عوامل الاختراع .. التخيُّّل
عوامل الاختراع
ان الاختراع خاضع لعوامل حيوية ، وعوامل اجتماعية ، وعوامل نفسية ، ولنبحث الآن في كل قسم من هذه العوامل على حدته :
١ - العوامل الحيوية :
ان الاختراع خاضع كغيره من أفاعيل النفس لعوامل حيوية . إلا أن هذه العوامل الحيوية لا تزال غامضة . فبينما أنت تجد بعض المخترعين والفنانين ضعفاء الأجسام مصابين بالعادات الجسدية ، تجد بعضهم الآخر معتدل الجسم ، متناسب البنية . فالابداع عند بعضهم ثمرة تأثيرات عضوية شاذة ، أما عند الآخرين فهو ثمرة توازن عضوى تام ، وتناسب خلقي محكم .
ولكن علماء النفس لم يقتنعوا بغموض هذه الشروط العضوية ، فرأوا أن يوضحوها بقولهم أن للوراثة والجنس والعرق تأثيراً في العبقرية ، واستدلوا على ذلك بوجود اسر . الفنانين والعلماء تنتقل مواهبهم العقلية والفنية من الأجداد إلى الأحفاد . إلا أنه من الصعب علينا أن نفرق في هذه الأمثلة بين تأثيرات المحيط الاجتماعى والتربية ، وبين تأثيرات الوراثة والمزاج والأعراق البشرية ، قال ( هو فدينغ ) : ( ان الاستعدادات التي تنتقل بالوراثة هي الاستعدادات الأولية البسيطة ) علم النفس ص - ( ٤٤٤ ) ، كبعض الاستعدادات الحسية ، وبعض صور الانفعال ، لأن هذه الاستعدادات ملازمة لشرائط عضوية معينة . وهذا يدل على أن بعض شرائط العبقرية وراثي ، ، أما العبقرية نفسها فتحتاج إلى تنشئة وتثقيف و كسب ( ۱ ) ان أكثر الذين تكلموا على العبقرية لم يتقيدوا بشرائط العلم في مباحثهم ، فقد فحصوا أجساد العبقريين وتركيبها . وبينوا علاقة العبقرية بالأمراض العصبية ، ولكن عن تشریح مباحثهم لم توصلهم في الغالب إلى نتائج صحيحة . وغاية ما يمكن استنتاجه من هذه المباحث أن الاختراع ملازم لازدياد الفاعلية الغذائية في المراكز الحسية المحركة ، وإنه كما قالوا ناشيء عن فاعلية المراكز المستقلة التي تربط خلايا المجموع العصي بعضها ببعض ، بحيث يصرف الدماغ عند ذلك طاقة لا تجد لها عملاً في الحوادث الناشئة عن المؤثرات الخارجية . ان لهذه الفاعلية الشديدة تأثيراً في الجسد ، وقد يتولد منها حركات بين ( ريبو ) أنها ذات علاقة بالتخيل .
وقد بين العلماء أيضا أن بعض أنواع الحساسية تابع للمزاج ، حتى لقد استدلوا على تأثير الوراثة في التخيل بظهور بعض الاستعدادات قبل أوانها .
