حقيقة الانتباه
رأينا بالتحليل أن شرائط الانتباه كثيرة . فمنها ما هو حسي ، ومنها ما هو انفعالي ، ومنها ما هو حركي ، ومنها ما هو اجتماعي . إلا أن بعض الفلاسفة لم يبن تعليله الحقيقة الانتباه على هذه الشرائط كلها ، بل بناه على عامل واحد فقط .
نظرية كوندياك . - زعم ( كوندياك ) في كتاب الإحساسات ( Traité des sensations ) ان العامل الحسي هو العامل المقوم للانتباه ، فالانتباه عنده احساس مانع ( Sensation exclusive ) ، ومعنى ذلك أن الإحساس الشديد يستولي على النفس ويمنعها من الانتباه لغيره . مثال ذلك أن الإنسان ينتبه للضجة الشديدة أو للنور الشديد بالرغم منه ، فتقتصر حياته النفسية خلال الانتباه على هذا الإحساس وحده ، ويمتنع عليه التفكير في شيء آخر غيره الصور ، ذلك الإحساس في تلك البرهة من الزمان مشتملا على حياته النفسية كلها ، فلا أثر فيها للإرادة ، ولا أثر فيها للجهد ، كأن شدة المؤثر الحسي هي العملة الوحيدة لحدوث الانتباه .
المناقشة
- ان هذه النظرية تهمل عوامل الانتباه المختلفة ، وتقتصر على عامل واحد منها ، مع أن الانتباه حالة مركبة ، لا حالة بسيطة ، وهو كما قيل حالة توتر وتجمع ، وهو ليس تابعاً للمؤثر الخارجي وحده ، وإنما هو تابع كذلك لفاعلية الشخص واستعداده النفسي . ان هذه العوامل الداخلية موجودة في الانتباه التلقائي ، لأن المرء لا ينتبه انتباها تلقائياً إلا لما يحب . وهي موجودة أيضاً في الانتباه الارادي ، لأن الانسان ليس آلة تابعة للعوامل الخارجية وحدها . ان انتباهي لمسألة هندسية ليس ناشئا عن الاحساس البصري المباشر ، كما أن إصفائي للصوت الوطيء المحاط بالضجة الشديدة ليس تابعا للمؤثرات الخارجية . انني اصغي إلى صوت رفيقي الضعيف ، ونحن في القطار ، بالرغم من ضجة القاطرة ، وقرقعة دواليبها .
على أن نظرية كوندياك هذه تدلنا على وجود انتباه طبيعي لا إرادي شبيه بالفعل المنعكس . وقد وصفه العلماء المتأخرون وصفا دقيقا ، فقال ( هو فدينغ ) ( ۱ ) : ان هذا الانتباه الطبيعي أولي ، وهو موجود للحيوان ، فالحمامة تستطيع أن تتبع النور بعينيها ، وتتحرك معه ، والطفل يتأثر بالمؤثرات الخارجية ، إلا أن هذا الانتباه شبيه بالغريزة ، وهو نقيض الانتباه الارادي الذي ذكرناه سابقا .
نظرية ريبو - قال ( ريبو ) في كتاب ( سيكولوجيا الانتباه ) : ان الانتباه نوعان : إرادي ، وتلقائي ، ، والانتباه التلقائي أصل ، أما الارادي ففرع مشتق منه ، لأنه يكتسب بالتربية ، وينمو بالتمرين ، إلا أن الارادة ليست ذاتية لهذا الانتباه المشتق ، وهو في الحق ليس إراديا أكثر من الانتباه التلقائي ، وإنما هو اصطناعي ، مكتسب ، والنفس في كلا الحالين تكون منفعلة لا فاعلة .
