الحدس والتأمل .. التخيُّّل
الحدس والتأمل
قد ينبجس الاختراع دفعة ، ويشرق إشراقاً ، وينكشف انكشافاً ، وقد يكون انبجاسه تدريجياً ، بحيث يبذل المخترع جهداً فكريا عظيما لا يشرق النور عليه خلاله إلا بعد العناء الطويل . ولنبحث الآن في عوامل الاختراع التلقائية ، أي في الحدس واللاشعور ، ولنبين نسبتها إلى التأمل العقلي والجهد الفكري .
كثيراً ما يهتدي المخترع إلى غايته دفعة واحدة كان وحياً مفاجئاً قد أشرق عليه ، وقد سمى الشعراء هذا الوحي إلهاماً ، وسماه الصوفية كشفاً وإشراقاً ، ونحن نسميه الآن حدسا . قال ( لوروا ) : ( إن المخترع شاعر حدسي ، ، وقد بين ( كلود برنارد ) تأثير هذا الشعور الخاص ، وهذا الحدس الكشفي ، في الإبداع العلمي ، وأوضح ( هنري بوانكاره ) ذلك أيضا بملاحظات هامة . والشعراء متفقون في نسبة مخترعاتهم إلى قوة خارجية ، مستقلة عنهم ، فيكلمونك عن شياطينهم ، أو رباتهم ، كما يكلمك الوسطاء عن أرواح العظماء التي يتصلون بها ، أو كما يكلمك بعض المرضى عن سكان إحدى السيارات .
ولنذكر الآن بعض الأمثلة الدالة على ذلك :
قال ( دوبوا - ريمون ) يصف حاله ( ۱ ) :
( لقد لقيت في حياتي بعض المصادفات الجميلة . وكثيراً ما لاحظت أنها كان كانت تشرق علي عفواً ، وفي وقت كنت لا أتوقع ورودها فيه ) .
وقال ( يعقوب - بوهم ) ( ۲ ) :
( اني لأعلن أمام الله أني أجهل أنا نفسي كيف يتم لي هذا الأمر ، دون اشتراك إرادتي . لا أعلم ماذا يجب على أن أكتب ، وإذا كتبت ، كان الروح هو الذي يلهمني ، ويبلغني درجة سامية من المعرفة . ولا أدري ، في الغالب ، هل كنت أقطن في العالم الحاضر بالروح ، أم كنت أنا نفسي قد حظيت بعلم يقيني ثابت ) .
وقال ( هنري بوانكاره ) :
غادرت في ذلك الوقت مدينة ( كان ) التي كنت ساكنا فيها للاشتراك في سياحة جيولوجية كانت مدرسة المعادن قد نظمتها ، فأنستني تقلبات السياحة أعمالي الحسابية . ولما وصلنا إلى ( كوتانس ( ركبنا في حافلة للقيام بنزهة ، فما أن وضعت رجلي على السلم حق خطرت ببالي فكرة ، ليس في أفكاري السابقة ما يدعو اليها ، وهي ا ان التبدلات التي استعملتها لتعريف التوابع ( الفوشيه ) كانت مطابقة لتبدلات الهندسة اللاإقليدسية . لم أتحقق هذا الأمر في ذلك الوقت ، ولو قصدت تحقيقه لما وجدت له مجالاً ، لأنني لم أجلس في الحافلة إلا لأعاود الحديث المبدوء به ، ولكنني كنت قد حصلت إذ ذاك على علم يقيني تام . فلما عدنا إلى ( كان ) اختبرت النتيجة وأنا مستريح الفكر الإرضاء وجداني ) .
ان تاريخ الفنون والآداب مفعم بكثير من هذه الأمثلة ، فقد أبدع ( موزار ) مزماره الساحر وهو يلعب البلياردو . قال ( ريمي دوغورمان ) : ه ان أفكاري لتستولى على شعوري كسرعة البرق أو مرور الطير وقال ( غوته ) في كتاب آلام فرتر : صنفت هذا الكتاب وأنا غير شاعر به ، كمن يمشي في النوم ، فلما راجعته تعجبت منه كثيراً ) .
