يقتضي تفريق الأشياء بعضها عن بعض . بل يبتدىء بالحدس المبهم الكلي الذي تختلط فيه صور الأشياء بعضها ببعض . أن تكون صورة الشيء الخارجي ليس أمراً أولياً ، وإنما هو ثمرة عمل فكري طويل .
الفرضية الثانية - الذهن يبدأ بالكلي .
زعم العقليون أن النفس تدرك الكلي أولاً ، ثم تهبط منه إلى إدراك الجزئي . قال أرسطو : « المدرك هو الفرد ، ولكن الادراك يتبع الكلي ، فنحن ندرك الانسان الكلي قبل أن ندرك ) كالياس ( ( ۱ ) . وقال ليبنز : ان الطفل لا يدرك الفرد إدراكاً واضحاً ، لأن أقل تشابه بين الأفراد يخدعه ، فيختلط عليه الأمر ، ولا يفرق بين هذا وذاك ؛ قال : ونحن نجرد المعاني بالانتقال من الأنواع إلى الأجناس ، لا من الأفراد إلى الأنواع ( ٢ ) .
ان في هذه الفرضية التباساً . لأنها تقتضي أن يكون التجريد أولياً ، مع أن الذهن البشري لا يستطيع وهو في حالته الابتدائية أن يقوم بفعل التجريد والتعميم . وقد ذكر ( كلا باريد ( أن المعاني العامة إنما تنشأ عن تجريد مبني على تحليل صفات الأشياء . وليس في وسع الطفل والانسان الابتدائي أن يقوما بهذا التحليل . لأن الطفل عاجز عن إدراك المفاهيم المجردة ، والانسان الابتدائي بعيد أيضاً عن تصور المعاني العامة ، وقد بين ( ريبو ) ان لغة الأقوام الابتدائية غنية بالألفاظ القريبة من الحس ، قال : « ان في لغة سكان أمريكا الشمالية ألفاظاً خاصة للدلالة على السنديان الاسود والأبيض ، والأحمر ، ولكنها لا تتضمن كلمة تدل على السنديان ولا على الشجر عموماً . ان ألفاظاً للدلالة على غسل الوجه ، أو غسل الثياب ، أو غسل الأدوات ، يبلغ عددها ثلاثين كلمة ، ولكنهم يعرفون لفظا يطلقونه على الغسل العام ( ۳ ) ، حتى أن أسماء الأعداد تختلف عندهم باختلاف الأشياء المعدودة .
الفرضية الثالثة . الذهن يبدأ بغير الممين .
لا فرق عند الانسان الابتدائي بين الجزئي والكلي ، كما أنه لا فرق عند الطفل بين الداخلى والخارجي ، أو الذاتي والموضوعى . قال ( ريبو ) : تنتقل النفس من غير المعين إلى المعين ، فإذا كان الأمر الغير المعين مرادفا للكلي ، كان انتقال الفكر من الجزئي إلى الكلي غير صحيح . ولكن النفس لا تبتدىء بالكلي ، بل تبتدىء بالمبهم . إن الطفل لا يعرف الأشياء تعريفا واضحا ، بل يذكر في رسمه لها صفات مختلفة . الحي عنده مثلاً ، هو ما يفعل ويتحرك ، ويشعر ، وينفع ؛ فالطفل يعمم تعميما غامضا مشوشا ، ويمزج الأجناس والأنواع بعضها ببعض ، ويكتفي في مزجه لها بالمناسبات البعيدة ، والمشابهات الظاهرة ، ويوسع معاني الألفاظ ، ويستعملها في غير محلها . وسواء لديه أكانت الألفاظ مطابقة للأشياء أم غير مطابقة لها ، فإن كل لفظ منها يصلح عنده للدلالة على كل شيء . والانسان الابتدائي كالطفل لا يفرق بين الأشياء ، ولا يحدد معانيها ، بل يمزجها بعضها ببعض مزجا روحيا يدل على أن الجميع الأشياء عنده حقيقة واحدة ، فالأحجار والأشجار تمازج شعور الانسان كما يمازج الانسان حياة الحيوان ، وهذا يوضح لنا معنى الأساطير ، ويبين لنا كيف تتحول الأشياء في نظر الانسان الابتدائي من صورة إلى اخرى ، فلا انتقال من الجزئي إلى الكلي ، ولا من الكلي إلى الجزئي ، بل الأصل في المفاهيم العامة عدم التمين ، وعدم الوضوح ، ولنبين الآن ما هي العوامل التي تنقل النفس من عدم التعين إلى التعين ، وتؤدي إلى تركيب المفاهيم العامة والمعاني المجردة ( 1 ) .