فما هو الانتباه التلقائي ؟
يقول ( ريبو ) : ان الانتباه التلقائي ناشيء عن أسباب انفعالية . والانسان كالحيوان لا ينتبه تلقائيا الا لما يهتم به ويميل اليه ، واذا جردناه من الشعور باللذة ، والألم ، عجز عن الانتباه ان الانتباه الشديد مبني دائما على الأهواء العظيمة . بالخطباء والمربين أن يهتموا بهذه الملاحظة ، لأنها تبين لنا أثر الاهتمام في نفوس وجدير كيفية ايقاظ الانتباه بتحريك العوامل الانفعالية .
وقد بين ( ريبو ) أيضا أن جميع العوامل الانفعالية تنحل الى النزعات والميول ، وان النزعات ليست في الحق الا حركات ، أو توقف حركات ، شعورية كانت أو لا شعورية . فالانتباه تابع اذن للشرائط الحركية .
قال ريبو . ( ۲ ) : ولنفرض أننا جردنا أحد المشاهدين الحاضرين في الأوبرا من مطابقة العينين والرأس ، والجسد ، والأطراف ، للشيء المرئي ، ومن تبدلات التنفس ، والدورة الدموية الدماغية الخ .. .... ومن الانعكاس الشعوري أو اللاشعوري لهذه الظواهر على الدماغ ، فإن ما يبقى على هذه الصورة المجردة من الكل الأولي ليس انتباها . وإذا بقي هناك شيء فهو حالة شعور زائلة ، أو ظل الذي كان من قبل .
ان هذه الحركات ليست متولدة من الانتباه ، وإنما هي مولدة له : فالعوامل الفيزيولوجية من تبدلات في التنفس ، أو في الدورة الدموية ، وحركات في الأعضاء ، تولد الانتباه ، كما تولد الهيجان . ومعنى ذلك أن نظرية ( ريبو ) في الانتباه شبيهة بنظرية ( ويليم جيمس ) في الهيجان .
ولكن كيف يتولد الانتباه الإرادي من الانتباه التلقائي ؟
يقول ( ريبو ) : إذا كان الشيء غير جذاب بطبيعته فاجعله جذاباً بصورة صناعية . فإذا أصبح جذابا ملت اليه ، ورغبت فيه ، كما ترغب في الأشياء التي تميل اليها ميلا طبيعيا . وقد بين ( ريبو ) أن لتوليد الانتباه الإرادي من الانتباه التلقائي ثلاث مراحل : أولاها مرحلة التأثير بطريق العواطف البسيطة كالخوف ، والرغبة في المكافأة ، وحب الاطلاع ، وثانيتها استعمال العواطف المركبة ، كحب الذات ، والمباراة ، والطموح ، والمنفعة ، وثالثتها العادة التي تتولد من تكرار العوامل السابقة . فالانتباه الإرادي يكون في أوله صناعيا متكلفاً ، ثم يصبح بالتكرار والمادة طبيعة ثانية .
وهو ينمو بتأثير التربية والاجتماع ، لا بل هو كما قيل عامل من عوامل التكامل ، وثمرة من ثمرات الحضارة .
المناقشة
- ليست هذه النظرية إلا نتيجة للنظرية الكبرى التي تجعل الظواهر النفسية . ناشئة عن الظواهر الفيزيولوجية . وقد ذكرنا هذه النظرية في بحث الهيجان وفندناها ونقول الآن انها لا تعنى بفاعلية الذهن خلال الانتباه ، ولا تهتم بالشرائط النفسية التي ذكرناها سابقاً .
وقد ذكر العلماء في الاعتراض على هذه النظرية بعض التنبيهات :
١ - لا شك أن للعوامل الفيزيز لوجية أثراً في الانتباه ، لأن حذف الظواهر الفيزيولوجية يؤدي إلى إضعاف الانتباه ، أو تعطيله ، ولا يكون الانتباه تاماً إلا إذا كان مصحوباً بهذه ، ومن الصعب أن ينتبه الإنسان لشيء من غير أن يظهر ذلك عليه . إلا أن هذه الظواهر ليست علة الانتباه الحقيقية ، لأن الانتباه لا يوجد بوجودها ، ولا يزول بزوالها دائماً .