يستنتج من ذلك أن المعاني والصور تشرق على العالم والشاعر اشراقاً يخرجان بها عن حد الاختيار ، كأن كلا منهما آلة تترجم عن وحي يوحى . فما هو سبب هذا الالهام المفاجيء ، وكيف يمكن تعليله ؟
حاول بعض علماء النفس تفسير هذا الفيض النفسي بالفاعلية اللاشعورية ، فقال ( هو فدينغ ) : د ان القسم الأعظم من عناصر تخيلنا يتجمع تحت عتبة اللاشعور ، فترتسم خطوط الصورة في العقل الباطن قبل أن تنبثق وتظهر ، فهي إذن نتيجة شعورية لعمل لا شعوري » .
المناقشة - ان الملاحظات السابقة صحيحة بالجملة ، لأن الإبداع كثيراً ما يكون متولداً من الحدس ، لا من النظر والتأمل ، إلا أن هناك مسألتين يجب ايضاحهما :
١ - لقد بالغ الكتاب في وصف أسرار الاختراع ، حق زعم بعضهم أن ( نيوتون ) قانون الجاذبية العامة بملاحظة التفاحة الساقطة ، ملاحظة عفوية ، والحق عن ذلك بعيد ، لأن الكشف يكون على الأكثر ثمرة التأمل المنظم ، والتفكير الطويل ، فقـــد قال ( نيوتون ) عن نفسه : « اني أضع موضوع بحثي أمام عيني دائماً ، وانتظر حتى يشرق النور الأول علي شيئاً فشيئاً ، وينقلب الى نور ساطع ) :
أضف الى ذلك ان الإشراق المفاجيء كثيرا ما يكون مسبوقاً بعمل تأملي وجهد فكرى .. حتى لقد قال اغجر - Egger ) : الوجدان من غير بحث دليل على البحث من غير وجوده ( ۱ ) وقال ( هنري بوانكاره : لا يكون العمل اللاشعوري ممكنا ومنتجاً الا اذا سبقه وعقبه عمل شعوري ، ولا تشرق هذه الإلهامات السريعة على الإنسان الا بعد جهود ارادية ( ص - ( ۱۷۲ ) ، فيمكننا أن نقول اذن : أن التخمر البطىء ضروري للإبداع ، وهو يقتضي عملا شعورياً سابقاً ولاحقاً .
٢ - ليس العمل اللاشعوري في الإبداع عملاً آلياً ، فقد بين ( هنري بوانكاره ) أن الإبداع لا يتولد من اتباع قواعد ثابتة ، ولا من تأليف أكبر عدد ممكن من المركبات ، بل يتولد من إيجاد أحسن المركبات المثمرة ، ومن تحقيقها تحقيقاً مطابقاً للواقع ، فهو إذن انتخاب . ان قواعد هذا الانتخاب دقيقة جدا ، يشعر الإنسان بها من غير أن يحسن التعبير عنها ، فهي حالة من أحوال الذهن المرهف ، الا انها غامضة مبهمة ، يحيط بها الضباب ، لا تنتقل من القوة إلى الفعل ولا تصبح بينة واضحة ، إلا إذا ثبتها التأمل . قال ( جان جاك روسو ) : « لعل قلبي وفكري لا ينتميان إلى شخص واحد ، فالشعور السريع كالبرق يملأ نفسي ، إلا أنه يضنيني ويفتني بدلاً من أن ينور فكري ، فأنا أشعر بكل شيء ، ولكني لا أرى شيئاً ، فإذا اقتصر الأمر على الشعور والحدس بقي الإبداع ظلاماً ، وإذا انضم اليه التأمل أصبح ضياءاً ساطعاً .