وقد أثبت العلماء أيضا أن العبقرية مشابهة لبعض الأمراض النفسية الدورية ( Cyclothymie ) . وقال فره Fere :: إن أفعال الخيال تستلزم شرطاً أولياً ، وهو قابلية التأثر العصبي الخاصة القريبة من المرض . ان هذه القابلية العصبية هي في الحقيقة علة كل الآلام التي يشعر بها أصحاب التخيل الشديد » . وقال ( تين ) : « ان كبار مصورينا و ادبائنا هم أصحاب رؤى متعبون ومعتوهون حتى لقد قال ( مورو - دورتور ) أيضاً : « ان العبقرية مرض عصبي . وفي الحق أن بعض الأمراض النفسية الدورية يكون مصحوباً بالاعتماد على النفس ، وزيادة التهيج وا والانفعال ، وكثرة الصور النفسية . إلا أن هذه الأحوال العصبية تختلف عن أحوال العبقرية الحقيقية ، لأن العبقرية لا توجد إلا حيث توجد الروح الانتقادية والارادة والانتخاب الحر . نعم ان العبقرية تشبه المرض من حيث كثرة الصور النفسية التي تفيض فيها على العقل ، ولكن العبقري لا يكون عبقرياً حقيقياً إلا إذا استطاع أن يسير هذه الصور بإرادته ويسيطر عليها بفكره وينظمها وينتخب منها ما يحب ، بخلاف المريض الذي ينقاد لها فتستولي عليه وتساوره ولا تترك له مجالاً للانتخاب .
٢ - العوامل الاجتماعية :
تأثير ان للهيئة الاجتماعية تأثيراً عظيماً في صور الاختراع ) لأن المسائل التي يريد المخترع معالجتها لا تتولد إلا في وسط اجتماعي بلغ درجة معينة من التطور الاقتصادي والفني والعلمي والفلسفي ، وسواء أكان الاختراع اختراع آلة ميكانيكية أو صورة فنية جديدة ، أو نظرية فلسفية فإن المخترع لا يبلغ غايته إلا إذا أحاظ بما في زمانه من شرائط الصناعة أو صور الفن أو مذاهب الفلسفة . وهذا ينطبق أيضا على العلم حتى لقد قال ( جاك بيكارد - Jacques Picard ) : ه 1 - لا يمكن حصول كشف علمي أو اختراع جديد إلا إذا كانت حالة العلم تسمح به - إذا سمحت حالة العلم بذلك تولد الاختراع ونما بالضرورة . وكثيراً ما يتوصل العلماء إلى اختراعات واحدة في زمان واحد ، ، مثال ذلك : إن ( ليبنيز ) و ( نيوتون ) اخترعا حساب اللانهايات في زمان واحد من غير أن يكون لأحدهما صلة بالآخر . والسبب في ذلك أن المسائل العلمية تبلغ من النمو درجة تتهيأ معها أسباب الاختراع ، وقد تؤدي هذه الأسباب إلى تحقيق الاختراع في زمان دون زمان ، وفي بلد دون آخر .
ثم ان للهيئة الاجتماعية تأثيراً في عقل المخترع نفسه . ان الاستعدادات النفسية الأولية غامضة جداً ، إلا أنها تتكيف بحسب الشرائط الاجتماعية ، فإذا ورث الطفل من أبويه ميلا إلى الجمع والادخار تكيف هذا الميل كما قال ( موفدينغ ) بحسب البيئة ، فقد يصبح الطفل بخيلا ، وقد يصبح عالماً بالنبات والحيوان يجمع أنواع النبات والصدف . وإذا ورث من أبويه تخيلاً شديداً هيا . هذا الاستعداد للشعر أو للتجارة والأعمال المالية ، وتختلف صورة عبقريته باختلاف شروط بيئته .
ولا تكتفي الهيئة الاجتماعية مجمل العلماء على الاختراع ، بل تهيء لهم الحلول التي يجب أن يتبعوها ، والأنماط التي يجب أن ينسجوا على منوالها . فهي إذن تنظم الخيال . قال الاكومب ) ما خلاصته :
( ان الاختراع تنظيم اجتماعي للتخيل التلقائي . وغرض هذا التنظيم يلخص بأمرين : أولهما أنه يقيد العقل بهدف اجتماعي ، فيفكر العالم في نفع الجماعة ، ويفكر الفنان في إثارة عواطفها وإرضائها . وثانيها نقد التراكيب الجديدة التي ولدها التفكير التلقائي ، وحذف ما لا يتفق منها مع الأهداف الاجتماعية ) .
