أنواع التخيل المختلفة .. التخيُّّل
أنواع التخيل المختلفة
ينقسم التخيل إلى ثلاثة أقسام : التخيل المبدع ، والتخيل التمثيلي ، والتخيل الوهمي ، ويمكن انقسامه بنوع آخر من القسمة إلى التخيل العملي ، والتخيل العلمي ، والتخيل الا أن ( ريبو ) يقسم التخيل نوعين : التخيل الانفعالي ( Diffluente ) والتخيل التصويري ( Plastiqne ) .
فالتخيل التصويري أو التشكيلي ، هو التخيل الذي يجمع من الصور ما هو واضح بين فيرتبه بحسب الروابط الموضوعية الدقيقة . ان وضوح هذا التخيل يشبه وضوح الإدراك ، ان روابطه الموضوعية لتذكرك بالحقائق الخارجية ، وهو أكثر صور التخيل تعلقا بإدراك المكان . وقد وصفوه بقولهم ، انه وضوح في كثرة . أما أنواعه فهي : تخيل المهندس المعمار ، وتخيل النقاش ، والمصور ، وتخيل الكاتب الوصفي ، وتخيل شعراء الملاحم والفواجع ، وتخيل العالم ، وتخيل مخترعي الآلات ، والتخيل العملي ( التجاري ، والمالي ، والحربي ) .
والتخيل الانفعالي هو الذي يجمع من الصور ما هو غامض ، ومبهم ، ومتبدل ، فيرتبه بحسب الميول والاستعدادات الانفعالية ، على غير قاعدة ودون رابط منطقي ، بحيث يتألف من ذلك جمل من العواطف و الأفكار ، يمتزج بعضها ببعض ، وفقا لاتساق حياتنا الداخلية . أما أنواع هذا التخيل فهي التخيل العاطفي ، والروائي ، والوهمي ، وتخيل الأساطير ، والتخيل الصوفي ، وتخيل الرموز الدينية ، والرموز الطبيعية ، والتخيل الموسيقي . وتخيل الأدب الرمزي ( ١ ) . ( ۱ ) ان في أشعار ( فيرلين ( كثيراً من الأمثلة الجميلة الدالة على التخيل الرمزي كقوله :
تنهدات الرياح Les sanglots longs
رتيبة النواح des violons
تجرح قلبي بها ، قيثارة الخريف de l'automne
ويستفيض خيالي blessent mon coeur
بالذكريات الخوالي d'une langneur
أنشدها فأبكي ، بالمدمع الذريف , monotone
( المقتطف فبراير ( ۱۹۳۰ ) من ترجمة علي محمود طه .
ان كلا من هذين النوعين يختلف عن الآخر بالمواد التي يجمعها ، والمبادىء التي يسير عليها ، في ترتيب العناصر وربطها بعضها ببعض .
لا جرم أن مبادىء تصنيف ( ريبو ) صحيحة ، الا أن العلماء قد بالغوا في فصل كل من هذين النوعين عن الآخر . ان في الأوهام المخالفة للمنطق ما هو مركب من صور واضحة بينة ، فكيف يجوز وضعه في صنف التخيل الانفعالي ؟ - وفي التدابير المالية والتجارية ما هو مبهم غير معقول متولد من رغائبنا وعواطفنا ، فكيف يجوز ادخاله في صنف التخيل التصويري ؟ أضف الى ذلك أن العامل الانفعالي كما قال ( ريبو ) نفسه يدخل في كل نوع من أنواع التخيل المبدع ، فمن الصعب اذن في بعض الأحوال تمييز التخيل الانفعالي ، أو الغامض ، عن التخيل التصويري ، أو التشكيلي .
فخير لنا اذن أن نأخذ بالتصنيف العادي الذي يميز أنواع التخيل بعضها من بعض بحسب موضوعاتها وموادها . وهي التخيل الفني ، والتخيل العلمي ، والتخيل المالي ، والتخيل الفلسفي الخ .
