"البلوط القديم" حانة تسد الفجوة بين مجتمعين
الفيلم يروي قصة إنسانية للاجئين السوريين والمهمشين في بريطانيا.
الأحد 2024/01/21
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محاولة جمع السوريين ومضيفيهم المترددين
أثار موضوع اللاجئين الكثير من الجدل في أوروبا، وخاصة منهم السوريين الذين واجهوا عنصرية كبيرة من البعض وترحيبا إنسانيا من البعض الآخر. في إنجلترا كان الوضع أكثر دقة خاصة مع توجيه اللاجئين إلى مناطق مهمشة وسكانها مهمشون، وهو ما خلق وضعا صعبا يحلله فيلم “البلوط القديم”.
الفيلم الذي ختم به المخرج البريطاني كين لوتش مسيرته الإخراجية “البلوط القديم”، يمثل عنوانه اسم الحانة الوحيدة في القرية الواقعة في مقاطعة دورهام شمالي شرق إنجلترا. التي تمثل مركزا للقاء الأهالي وتبادل الأحاديث حول أوضاع القرية.
الحانة التي يملكها تي جيه بالانتين (ديف تيرنر)، الرجل الطيب والهادئ الذي يشارك رواد حانته شكواهم من الحالة الاقتصادية المتدهورة للمدينة وأهلها الذين كانوا يعملون بالمناجم ولم يعد لديهم مصدر آخر للدخل، إضافة إلى الانخفاض الكبير في قيمة بيوتهم مع دخول شركات استثمارية واستغلالهم لشراء البيوت بأسعار زهيدة.
ضد العنصرية والتهميش
تستقبل المدينة حافلة تنقل مهاجرين سوريين ومن بينهم الشابة يارا (إيبلا مرعي) التي تحمل في يدها كاميرا توثق صورا للحظات الفارقة في حياتها وحياة مواطنيها المذعورين، لكن أحد الرجال العنصريين الرافضين وجودهم في القرية يخطف الكاميرا منها ويكسرها ويشتبك معها.
زمن الفيلم في صيف عام 2016 العام الذي قررت فيه بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي. بعد وصول اللاجئين السوريين، يزداد الجدل داخل الحانة حول طبيعة الوافدين الجُدد، فتُطرح إشكاليات عدة حول جدوى وجودهم وتأثيرهم على القرية المُحافظة ذات المجتمع الناقم على الحكومة البريطانية وسياستها بعد إغلاق المنجم، كذلك معاناة السكان من أزمة اقتصادية خانقة دفعت العديد من الشباب إلى الرحيل عن القرية بحثا عن الرزق، فيما يشعر الباقون بالغضب تجاه حكومتهم التي “تخلّت عنهم”، بحسب ما يرونه من سوء أوضاع القرية وتردّي سبل العيش بها ويضعون اللوم على اللاجئين باعتبارهم أحد أسباب الأزمة الاقتصادية، ولهذا يرفض الجميع وجودهم، الوحيد المرحب بهم والمتعاطف معهم كان صاحب الحانة.
تدخل الشابة السورية يارا إلى الحانة، وتطلب من صاحبها أن يدلها على الرجل الذي كسر الكاميرا، ليتحمل قيمة إصلاحها، وقد كان شاهدا ويعرف المعتدي. يلاحظ تي جيه بالانتين أنها تتحدث الإنجليزية بطلاقة ولباقة ويعجب بشخصيتها واعتزازها بنفسها. تخبره بقيمة الكاميرا بالنسبة إليها، إذ ساعدتها على تحمل الرحلة القاسية للفرار مع أسرتها من الجحيم، وما زالت العائلة تترقب خبرا عن والدها المعتقل في سوريا.