هل الاختراع ظاهرة اجتماعية بالذات ؟ زعم ( تين ) : أن كل أثر فني إنما ينتج عن تأثير العرق والبيئة والزمان وليس غرضنا الآن إيضاح هذه النظرية أو انتقادها . فلنقتصر إذن على إظهار تأثير البيئة الاجتماعية في الاختراع . قال ( تين ) : « ان إنتاجات الفكر البشري كإنتاجات الطبيعة الحية ، لا توضح إلا بتأثير البيئة ؛ انك لا تفهم أثراً فنياً أو فناناً ، أو جملة من الفنانين ، إلا إذا تصورت منازع الفكر العامة ، واتجاهات الأخلاق والعادات في زمانهم ، وممن أخذ بنظرية ( تين ) هذه ( دوركهايم ) وأصحابه ، فزعموا أن الدين والأخلاق والعلم والفن آثار اجتماعية بالذات ، وان كل تبدل في هذه الأوضاع انما ينشأ عن تأثير التبدلات الاجتماعية ، وقد أوضح ( دوركهايم ) بهذه الطريقة الاجتماعية تولد مقولات العقل ، وبين أن معاني الزمان والمكان والملة والمعلول معان اجتماعية بالذات ، وان المثل العليا الأخلاقية تتولد من الوقائع الاجتماعية . والدليل على ذلك أن المثل العليا الأخلاقية الجديدة قد تولدت في صدر المسيحية والإسلام ، وعصر النهضة ، والثورة الفرنسية ، والثورة الصناعية وغيرها من ثورات القرن التاسع عشر والقرن العشرين . وما ينطبق على تولد المثل العليا الأخلاقية ينطبق أيضاً على تولد الاختراعات . إن العوامل التي تبعث على تولدها عوامل اجتماعية .
مناقشة
- قيل في الرد على هذه النظرية الاجتماعية إن الاختراع الجديد ثورة على الأوضاع القديمة ، وان الهيئة الاجتماعية تقف إزاءه موقفاً سلبياً . إن الجماعات الحديثة كالجماعات الابتدائية محافظة جداً ، وهي تكره كل تجديد و تبديل . وكثير أما يؤدي الاختراع إلى تبديل بعض العادات ، أو تغيير بعض الأوضاع ، فيصعب على المعاصرين قبوله لعدم مطابقته المنازعهم ومصالحهم ، وهذا النزاع بين الجديد والقديم قد يؤدي إلى اضطهاد المخترعين وإخراجهم من المجتمع . فالهيئة الاجتماعية لا تهيء إذن أسباب الاختراع بل تقاومها وتمنع حدوثها و تحول دون بلوغها غايتها ·
نقول في نقد هذا الرد : ان المخترعين يقتبسون علوم زمانهم ، ويقلدون طرائق الفن والصناعة التي انتقلت اليهم بوساطة الهيئة الاجتماعية . وسنبين بعد قليل كيف تبقى آثار الهيئة الاجتماعية في المركبات التي يحللها الفكر ، وكيف تحتفظ العقول بها في الاختراعات . حق لقد قال ( ريبو ) : . مهما يكن الإبداع فردياً فإنه لا بد من أن تنطبع فيه آثار المجتمع » . فالهيئة الاجتماعية تؤثر إذن في الابداع ، وتكيف صورته الشخصية الظاهرة .
نعم ان الهيئة الاجتماعية قد تؤخر انتشار الاختراع وتعارضه . إلا أن هناك نوعين للجماعات : الجماعات الأولية البسيطة ، والجماعات الراقية المركبة المبنية على تقسيم العمل . فالحياة في الجماعات الاولى تكون في الغالب على نمط واحد ، وتكون صفات الأفراد فيها مطابقة لما يقتضيه المجتمع من الصفات العامة المشتركة ، فإذا خرج أحد الأفراد على العادات المألوفة عد عمله هذا بدعة جديدة مخالفة لروح الجماعة ، فيتألب الجميع عليه ويناهضونه . أما في الجماعات المركبة المبنية على تقسيم العمل فإن الحياة كثيرة الصور ، مختلفة الأوضاع ، فيها نزوع إلى الماضي ، وتطلع إلى المستقبل . وفيها بجار متعددة الجهات ، فإذا خالف الفرد بفعله مجرى من هذه المجاري ، أو كان الاختراع الجديد مخالفا لإحدى الصور أو الأوضاع القديمة المألوفة ، وجد في الأوضاع الاخرى مجالاً للانتشار .