ينتج من ذلك كله أن الإبداع يقتضي التأمل ، والمناقشة ، والانتقاد ، والسعي ، والجهد . فالعبقرية ليست هبة من هبات الطبيعة ، وإنما هي ثمرة من ثمار السعي والثقافة . لقـــــد كان عظماء المخترعين أكثر الناس عملاً وأعظمهم اجتهاداً . نعم ان للحظ في بعض الظروف تأثيراً كبيراً . ولكن المصادفات السعيدة لا تعرض ، كما قال ريبو ) ، إلا للذين يستحقونها . فالسعي ضروري إذن للعالم ، كما هو ضروري للموسيقار ، والمصور ، والكاتب . انظر إلى دفاتر الموسيقيين ، وألواح المصورين ، وأوراق الكتاب ، تجد فيها من التغيير والتبديل ما يدلك على أن الكمال لا يدرك من أول مرة . وهذا لم يرو عن ( فلوبر ) وحده بل روي أيضاً عن ( غوته ) وغيره . فقد قال ( غوته ) يصف أشعاره الاولى : ه كنت أتأملها طويلا ، وأحتاج إلى عدة سنوات في الوصول إلى إيجاد شيء مقبول ) . وقال ( نيتشه ) : ان تخيل الفنان والمفكر ينتج الحسن ، كما ينتج المتوسط ، والسيء ، إلا أن قوة حكمه المشعوذة بالتمرين لتنتخب ، وتحذف ، وتركب ) . وقد تبين اليوم من مراجعة دفاتر ( بيتهوفن ) انه ألف أجمل ألحانه شيئاً فشيئاً ، وأنه استخرجها من مسودات عديدة . قد يصبح القليل التدقيق ، المستسلم بإرادته للذاكرة مرتجلاً عظيماً في بعض الظروف . ولكن صور الارتجال الفني أقل كمالاً من صور الفن المبدعة بجهد وعناء . فقد كان عظماء الرجال عمالاً ناشطين من الطراز الأول ، لا يتعبهم الاختراع ولا يملون الحذف والغربلة والتبديل والتنظيم ( ۱ ) قال ( بول فالیری ) :
ليست الحماسة التلقائية من صفات الكتاب الممتازين ، ولا هي نافعة للكاتب عند خلوته في غرفته المظلمة لتأمل ما تصور وكتب : وكما أن قوة النار المحركة لا تؤثر تأثيراً حسناً إلا إذا أحيطت بحواجز تمنعها من التشتت ، فكذلك قوة الشعور يجب أن تحصر في حدود يعينها لها العقل .
الحدس والتأمل
قد ينبجس الاختراع دفعة ، ويشرق إشراقاً ، وينكشف انكشافاً ، وقد يكون انبجاسه تدريجياً ، بحيث يبذل المخترع جهداً فكريا عظيما لا يشرق النور عليه خلاله إلا بعد العناء الطويل . ولنبحث الآن في عوامل الاختراع التلقائية ، أي في الحدس واللاشعور ، ولنبين نسبتها إلى التأمل العقلي والجهد الفكري .
كثيراً ما يهتدي المخترع إلى غايته دفعة واحدة كان وحياً مفاجئاً قد أشرق عليه ، وقد سمى الشعراء هذا الوحي إلهاماً ، وسماه الصوفية كشفاً وإشراقاً ، ونحن نسميه الآن حدسا . قال ( لوروا ) : ( إن المخترع شاعر حدسي ، ، وقد بين ( كلود برنارد ) تأثير هذا الشعور الخاص ، وهذا الحدس الكشفي ، في الإبداع العلمي ، وأوضح ( هنري بوانكاره ) ذلك أيضا بملاحظات هامة . والشعراء متفقون في نسبة مخترعاتهم إلى قوة خارجية ، مستقلة عنهم ، فيكلمونك عن شياطينهم ، أو رباتهم ، كما يكلمك الوسطاء عن أرواح العظماء التي يتصلون بها ، أو كما يكلمك بعض المرضى عن سكان إحدى السيارات .
ولنذكر الآن بعض الأمثلة الدالة على ذلك :
قال ( دوبوا - ريمون ) يصف حاله ( ۱ ) :
( لقد لقيت في حياتي بعض المصادفات الجميلة . وكثيراً ما لاحظت أنها كان كانت تشرق علي عفواً ، وفي وقت كنت لا أتوقع ورودها فيه ) .
