فن التضليل.. عندما تُخدع بكامل إرادتك!
آلاء عمارة
23/09/2021
في إحدى محاضرات “TED”، وقف أبولو روبنز على خشبة المسرح ليشرح للناس فن التضليل، وطلب منهم عدة مهام، من بينها تذكر الأيقونة في الزاوية اليمنى السفلى، ثم طلب منهم التأكد من دقة الإجابة وإخباره، ربما أقل من نصف الحضور أصابوا. بعد ذلك، طلب منهم تذكر كم الساعة عندما فتحوا هواتفهم للتو. لم يتذكر الكثيرون. ثم طلب منهم إغماض أعينهم وتذكر ملابسه. وأخذ يشرح تفسير ما حدث.
بعد ذلك، طلب من أحد الحضور، يُدعى “جو” الصعود معه على المسرح، وأخبر الجميع أنه سيسرقه دون أن يشعر، وقد كان، حيث شتت انتباه الرجل عدة مرات وحصل على بعض من مقتنياته وبدّل أماكن بعضها في جيوبه ببراعة وخفة أذهلت الجمهور! ما فعله أبولو هو باختصار فن التضليل.
حسنًا، جو وروبنز. الأول هو الضحية الساذجة والأخير محتال محترف. مهمتي في هذا التقرير توضيح ما حدث بالضبط أثناء هذه المحاضرة والخروج بهذا التفسير على نطاق الحياة عمومًا. كثير منا يتعرض لهذا النوع من الخداع اللطيف الذي قد لا نستطيع إصلاح عواقبه فيما بعد. ينتشر في مصر مَثل يقول: “القانون لا يحمي المغفلين”، كذلك لا يحمي ضحايا الخداغ اللطيف هذا. ولكن..
اقرأ أيضًا: التضليل المتعمد: كيف يمكنك استخدام الخطوط والرسوم البيانية لتضليل المستخدمين؟
لماذا نتعرض للتضليل؟
في الحقيقة هناك العديد من الأسباب والتفاصيل التي قد تعرضنا للخداع من الآخرين، وهناك من يتقنون التضليل، لدرجة أنهم يحترفونه ويعرفون خباياه، تمامًا مثل صديقنا النشال اللطيف أبولو روبنز. ويأتي علماء النفس بدراسات وأبحاث توضح لنا، لماذا نتعرض للتضليل من الآخرين.
لأننا نتجاهل التفاصيل.. في خبايا الذات
عندما طلب روبنز من الحضور التأكد من الأيقونة الموجودة في الهاتف، بعد ذلك سألهم عن الساعة، لم يعرف كثير منهم، وهذا لأنهم لم يدققوا في التفاصيل الأخرى، فقط وجهوا انتباههم للأيقونة دون إعارة الساعة أي اهتمام، حتى إنّ أعينهم قد جاءت عليها، لكنهم لم يركزوا، فكانت النتيجة تشتت في الذاكرة.
وفي هذا الصدد، نُشرت دراسة عام 1979 في مجلة “Cognitive Psychology”، أجراها ريموند نيكرسون، بغرض تقييم الذاكرة المشتركة، أي مدى تذكر المرء لتفاصيل الأشياء. شارك في الدراسة 36 طالبًا، ووضعوا أمامهم 15 رسمة للبنسات الأمريكية، وطُلب منهم اختيار رسمة واحدة للبنس الحقيقي وتصنيف بقية الرسومات إلى 3 فئات:
- رسومات يعتقدون أنها صحيحة بوضوح.
- رسومات يعتقدون أنها قد تكون صحيحة.
- فئة لرسومات ليسوا متأكدين من صحتها.
وكانت النتيجة أنّ 15 من 36 مشاركًا اختاروا الرسمة الصحيحة. ولكنهم لم يكونوا متأكدين من دقتها. هذا ببساطة شديدة لأنهم في الظروف الطبيعية لا يُدققون في التفاصيل. وهذا ما فعله صديقنا المحتال روبنز مع الجمهور كما ذكرت منذ قليل عندما سألهم عن الساعة.
صرف الانتباه المُتعمد.. نحن لا نلاحظ كل شيء
هل تذكر عندما أخبرتك أنّ روبنز طلب من جو الصعود إلى خشبة المسرح وخدعه؟ نعم، بالضبط هذا ما أقصده. لقد استخدم روبنز استراتيجية ماكرة، حيث كان يُوجه انتباه جو لشيء ما، وفي نفس اللحظة ينتشل منه شيء ويخدعه، ففي الظروف الطبيعية لا نستطيع الانتباه لكل شيء يحدث حولنا.
في دراسة نُشرت عام 1978، أجراها مايكل بوسنر وآخرون. شارك فيها 6 أشخاص، جلسوا أمام شاشة، يظهر فيها سهم يشير إلى الجهة اليُمنى أو اليسرى وتظهر علامة X على أحد جوانب الشاشة. وطُلب منهم الضغط على المفتاح الذي يشير إلى أي جهة أشار السهم إلى علامة X. وفي التجربة:
- أشار السهم إلى علامة X، بنسبة 80%.