ان عمل ( سقراط ) كان مخالفاً لنزعات المحافظين في زمانه ، إلا أنه كان كا قال ( دوركهايم ) : مطابقاً لروح المستقبل ، فليست الهيئة الاجتماعية بهذا المعنى مخالفة حليفة له تعين عند الاقتضاء على توليده ، أو تسهم على الأقل في تنميته .
٣ - العوامل النفسية :
العوامل النفسية كثيرة نذكر منها على سبيل المثال :
۱ - العوامل الانفعالية . - ان للحياة الانفعالية تأثيراً قوياً في الابداع ، لأن الانسان لا يثور على العادات القديمة ، ولا يتحرر من الصور والمركبات البالية ، إلا إذا تألم منها ورغب في الابتعاد عنها . فلولا رغبة الانسان في البقاء ، وحاجته إلى الغذاء والمسكن ، ورغبته في الدفاع عن نفسه ، لما اخترع الأدوات والآلات والأسلحة ، ولولا حاجته إلى نطاق حياته لما اخترع المعدات الحربية والآلات الصناعية والوسائل التجارية . ان كل حاجة أو نزعة أو رغبة باعثة على الابداع ، وقد قيل : الحاجة أم الاختراع . وقد لخص ( ريبو ) علاقة الحياة الانفعالية بالاختراع في القانون الآتي :
١ - ان جميع صور الاختراع مصحوبة بعناصر انفعالية .
٢ - ان جميع الاستعدادات الانفعالية تؤثر في الاختراع .
عوامل الاختراع
ان الاختراع خاضع لعوامل حيوية ، وعوامل اجتماعية ، وعوامل نفسية ، ولنبحث الآن في كل قسم من هذه العوامل على حدته :
١ - العوامل الحيوية :
ان الاختراع خاضع كغيره من أفاعيل النفس لعوامل حيوية . إلا أن هذه العوامل الحيوية لا تزال غامضة . فبينما أنت تجد بعض المخترعين والفنانين ضعفاء الأجسام مصابين بالعادات الجسدية ، تجد بعضهم الآخر معتدل الجسم ، متناسب البنية . فالابداع عند بعضهم ثمرة تأثيرات عضوية شاذة ، أما عند الآخرين فهو ثمرة توازن عضوى تام ، وتناسب خلقي محكم .
ولكن علماء النفس لم يقتنعوا بغموض هذه الشروط العضوية ، فرأوا أن يوضحوها بقولهم أن للوراثة والجنس والعرق تأثيراً في العبقرية ، واستدلوا على ذلك بوجود اسر . الفنانين والعلماء تنتقل مواهبهم العقلية والفنية من الأجداد إلى الأحفاد . إلا أنه من الصعب علينا أن نفرق في هذه الأمثلة بين تأثيرات المحيط الاجتماعى والتربية ، وبين تأثيرات الوراثة والمزاج والأعراق البشرية ، قال ( هو فدينغ ) : ( ان الاستعدادات التي تنتقل بالوراثة هي الاستعدادات الأولية البسيطة ) علم النفس ص - ( ٤٤٤ ) ، كبعض الاستعدادات الحسية ، وبعض صور الانفعال ، لأن هذه الاستعدادات ملازمة لشرائط عضوية معينة . وهذا يدل على أن بعض شرائط العبقرية وراثي ، ، أما العبقرية نفسها فتحتاج إلى تنشئة وتثقيف و كسب ( ۱ ) ان أكثر الذين تكلموا على العبقرية لم يتقيدوا بشرائط العلم في مباحثهم ، فقد فحصوا أجساد العبقريين وتركيبها . وبينوا علاقة العبقرية بالأمراض العصبية ، ولكن عن تشریح مباحثهم لم توصلهم في الغالب إلى نتائج صحيحة . وغاية ما يمكن استنتاجه من هذه المباحث أن الاختراع ملازم لازدياد الفاعلية الغذائية في المراكز الحسية المحركة ، وإنه كما قالوا ناشيء عن فاعلية المراكز المستقلة التي تربط خلايا المجموع العصي بعضها ببعض ، بحيث يصرف الدماغ عند ذلك طاقة لا تجد لها عملاً في الحوادث الناشئة عن المؤثرات الخارجية . ان لهذه الفاعلية الشديدة تأثيراً في الجسد ، وقد يتولد منها حركات بين ( ريبو ) أنها ذات علاقة بالتخيل .