وقال ( يعقوب - بوهم ) ( ۲ ) :
( اني لأعلن أمام الله أني أجهل أنا نفسي كيف يتم لي هذا الأمر ، دون اشتراك إرادتي . لا أعلم ماذا يجب على أن أكتب ، وإذا كتبت ، كان الروح هو الذي يلهمني ، ويبلغني درجة سامية من المعرفة . ولا أدري ، في الغالب ، هل كنت أقطن في العالم الحاضر بالروح ، أم كنت أنا نفسي قد حظيت بعلم يقيني ثابت ) .
وقال ( هنري بوانكاره ) :
غادرت في ذلك الوقت مدينة ( كان ) التي كنت ساكنا فيها للاشتراك في سياحة جيولوجية كانت مدرسة المعادن قد نظمتها ، فأنستني تقلبات السياحة أعمالي الحسابية . ولما وصلنا إلى ( كوتانس ( ركبنا في حافلة للقيام بنزهة ، فما أن وضعت رجلي على السلم حق خطرت ببالي فكرة ، ليس في أفكاري السابقة ما يدعو اليها ، وهي ا ان التبدلات التي استعملتها لتعريف التوابع ( الفوشيه ) كانت مطابقة لتبدلات الهندسة اللاإقليدسية . لم أتحقق هذا الأمر في ذلك الوقت ، ولو قصدت تحقيقه لما وجدت له مجالاً ، لأنني لم أجلس في الحافلة إلا لأعاود الحديث المبدوء به ، ولكنني كنت قد حصلت إذ ذاك على علم يقيني تام . فلما عدنا إلى ( كان ) اختبرت النتيجة وأنا مستريح الفكر الإرضاء وجداني ) .
ان تاريخ الفنون والآداب مفعم بكثير من هذه الأمثلة ، فقد أبدع ( موزار ) مزماره الساحر وهو يلعب البلياردو . قال ( ريمي دوغورمان ) : ه ان أفكاري لتستولى على شعوري كسرعة البرق أو مرور الطير وقال ( غوته ) في كتاب آلام فرتر : صنفت هذا الكتاب وأنا غير شاعر به ، كمن يمشي في النوم ، فلما راجعته تعجبت منه كثيراً ) .
يستنتج من ذلك أن المعاني والصور تشرق على العالم والشاعر اشراقاً يخرجان بها عن حد الاختيار ، كأن كلا منهما آلة تترجم عن وحي يوحى . فما هو سبب هذا الالهام المفاجيء ، وكيف يمكن تعليله ؟
حاول بعض علماء النفس تفسير هذا الفيض النفسي بالفاعلية اللاشعورية ، فقال ( هو فدينغ ) : د ان القسم الأعظم من عناصر تخيلنا يتجمع تحت عتبة اللاشعور ، فترتسم خطوط الصورة في العقل الباطن قبل أن تنبثق وتظهر ، فهي إذن نتيجة شعورية لعمل لا شعوري » .
المناقشة - ان الملاحظات السابقة صحيحة بالجملة ، لأن الإبداع كثيراً ما يكون متولداً من الحدس ، لا من النظر والتأمل ، إلا أن هناك مسألتين يجب ايضاحهما :
١ - لقد بالغ الكتاب في وصف أسرار الاختراع ، حق زعم بعضهم أن ( نيوتون ) قانون الجاذبية العامة بملاحظة التفاحة الساقطة ، ملاحظة عفوية ، والحق عن ذلك بعيد ، لأن الكشف يكون على الأكثر ثمرة التأمل المنظم ، والتفكير الطويل ، فقـــد قال ( نيوتون ) عن نفسه : « اني أضع موضوع بحثي أمام عيني دائماً ، وانتظر حتى يشرق النور الأول علي شيئاً فشيئاً ، وينقلب الى نور ساطع ) :
أضف الى ذلك ان الإشراق المفاجيء كثيرا ما يكون مسبوقاً بعمل تأملي وجهد فكرى .. حتى لقد قال اغجر - Egger ) : الوجدان من غير بحث دليل على البحث من غير وجوده ( ۱ ) وقال ( هنري بوانكاره : لا يكون العمل اللاشعوري ممكنا ومنتجاً الا اذا سبقه وعقبه عمل شعوري ، ولا تشرق هذه الإلهامات السريعة على الإنسان الا بعد جهود ارادية ( ص - ( ۱۷۲ ) ، فيمكننا أن نقول اذن : أن التخمر البطىء ضروري للإبداع ، وهو يقتضي عملا شعورياً سابقاً ولاحقاً .