٢ - لا ينشأ الانتباه عن التبدلات الفيزيولوجية وحدها ، بل ينشأ عن كثير من العوامل النفسية المقارنة لها . ان المطابقة بين حركات الجسد والشيء الخارجي ليست كافية لحدوث الانتباه . إذ كثيراً ما يكون الانتباه متقدماً على هذه المطابقة . مثال ذلك أن الانتباه الحسي كثيراً ما يكون مسبوقاً بتيقظ فكري ، وتوجه نفسي لا أثر للمطابقة الحسية فيها . فإذا خطر ببالي عند كتابة هذا البحث أن اراجع فكرة قرأتها سابقا في أحد كتب علم النفس ، تهيأ لها فكري وتوجهت اليها نفسي ، قبل مراجعة الكتاب . ان هذا التوجه النفسي ، انتباه متقدم على المطابقة الحسية ( Pre attention ( ! ) حالة مادية لا تقتضي وجود الانتباه معها ، لأن الانتباه الحقيقي لا يوجد إلا حيث توجد المطابقة النفسية .
٣ - ليس الانتباه إحساسا مانعا ، لأن الانتباه لشيء هو كما ذكرنا آنفا ، توجه القوى النفسية كلها اليه . ففيه فاعلية نفسية ، ركة داخلية ، أما الإحساس المانع فليس فيه شيء من ذلك ، لأنه يستولي على النفس ، ويطرد منها كل الصور والأفكار ، فهو إذن يفقر النفس ويمنعها من التفكير . الانتباه الحقيقي يستعين يجميع ملكات العقل ، فيدعو سلاسل الذكريات إلى ميدان الشعور ، ويستخدمها في تفهم الأشياء ، ويغني النفس يجمع ملكاتها في نقطة واحدة ، ويزيد وضوحها المنتج ، وتكيفها ، ومؤالفتها للحاضر ، وهو حالة من أحوال الفكر المركب ، تشتد فيه فاعلية النفس وتتجمع قواها في مركز واحد . ويمكننا أن نمثل لك حالة الانتباه بخط فيه زاوية تدل على الاشتداد والتوتر ، وحالة . عدم الانتباه بخط مستقيم يدل على تتابع أحوال النفس على وتيرة واحدة .
حالة الانتباه
حالة عدم الانتباه
٤ - على أن ( ريبو ) لا يقول مع ( كوندياك ) ان الانتباه إحساس مانع ، بل يقول ان الانتباه التلقائي يكشف لنا عن أحوال الشخص وميوله وعاداته . فالبواب لا يصيخ بسمعه إلا إلى الهذر ، ولا يعبأ إلا بسقط الكلام ، والإسكاف لا ينتبه إلا للأحذية ، كما أن الخياط لا ينتبه إلا للأزياء . ليس غروب الشمس في عين المصور كغروبها في عين الفلاح ، كل ينظر إلى الأشياء بعين نفسه ، ويلقي عليها رداء من ميوله وأحلامه . لم يحقق قلب ( مالبرانش ) لدى قراءة كتاب الإنسان لديكارت ، إلا لموافقة ذلك الكتاب لأفكاره وأهواء نفسه . وهذا كله يدل على أن الانتباه ليس تابعاً لطبيعة المؤثر الخارجي فقط ، وإنما هو تابع أيضاً لطبيعة الشخص المدرك ، فتمد يكون المؤثر واحداً ، ويختلف الناس في الانتباه له ، ويرجع هذا العامل الشخصي إلى الوراثة ، والتربية ، والإرادة . فالنفس إذن فعالة في الانتباه التلقائي والانتباه الإرادي معاً ؛ لأنها تصطفي بحسب ما توجيه نزعاتها ، وميولها وعاداتها ، وهذا الاصطفاء عمل دائم .