وقد بين العلماء أيضا أن بعض أنواع الحساسية تابع للمزاج ، حتى لقد استدلوا على تأثير الوراثة في التخيل بظهور بعض الاستعدادات قبل أوانها .
وقد أثبت العلماء أيضا أن العبقرية مشابهة لبعض الأمراض النفسية الدورية ( Cyclothymie ) . وقال فره Fere :: إن أفعال الخيال تستلزم شرطاً أولياً ، وهو قابلية التأثر العصبي الخاصة القريبة من المرض . ان هذه القابلية العصبية هي في الحقيقة علة كل الآلام التي يشعر بها أصحاب التخيل الشديد » . وقال ( تين ) : « ان كبار مصورينا و ادبائنا هم أصحاب رؤى متعبون ومعتوهون حتى لقد قال ( مورو - دورتور ) أيضاً : « ان العبقرية مرض عصبي . وفي الحق أن بعض الأمراض النفسية الدورية يكون مصحوباً بالاعتماد على النفس ، وزيادة التهيج وا والانفعال ، وكثرة الصور النفسية . إلا أن هذه الأحوال العصبية تختلف عن أحوال العبقرية الحقيقية ، لأن العبقرية لا توجد إلا حيث توجد الروح الانتقادية والارادة والانتخاب الحر . نعم ان العبقرية تشبه المرض من حيث كثرة الصور النفسية التي تفيض فيها على العقل ، ولكن العبقري لا يكون عبقرياً حقيقياً إلا إذا استطاع أن يسير هذه الصور بإرادته ويسيطر عليها بفكره وينظمها وينتخب منها ما يحب ، بخلاف المريض الذي ينقاد لها فتستولي عليه وتساوره ولا تترك له مجالاً للانتخاب .
٢ - العوامل الاجتماعية :
تأثير ان للهيئة الاجتماعية تأثيراً عظيماً في صور الاختراع ) لأن المسائل التي يريد المخترع معالجتها لا تتولد إلا في وسط اجتماعي بلغ درجة معينة من التطور الاقتصادي والفني والعلمي والفلسفي ، وسواء أكان الاختراع اختراع آلة ميكانيكية أو صورة فنية جديدة ، أو نظرية فلسفية فإن المخترع لا يبلغ غايته إلا إذا أحاظ بما في زمانه من شرائط الصناعة أو صور الفن أو مذاهب الفلسفة . وهذا ينطبق أيضا على العلم حتى لقد قال ( جاك بيكارد - Jacques Picard ) : ه 1 - لا يمكن حصول كشف علمي أو اختراع جديد إلا إذا كانت حالة العلم تسمح به - إذا سمحت حالة العلم بذلك تولد الاختراع ونما بالضرورة . وكثيراً ما يتوصل العلماء إلى اختراعات واحدة في زمان واحد ، ، مثال ذلك : إن ( ليبنيز ) و ( نيوتون ) اخترعا حساب اللانهايات في زمان واحد من غير أن يكون لأحدهما صلة بالآخر . والسبب في ذلك أن المسائل العلمية تبلغ من النمو درجة تتهيأ معها أسباب الاختراع ، وقد تؤدي هذه الأسباب إلى تحقيق الاختراع في زمان دون زمان ، وفي بلد دون آخر .