٢ - ليس العمل اللاشعوري في الإبداع عملاً آلياً ، فقد بين ( هنري بوانكاره ) أن الإبداع لا يتولد من اتباع قواعد ثابتة ، ولا من تأليف أكبر عدد ممكن من المركبات ، بل يتولد من إيجاد أحسن المركبات المثمرة ، ومن تحقيقها تحقيقاً مطابقاً للواقع ، فهو إذن انتخاب . ان قواعد هذا الانتخاب دقيقة جدا ، يشعر الإنسان بها من غير أن يحسن التعبير عنها ، فهي حالة من أحوال الذهن المرهف ، الا انها غامضة مبهمة ، يحيط بها الضباب ، لا تنتقل من القوة إلى الفعل ولا تصبح بينة واضحة ، إلا إذا ثبتها التأمل . قال ( جان جاك روسو ) : « لعل قلبي وفكري لا ينتميان إلى شخص واحد ، فالشعور السريع كالبرق يملأ نفسي ، إلا أنه يضنيني ويفتني بدلاً من أن ينور فكري ، فأنا أشعر بكل شيء ، ولكني لا أرى شيئاً ، فإذا اقتصر الأمر على الشعور والحدس بقي الإبداع ظلاماً ، وإذا انضم اليه التأمل أصبح ضياءاً ساطعاً .
ينتج من ذلك كله أن الإبداع يقتضي التأمل ، والمناقشة ، والانتقاد ، والسعي ، والجهد . فالعبقرية ليست هبة من هبات الطبيعة ، وإنما هي ثمرة من ثمار السعي والثقافة . لقـــــد كان عظماء المخترعين أكثر الناس عملاً وأعظمهم اجتهاداً . نعم ان للحظ في بعض الظروف تأثيراً كبيراً . ولكن المصادفات السعيدة لا تعرض ، كما قال ريبو ) ، إلا للذين يستحقونها . فالسعي ضروري إذن للعالم ، كما هو ضروري للموسيقار ، والمصور ، والكاتب . انظر إلى دفاتر الموسيقيين ، وألواح المصورين ، وأوراق الكتاب ، تجد فيها من التغيير والتبديل ما يدلك على أن الكمال لا يدرك من أول مرة . وهذا لم يرو عن ( فلوبر ) وحده بل روي أيضاً عن ( غوته ) وغيره . فقد قال ( غوته ) يصف أشعاره الاولى : ه كنت أتأملها طويلا ، وأحتاج إلى عدة سنوات في الوصول إلى إيجاد شيء مقبول ) . وقال ( نيتشه ) : ان تخيل الفنان والمفكر ينتج الحسن ، كما ينتج المتوسط ، والسيء ، إلا أن قوة حكمه المشعوذة بالتمرين لتنتخب ، وتحذف ، وتركب ) . وقد تبين اليوم من مراجعة دفاتر ( بيتهوفن ) انه ألف أجمل ألحانه شيئاً فشيئاً ، وأنه استخرجها من مسودات عديدة . قد يصبح القليل التدقيق ، المستسلم بإرادته للذاكرة مرتجلاً عظيماً في بعض الظروف . ولكن صور الارتجال الفني أقل كمالاً من صور الفن المبدعة بجهد وعناء . فقد كان عظماء الرجال عمالاً ناشطين من الطراز الأول ، لا يتعبهم الاختراع ولا يملون الحذف والغربلة والتبديل والتنظيم ( ۱ ) قال ( بول فالیری ) :
ليست الحماسة التلقائية من صفات الكتاب الممتازين ، ولا هي نافعة للكاتب عند خلوته في غرفته المظلمة لتأمل ما تصور وكتب : وكما أن قوة النار المحركة لا تؤثر تأثيراً حسناً إلا إذا أحيطت بحواجز تمنعها من التشتت ، فكذلك قوة الشعور يجب أن تحصر في حدود يعينها لها العقل .
تعليق