تخيل الفنان
- لا نحتاج الى كبير عناء في البرهان على أن التخيل نافع للفنان . ولكن هل يمكن أن تستغني بعض أنواع الفن عن الخيال . ان كثيراً من الكتاب يسمون أنفسهم واقعيين ، ويزعمون أن هناك تصويراً واقعياً ، واسلوباً واقعياً ، حق أنهم ليمدحون الروائي الذي يقلد الطبيعة تقليداً تاماً ، وينسخ أشخاصه نسخاً ، ويصورهم تصويراً مطابقاً للحقيقة ، مجرداً عن الخيال . اذا تعمقنا في التحليل ، وجدنا أن . جميع أنواع الفن محتاجة الى التخيل ولكن بدرجات متفاوتة . ان صورة من صور ( بونا Bonnat ) الواقعية لا تحتاج الى الخيال بقدر ما تحتاج اليه صور هنري ( مارتن الرمزية ، ومع أن مذهب ( زولا ) في الأدب كان واقعياً ، فإنه لم يستغن عن الخيال مرة واحدة ، بل كان ذا خيال قوي ، وان كان غير منظم ، من ذلك أنه يشبه القاطرة في احدى رواياته بكائن حي يلهث من التعب ، ويبالغ في كل ما يصفه من القبح النفسي والجسدي ، ويجمع ويرتبها ترتيباً مخالفاً لكل امكان ، لأن رغبته في اثبات رأيه تولد في نفسه اختراعات عجيبة ، فهو اذن لا يقتصر على الوصف الواقعي ، بل يبدل الحقيقة الواقعية كما يشاء .
والتخيل ليس كما زعم بعضهم ، ملكة الهواجس والأوهام والأحلام ، وانما هو كما قلنا قوة تركيب وتأليف . كل من كتب مقالاً في مجلة ، أو فصلاً من كتاب ، يعلم أن سر الكتابة ليس في دراسة الموضوع ، ومطالعة الكتب الضرورية ، وجمع الملاحظات ، وانما هو في قلب الخيال الغامض الى صورة واضحة ، وفي ترتيب المواد وتنظيمها ، وفي التعبير عن الأفكار بألفاظ صحيحة . والتخيل ضروري لتفصيل الأجزاء ، كما هو ضروري لتصور الكل ، وربما كان تفصيل الأجزاء أصعب من تصور الكل ، لأنه يقتضي جهداً اراديا وصبراً طويلا ، حق لقد قيل : إن رأس العبقرية تفصيل الأجزاء وتحقيقها .
وليس التخيل ضروريا لإنتاج الأثر الفني فحسب ، وانما هو ضروري أيضاً لتذوقه وفهم معناه ، ان كل فن من الفنون مبني على شيء من التواطؤ والاصطلاح ، ومن الصعب المختلفة فهم صوره دون تخيل ، قد يظن أن في وسع كل انسان أن يدرك صور الفن ويفهم معانيها ، والحق عن ذلك بعيد ، لأن كثيراً من الصور المألوفة عندنا لا تطرب الاوربيين كما أن كثيراً من الصور المألوفة عند الاوربيين لا تطربنا ، ان بعض السوريين مثلا لا يستسحن أنغام ( بتهوفن ) وسبب ذلك أنه لم يتعود تخيل العناصر الضرورية لفهمها . ولا بد لصور الفن مهما تكن واقعية من أن تبتعد عن الطبيعة ، ولا يقطع هذا البعد بينها وبين الواقع الا بالتخيل ، فالتخيل يهب الحياة للجهاد ، والحركة للسكون ، ويسمعك في صوت القانون واصطحاب العود ، حفيف الأغصان ، وتغريد الطير .