۱ - العامل الحيوي .
الفكرة والمؤالفة الحيوية . ان للعوامل الحيوية والضرورات العملية أثراً عظيما في تكون المفاهيم ، فالتجريد تابع للحاجة ، والتعميم عادة حيوية ، انظر الى الطفل ، انه يعرف الاشياء بحسب منافعها ، وبحسب استعماله اياها ، حق ان مفاهيمنا وتصنيفاتنا العلمية قد تولدت من عادات عملية ، والدليل على ذلك أن تعريفات الأشياء وتصنيفاتها تابعة عنــــد الامم الابتدائية للطرائق المستعملة في الحصول عليها ، وسنبين في بحث العادة أن العادة ملكة عامة ، وأنها رد ثابت على مؤثرات خارجية متغيرة .
وقد بين ( هنري برغسون ) أن الادراك ليس تصوراً ساكنا ، وانما هو مقياس تأثيرنا الممكن في الاشياء ، وهذا يدل أيضا على أن في الادراك تعميما . قال ( رويسن ) : « ان أنماط الفعل أقل اختلافا عندنا . من أغاط الحس ، فصراخ الطفل وحركة ركاته لا تختلف بحسب ألمه ، أو جوعه ، أو حرمانه ، انه يضع هذه المؤثرات كلها في صنف الأشياء المبكية ، وقال أيضا : انا نصنف أنماط الفعل بأجسادنا ، قبل أن نصنف الأشياء بعقولنا ، ونحن لا ندرك الأنواع والأجناس الا من خلال فاعليتنا المختلفة والموحدة ) . Evolution Psychologiquedu jugement ، . ص ١٣٤ .
ولا يمكن أن يكون للجسد كما هو إلا حركات محدودة ، أما المؤثرات الخارجية فغير محصورة وغير معدودة ، ذلك لأن الجسد يرد على المؤثرات المتغيرة بحركات وأفعال ثابتة ؛ ويكتفي بالتشابه البسيط في مؤالفة البيئة . قال ( هنري برغسون ) : « إذا أثر حامض الكلور المائي بكيفية واحدة في كاربونات الكلس رخاما كانت أو حككاً ، فهل يقال : إن هذا الحامض يجرد صفات الجنس من الأنواع المختلفة ؟ ليس ثمة فرق بين فعل الحامض الذي يستخرج الأساس من الملح ، وبين فعل النبات الذي يستخرج العناصر الضرورية لغذائه من الأتربة المختلفة . ولنتقدم خطوة ثانية أيضاً ، ولنتصور شعوراً ابتدائياً كشعور ( الآميب ) في قطرة ماء ، انه يشعر بتشابه المواد التي يستطيع امتصاصها ، لا باختلافها بعضها عن بعض » .
والخلاصة : انا إذا ارتقينا من المعدن إلى النبات ، ومن النبات إلى أبسط الموجودات الحساسة ، ومن الحيوان إلى الإنسان ، وجدنا وحدة في ردود الفعل ، واختلافا في المؤثرات وهذه الوحدة هي البذرة التي يقلبها شعور الإنسان إلى معنى عام .
المناقشة
- للتجريد إذن اصول حيوية ، إلا أنه من الصعب تفسير المفاهيم العامة بالعوامل الحيوية وحدها ، وقد أدرك ( هنري برغسون نفسه ذلك ، فقال : ان العمل يولد شعوراً بالتعميم مبهما ، ولكن هذا الشعور بعيد عن التصور التام للعمومية ( ٢ ) ، كما هو بعيد عن الإدراك الواضح للفردية . اننا نشعر بالتشابه ، ونعيش فيه قبل أن نتصوره . ان رتبة العادة الحيوية دون رتبة المفهوم ، حق لقد بين ) كلاباريد ) أن إدراك التشابه لا يتقدم دائماً على إدراك التباين ؛ نعم ان الطفل يبني عمله على تشابه الأشياء ويعيش فيه ، ولكنه لا يتصور هذا التشابه تصوراً عقلياً ؛ أما تباين الأشياء فيولد على عكس ذلك شعوراً بعدم التكيف ، كما يولد الانتباه والفكر .