- وأشار إلى الاتجاه الآخر بنسبة 20%.
وكانت النتيجة أنّ المشاركين كانوا يضغطون على المفتاح أبطأ بـ 100 ميللي ثانية عندما أشار السهم للاتجاه الخاطئ. ما يؤكد حقيقة تحدث لنا في حياتنا، عندما لا نتوقع شيئًا ما، تكون ملاحظتنا لها أبطأ، وبالتالي نأخذ وقتًا للرد.
التغيير المفاجئ.. أسلوب السحرة
ارتبط السحرة دائمًا بالتضليل الذي يُطلق عليه سحرًا في هذا العالم، قد يكون تضليلًا لطيفًا غير مؤذٍ ومسلٍ، ومن أشهر الألعاب التي يمارسوها أمام العامة، هي تبديل البطاقات بسرعة، ما يثير دهشة الجمهور. وقد أشارت دراسة نُشرت في مجلة “Psychological Science”عام 2019، إلى أنّ التغيير المفاجئ والسريع بصفة عامة – كما في حالة تبديل البطاقات – يتسبب في تضليل الجمهور من خلال صرف انتباههم عن حركات اليد.
وفي نفس الدراسة، طُلب من المشاركين الجلوس أمام شاشة، وملاحظة 6 نقاط تتحرك، ومن المقرر أنّ واحدة منها ستدور فجأة لزاوية 15 درجة، وستظل بقية النقاط على وضعها. بعد التجربة، كان على المشاركين اختيار النقطة التي دارت. وكانت النتيجة أنهم وقعوا في فخ التغيير المفاجئ هذا، ولم يحالفهم الحظ في معرفة النقطة الدوارة.
ويرجع ذلك إلى أنّ أدمغتنا لا تستطيع معالجة كل ما نراه بأعيننا. قد تمشي في الشارع وترى أشياء كثيرة حولك، وتظن أنك تراها كلها، لكن الحقيقة يا صديق أنك لا ترى كل شيء بدقة، انتباهك ليس قويًا لهذا الحد. لنتعمق أكثر في مسألة السحر.
اقرأ أيضًا: كيف يقتل الإعلام العلم نفسه؟ عندما تتحول التخمينات عن جزئيات إلى حقائق عن كليات
كيف يستخدم السحرة فن التضليل؟
اللعب على بقعة الانتباه
عندما تُركز أدمغتنا على شيء ما دون غيره، فهذا يعني أنّ هذا الشيء مهم، ويُدخله في منطقة تُسمى بقعة الانتباه، فلا نلحظ ما يحدث خارج هذه البقعة، حتى وإن رأته أعيننا. وهنا مربط الفرس، حيث يلعب السحرة على الانتباه ويديروه إلى شيء آخر، لأن- كما ذكرت – يعالج الدماغ معلومات تسمح برؤية أشياء محددة.
عندما لا تُصدق ما تراه عيناك
هناك ظاهرة تُسمى “العمى غير المقصود“، وهي حالة لا ترى فيها شيء في محيطك حتى وإن كان أمام عينيك مباشرة. تمامًا عندما تمشي في الشارع، وترى صديقًا لك، وتأتي عينك في عينه، لكنك هائم في عالم الخيال ولا تدركه.
من ذلك نخلص إلى أنّ إدراك الأشياء، يتعلق بكيفية عمل الدماغ وليس البصريات التي تراها عينيك، فكل ما يدخل عبر الحواس يُفسره الدماغ بدقة، لكن قد لا يستطيع تفسيره جيدًا في بعض الأحيان، وهذا ما يُطلق عليه الأوهام البصرية. ويرى بعض الباحثون الأدق أن نُطلق عليها اسم الأوهام المرئية.
هل رأيت النجوم في عز الظهر من قبل؟
أنا رأيتها عدة مرات ????، أغلبها أثناء اللعب في طفولتي، مثلًا إذا وقعت على رأسي أو ضربني أحدهم سهوًا على رأسي أو عيني. هل حدث ذلك معك أيضًا؟ حسنًا، بنسبة كبيرة عندما تعرضت لأي ضربة على رأسك أو في عينيك، لا بد وأنك قد رأيت ضوءًا مثل النجوم.
لأُفسر لك ما حدث. ببساطة عندما أسالك كيف ترى الأشياء من حولك، ربما ستُجيب “بالطبع عن طريق العين!”، وسأُحييك لكن دعني أُضيف إلى معلوماتك أنّ عينيك بمثابة كاميرا عالية الدقة، تستطيع التحسس لملايين الألوان، لكن دائمًا ما يكون وراء الكواليس مخرج ذكي، وهو العصب البصري وكاتب عبقري يُحركهم جميعًا، ألا وهو الدماغ الذي يتضمن القشرة البصرية الأولية، وهي بدورها تعالج البيانات البصرية. هذا هو الجهاز البصري.