التخيل العلمي
- ربما قيل إن العلم في غنى عن التخيل ، لأنه مبني على أحكام صحيحة ، وبراهين صادقة ، وتجارب ثابتة . وما حاجة العلم الى الوهم . ان الوهم شيء والحقيقة شيء آخر . نقول رداً على ذلك : إن التخيل ليس مرادفا للوهم ، وان معظم الاختراعات العلمية ثمرة من ثمرات التخيل . والعلم علمان ، علم تام ، وعلم لم يتم بعد ، فالعلم التام مبني على البرهان ، أما العلم الذي لم يتم بعد فإنه يبحث عن الحقائق الجديدة ، ولا يمكنه الوصول الى هذه الحقائق الابطريق الافتراض . اذا أراد العالم ايضاح حادثة من الحوادث تخيل لذلك الإيضاح فرضية ، ولا تنقلب هذه الفرضية الى حقيقة علمية الا اذا تحققت بالتجربة ، والبرهان العلمي يكون غالباً بالتحقيق الدقيق ، ووجدان الفرضية يكون بالتخيل ، الا أن الوجدان متقدم على البرهان . ثم ان تحقيق الفرضية العلمية يقتضي تخيل الوسائل المؤدية اليه . لقد عرف العلماء منذ القدم ان صعود الزئبق في أنبوب البارومتر ناشيء عن الضغط الجوي ، إلا أن معرفتهم هذه لم تصبح علماً دقيقاً إلا عندما استطاعوا تحقيق فرضيتهم بتجربة ( بوي ( دودوم المشهورة . وما قلناه في العلوم الطبيعية يمكن أن يقال في الرياضيات . والدليل على أن الرياضيات محتاجة إلى التخيل . ان لأشكال الهندسة كمالاً غير متحقق في الأشياء الخارجية ، والرياضي يعرف المعاني الرياضية بالتوليد ، أي يبين لنا في تعريف الشكل الهندسي مثلا ، كيف يمكن توليده ، أو تركيبه بالتخيل ، ان ضعفاء التخيل لا يستطيعون أن يتصوروا خط ( الازمبتوت ) وهو المنحني الذي يتقرب مستقيم من غير أن يلاقيه . ان استعمال الإشارات الجبرية ، وتصور الأعمال الحسابية الموصلة إلى حل مسألة من المسائل ، وإدراك التوابع والدالات ، كل ذلك يحتاج إلى التخيل . نعم ان هذا التخيل ليس كتخيل الفنان ، إلا أنه من حيث ضرورته للإبداع لا يختلف عنه .
التخيل الفلسفي
- قال ( ليبنز ) في فلاسفة ما بعد الطبيعة : انهم أحوج إلى التخيل من الشعراء . وذلك لأن كل فيلسوف من فلاسفة ما بعد الطبيعة ، يريد أن يضمن مذهبه إيضاحاً تاماً للكون . نعم أن المذاهب الفلسفية يجب أن تكون مبنية على العلوم الوضعية ، إلا أن الفلاسفة كثيراً ما يجاوزون حدود العلم ، وينظمون المسلمات العالمية ، ويرتبونها بحسب غاياتهم ومقاصدهم ، انهم يجمعون الحقائق العلمية ، ويرتبون المسائل النفسية ، ويتبعون أساليب البحث المنظم ، ليتوصلوا إلى إثبات مذاهبهم ، أو تحقيق مبادئهم . وهذا يحتاج بلا ريب إلى تخيل واسع ، لقد زعم ( سبينوزا ) أنه يريد اتباع طريقة الرياضيين في بناء مذهبه ، ولكنه لما وحد الله والعالم ، برهن على أن تخيله المبدع لا يقل سمواً عن تخيل أعظم الفنانين .
التخيل في الحياة الأخلاقية
- لم يهتم العلماء بأثر التخيل في الحياة الأخلاقية اهتمامهم بأثره في الفن . حق لقد ظن بعضهم أن المفاهيم الأخلاقية تتبدل وترتقي من غير أن يكون للأشخاص تأثير في ارتقائها . ونحن نعتقد أن للافراد تأثيراً في الأخلاق ، لأنهم كثيراً ما يختلفون في فهم القيم الخلقية الجديدة ، فمنهم من يهزأ بها ويعرض عنها ، ومنهم من يتمسك بها ويضحي بحياته في سبيلها . ان في الأخلاق مخترعين كما في الفن والصناعة والاختراع في الأخلاق لا يكون مقصوراً على تصور الفكرة الجديدة ، بل يكون أيضاً بالبرهان على امكان اتباع بعض القواعد في تنظيم الحياة الفردية والاجتماعية . ان لسان الحال غير لسان المقال . والإنسانية لا تنجو من اليأس ، ولا تقضي على الفقر والجهل والظلم بتصور النظريات فحسب ، بل بتطبيقها والعمل بها . والعمل يثير مشكلات لا ينبيء بها العلم ، ولا يمكن التغلب على هذه المشكلات إلا بالتخيل .