وعلى ذلك فإن العادة والمؤالفة الحركية تهيئان الفكرة ؛ ولكن الفكرة شيء ، والمادة شيء آخر : « المادة وان كانت تغني عن الأفكار والمفاهيم ، إلا أنها لا تفسرها ، بل توجد لها معادلاً غامضاً يكفي لحاجات العمل ، ويصلح للموجودات العديمة العقل ، لا للموجودات العاقلة التي تشعر بالعمل وتتأمله .
٢ - العامل الاجتماعي
الفكرة والعقل الاجتماعي - ان تكون المعاني العامة تابع أيضاً للعوامل الاجتماعية . لأن الحياة الاجتماعية ترغم الأفراد على تبادل الأفكار بواسطة اللغة . واللغة شيء اجتماعي بالذات . نعم ان المعنى يختلف عن اللفظ ، إلا أنه متحد به تماماً . والطفل إذا تعلم مفردات اللغة ، تعلم معها تصنيف الأشياء في أجناس وأنواع .
ان تصنيف الأشياء في لغات الامم الابتدائية مطابق لتصنيف القبائل . كل قبيلة من قبائل اوستراليا تنقسم إلى فخذين ، كما أن الكواكب ، والقوى الطبيعية ، والنبات ، والحيوان ، وسائر الموجودات ، من حية وجامدة ، تنقسم إلى صنفين ( Durkheim et 13 1 1.7 , 1 .Mauss in Année soc وكما أن الموجودات تنقسم عند هنود الزونيس ( Zunis ( أي المكسيك الجديدة إلى سبعة عوالم متباينة رغم تشابهها ، فكذلك تنقسم القبيلة عندهم إلى سبعة بطون .
وقد زعم ( دوركهايم ) أن مفهوم الجنس متولد من الحياة الاجتماعية لأنه يتضمن معنى القرابة والترتيب ، وهذان الأمران لا وجود لهما في الطبيعة ، بل هما اجتماعيان بالذات ( ١ ) .
وإذا حللنا صفات المعاني العامة ، وجدناها ترجع إلى أصل اجتماعي ، إن التصورات الحسية جزئية ، كثيرة التغير والتبدل ، أما المعاني العامة ، فهي كلية ، تصدق على عدد غير معين من الأفراد ، وهذا الأصل الاجتماعي ثابت ثبوتاً نسبياً لأنه مثال ونموذج لا يتغير إلا قليلا . إن التصورات الحسية جزئية ، وهي تنطبق على الأفراد والأشخاص ، أما المفاهيم العقلية فغير جزئية ، لأنها مشتركة بين جميع أفراد المجتمع ، فهي إذن فوق الفكر الفردي ، كما أن الجماعة فوق الأفراد .
المناقشة
_ يمكننا أن نستنتج من هذه النظرية ما يلي :
١ - إن بنية الجماعة تنعكس على ضروب التصنيف وأشكال التصور .
٢ - إن الهيئة الاجتماعية تنقل هذه التصورات من جيل إلى جيل بواسطة اللغة التي تحددها وتثبتها ، فلا يمكن تبديلها من غير مقاومة ، إن أكثر تصوراتنا العامة تابعة للوسط الاجتماعي الذي نعيش فيه .
٣ - لقد أعانت الهيئة الاجتماعية على تكوين الفكر المنطقي ، وذلك بإخراجها الفرد من دائرة العوامل الشخصية .
ولكن هل يمكننا أن نقول : إن الهيئة الاجتماعية قد ولدت الفكر ، وأبدعت التصورات ، والمفاهيم ، وعلمت الإنسان كيفية استعمالها ؟
للإجابة عن ذلك نقول : إن النظرية الاجتماعية لا تخلو من الاشتباه ، لأنها لا توضح لنا كيف يولد المجتمع قوة التفكير في الأفراد . إن في الفرد والطبيعة ما يغني عن المجتمع ، ولولا استعداد الفرد للتفكير لما استطاع المجتمع أن يولد فيه شيئاً ، أضف إلى ذلك أن المعنى العام كلي ، والجماعي محدود وأكثري ، وأن التفكير المنطقي مجرد عن كل سلطان ، ، أن الجماعي مقيد بنزعات المجتمع وغاياته .