رأينا بالتحليل أن شرائط الانتباه كثيرة . فمنها ما هو حسي ، ومنها ما هو انفعالي ، ومنها ما هو حركي ، ومنها ما هو اجتماعي . إلا أن بعض الفلاسفة لم يبن تعليله الحقيقة الانتباه على هذه الشرائط كلها ، بل بناه على عامل واحد فقط .
نظرية كوندياك . - زعم ( كوندياك ) في كتاب الإحساسات ( Traité des sensations ) ان العامل الحسي هو العامل المقوم للانتباه ، فالانتباه عنده احساس مانع ( Sensation exclusive ) ، ومعنى ذلك أن الإحساس الشديد يستولي على النفس ويمنعها من الانتباه لغيره . مثال ذلك أن الإنسان ينتبه للضجة الشديدة أو للنور الشديد بالرغم منه ، فتقتصر حياته النفسية خلال الانتباه على هذا الإحساس وحده ، ويمتنع عليه التفكير في شيء آخر غيره الصور ، ذلك الإحساس في تلك البرهة من الزمان مشتملا على حياته النفسية كلها ، فلا أثر فيها للإرادة ، ولا أثر فيها للجهد ، كأن شدة المؤثر الحسي هي العملة الوحيدة لحدوث الانتباه .
المناقشة
- ان هذه النظرية تهمل عوامل الانتباه المختلفة ، وتقتصر على عامل واحد منها ، مع أن الانتباه حالة مركبة ، لا حالة بسيطة ، وهو كما قيل حالة توتر وتجمع ، وهو ليس تابعاً للمؤثر الخارجي وحده ، وإنما هو تابع كذلك لفاعلية الشخص واستعداده النفسي . ان هذه العوامل الداخلية موجودة في الانتباه التلقائي ، لأن المرء لا ينتبه انتباها تلقائياً إلا لما يحب . وهي موجودة أيضاً في الانتباه الارادي ، لأن الانسان ليس آلة تابعة للعوامل الخارجية وحدها . ان انتباهي لمسألة هندسية ليس ناشئا عن الاحساس البصري المباشر ، كما أن إصفائي للصوت الوطيء المحاط بالضجة الشديدة ليس تابعا للمؤثرات الخارجية . انني اصغي إلى صوت رفيقي الضعيف ، ونحن في القطار ، بالرغم من ضجة القاطرة ، وقرقعة دواليبها .
على أن نظرية كوندياك هذه تدلنا على وجود انتباه طبيعي لا إرادي شبيه بالفعل المنعكس . وقد وصفه العلماء المتأخرون وصفا دقيقا ، فقال ( هو فدينغ ) ( ۱ ) : ان هذا الانتباه الطبيعي أولي ، وهو موجود للحيوان ، فالحمامة تستطيع أن تتبع النور بعينيها ، وتتحرك معه ، والطفل يتأثر بالمؤثرات الخارجية ، إلا أن هذا الانتباه شبيه بالغريزة ، وهو نقيض الانتباه الارادي الذي ذكرناه سابقا .
نظرية ريبو - قال ( ريبو ) في كتاب ( سيكولوجيا الانتباه ) : ان الانتباه نوعان : إرادي ، وتلقائي ، ، والانتباه التلقائي أصل ، أما الارادي ففرع مشتق منه ، لأنه يكتسب بالتربية ، وينمو بالتمرين ، إلا أن الارادة ليست ذاتية لهذا الانتباه المشتق ، وهو في الحق ليس إراديا أكثر من الانتباه التلقائي ، وإنما هو اصطناعي ، مكتسب ، والنفس في كلا الحالين تكون منفعلة لا فاعلة .