ولا يكفي أن يحب الانسان العدل حق يكون عادلاً ، لأن حب العدل شيء ، والعمل به شيء آخر ، ان الرحمة قد تكون في غير موضعها ، ومحبة الوطن تقتضي التنبؤ بنتائج الأفعال ، كما تقتضي تخيل الوسائل المؤدية إلى إسعاد المواطنين . وليس العدل الحقيقي في تطبيق القوانين تطبيقاً آلياً ، وإنما هو في تخيل أحوال الناس ، وسبر غور مشاعر كل منهم بما يناسبه . والفاضل من استطاع أن يتصور نتائج أعماله قبل مباشرتها . نعم ان قيمة الفعل تابعة لنية الفاعل ، لا لنجاحه في الواقع ، إلا أن النية يجب أ أن تكون معقولة لا تشوبها شوائب الباطل ، ولا يمكن تطهيرها من الشوائب وتوجيهها إلى الخير إلا بتصور نتائج الأعمال . وينبغي أيضاً أن تكون إرادتنا الصالحة مغمورة بحساسيتنا . ان خير وسيلة لتوليد الشعور بالرحمة في قلوب الناس هي في حملهم على تخيل آلام البؤساء .
التخيل في الحياة العملية
- إن نجاح بعض الناس في الحياة العملية ، وقدرتهم على الاستفادة من الظروف ، واحتيالهم على المصاعب ، كل ذلك يحتاج إلى التخيل . فالتاجر يتخيل حاجات الزبون وميوله ، ويتصور الأساليب الضرورية لإرضائه ، ويعرف كيف يخاطر بأمواله في سبيل الربح ، والقائد الماهر يعرف كيف ينفذ خطته وفقا لمقتضي . وكذلك حال السائس مع المسوس ، والرئيس مع المرؤوس . والمهندس يدرك ما في آلته من نقص ، فيتخيل وسيلة جديدة لتحسينها . والمالي يتصور طريقة جديدة تدر له المال ، وتزيد ثروته . كل ذلك يدل على أن التخيل ضروري لحسن التدبير ، وإتقان العمل ، والكشف عن الوسائل التي تحسن مستوى الحياة .
وقصارى القول ان للتخيل أثراً في كل صورة من صور حياتنا . ما أشقى الذين لا يعيشون إلا في الحاضر ، انهم لا يفكرون إلا في المسائل العملية التي تلقيها الظروف عليهم . ان افقهم محدود ، لأنه ينتهي حيث تنتهي أعمالهم اليومية ، فما بالك إذا كان خيالهم ! يرفعهم إلى حياة أسمى من حياتهم الواقعية ان هذه الحياة الفقيرة ، وان العمل فيها الجاف ، انه خال من الشعر والجمال والموسيقى .
دع أن التخيل يبدل قيم الأشياء ، ويلقي عليها حلة نفسية جميلة ، انه يرفع الأعمال الوضيعة ، وينجي من السام والملل ، ويحيي في النفوس ميت الأمل . إلا أنه كثيراً ما يبعد الإنسان عن الواقع ويولد في نفسه عادة الاحلام الروائية ، ويجعله غير قادر على مؤالفة شرائط الحياة . نعم إن السمو إلى عالم الخيال من حين إلى آخر يجعل الحياة أقل قسوة مما هي عليه ، ولكن جمال هذا العالم الخيالي قد ينسينا العالم الحقيقي ، ويبعدنا عنه ، فنفضل الإقامة في قصوره الجميلة التي شيدناها بخيالنا ، ونقطع كل صلة بيننا وبين الواقع .