يقول الاجتماعيون : لا يكون التفكير منطقياً إلا إذا كان اجتماعيا ، ولكن يمكننا أن نقلب نظريتهم ونقول : لا تكون الحياة الاجتماعية كاملة إلا إذا كانت مبنية على التفكير المنطقي ( ١ ) .
٣- العامل النفسي
الفكرة والحكم . - لا تتكون المعاني العامة إلا بتأثير الوظائف العقلية العالية ، لأنها تنطوي على الشعور بالتشابه والتباين معا . وتستلزم إدراك العلاقات والتصديق بها ، وتستند إلى أفعال ذهنية مقومة لها ، بحيث يصبح كل معنى عـام مثلا أعلى للتصورات التي اشتركت في تكوينه . لذلك قال ( بورلو ) ( ۱ ) : التعميم انتقال من الشعور المبهم إلى الشعور الواضح ، من الفكرة الغامضة إلى الفكرة الواضحة البينة . التعميم هو التعريف ، والتعريف العلاقة التي يقوم عليها التجريد ؛ الفكرة العامة هي الفكرة المحددة .
ولا يتم تكوين المفاهيم العامة بخطور بعض الصور للذهن ، ومرورها بميدان الشعور فحسب ، كما زعم التجريبيون ، بل يتم بفعل العقل الذي يقبل هذه الصور ، أو يردها بحسب مطابقتها ، أو عدم مطابقتها لتعريف التصور ، اعني القانون المقوم له . ومما يؤيد ذلك أننا كثيراً ما نخطىء في معاني الألفاظ ، ونستشهد في الدلالة على المعنى بمثال لايدل عليه . فالمفهوم إذن مبني على الحكم ، وهو يشتمل كالحكم على فعلين أساسيين : التحليل والتركيب . فالتحليل يكشف عن الصفات الذاتية التي تدخل في تعريف المفهوم : المجرد ، أما التركيب فيجمع هذه الصفات المتفرقة ، ويؤلف منها مثالاً معين الحدود واضح العلاقات .
التصور هو امكان عدد غير معين من الأحكام
- من خصائص المعاني العامة اشتمالها بالقوة علي عدد . معين من الأحكام ( ۲ ) ، وقد سمى ( هاميلتون ) هذا الإمكان : Univelsalité ) ذلك أننا اذا حللنا ما صدق المحمول ومفهومه و معنی - ( Potentielle كلية بالقوة - تحليلا نفسيا ، وجدنا ماصدقه مركبا من عدد . غير متناه الأحكام الممكنة التي يكون من التصور فيها محمولاً ، كقولك زيد انسان ، وبكر انسان ، وليس جبريل انسانا . الخ .. ووجدنا المفهوم مركبا من عدد غير متناه من الأحكام الممكنة التي يكون التصور فيها
موضوعا ، كقولك : الإنسان حيوان ، الإنسان ناطق ، أو ليس الإنسان مجتراً . الخ .. وليس اطلاق هذه الأحكام مجرداً عن كل قيد ، وإنما هو مقيد بتعريف التصور ، أي بالقانون المقوم له ، وهذا يدل على أن حقيقة المعنى الكلي مختلفة عن حقيقة الصورة . أضف إلى ذلك ان الصورة ليست ساكنة ، وصفتها الحدسية المشخصة لا تعين على بقائها في الشعور الا مدة من الزمان ، ولا تكسبها الا القليل من الثبوت النسبي ؛ أما التصور فهو عقلي بالذات ، لا يتبلور ولا ينقلب الى صورة الا اذا فقد صفته الذاتية ، فالثابت في التصور هو الحد ، اعني القانون المجرد المشتمل على الصور والأحكام ؛ أما الصور والأحكام ، فهي كثيرة الاختلاف ، كثيرة التبدل ، فكأن التصور كامن في الصور والأحكام ، حتى لقد زعم بعضهم أنه استعداد فكري ، أو جوهر لا شعوري ، أو عادة ، أو نزعة ، وهذا اللفظ أنه لا غنى للتصور عن حامل يحمله ويثبته ، وهذا الحامل هو اللفظ .
كيف يتوصل الذهن إلى المعاني العامة
ما هو منشأ المعاني العامة ؟
الفرضية الأولى - الذهن يبدأ بالجزئي .