ثم ان للهيئة الاجتماعية تأثيراً في عقل المخترع نفسه . ان الاستعدادات النفسية الأولية غامضة جداً ، إلا أنها تتكيف بحسب الشرائط الاجتماعية ، فإذا ورث الطفل من أبويه ميلا إلى الجمع والادخار تكيف هذا الميل كما قال ( موفدينغ ) بحسب البيئة ، فقد يصبح الطفل بخيلا ، وقد يصبح عالماً بالنبات والحيوان يجمع أنواع النبات والصدف . وإذا ورث من أبويه تخيلاً شديداً هيا . هذا الاستعداد للشعر أو للتجارة والأعمال المالية ، وتختلف صورة عبقريته باختلاف شروط بيئته .
ولا تكتفي الهيئة الاجتماعية مجمل العلماء على الاختراع ، بل تهيء لهم الحلول التي يجب أن يتبعوها ، والأنماط التي يجب أن ينسجوا على منوالها . فهي إذن تنظم الخيال . قال الاكومب ) ما خلاصته :
( ان الاختراع تنظيم اجتماعي للتخيل التلقائي . وغرض هذا التنظيم يلخص بأمرين : أولهما أنه يقيد العقل بهدف اجتماعي ، فيفكر العالم في نفع الجماعة ، ويفكر الفنان في إثارة عواطفها وإرضائها . وثانيها نقد التراكيب الجديدة التي ولدها التفكير التلقائي ، وحذف ما لا يتفق منها مع الأهداف الاجتماعية ) .
هل الاختراع ظاهرة اجتماعية بالذات ؟ زعم ( تين ) : أن كل أثر فني إنما ينتج عن تأثير العرق والبيئة والزمان وليس غرضنا الآن إيضاح هذه النظرية أو انتقادها . فلنقتصر إذن على إظهار تأثير البيئة الاجتماعية في الاختراع . قال ( تين ) : « ان إنتاجات الفكر البشري كإنتاجات الطبيعة الحية ، لا توضح إلا بتأثير البيئة ؛ انك لا تفهم أثراً فنياً أو فناناً ، أو جملة من الفنانين ، إلا إذا تصورت منازع الفكر العامة ، واتجاهات الأخلاق والعادات في زمانهم ، وممن أخذ بنظرية ( تين ) هذه ( دوركهايم ) وأصحابه ، فزعموا أن الدين والأخلاق والعلم والفن آثار اجتماعية بالذات ، وان كل تبدل في هذه الأوضاع انما ينشأ عن تأثير التبدلات الاجتماعية ، وقد أوضح ( دوركهايم ) بهذه الطريقة الاجتماعية تولد مقولات العقل ، وبين أن معاني الزمان والمكان والملة والمعلول معان اجتماعية بالذات ، وان المثل العليا الأخلاقية تتولد من الوقائع الاجتماعية . والدليل على ذلك أن المثل العليا الأخلاقية الجديدة قد تولدت في صدر المسيحية والإسلام ، وعصر النهضة ، والثورة الفرنسية ، والثورة الصناعية وغيرها من ثورات القرن التاسع عشر والقرن العشرين . وما ينطبق على تولد المثل العليا الأخلاقية ينطبق أيضاً على تولد الاختراعات . إن العوامل التي تبعث على تولدها عوامل اجتماعية .