أنواع التخيل المختلفة
ينقسم التخيل إلى ثلاثة أقسام : التخيل المبدع ، والتخيل التمثيلي ، والتخيل الوهمي ، ويمكن انقسامه بنوع آخر من القسمة إلى التخيل العملي ، والتخيل العلمي ، والتخيل الا أن ( ريبو ) يقسم التخيل نوعين : التخيل الانفعالي ( Diffluente ) والتخيل التصويري ( Plastiqne ) .
فالتخيل التصويري أو التشكيلي ، هو التخيل الذي يجمع من الصور ما هو واضح بين فيرتبه بحسب الروابط الموضوعية الدقيقة . ان وضوح هذا التخيل يشبه وضوح الإدراك ، ان روابطه الموضوعية لتذكرك بالحقائق الخارجية ، وهو أكثر صور التخيل تعلقا بإدراك المكان . وقد وصفوه بقولهم ، انه وضوح في كثرة . أما أنواعه فهي : تخيل المهندس المعمار ، وتخيل النقاش ، والمصور ، وتخيل الكاتب الوصفي ، وتخيل شعراء الملاحم والفواجع ، وتخيل العالم ، وتخيل مخترعي الآلات ، والتخيل العملي ( التجاري ، والمالي ، والحربي ) .
والتخيل الانفعالي هو الذي يجمع من الصور ما هو غامض ، ومبهم ، ومتبدل ، فيرتبه بحسب الميول والاستعدادات الانفعالية ، على غير قاعدة ودون رابط منطقي ، بحيث يتألف من ذلك جمل من العواطف و الأفكار ، يمتزج بعضها ببعض ، وفقا لاتساق حياتنا الداخلية . أما أنواع هذا التخيل فهي التخيل العاطفي ، والروائي ، والوهمي ، وتخيل الأساطير ، والتخيل الصوفي ، وتخيل الرموز الدينية ، والرموز الطبيعية ، والتخيل الموسيقي . وتخيل الأدب الرمزي ( ١ ) . ( ۱ ) ان في أشعار ( فيرلين ( كثيراً من الأمثلة الجميلة الدالة على التخيل الرمزي كقوله :
تنهدات الرياح Les sanglots longs
رتيبة النواح des violons
تجرح قلبي بها ، قيثارة الخريف de l'automne
ويستفيض خيالي blessent mon coeur
بالذكريات الخوالي d'une langneur
أنشدها فأبكي ، بالمدمع الذريف , monotone
( المقتطف فبراير ( ۱۹۳۰ ) من ترجمة علي محمود طه .
ان كلا من هذين النوعين يختلف عن الآخر بالمواد التي يجمعها ، والمبادىء التي يسير عليها ، في ترتيب العناصر وربطها بعضها ببعض .
لا جرم أن مبادىء تصنيف ( ريبو ) صحيحة ، الا أن العلماء قد بالغوا في فصل كل من هذين النوعين عن الآخر . ان في الأوهام المخالفة للمنطق ما هو مركب من صور واضحة بينة ، فكيف يجوز وضعه في صنف التخيل الانفعالي ؟ - وفي التدابير المالية والتجارية ما هو مبهم غير معقول متولد من رغائبنا وعواطفنا ، فكيف يجوز ادخاله في صنف التخيل التصويري ؟ أضف الى ذلك أن العامل الانفعالي كما قال ( ريبو ) نفسه يدخل في كل نوع من أنواع التخيل المبدع ، فمن الصعب اذن في بعض الأحوال تمييز التخيل الانفعالي ، أو الغامض ، عن التخيل التصويري ، أو التشكيلي .
فخير لنا اذن أن نأخذ بالتصنيف العادي الذي يميز أنواع التخيل بعضها من بعض بحسب موضوعاتها وموادها . وهي التخيل الفني ، والتخيل العلمي ، والتخيل المالي ، والتخيل الفلسفي الخ .