هذه فرضية التجريبيين الذين يزعمون أن المعاني العامة تتألف من الادراكات الجزئية أو الفردية . ولكننا إذا تذكرنا ما قلناه في بحث الادراك تبين لنا أن الذهن لا يبتدىء بالادراك بالجزئي ، أو الفردي الذي يقتضي تفريق الأشياء بعضها عن بعض . بل يبتدىء بالحدس المبهم الكلي الذي تختلط فيه صور الأشياء بعضها ببعض . أن تكون صورة الشيء الخارجي ليس أمراً أولياً ، وإنما هو ثمرة عمل فكري طويل .
الفرضية الثانية - الذهن يبدأ بالكلي .
زعم العقليون أن النفس تدرك الكلي أولاً ، ثم تهبط منه إلى إدراك الجزئي . قال أرسطو : « المدرك هو الفرد ، ولكن الادراك يتبع الكلي ، فنحن ندرك الانسان الكلي قبل أن ندرك ) كالياس ( ( ۱ ) . وقال ليبنز : ان الطفل لا يدرك الفرد إدراكاً واضحاً ، لأن أقل تشابه بين الأفراد يخدعه ، فيختلط عليه الأمر ، ولا يفرق بين هذا وذاك ؛ قال : ونحن نجرد المعاني بالانتقال من الأنواع إلى الأجناس ، لا من الأفراد إلى الأنواع ( ٢ ) .
ان في هذه الفرضية التباساً . لأنها تقتضي أن يكون التجريد أولياً ، مع أن الذهن البشري لا يستطيع وهو في حالته الابتدائية أن يقوم بفعل التجريد والتعميم . وقد ذكر ( كلا باريد ( أن المعاني العامة إنما تنشأ عن تجريد مبني على تحليل صفات الأشياء . وليس في وسع الطفل والانسان الابتدائي أن يقوما بهذا التحليل . لأن الطفل عاجز عن إدراك المفاهيم المجردة ، والانسان الابتدائي بعيد أيضاً عن تصور المعاني العامة ، وقد بين ( ريبو ) ان لغة الأقوام الابتدائية غنية بالألفاظ القريبة من الحس ، قال : « ان في لغة سكان أمريكا الشمالية ألفاظاً خاصة للدلالة على السنديان الاسود والأبيض ، والأحمر ، ولكنها لا تتضمن كلمة تدل على السنديان ولا على الشجر عموماً . ان ألفاظاً للدلالة على غسل الوجه ، أو غسل الثياب ، أو غسل الأدوات ، يبلغ عددها ثلاثين كلمة ، ولكنهم يعرفون لفظا يطلقونه على الغسل العام ( ۳ ) ، حتى أن أسماء الأعداد تختلف عندهم باختلاف الأشياء المعدودة .
الفرضية الثالثة . الذهن يبدأ بغير الممين .
لا فرق عند الانسان الابتدائي بين الجزئي والكلي ، كما أنه لا فرق عند الطفل بين الداخلى والخارجي ، أو الذاتي والموضوعى . قال ( ريبو ) : تنتقل النفس من غير المعين إلى المعين ، فإذا كان الأمر الغير المعين مرادفا للكلي ، كان انتقال الفكر من الجزئي إلى الكلي غير صحيح . ولكن النفس لا تبتدىء بالكلي ، بل تبتدىء بالمبهم . إن الطفل لا يعرف الأشياء تعريفا واضحا ، بل يذكر في رسمه لها صفات مختلفة . الحي عنده مثلاً ، هو ما يفعل ويتحرك ، ويشعر ، وينفع ؛ فالطفل يعمم تعميما غامضا مشوشا ، ويمزج الأجناس والأنواع بعضها ببعض ، ويكتفي في مزجه لها بالمناسبات البعيدة ، والمشابهات الظاهرة ، ويوسع معاني الألفاظ ، ويستعملها في غير محلها . وسواء لديه أكانت الألفاظ مطابقة للأشياء أم غير مطابقة لها ، فإن كل لفظ منها يصلح عنده للدلالة على كل شيء . والانسان الابتدائي كالطفل لا يفرق بين الأشياء ، ولا يحدد معانيها ، بل يمزجها بعضها ببعض مزجا روحيا يدل على أن الجميع الأشياء عنده حقيقة واحدة ، فالأحجار والأشجار تمازج شعور الانسان كما يمازج الانسان حياة الحيوان ، وهذا يوضح لنا معنى الأساطير ، ويبين لنا كيف تتحول الأشياء في نظر الانسان الابتدائي من صورة إلى اخرى ، فلا انتقال من الجزئي إلى الكلي ، ولا من الكلي إلى الجزئي ، بل الأصل في المفاهيم العامة عدم التمين ، وعدم الوضوح ، ولنبين الآن ما هي العوامل التي تنقل النفس من عدم التعين إلى التعين ، وتؤدي إلى تركيب المفاهيم العامة والمعاني المجردة ( 1 ) .