تنشأ علاقة إنسانية بين الشابة السورية وصاحب الحانة (تي جيه) حيث كلاهما يعاني مرارة الفقد والغربة. تزور يارا (المسلمة) برفقة صاحب الحانة كاتدرائية دورهام لمساعدة اللاجئين. تتأثر عندما تسمع أن هذا المبنى الأثري عمره ألف عام، فتعلق بحزن “لن يرى أبنائي أبدا معبد تدمر الذي بناه الرومان ودمرته الدولة الإسلامية عام 2015”. وفي أكثر المواقف المؤثرة حين تشاهد يارا صورا توثق إضراب العمال في الثمانينات على جدران مخزن تي جيه، فتأتي لها فكرة تقديم وجبات مجانية في هذا المكان لدمج اللاجئين مع السكان، يوافق البريطاني صاحب الحانة الطيب بلا تردد، ويفتح مخزنه ويقوم بإصلاحه، ويتناول الجميع الطعام الذي أعدته السوريات البارعات في الطهي، وهكذا يتم التعارف واللقاء ويذوب الجليد.
الفيلم يتعامل مع القضايا الصعبة التي تواجه الطبقة العاملة ومجتمعات اللاجئين في قرية في شمال شرق إنجلترا
في حوار معه، تحدث المخرج البريطاني كين لوتش قائلا “لم أكن أعرف شيئا عن السوريين حقا، قبل أن أبدأ هذا الفيلم، لكنني اكتشفت كل شيء أثناء إخراجه، لحظات الكرم الصغيرة التي لا تُقدر والتي لم تكن موجودة في النص، إنهم الأشخاص الذين يفاجئونك بمحبتهم وكرمهم”.
في مشاهد عديدة يبرز المخرج لوتش كرم السوريين وحسن ضيافتهم، وكان تأثره بكرم الضيوف العرب واضحا جدا في الفيلم الذي كان ختاما راقيا لمسيرة عظيمة انحاز فيها إلى العدالة والإنسانية والطبقة العاملة ومدافعا عن البسطاء، وفي نفس الوقت، ينتقد العنصرية الإنجليزية إزاء اللاجئين القادمين، حين يصور التحامل وسوء المعاملة التي يلقاها اللاجئون السوريون في بريطانيا على يد الفقراء من الطبقة العاملة الذين يرون في القادمين تهديدا لثقافتهم ولدخلهم القليل.
المخرج لوتش وإن كان رافضا بشكل قاطع وصارم لسلوك ورؤية هؤلاء العنصريين، لكنه يوضح أن هؤلاء هم الفئة الضالة القليلة وسط الطبقة العاملة. يعلق لوتش أن أغلب الطبقة العاملة البيضاء من الضحايا والمقهورين، يماثل قهرهم ما يتعرض له اللاجئون من فقر وشظف في العيش، هؤلاء الإنجليز الذين يعيش الكثير منهم على الكفاف لا يجدون متنفسا لمظالمهم إلا في اضطهاد من هم أقل منهم حظا وهم اللاجئون. ويعرض مساعدات الكنائس والجهات الخيرية للاجئين، بالمقابل يلاقون الإهمال والتجاهل من الدولة للفقراء من أهل القرية.
قصة إنسانية
كين لوتش يصور في فيلمه ببراعة الروابط والصراعات المختلفة والرغبة في خلق وتعزيز التواصل من خلال الطعام
القصة مكتوبة بتعاطف كبير من قبل الكاتب بول لافيرتي، وصور محنة اللاجئين السوريين وأهوالهم وصدمتهم المستمرة بحساسية وتعاطف من خلال كرم الضيافة وأملهم في مواجهة نكبة النزوح. وصول اللاجئين السوريين إلى القرية الفقيرة يصبح هو اللحظة الكاشفة لجوهر الكثيرين من أهل القرية، وبالتالي يمنح المخرج لوتش الفرصة للإعراب عن رؤيته الإنسانية لمظالم الطبقة العاملة ومعاناة اللاجئين في آن واحد.
يلتقط لوتش الصراع الذي ينشأ عندما يرى السكان الأصليون كيف يتلقى اللاجئون السوريون المساعدات. كما يظهر في أحد مشاهد الفيلم حين تحصل طفلة سورية لاجئة على دراجة مستعملة تبرع بها أحدهم، عندها يعلق صبي من أهل القرية وهو يراقب الطفلة بحسرة، إنه كان على الدوام يأمل في الحصول على دراجة.