فما هو الانتباه التلقائي ؟
يقول ( ريبو ) : ان الانتباه التلقائي ناشيء عن أسباب انفعالية . والانسان كالحيوان لا ينتبه تلقائيا الا لما يهتم به ويميل اليه ، واذا جردناه من الشعور باللذة ، والألم ، عجز عن الانتباه ان الانتباه الشديد مبني دائما على الأهواء العظيمة . بالخطباء والمربين أن يهتموا بهذه الملاحظة ، لأنها تبين لنا أثر الاهتمام في نفوس وجدير كيفية ايقاظ الانتباه بتحريك العوامل الانفعالية .
وقد بين ( ريبو ) أيضا أن جميع العوامل الانفعالية تنحل الى النزعات والميول ، وان النزعات ليست في الحق الا حركات ، أو توقف حركات ، شعورية كانت أو لا شعورية . فالانتباه تابع اذن للشرائط الحركية .
قال ريبو . ( ۲ ) : ولنفرض أننا جردنا أحد المشاهدين الحاضرين في الأوبرا من مطابقة العينين والرأس ، والجسد ، والأطراف ، للشيء المرئي ، ومن تبدلات التنفس ، والدورة الدموية الدماغية الخ .. .... ومن الانعكاس الشعوري أو اللاشعوري لهذه الظواهر على الدماغ ، فإن ما يبقى على هذه الصورة المجردة من الكل الأولي ليس انتباها . وإذا بقي هناك شيء فهو حالة شعور زائلة ، أو ظل الذي كان من قبل .
ان هذه الحركات ليست متولدة من الانتباه ، وإنما هي مولدة له : فالعوامل الفيزيولوجية من تبدلات في التنفس ، أو في الدورة الدموية ، وحركات في الأعضاء ، تولد الانتباه ، كما تولد الهيجان . ومعنى ذلك أن نظرية ( ريبو ) في الانتباه شبيهة بنظرية ( ويليم جيمس ) في الهيجان .
ولكن كيف يتولد الانتباه الإرادي من الانتباه التلقائي ؟
يقول ( ريبو ) : إذا كان الشيء غير جذاب بطبيعته فاجعله جذاباً بصورة صناعية . فإذا أصبح جذابا ملت اليه ، ورغبت فيه ، كما ترغب في الأشياء التي تميل اليها ميلا طبيعيا . وقد بين ( ريبو ) أن لتوليد الانتباه الإرادي من الانتباه التلقائي ثلاث مراحل : أولاها مرحلة التأثير بطريق العواطف البسيطة كالخوف ، والرغبة في المكافأة ، وحب الاطلاع ، وثانيتها استعمال العواطف المركبة ، كحب الذات ، والمباراة ، والطموح ، والمنفعة ، وثالثتها العادة التي تتولد من تكرار العوامل السابقة . فالانتباه الإرادي يكون في أوله صناعيا متكلفاً ، ثم يصبح بالتكرار والمادة طبيعة ثانية .
وهو ينمو بتأثير التربية والاجتماع ، لا بل هو كما قيل عامل من عوامل التكامل ، وثمرة من ثمرات الحضارة .
المناقشة
- ليست هذه النظرية إلا نتيجة للنظرية الكبرى التي تجعل الظواهر النفسية . ناشئة عن الظواهر الفيزيولوجية . وقد ذكرنا هذه النظرية في بحث الهيجان وفندناها ونقول الآن انها لا تعنى بفاعلية الذهن خلال الانتباه ، ولا تهتم بالشرائط النفسية التي ذكرناها سابقاً .
وقد ذكر العلماء في الاعتراض على هذه النظرية بعض التنبيهات :
١ - لا شك أن للعوامل الفيزيز لوجية أثراً في الانتباه ، لأن حذف الظواهر الفيزيولوجية يؤدي إلى إضعاف الانتباه ، أو تعطيله ، ولا يكون الانتباه تاماً إلا إذا كان مصحوباً بهذه ، ومن الصعب أن ينتبه الإنسان لشيء من غير أن يظهر ذلك عليه . إلا أن هذه الظواهر ليست علة الانتباه الحقيقية ، لأن الانتباه لا يوجد بوجودها ، ولا يزول بزوالها دائماً .