۱ - العامل الحيوي .
الفكرة والمؤالفة الحيوية . ان للعوامل الحيوية والضرورات العملية أثراً عظيما في تكون المفاهيم ، فالتجريد تابع للحاجة ، والتعميم عادة حيوية ، انظر الى الطفل ، انه يعرف الاشياء بحسب منافعها ، وبحسب استعماله اياها ، حق ان مفاهيمنا وتصنيفاتنا العلمية قد تولدت من عادات عملية ، والدليل على ذلك أن تعريفات الأشياء وتصنيفاتها تابعة عنــــد الامم الابتدائية للطرائق المستعملة في الحصول عليها ، وسنبين في بحث العادة أن العادة ملكة عامة ، وأنها رد ثابت على مؤثرات خارجية متغيرة .
وقد بين ( هنري برغسون ) أن الادراك ليس تصوراً ساكنا ، وانما هو مقياس تأثيرنا الممكن في الاشياء ، وهذا يدل أيضا على أن في الادراك تعميما . قال ( رويسن ) : « ان أنماط الفعل أقل اختلافا عندنا . من أغاط الحس ، فصراخ الطفل وحركة ركاته لا تختلف بحسب ألمه ، أو جوعه ، أو حرمانه ، انه يضع هذه المؤثرات كلها في صنف الأشياء المبكية ، وقال أيضا : انا نصنف أنماط الفعل بأجسادنا ، قبل أن نصنف الأشياء بعقولنا ، ونحن لا ندرك الأنواع والأجناس الا من خلال فاعليتنا المختلفة والموحدة ) . Evolution Psychologiquedu jugement ، . ص ١٣٤ .
ولا يمكن أن يكون للجسد كما هو إلا حركات محدودة ، أما المؤثرات الخارجية فغير محصورة وغير معدودة ، ذلك لأن الجسد يرد على المؤثرات المتغيرة بحركات وأفعال ثابتة ؛ ويكتفي بالتشابه البسيط في مؤالفة البيئة . قال ( هنري برغسون ) : « إذا أثر حامض الكلور المائي بكيفية واحدة في كاربونات الكلس رخاما كانت أو حككاً ، فهل يقال : إن هذا الحامض يجرد صفات الجنس من الأنواع المختلفة ؟ ليس ثمة فرق بين فعل الحامض الذي يستخرج الأساس من الملح ، وبين فعل النبات الذي يستخرج العناصر الضرورية لغذائه من الأتربة المختلفة . ولنتقدم خطوة ثانية أيضاً ، ولنتصور شعوراً ابتدائياً كشعور ( الآميب ) في قطرة ماء ، انه يشعر بتشابه المواد التي يستطيع امتصاصها ، لا باختلافها بعضها عن بعض » .
والخلاصة : انا إذا ارتقينا من المعدن إلى النبات ، ومن النبات إلى أبسط الموجودات الحساسة ، ومن الحيوان إلى الإنسان ، وجدنا وحدة في ردود الفعل ، واختلافا في المؤثرات وهذه الوحدة هي البذرة التي يقلبها شعور الإنسان إلى معنى عام .
المناقشة
- للتجريد إذن اصول حيوية ، إلا أنه من الصعب تفسير المفاهيم العامة بالعوامل الحيوية وحدها ، وقد أدرك ( هنري برغسون نفسه ذلك ، فقال : ان العمل يولد شعوراً بالتعميم مبهما ، ولكن هذا الشعور بعيد عن التصور التام للعمومية ( ٢ ) ، كما هو بعيد عن الإدراك الواضح للفردية . اننا نشعر بالتشابه ، ونعيش فيه قبل أن نتصوره . ان رتبة العادة الحيوية دون رتبة المفهوم ، حق لقد بين ) كلاباريد ) أن إدراك التشابه لا يتقدم دائماً على إدراك التباين ؛ نعم ان الطفل يبني عمله على تشابه الأشياء ويعيش فيه ، ولكنه لا يتصور هذا التشابه تصوراً عقلياً ؛ أما تباين الأشياء فيولد على عكس ذلك شعوراً بعدم التكيف ، كما يولد الانتباه والفكر .