يصور المخرج لوتش ببراعة الروابط والصراعات المختلفة والرغبة في خلق وتعزيز التواصل من خلال الطعام وهذا ما يجمع السوريين ومضيفيهم المترددين معا. يتناول الفيلم الحرمان والاغتراب والإهمال من قبل السياسيين والحزب اليميني والمحافظين لأهالي القرية، كما ذكر المخرج لوتش. لقد عانى سكان تلك المناطق من إهمال على مدى السنوات الأربعين الماضية. على الرغم من ذلك يؤكد المخرج على روح التضامن التي لا تزال موجودة عند عمال المناجم القدامى، وفي تلك المنطقة يزحف اللاجئون الهاربون من الحرب السورية الذين يواجهون صعوبة في الاندماج لكون معظمهم لا يتحدثون الإنجليزية.
كتابة الفيلم من قبل بول لافيرتي الذي تعاون مع لوتش في أكثر من مرة، قدمت لنا قصة مجتمعين مصابين بصدمات نفسية بعد وصول حافلة تنقل مجموعة من اللاجئين السوريين إلى قرية في شمال شرق إنجلترا. مركز الأحداث هو الحانة القديمة، ومنزل العائلة السورية، الحانة تقع في وسط القرية. والرجل الذي يديرها هو شخص بدأ كعامل منجم، ثم اشترى الحانة وعمل على جمع الناس معا، ومع انهيار القرية تراجعت آماله. لكنه يحاول أن يكون متفائلا في تلك الظروف.
اعتمدا الكاتب (لافيرتي) والمخرج (كين لوتش) في سرد القصة على عدة مصادر، أولا من خلال الاستماع لقصص اللاجئين السوريين. وسنوات من البحث للوصول إلى مجموعات من اللاجئين في الشمال الشرقي، ثانيا التحدث مع المنظمات الإنسانية والمتطوعين الذين يدعمون هذه المجتمعات.
كرم وضيافة وطيبة الشعب السوري
يضيف كاتب القصة لافيرتي “نظرا إلى أنها ثقافة مختلفة ولغة مختلفة، لذلك نحن نحترم بشدة المكان الذي جاء منه الأشخاص الذين لديهم وجهات نظر مختلفة. البطل ديف تيرنر، في دوره تي جيه، في مشهد تناوله الشاي حين استضافته العائلة السورية في بيتها، كانت الضيافة هائلة والطريقة التي عاملوه بها والتحدث إليهم مؤثرة جدا، جعلتنا نفهم أن الطعام الذي يقدمونه وكرم الضيافة التي يظهرونها عميقة جدا في تلك الثقافة”.
“البلوط القديم” له أهمية خاصة في التاريخ الإنجليزي وهو رمز الاستقرار والقوة والأمن. وهذا توصيف للحانة الوحيدة في القرية. في ماضيها كانت غرفتها الخلفية مركز الترفيه والنشاطات ليلة الجمعة والسبت للكثير من الناس. وأصبحت الآن مجرد ملتقى لكبار السن لاجترار ماضيهم والتذمر من حاضرهم ولعن أسراب الجراد كما يصفون اللاجئين السوريين.
يصف المخرج فيلمه “الفيلم يتعلق بنضال الأمل وكفاح الناس من أجل رؤية الأمل، لا يمكننا أن نكون في وضع أكثر كارثية مع انهيار المجتمع المدني من حولنا، الصحة والتعليم والإسكان وديون الطلاب والفقر والجوع وزيادة عدد المتشردين. كل جانب من جوانب حياتنا ينهار، مع الخطر الإضافي الناجم عن كارثة المناخ. إذن أين تجد الأمل؟ هذا هو السؤال الكبير. الأمل ستجده في تصميم الناس على المقاومة وغريزتنا وأعتقد أنها غريزة – للتضامن”.
الأسئلة التي طرحها المخرج في فيلمه كيف يرتبط هذان المجتمعان؟ وكيف يجدان طرقا للترابط؟ وهل سيكون هناك عداء؟ كيف سيعيد تقليد التضامن القديم أيام التعدين؟ أحد الاستثناءات البارزة الممثلة السورية إيبلا ماري التي تحاول سد الفجوة بين مجتمع التعدين السابق المضطهد واللاجئين السوريين الذين استقروا حديثا هناك، وتبرز عدوانية وعنصرية السكان المحليين بالرغم من وجود بعض النشطاء من المتطوعيين في الجمعيات الخيرية والمتعاطفين مع ظروف هؤلاء الهاربين من مدن الخراب أو الدمار وربما الاعتقال. هذا التضامن الإنساني الذي أكد عليه لوتش شيء مميز ورائع لضمان عدم جوع الناس.