٢ - لا ينشأ الانتباه عن التبدلات الفيزيولوجية وحدها ، بل ينشأ عن كثير من العوامل النفسية المقارنة لها . ان المطابقة بين حركات الجسد والشيء الخارجي ليست كافية لحدوث الانتباه . إذ كثيراً ما يكون الانتباه متقدماً على هذه المطابقة . مثال ذلك أن الانتباه الحسي كثيراً ما يكون مسبوقاً بتيقظ فكري ، وتوجه نفسي لا أثر للمطابقة الحسية فيها . فإذا خطر ببالي عند كتابة هذا البحث أن اراجع فكرة قرأتها سابقا في أحد كتب علم النفس ، تهيأ لها فكري وتوجهت اليها نفسي ، قبل مراجعة الكتاب . ان هذا التوجه النفسي ، انتباه متقدم على المطابقة الحسية ( Pre attention ( ! ) حالة مادية لا تقتضي وجود الانتباه معها ، لأن الانتباه الحقيقي لا يوجد إلا حيث توجد المطابقة النفسية .
٣ - ليس الانتباه إحساسا مانعا ، لأن الانتباه لشيء هو كما ذكرنا آنفا ، توجه القوى النفسية كلها اليه . ففيه فاعلية نفسية ، ركة داخلية ، أما الإحساس المانع فليس فيه شيء من ذلك ، لأنه يستولي على النفس ، ويطرد منها كل الصور والأفكار ، فهو إذن يفقر النفس ويمنعها من التفكير . الانتباه الحقيقي يستعين يجميع ملكات العقل ، فيدعو سلاسل الذكريات إلى ميدان الشعور ، ويستخدمها في تفهم الأشياء ، ويغني النفس يجمع ملكاتها في نقطة واحدة ، ويزيد وضوحها المنتج ، وتكيفها ، ومؤالفتها للحاضر ، وهو حالة من أحوال الفكر المركب ، تشتد فيه فاعلية النفس وتتجمع قواها في مركز واحد . ويمكننا أن نمثل لك حالة الانتباه بخط فيه زاوية تدل على الاشتداد والتوتر ، وحالة . عدم الانتباه بخط مستقيم يدل على تتابع أحوال النفس على وتيرة واحدة .
حالة الانتباه
حالة عدم الانتباه
٤ - على أن ( ريبو ) لا يقول مع ( كوندياك ) ان الانتباه إحساس مانع ، بل يقول ان الانتباه التلقائي يكشف لنا عن أحوال الشخص وميوله وعاداته . فالبواب لا يصيخ بسمعه إلا إلى الهذر ، ولا يعبأ إلا بسقط الكلام ، والإسكاف لا ينتبه إلا للأحذية ، كما أن الخياط لا ينتبه إلا للأزياء . ليس غروب الشمس في عين المصور كغروبها في عين الفلاح ، كل ينظر إلى الأشياء بعين نفسه ، ويلقي عليها رداء من ميوله وأحلامه . لم يحقق قلب ( مالبرانش ) لدى قراءة كتاب الإنسان لديكارت ، إلا لموافقة ذلك الكتاب لأفكاره وأهواء نفسه . وهذا كله يدل على أن الانتباه ليس تابعاً لطبيعة المؤثر الخارجي فقط ، وإنما هو تابع أيضاً لطبيعة الشخص المدرك ، فتمد يكون المؤثر واحداً ، ويختلف الناس في الانتباه له ، ويرجع هذا العامل الشخصي إلى الوراثة ، والتربية ، والإرادة . فالنفس إذن فعالة في الانتباه التلقائي والانتباه الإرادي معاً ؛ لأنها تصطفي بحسب ما توجيه نزعاتها ، وميولها وعاداتها ، وهذا الاصطفاء عمل دائم .
تعليق