مناقشة
- قيل في الرد على هذه النظرية الاجتماعية إن الاختراع الجديد ثورة على الأوضاع القديمة ، وان الهيئة الاجتماعية تقف إزاءه موقفاً سلبياً . إن الجماعات الحديثة كالجماعات الابتدائية محافظة جداً ، وهي تكره كل تجديد و تبديل . وكثير أما يؤدي الاختراع إلى تبديل بعض العادات ، أو تغيير بعض الأوضاع ، فيصعب على المعاصرين قبوله لعدم مطابقته المنازعهم ومصالحهم ، وهذا النزاع بين الجديد والقديم قد يؤدي إلى اضطهاد المخترعين وإخراجهم من المجتمع . فالهيئة الاجتماعية لا تهيء إذن أسباب الاختراع بل تقاومها وتمنع حدوثها و تحول دون بلوغها غايتها ·
نقول في نقد هذا الرد : ان المخترعين يقتبسون علوم زمانهم ، ويقلدون طرائق الفن والصناعة التي انتقلت اليهم بوساطة الهيئة الاجتماعية . وسنبين بعد قليل كيف تبقى آثار الهيئة الاجتماعية في المركبات التي يحللها الفكر ، وكيف تحتفظ العقول بها في الاختراعات . حق لقد قال ( ريبو ) : . مهما يكن الإبداع فردياً فإنه لا بد من أن تنطبع فيه آثار المجتمع » . فالهيئة الاجتماعية تؤثر إذن في الابداع ، وتكيف صورته الشخصية الظاهرة .
نعم ان الهيئة الاجتماعية قد تؤخر انتشار الاختراع وتعارضه . إلا أن هناك نوعين للجماعات : الجماعات الأولية البسيطة ، والجماعات الراقية المركبة المبنية على تقسيم العمل . فالحياة في الجماعات الاولى تكون في الغالب على نمط واحد ، وتكون صفات الأفراد فيها مطابقة لما يقتضيه المجتمع من الصفات العامة المشتركة ، فإذا خرج أحد الأفراد على العادات المألوفة عد عمله هذا بدعة جديدة مخالفة لروح الجماعة ، فيتألب الجميع عليه ويناهضونه . أما في الجماعات المركبة المبنية على تقسيم العمل فإن الحياة كثيرة الصور ، مختلفة الأوضاع ، فيها نزوع إلى الماضي ، وتطلع إلى المستقبل . وفيها بجار متعددة الجهات ، فإذا خالف الفرد بفعله مجرى من هذه المجاري ، أو كان الاختراع الجديد مخالفا لإحدى الصور أو الأوضاع القديمة المألوفة ، وجد في الأوضاع الاخرى مجالاً للانتشار .
ان عمل ( سقراط ) كان مخالفاً لنزعات المحافظين في زمانه ، إلا أنه كان كا قال ( دوركهايم ) : مطابقاً لروح المستقبل ، فليست الهيئة الاجتماعية بهذا المعنى مخالفة حليفة له تعين عند الاقتضاء على توليده ، أو تسهم على الأقل في تنميته .
٣ - العوامل النفسية :
العوامل النفسية كثيرة نذكر منها على سبيل المثال :
۱ - العوامل الانفعالية . - ان للحياة الانفعالية تأثيراً قوياً في الابداع ، لأن الانسان لا يثور على العادات القديمة ، ولا يتحرر من الصور والمركبات البالية ، إلا إذا تألم منها ورغب في الابتعاد عنها . فلولا رغبة الانسان في البقاء ، وحاجته إلى الغذاء والمسكن ، ورغبته في الدفاع عن نفسه ، لما اخترع الأدوات والآلات والأسلحة ، ولولا حاجته إلى نطاق حياته لما اخترع المعدات الحربية والآلات الصناعية والوسائل التجارية . ان كل حاجة أو نزعة أو رغبة باعثة على الابداع ، وقد قيل : الحاجة أم الاختراع . وقد لخص ( ريبو ) علاقة الحياة الانفعالية بالاختراع في القانون الآتي :
١ - ان جميع صور الاختراع مصحوبة بعناصر انفعالية .
٢ - ان جميع الاستعدادات الانفعالية تؤثر في الاختراع .
تعليق