دمج مجتمعين
قرية دمرها اقتصاديا الوحش الرأسمالي
كما هو الحال مع العديد من أفلامه السابقة استعان لوتش بممثلين غير محترفين وبعدد من اللاجئين الحقيقيين للتمثيل أمام الكاميرا، مثل السورية حسناء (46 عاما) التي تعرضت عائلتها لقصف في سوريا عام 2012، وعلى إثره فقدت زوجها وطفليها وساقيها وهربت إلى إنجلترا، وتعيش الآن في مقاطعة دورهام منذ ست سنوات. فيما كشفت الأخت الصغرى ربيع، أن دورها في السيناريو لا يختلف كثيرا عن تجربتها الحياتية، فهو يستكشف كيفية وصولها إلى إنجلترا وكيف تعيش، وكيف تعاملت مع الأشخاص الطيبين والأشرار في البلدة التي قررت العيش بها.
الممثلة إيبلا ماري لعبت دور الشابة السورية يارا، تعمل مدرسة مسرح في مرتفعات الجولان قبل الفوز بالدور، كان أداؤها متميزا وخاصة في المشهد الذي يتم فيه طردها من المنزل بعد مساعدة تلميذة جائعة.
يتعامل الفيلم مع القضايا الصعبة حقا التي تواجه الطبقة العاملة ومجتمعات اللاجئين في قرية في شمال شرق إنجلترا دمرها اقتصاديا الوحش الرأسمالي بعد التخلي عن هذه المجتمعات التي استقبلت لاجئين أكثر من أي منطقة أخرى، في الوقت الذي لم يكن هناك استثمار أو اهتمام والذي تسبب في نشوء عنصرية وكراهية للأجانب وبتشجيع الأحزاب والصحافة اليمينية التي أججت نيران العنصرية والكراهية، رغم تأكيد المخرج على أن القصة مليئة بالأمل حين يجد مجتمع اللاجئين الفارين من الحرب أرضية مشتركة مع سكان المنطقة التي دمرتها عقود من الإهمال الحكومي.
رسالة الفيلم حول التضامن بين عمال المناجم المهمشين واللاجئين السورين الفارين من الحرب واستكشاف ما يحدث في الفضاء بين هذين المجتمعين عندما يتم جمعهما، دراما كين لوتش تكشف جانبا من العنصرية البريطانية، كذلك يلفت الانتباه إلى الطريقة التي يتم بها استخدام المساكن الرخيصة لإيواء اللاجئين في شمال إنجلترا وأسكتلندا، على الرغم من نقص الدعم للبنية التحتية في مكان استقرارهم مما يضفي على الفيلم الطابع الإنساني على الديموغرافية الإنجليزية في المدن الصغيرة، ومشاعر الإهمال واليأس التي تولد العنصرية وكراهية الأجانب.
يظهر المخرج المخضرم مجتمعين في الفيلم، اللاجئين السوريين المنكوبين بالحزن والحرب والبريطانيين الفقراء من الطبقة العاملة المحرومين من أبسط مستلزمات الرفاهية. أحدهما تم التخلي عنه، والآخر عانى من صدمة الحرب وتعرض الكثيرون للتعذيب ودمرت منازلهم. هل يمكن لهذين المجتمعين أن يجدا طريقة للعيش جنبا إلى جنب، أم أن العنصرية والكراهية تحولان دون ذلك؟
يتجسد التضامن مع معاناة السكان المحليين الذين يعانون من الفقر في نهاية الفيلم بعد اقتراح من الشابة السورية اللاجئة يارا لتنظيم تناول وجبات الطعام السوري مع السكان المحليين، مستوحية الفكرة من كلمات والد صاحب الحانة (بالانتاين) العامل النقابي “عندما تأكلون معا، تلتصقون ببعضكم البعض”، الكلمات تمثل تضامن إضراب عمال المناجم عام 1984 في إشارة إلى الظروف التاريخية التي مر بها السكان المحليون.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
علي المسعود
كاتب عراقي
الفيلم يروي قصة إنسانية للاجئين السوريين والمهمشين في بريطانيا.