تخيل الفنان
- لا نحتاج الى كبير عناء في البرهان على أن التخيل نافع للفنان . ولكن هل يمكن أن تستغني بعض أنواع الفن عن الخيال . ان كثيراً من الكتاب يسمون أنفسهم واقعيين ، ويزعمون أن هناك تصويراً واقعياً ، واسلوباً واقعياً ، حق أنهم ليمدحون الروائي الذي يقلد الطبيعة تقليداً تاماً ، وينسخ أشخاصه نسخاً ، ويصورهم تصويراً مطابقاً للحقيقة ، مجرداً عن الخيال . اذا تعمقنا في التحليل ، وجدنا أن . جميع أنواع الفن محتاجة الى التخيل ولكن بدرجات متفاوتة . ان صورة من صور ( بونا Bonnat ) الواقعية لا تحتاج الى الخيال بقدر ما تحتاج اليه صور هنري ( مارتن الرمزية ، ومع أن مذهب ( زولا ) في الأدب كان واقعياً ، فإنه لم يستغن عن الخيال مرة واحدة ، بل كان ذا خيال قوي ، وان كان غير منظم ، من ذلك أنه يشبه القاطرة في احدى رواياته بكائن حي يلهث من التعب ، ويبالغ في كل ما يصفه من القبح النفسي والجسدي ، ويجمع ويرتبها ترتيباً مخالفاً لكل امكان ، لأن رغبته في اثبات رأيه تولد في نفسه اختراعات عجيبة ، فهو اذن لا يقتصر على الوصف الواقعي ، بل يبدل الحقيقة الواقعية كما يشاء .
والتخيل ليس كما زعم بعضهم ، ملكة الهواجس والأوهام والأحلام ، وانما هو كما قلنا قوة تركيب وتأليف . كل من كتب مقالاً في مجلة ، أو فصلاً من كتاب ، يعلم أن سر الكتابة ليس في دراسة الموضوع ، ومطالعة الكتب الضرورية ، وجمع الملاحظات ، وانما هو في قلب الخيال الغامض الى صورة واضحة ، وفي ترتيب المواد وتنظيمها ، وفي التعبير عن الأفكار بألفاظ صحيحة . والتخيل ضروري لتفصيل الأجزاء ، كما هو ضروري لتصور الكل ، وربما كان تفصيل الأجزاء أصعب من تصور الكل ، لأنه يقتضي جهداً اراديا وصبراً طويلا ، حق لقد قيل : إن رأس العبقرية تفصيل الأجزاء وتحقيقها .
وليس التخيل ضروريا لإنتاج الأثر الفني فحسب ، وانما هو ضروري أيضاً لتذوقه وفهم معناه ، ان كل فن من الفنون مبني على شيء من التواطؤ والاصطلاح ، ومن الصعب المختلفة فهم صوره دون تخيل ، قد يظن أن في وسع كل انسان أن يدرك صور الفن ويفهم معانيها ، والحق عن ذلك بعيد ، لأن كثيراً من الصور المألوفة عندنا لا تطرب الاوربيين كما أن كثيراً من الصور المألوفة عند الاوربيين لا تطربنا ، ان بعض السوريين مثلا لا يستسحن أنغام ( بتهوفن ) وسبب ذلك أنه لم يتعود تخيل العناصر الضرورية لفهمها . ولا بد لصور الفن مهما تكن واقعية من أن تبتعد عن الطبيعة ، ولا يقطع هذا البعد بينها وبين الواقع الا بالتخيل ، فالتخيل يهب الحياة للجهاد ، والحركة للسكون ، ويسمعك في صوت القانون واصطحاب العود ، حفيف الأغصان ، وتغريد الطير .