وعلى ذلك فإن العادة والمؤالفة الحركية تهيئان الفكرة ؛ ولكن الفكرة شيء ، والمادة شيء آخر : « المادة وان كانت تغني عن الأفكار والمفاهيم ، إلا أنها لا تفسرها ، بل توجد لها معادلاً غامضاً يكفي لحاجات العمل ، ويصلح للموجودات العديمة العقل ، لا للموجودات العاقلة التي تشعر بالعمل وتتأمله .
٢ - العامل الاجتماعي
الفكرة والعقل الاجتماعي - ان تكون المعاني العامة تابع أيضاً للعوامل الاجتماعية . لأن الحياة الاجتماعية ترغم الأفراد على تبادل الأفكار بواسطة اللغة . واللغة شيء اجتماعي بالذات . نعم ان المعنى يختلف عن اللفظ ، إلا أنه متحد به تماماً . والطفل إذا تعلم مفردات اللغة ، تعلم معها تصنيف الأشياء في أجناس وأنواع .
ان تصنيف الأشياء في لغات الامم الابتدائية مطابق لتصنيف القبائل . كل قبيلة من قبائل اوستراليا تنقسم إلى فخذين ، كما أن الكواكب ، والقوى الطبيعية ، والنبات ، والحيوان ، وسائر الموجودات ، من حية وجامدة ، تنقسم إلى صنفين ( Durkheim et 13 1 1.7 , 1 .Mauss in Année soc وكما أن الموجودات تنقسم عند هنود الزونيس ( Zunis ( أي المكسيك الجديدة إلى سبعة عوالم متباينة رغم تشابهها ، فكذلك تنقسم القبيلة عندهم إلى سبعة بطون .
وقد زعم ( دوركهايم ) أن مفهوم الجنس متولد من الحياة الاجتماعية لأنه يتضمن معنى القرابة والترتيب ، وهذان الأمران لا وجود لهما في الطبيعة ، بل هما اجتماعيان بالذات ( ١ ) .
وإذا حللنا صفات المعاني العامة ، وجدناها ترجع إلى أصل اجتماعي ، إن التصورات الحسية جزئية ، كثيرة التغير والتبدل ، أما المعاني العامة ، فهي كلية ، تصدق على عدد غير معين من الأفراد ، وهذا الأصل الاجتماعي ثابت ثبوتاً نسبياً لأنه مثال ونموذج لا يتغير إلا قليلا . إن التصورات الحسية جزئية ، وهي تنطبق على الأفراد والأشخاص ، أما المفاهيم العقلية فغير جزئية ، لأنها مشتركة بين جميع أفراد المجتمع ، فهي إذن فوق الفكر الفردي ، كما أن الجماعة فوق الأفراد .
المناقشة
_ يمكننا أن نستنتج من هذه النظرية ما يلي :
١ - إن بنية الجماعة تنعكس على ضروب التصنيف وأشكال التصور .
٢ - إن الهيئة الاجتماعية تنقل هذه التصورات من جيل إلى جيل بواسطة اللغة التي تحددها وتثبتها ، فلا يمكن تبديلها من غير مقاومة ، إن أكثر تصوراتنا العامة تابعة للوسط الاجتماعي الذي نعيش فيه .
٣ - لقد أعانت الهيئة الاجتماعية على تكوين الفكر المنطقي ، وذلك بإخراجها الفرد من دائرة العوامل الشخصية .
ولكن هل يمكننا أن نقول : إن الهيئة الاجتماعية قد ولدت الفكر ، وأبدعت التصورات ، والمفاهيم ، وعلمت الإنسان كيفية استعمالها ؟
للإجابة عن ذلك نقول : إن النظرية الاجتماعية لا تخلو من الاشتباه ، لأنها لا توضح لنا كيف يولد المجتمع قوة التفكير في الأفراد . إن في الفرد والطبيعة ما يغني عن المجتمع ، ولولا استعداد الفرد للتفكير لما استطاع المجتمع أن يولد فيه شيئاً ، أضف إلى ذلك أن المعنى العام كلي ، والجماعي محدود وأكثري ، وأن التفكير المنطقي مجرد عن كل سلطان ، ، أن الجماعي مقيد بنزعات المجتمع وغاياته .