الأحد 2024/01/21
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محاولة جمع السوريين ومضيفيهم المترددين
أثار موضوع اللاجئين الكثير من الجدل في أوروبا، وخاصة منهم السوريين الذين واجهوا عنصرية كبيرة من البعض وترحيبا إنسانيا من البعض الآخر. في إنجلترا كان الوضع أكثر دقة خاصة مع توجيه اللاجئين إلى مناطق مهمشة وسكانها مهمشون، وهو ما خلق وضعا صعبا يحلله فيلم “البلوط القديم”.
الفيلم الذي ختم به المخرج البريطاني كين لوتش مسيرته الإخراجية “البلوط القديم”، يمثل عنوانه اسم الحانة الوحيدة في القرية الواقعة في مقاطعة دورهام شمالي شرق إنجلترا. التي تمثل مركزا للقاء الأهالي وتبادل الأحاديث حول أوضاع القرية.
الحانة التي يملكها تي جيه بالانتين (ديف تيرنر)، الرجل الطيب والهادئ الذي يشارك رواد حانته شكواهم من الحالة الاقتصادية المتدهورة للمدينة وأهلها الذين كانوا يعملون بالمناجم ولم يعد لديهم مصدر آخر للدخل، إضافة إلى الانخفاض الكبير في قيمة بيوتهم مع دخول شركات استثمارية واستغلالهم لشراء البيوت بأسعار زهيدة.
ضد العنصرية والتهميش
تستقبل المدينة حافلة تنقل مهاجرين سوريين ومن بينهم الشابة يارا (إيبلا مرعي) التي تحمل في يدها كاميرا توثق صورا للحظات الفارقة في حياتها وحياة مواطنيها المذعورين، لكن أحد الرجال العنصريين الرافضين وجودهم في القرية يخطف الكاميرا منها ويكسرها ويشتبك معها.
زمن الفيلم في صيف عام 2016 العام الذي قررت فيه بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي. بعد وصول اللاجئين السوريين، يزداد الجدل داخل الحانة حول طبيعة الوافدين الجُدد، فتُطرح إشكاليات عدة حول جدوى وجودهم وتأثيرهم على القرية المُحافظة ذات المجتمع الناقم على الحكومة البريطانية وسياستها بعد إغلاق المنجم، كذلك معاناة السكان من أزمة اقتصادية خانقة دفعت العديد من الشباب إلى الرحيل عن القرية بحثا عن الرزق، فيما يشعر الباقون بالغضب تجاه حكومتهم التي “تخلّت عنهم”، بحسب ما يرونه من سوء أوضاع القرية وتردّي سبل العيش بها ويضعون اللوم على اللاجئين باعتبارهم أحد أسباب الأزمة الاقتصادية، ولهذا يرفض الجميع وجودهم، الوحيد المرحب بهم والمتعاطف معهم كان صاحب الحانة.
تدخل الشابة السورية يارا إلى الحانة، وتطلب من صاحبها أن يدلها على الرجل الذي كسر الكاميرا، ليتحمل قيمة إصلاحها، وقد كان شاهدا ويعرف المعتدي. يلاحظ تي جيه بالانتين أنها تتحدث الإنجليزية بطلاقة ولباقة ويعجب بشخصيتها واعتزازها بنفسها. تخبره بقيمة الكاميرا بالنسبة إليها، إذ ساعدتها على تحمل الرحلة القاسية للفرار مع أسرتها من الجحيم، وما زالت العائلة تترقب خبرا عن والدها المعتقل في سوريا.
تنشأ علاقة إنسانية بين الشابة السورية وصاحب الحانة (تي جيه) حيث كلاهما يعاني مرارة الفقد والغربة. تزور يارا (المسلمة) برفقة صاحب الحانة كاتدرائية دورهام لمساعدة اللاجئين. تتأثر عندما تسمع أن هذا المبنى الأثري عمره ألف عام، فتعلق بحزن “لن يرى أبنائي أبدا معبد تدمر الذي بناه الرومان ودمرته الدولة الإسلامية عام 2015”. وفي أكثر المواقف المؤثرة حين تشاهد يارا صورا توثق إضراب العمال في الثمانينات على جدران مخزن تي جيه، فتأتي لها فكرة تقديم وجبات مجانية في هذا المكان لدمج اللاجئين مع السكان، يوافق البريطاني صاحب الحانة الطيب بلا تردد، ويفتح مخزنه ويقوم بإصلاحه، ويتناول الجميع الطعام الذي أعدته السوريات البارعات في الطهي، وهكذا يتم التعارف واللقاء ويذوب الجليد.