ربما لأن العين هي الكاميرا الواضحة أمامنا فقط، لا ندرك وجود ورشة عمل في الداخل تساعد على تكوين الصورة التي تراها عيناك. عندما تقع على رأسك، يحدث تشوش في الدماغ، فتنشط الخلايا العصبية في العين، ويُخطئ الدماغ فيُفسرها على أنها ضوء. لذلك، الأدق أن نُطلق عليها الأوهام المرئية، فهناك جهاز بصري كامل يعمل على إخراج الصورة كما تراها يا صديق.
ويرى العلماء أنّ الأوهام المرئية هذه بمثابة المادة الخام التي يمكنها تفسير العديد من المشاهد غير المفهومة التي يراها الإنسان في بعض الأحيان، وقد تُستخدم في فهم سيكولوجيا البشر بصورة أدق في المستقبل، ربما يستخدمها السحرة دون دراية منهم.
في كثير من الألعاب السحرية يستغل السحرة العمى غير المقصود هذا من خلال توجيه انتباه الجمهور لشيء محدد دون غيره، فيغفلون عن بقية الصورة، حيث لن تعالج أدمغة الجمهور المدخلات المرئية الأخرى. مثلًا، أحضر عملة صغيرة وضعها في يدك اليمنى، بعد ذلك انظر ليدك اليسرى بتركيز شديد، ستجد إدراكك يخبرك بأنّ العملة ليست موجودة، لقد حُذفت من المدخلات المرئية للجهاز البصري لأن تركيزه كله على اليد اليسرى فقط.
لأُبسط الأمر أكثر، هل رأيت مشهدًا في فيلم سنيمائي أو مسلسل تُركز فيه الكاميرا على شيء ما دون غيره؟ الهدف من هذا توجيه تركيز المشاهد لشيء ما، ليُدرك الرسالة التي عليه فهمها، ستُلاحظ أنّ المكان كله بدا وكأنه ألوان ممزوجة ببعضها. أنا نفسي لاحظت هذا أثناء كتابتي على اللاب توب ومن وراء الشاشة لا شيء مفهوم، ببساطة تركيزي كله في مكان واحد. أنت أيضًا، إذا كنت تقرأ من لاب توب أو هاتف محمول الآن، ستُلاحظ أنّ عينيك تعطيانك صورة مشوشة في الخلفية، لكن تركيزك كله في السطور التي بين يديك. نعم، هذا ما يفعله السحرة بالضبط.
تستطيع إدراك ما أقصده من خلال هذا الفيديو لصديقنا النشال المحترف الرائع “أبولو روبنز”، لاحظ كيف تلاعب بـ “جو” وبك أيضًا، ستُشاهد هذا المقطع عدة مرات من تلقاء نفسك لأنه أقل ما يُقال عنه رائع، ومن ناحية أخرى، ستُدرك ما رميت إليه بشكل عملي دقيق. استمتع.
هل لاحظت تصرفات روبنز؟ أنا لاحظت، لقد فعل الآتي:
- وجه انتباه “جو” ليديه، ونقل فيشة البوكر إلى كتفه. هذه هي استراتيجية تشتيت الانتباه.
- تقسيم التركيز، لقد كانت حركته سريعة جدًا، تشعر وكأنه يقوم بعدة مهام في نفس الوقت، لقد كان يتكلم ويغير تركيز “جو” إلى شيء مختلف ويسرق الفيشة ويغير مكانها ويسرق من “جو” بطاقاته وبعض العملات النقدية وسرق ساعته أيضًا. ????
- التحدث بسرعة، إذا لاحظت روبنز المحتال، كان يتحدث بسرعة كبيرة جدًا، هذا يسبب خللًا في معالجة المدخلات السمعية للدماغ، فيتشتت التركيز لدى الجمهور والمسكين جو.
- تلاعب روبنز المحتال على مشاعر الحضور جميعًا وألقى المزحات عليهم فكانوا يضحكون و”جو” نفسه ضحك، هذا تسبب في فقدان الجميع للتركيز، لثوانٍ استطاع خلالها أداء حيلة خفية مدهشة.
- كرر روبنز حيلة تغيير موضع الفيشة بطرائق مختلفة، والحقيقة إنّ التكرار من أهم عوامل التضليل، فهذا يساعده على إقناع الجمهور بالحيلة.
- وبذلك، لخص روبنز ما يفعله السحرة والمحتالون في فيديو رائع، حقق ملايين المشاهدات.
ربما بعد قراءة التقرير ومشاهدة الفيديو ستُدرك المقصود من العنوان، فالتضليل فن حقًا، لا يتقنه إلا الإنسان الذكي، خفيف اليد وسريع البديهة كالساحر (أو السارق)، ونحن نسمح له بخداعنا بكامل إرادتنا عندما ندفع ثمن التذكرة، وقد تكون باهظة ليمارس علينا بعض من قدراته التي تعلمها من خلال فهمه للأوهام المرئية أو كيفية تشتيت الانتباه. إنه خداع نعم، لكنه لطيف. ❤