يقول الاجتماعيون : لا يكون التفكير منطقياً إلا إذا كان اجتماعيا ، ولكن يمكننا أن نقلب نظريتهم ونقول : لا تكون الحياة الاجتماعية كاملة إلا إذا كانت مبنية على التفكير المنطقي ( ١ ) .
٣- العامل النفسي
الفكرة والحكم . - لا تتكون المعاني العامة إلا بتأثير الوظائف العقلية العالية ، لأنها تنطوي على الشعور بالتشابه والتباين معا . وتستلزم إدراك العلاقات والتصديق بها ، وتستند إلى أفعال ذهنية مقومة لها ، بحيث يصبح كل معنى عـام مثلا أعلى للتصورات التي اشتركت في تكوينه . لذلك قال ( بورلو ) ( ۱ ) : التعميم انتقال من الشعور المبهم إلى الشعور الواضح ، من الفكرة الغامضة إلى الفكرة الواضحة البينة . التعميم هو التعريف ، والتعريف العلاقة التي يقوم عليها التجريد ؛ الفكرة العامة هي الفكرة المحددة .
ولا يتم تكوين المفاهيم العامة بخطور بعض الصور للذهن ، ومرورها بميدان الشعور فحسب ، كما زعم التجريبيون ، بل يتم بفعل العقل الذي يقبل هذه الصور ، أو يردها بحسب مطابقتها ، أو عدم مطابقتها لتعريف التصور ، اعني القانون المقوم له . ومما يؤيد ذلك أننا كثيراً ما نخطىء في معاني الألفاظ ، ونستشهد في الدلالة على المعنى بمثال لايدل عليه . فالمفهوم إذن مبني على الحكم ، وهو يشتمل كالحكم على فعلين أساسيين : التحليل والتركيب . فالتحليل يكشف عن الصفات الذاتية التي تدخل في تعريف المفهوم : المجرد ، أما التركيب فيجمع هذه الصفات المتفرقة ، ويؤلف منها مثالاً معين الحدود واضح العلاقات .
التصور هو امكان عدد غير معين من الأحكام
- من خصائص المعاني العامة اشتمالها بالقوة علي عدد . معين من الأحكام ( ۲ ) ، وقد سمى ( هاميلتون ) هذا الإمكان : Univelsalité ) ذلك أننا اذا حللنا ما صدق المحمول ومفهومه و معنی - ( Potentielle كلية بالقوة - تحليلا نفسيا ، وجدنا ماصدقه مركبا من عدد . غير متناه الأحكام الممكنة التي يكون من التصور فيها محمولاً ، كقولك زيد انسان ، وبكر انسان ، وليس جبريل انسانا . الخ .. ووجدنا المفهوم مركبا من عدد غير متناه من الأحكام الممكنة التي يكون التصور فيها
موضوعا ، كقولك : الإنسان حيوان ، الإنسان ناطق ، أو ليس الإنسان مجتراً . الخ .. وليس اطلاق هذه الأحكام مجرداً عن كل قيد ، وإنما هو مقيد بتعريف التصور ، أي بالقانون المقوم له ، وهذا يدل على أن حقيقة المعنى الكلي مختلفة عن حقيقة الصورة . أضف إلى ذلك ان الصورة ليست ساكنة ، وصفتها الحدسية المشخصة لا تعين على بقائها في الشعور الا مدة من الزمان ، ولا تكسبها الا القليل من الثبوت النسبي ؛ أما التصور فهو عقلي بالذات ، لا يتبلور ولا ينقلب الى صورة الا اذا فقد صفته الذاتية ، فالثابت في التصور هو الحد ، اعني القانون المجرد المشتمل على الصور والأحكام ؛ أما الصور والأحكام ، فهي كثيرة الاختلاف ، كثيرة التبدل ، فكأن التصور كامن في الصور والأحكام ، حتى لقد زعم بعضهم أنه استعداد فكري ، أو جوهر لا شعوري ، أو عادة ، أو نزعة ، وهذا اللفظ أنه لا غنى للتصور عن حامل يحمله ويثبته ، وهذا الحامل هو اللفظ .
تعليق