الفيلم يتعامل مع القضايا الصعبة التي تواجه الطبقة العاملة ومجتمعات اللاجئين في قرية في شمال شرق إنجلترا
في حوار معه، تحدث المخرج البريطاني كين لوتش قائلا “لم أكن أعرف شيئا عن السوريين حقا، قبل أن أبدأ هذا الفيلم، لكنني اكتشفت كل شيء أثناء إخراجه، لحظات الكرم الصغيرة التي لا تُقدر والتي لم تكن موجودة في النص، إنهم الأشخاص الذين يفاجئونك بمحبتهم وكرمهم”.
في مشاهد عديدة يبرز المخرج لوتش كرم السوريين وحسن ضيافتهم، وكان تأثره بكرم الضيوف العرب واضحا جدا في الفيلم الذي كان ختاما راقيا لمسيرة عظيمة انحاز فيها إلى العدالة والإنسانية والطبقة العاملة ومدافعا عن البسطاء، وفي نفس الوقت، ينتقد العنصرية الإنجليزية إزاء اللاجئين القادمين، حين يصور التحامل وسوء المعاملة التي يلقاها اللاجئون السوريون في بريطانيا على يد الفقراء من الطبقة العاملة الذين يرون في القادمين تهديدا لثقافتهم ولدخلهم القليل.
المخرج لوتش وإن كان رافضا بشكل قاطع وصارم لسلوك ورؤية هؤلاء العنصريين، لكنه يوضح أن هؤلاء هم الفئة الضالة القليلة وسط الطبقة العاملة. يعلق لوتش أن أغلب الطبقة العاملة البيضاء من الضحايا والمقهورين، يماثل قهرهم ما يتعرض له اللاجئون من فقر وشظف في العيش، هؤلاء الإنجليز الذين يعيش الكثير منهم على الكفاف لا يجدون متنفسا لمظالمهم إلا في اضطهاد من هم أقل منهم حظا وهم اللاجئون. ويعرض مساعدات الكنائس والجهات الخيرية للاجئين، بالمقابل يلاقون الإهمال والتجاهل من الدولة للفقراء من أهل القرية.
قصة إنسانية
كين لوتش يصور في فيلمه ببراعة الروابط والصراعات المختلفة والرغبة في خلق وتعزيز التواصل من خلال الطعام
القصة مكتوبة بتعاطف كبير من قبل الكاتب بول لافيرتي، وصور محنة اللاجئين السوريين وأهوالهم وصدمتهم المستمرة بحساسية وتعاطف من خلال كرم الضيافة وأملهم في مواجهة نكبة النزوح. وصول اللاجئين السوريين إلى القرية الفقيرة يصبح هو اللحظة الكاشفة لجوهر الكثيرين من أهل القرية، وبالتالي يمنح المخرج لوتش الفرصة للإعراب عن رؤيته الإنسانية لمظالم الطبقة العاملة ومعاناة اللاجئين في آن واحد.
يلتقط لوتش الصراع الذي ينشأ عندما يرى السكان الأصليون كيف يتلقى اللاجئون السوريون المساعدات. كما يظهر في أحد مشاهد الفيلم حين تحصل طفلة سورية لاجئة على دراجة مستعملة تبرع بها أحدهم، عندها يعلق صبي من أهل القرية وهو يراقب الطفلة بحسرة، إنه كان على الدوام يأمل في الحصول على دراجة.
يصور المخرج لوتش ببراعة الروابط والصراعات المختلفة والرغبة في خلق وتعزيز التواصل من خلال الطعام وهذا ما يجمع السوريين ومضيفيهم المترددين معا. يتناول الفيلم الحرمان والاغتراب والإهمال من قبل السياسيين والحزب اليميني والمحافظين لأهالي القرية، كما ذكر المخرج لوتش. لقد عانى سكان تلك المناطق من إهمال على مدى السنوات الأربعين الماضية. على الرغم من ذلك يؤكد المخرج على روح التضامن التي لا تزال موجودة عند عمال المناجم القدامى، وفي تلك المنطقة يزحف اللاجئون الهاربون من الحرب السورية الذين يواجهون صعوبة في الاندماج لكون معظمهم لا يتحدثون الإنجليزية.