التخيل العلمي
- ربما قيل إن العلم في غنى عن التخيل ، لأنه مبني على أحكام صحيحة ، وبراهين صادقة ، وتجارب ثابتة . وما حاجة العلم الى الوهم . ان الوهم شيء والحقيقة شيء آخر . نقول رداً على ذلك : إن التخيل ليس مرادفا للوهم ، وان معظم الاختراعات العلمية ثمرة من ثمرات التخيل . والعلم علمان ، علم تام ، وعلم لم يتم بعد ، فالعلم التام مبني على البرهان ، أما العلم الذي لم يتم بعد فإنه يبحث عن الحقائق الجديدة ، ولا يمكنه الوصول الى هذه الحقائق الابطريق الافتراض . اذا أراد العالم ايضاح حادثة من الحوادث تخيل لذلك الإيضاح فرضية ، ولا تنقلب هذه الفرضية الى حقيقة علمية الا اذا تحققت بالتجربة ، والبرهان العلمي يكون غالباً بالتحقيق الدقيق ، ووجدان الفرضية يكون بالتخيل ، الا أن الوجدان متقدم على البرهان . ثم ان تحقيق الفرضية العلمية يقتضي تخيل الوسائل المؤدية اليه . لقد عرف العلماء منذ القدم ان صعود الزئبق في أنبوب البارومتر ناشيء عن الضغط الجوي ، إلا أن معرفتهم هذه لم تصبح علماً دقيقاً إلا عندما استطاعوا تحقيق فرضيتهم بتجربة ( بوي ( دودوم المشهورة . وما قلناه في العلوم الطبيعية يمكن أن يقال في الرياضيات . والدليل على أن الرياضيات محتاجة إلى التخيل . ان لأشكال الهندسة كمالاً غير متحقق في الأشياء الخارجية ، والرياضي يعرف المعاني الرياضية بالتوليد ، أي يبين لنا في تعريف الشكل الهندسي مثلا ، كيف يمكن توليده ، أو تركيبه بالتخيل ، ان ضعفاء التخيل لا يستطيعون أن يتصوروا خط ( الازمبتوت ) وهو المنحني الذي يتقرب مستقيم من غير أن يلاقيه . ان استعمال الإشارات الجبرية ، وتصور الأعمال الحسابية الموصلة إلى حل مسألة من المسائل ، وإدراك التوابع والدالات ، كل ذلك يحتاج إلى التخيل . نعم ان هذا التخيل ليس كتخيل الفنان ، إلا أنه من حيث ضرورته للإبداع لا يختلف عنه .
التخيل الفلسفي
- قال ( ليبنز ) في فلاسفة ما بعد الطبيعة : انهم أحوج إلى التخيل من الشعراء . وذلك لأن كل فيلسوف من فلاسفة ما بعد الطبيعة ، يريد أن يضمن مذهبه إيضاحاً تاماً للكون . نعم أن المذاهب الفلسفية يجب أن تكون مبنية على العلوم الوضعية ، إلا أن الفلاسفة كثيراً ما يجاوزون حدود العلم ، وينظمون المسلمات العالمية ، ويرتبونها بحسب غاياتهم ومقاصدهم ، انهم يجمعون الحقائق العلمية ، ويرتبون المسائل النفسية ، ويتبعون أساليب البحث المنظم ، ليتوصلوا إلى إثبات مذاهبهم ، أو تحقيق مبادئهم . وهذا يحتاج بلا ريب إلى تخيل واسع ، لقد زعم ( سبينوزا ) أنه يريد اتباع طريقة الرياضيين في بناء مذهبه ، ولكنه لما وحد الله والعالم ، برهن على أن تخيله المبدع لا يقل سمواً عن تخيل أعظم الفنانين .
التخيل في الحياة الأخلاقية
- لم يهتم العلماء بأثر التخيل في الحياة الأخلاقية اهتمامهم بأثره في الفن . حق لقد ظن بعضهم أن المفاهيم الأخلاقية تتبدل وترتقي من غير أن يكون للأشخاص تأثير في ارتقائها . ونحن نعتقد أن للافراد تأثيراً في الأخلاق ، لأنهم كثيراً ما يختلفون في فهم القيم الخلقية الجديدة ، فمنهم من يهزأ بها ويعرض عنها ، ومنهم من يتمسك بها ويضحي بحياته في سبيلها . ان في الأخلاق مخترعين كما في الفن والصناعة والاختراع في الأخلاق لا يكون مقصوراً على تصور الفكرة الجديدة ، بل يكون أيضاً بالبرهان على امكان اتباع بعض القواعد في تنظيم الحياة الفردية والاجتماعية . ان لسان الحال غير لسان المقال . والإنسانية لا تنجو من اليأس ، ولا تقضي على الفقر والجهل والظلم بتصور النظريات فحسب ، بل بتطبيقها والعمل بها . والعمل يثير مشكلات لا ينبيء بها العلم ، ولا يمكن التغلب على هذه المشكلات إلا بالتخيل .