كتابة الفيلم من قبل بول لافيرتي الذي تعاون مع لوتش في أكثر من مرة، قدمت لنا قصة مجتمعين مصابين بصدمات نفسية بعد وصول حافلة تنقل مجموعة من اللاجئين السوريين إلى قرية في شمال شرق إنجلترا. مركز الأحداث هو الحانة القديمة، ومنزل العائلة السورية، الحانة تقع في وسط القرية. والرجل الذي يديرها هو شخص بدأ كعامل منجم، ثم اشترى الحانة وعمل على جمع الناس معا، ومع انهيار القرية تراجعت آماله. لكنه يحاول أن يكون متفائلا في تلك الظروف.
اعتمدا الكاتب (لافيرتي) والمخرج (كين لوتش) في سرد القصة على عدة مصادر، أولا من خلال الاستماع لقصص اللاجئين السوريين. وسنوات من البحث للوصول إلى مجموعات من اللاجئين في الشمال الشرقي، ثانيا التحدث مع المنظمات الإنسانية والمتطوعين الذين يدعمون هذه المجتمعات.
كرم وضيافة وطيبة الشعب السوري
يضيف كاتب القصة لافيرتي “نظرا إلى أنها ثقافة مختلفة ولغة مختلفة، لذلك نحن نحترم بشدة المكان الذي جاء منه الأشخاص الذين لديهم وجهات نظر مختلفة. البطل ديف تيرنر، في دوره تي جيه، في مشهد تناوله الشاي حين استضافته العائلة السورية في بيتها، كانت الضيافة هائلة والطريقة التي عاملوه بها والتحدث إليهم مؤثرة جدا، جعلتنا نفهم أن الطعام الذي يقدمونه وكرم الضيافة التي يظهرونها عميقة جدا في تلك الثقافة”.
“البلوط القديم” له أهمية خاصة في التاريخ الإنجليزي وهو رمز الاستقرار والقوة والأمن. وهذا توصيف للحانة الوحيدة في القرية. في ماضيها كانت غرفتها الخلفية مركز الترفيه والنشاطات ليلة الجمعة والسبت للكثير من الناس. وأصبحت الآن مجرد ملتقى لكبار السن لاجترار ماضيهم والتذمر من حاضرهم ولعن أسراب الجراد كما يصفون اللاجئين السوريين.
يصف المخرج فيلمه “الفيلم يتعلق بنضال الأمل وكفاح الناس من أجل رؤية الأمل، لا يمكننا أن نكون في وضع أكثر كارثية مع انهيار المجتمع المدني من حولنا، الصحة والتعليم والإسكان وديون الطلاب والفقر والجوع وزيادة عدد المتشردين. كل جانب من جوانب حياتنا ينهار، مع الخطر الإضافي الناجم عن كارثة المناخ. إذن أين تجد الأمل؟ هذا هو السؤال الكبير. الأمل ستجده في تصميم الناس على المقاومة وغريزتنا وأعتقد أنها غريزة – للتضامن”.
الأسئلة التي طرحها المخرج في فيلمه كيف يرتبط هذان المجتمعان؟ وكيف يجدان طرقا للترابط؟ وهل سيكون هناك عداء؟ كيف سيعيد تقليد التضامن القديم أيام التعدين؟ أحد الاستثناءات البارزة الممثلة السورية إيبلا ماري التي تحاول سد الفجوة بين مجتمع التعدين السابق المضطهد واللاجئين السوريين الذين استقروا حديثا هناك، وتبرز عدوانية وعنصرية السكان المحليين بالرغم من وجود بعض النشطاء من المتطوعيين في الجمعيات الخيرية والمتعاطفين مع ظروف هؤلاء الهاربين من مدن الخراب أو الدمار وربما الاعتقال. هذا التضامن الإنساني الذي أكد عليه لوتش شيء مميز ورائع لضمان عدم جوع الناس.
دمج مجتمعين
قرية دمرها اقتصاديا الوحش الرأسمالي
كما هو الحال مع العديد من أفلامه السابقة استعان لوتش بممثلين غير محترفين وبعدد من اللاجئين الحقيقيين للتمثيل أمام الكاميرا، مثل السورية حسناء (46 عاما) التي تعرضت عائلتها لقصف في سوريا عام 2012، وعلى إثره فقدت زوجها وطفليها وساقيها وهربت إلى إنجلترا، وتعيش الآن في مقاطعة دورهام منذ ست سنوات. فيما كشفت الأخت الصغرى ربيع، أن دورها في السيناريو لا يختلف كثيرا عن تجربتها الحياتية، فهو يستكشف كيفية وصولها إلى إنجلترا وكيف تعيش، وكيف تعاملت مع الأشخاص الطيبين والأشرار في البلدة التي قررت العيش بها.
الممثلة إيبلا ماري لعبت دور الشابة السورية يارا، تعمل مدرسة مسرح في مرتفعات الجولان قبل الفوز بالدور، كان أداؤها متميزا وخاصة في المشهد الذي يتم فيه طردها من المنزل بعد مساعدة تلميذة جائعة.
يتعامل الفيلم مع القضايا الصعبة حقا التي تواجه الطبقة العاملة ومجتمعات اللاجئين في قرية في شمال شرق إنجلترا دمرها اقتصاديا الوحش الرأسمالي بعد التخلي عن هذه المجتمعات التي استقبلت لاجئين أكثر من أي منطقة أخرى، في الوقت الذي لم يكن هناك استثمار أو اهتمام والذي تسبب في نشوء عنصرية وكراهية للأجانب وبتشجيع الأحزاب والصحافة اليمينية التي أججت نيران العنصرية والكراهية، رغم تأكيد المخرج على أن القصة مليئة بالأمل حين يجد مجتمع اللاجئين الفارين من الحرب أرضية مشتركة مع سكان المنطقة التي دمرتها عقود من الإهمال الحكومي.
المخرج المخضرم يظهر مجتمعين في الفيلم، اللاجئين السوريين المنكوبين بالحزن والحرب والبريطانيين الفقراء من الطبقة العاملة
رسالة الفيلم حول التضامن بين عمال المناجم المهمشين واللاجئين السورين الفارين من الحرب واستكشاف ما يحدث في الفضاء بين هذين المجتمعين عندما يتم جمعهما، دراما كين لوتش تكشف جانبا من العنصرية البريطانية، كذلك يلفت الانتباه إلى الطريقة التي يتم بها استخدام المساكن الرخيصة لإيواء اللاجئين في شمال إنجلترا وأسكتلندا، على الرغم من نقص الدعم للبنية التحتية في مكان استقرارهم مما يضفي على الفيلم الطابع الإنساني على الديموغرافية الإنجليزية في المدن الصغيرة، ومشاعر الإهمال واليأس التي تولد العنصرية وكراهية الأجانب.
يظهر المخرج المخضرم مجتمعين في الفيلم، اللاجئين السوريين المنكوبين بالحزن والحرب والبريطانيين الفقراء من الطبقة العاملة المحرومين من أبسط مستلزمات الرفاهية. أحدهما تم التخلي عنه، والآخر عانى من صدمة الحرب وتعرض الكثيرون للتعذيب ودمرت منازلهم. هل يمكن لهذين المجتمعين أن يجدا طريقة للعيش جنبا إلى جنب، أم أن العنصرية والكراهية تحولان دون ذلك؟
يتجسد التضامن مع معاناة السكان المحليين الذين يعانون من الفقر في نهاية الفيلم بعد اقتراح من الشابة السورية اللاجئة يارا لتنظيم تناول وجبات الطعام السوري مع السكان المحليين، مستوحية الفكرة من كلمات والد صاحب الحانة (بالانتاين) العامل النقابي “عندما تأكلون معا، تلتصقون ببعضكم البعض”، الكلمات تمثل تضامن إضراب عمال المناجم عام 1984 في إشارة إلى الظروف التاريخية التي مر بها السكان المحليون.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
علي المسعود
كاتب عراقي