ولا يكفي أن يحب الانسان العدل حق يكون عادلاً ، لأن حب العدل شيء ، والعمل به شيء آخر ، ان الرحمة قد تكون في غير موضعها ، ومحبة الوطن تقتضي التنبؤ بنتائج الأفعال ، كما تقتضي تخيل الوسائل المؤدية إلى إسعاد المواطنين . وليس العدل الحقيقي في تطبيق القوانين تطبيقاً آلياً ، وإنما هو في تخيل أحوال الناس ، وسبر غور مشاعر كل منهم بما يناسبه . والفاضل من استطاع أن يتصور نتائج أعماله قبل مباشرتها . نعم ان قيمة الفعل تابعة لنية الفاعل ، لا لنجاحه في الواقع ، إلا أن النية يجب أ أن تكون معقولة لا تشوبها شوائب الباطل ، ولا يمكن تطهيرها من الشوائب وتوجيهها إلى الخير إلا بتصور نتائج الأعمال . وينبغي أيضاً أن تكون إرادتنا الصالحة مغمورة بحساسيتنا . ان خير وسيلة لتوليد الشعور بالرحمة في قلوب الناس هي في حملهم على تخيل آلام البؤساء .
التخيل في الحياة العملية
- إن نجاح بعض الناس في الحياة العملية ، وقدرتهم على الاستفادة من الظروف ، واحتيالهم على المصاعب ، كل ذلك يحتاج إلى التخيل . فالتاجر يتخيل حاجات الزبون وميوله ، ويتصور الأساليب الضرورية لإرضائه ، ويعرف كيف يخاطر بأمواله في سبيل الربح ، والقائد الماهر يعرف كيف ينفذ خطته وفقا لمقتضي . وكذلك حال السائس مع المسوس ، والرئيس مع المرؤوس . والمهندس يدرك ما في آلته من نقص ، فيتخيل وسيلة جديدة لتحسينها . والمالي يتصور طريقة جديدة تدر له المال ، وتزيد ثروته . كل ذلك يدل على أن التخيل ضروري لحسن التدبير ، وإتقان العمل ، والكشف عن الوسائل التي تحسن مستوى الحياة .
وقصارى القول ان للتخيل أثراً في كل صورة من صور حياتنا . ما أشقى الذين لا يعيشون إلا في الحاضر ، انهم لا يفكرون إلا في المسائل العملية التي تلقيها الظروف عليهم . ان افقهم محدود ، لأنه ينتهي حيث تنتهي أعمالهم اليومية ، فما بالك إذا كان خيالهم ! يرفعهم إلى حياة أسمى من حياتهم الواقعية ان هذه الحياة الفقيرة ، وان العمل فيها الجاف ، انه خال من الشعر والجمال والموسيقى .
دع أن التخيل يبدل قيم الأشياء ، ويلقي عليها حلة نفسية جميلة ، انه يرفع الأعمال الوضيعة ، وينجي من السام والملل ، ويحيي في النفوس ميت الأمل . إلا أنه كثيراً ما يبعد الإنسان عن الواقع ويولد في نفسه عادة الاحلام الروائية ، ويجعله غير قادر على مؤالفة شرائط الحياة . نعم إن السمو إلى عالم الخيال من حين إلى آخر يجعل الحياة أقل قسوة مما هي عليه ، ولكن جمال هذا العالم الخيالي قد ينسينا العالم الحقيقي ، ويبعدنا عنه ، فنفضل الإقامة في قصوره الجميلة التي شيدناها بخيالنا ، ونقطع كل صلة بيننا وبين الواقع .
تعليق