التخيل التمثيلي والتخيل المبدع ؛ الحقيقة والخيال .. التخيُّّل
۱ - تمهید
للتخيل عند الفلاسفة معان كثيرة ، فبعضهم ( ديكارت ) يجعله قوة مصورة تستعيد ما في الخيال من الصور ، وتمثله تمثيلاً حسياً . وبعضهم يجعله قوة مبدعة تركب الصور ، وتؤلف المعاني الجديدة أو تخترعها . وبعضهم يجعله قوة وهمية كاذبة تولد الأوهام والأحلام ، حتى ان تلاميذ ( ديكارت ) يصفون هذه القوة بقولهم إنها « مجنونة المنزل ، و « باعثة على الخطأ والرذيلة ،، ومعظم فلاسفة العصر الحاضر يجدون التخيل ضرورياً للإنسان ، لأنه يخفف آلامه ، ويحبب اليه الحياة ، ويكشف له عن أسرار الكون . إن اختلاف معاني التخيل جعل أحد الفلاسفة المعاصرين يقول إن هذه الكلمة الضرورية للغة يجب أن تزول من قاموس علم النفس لكثرة معانيها ( ١ ) وانه يمكن إبدالها بكلمات أوضح منها ، كالمصورة ، والإبداع والتوهم . إلا أنه لا غنى لنا عن هذا الاصطلاح ، لأن في كل من المصورة ( التخيل التمثيلي ) والإبداع والتوهم شيئاً من التخيل . ولنبحث الآن في كل من هذه الأقسام الثلاثة : أي في التخيل التمثيلي ، والتخيل المبدع ، والتخيل الوهمي .
٢ - التخيل التمثيلي والتخيل المبدع : الحقيقة والخيال
التخيل التمثيلي ذاكرة بلا عرفان ، أو هو كما قيل مجرد رجوع الصور النفسية إلى ساحة الشعور . ونحن نعلم أن الصورة هي بقاء الإحساس في النفس بعد غياب المؤثر ، أو هي ذكرى الإحساس . وقد ذكرنا ذلك في بحث الصور الذهنية . فإذا استرجع الإنسان صورة جبل أو نهر ، ولم يعرف أي جبل يرى ولا أي نهر يتصور ، كان تخيله تمثيلياً ( Imagination . reproductrice ) . لأن الخيال يعيد ما حفظته النفس وبقي فيها بعد غياب المحسوسات . فهو إذن شبيه بالذاكرة ، إلا أنه كما قلنا ذاكرة بلا عرفان . إن هذا التخيل التمثيلي يقتصر كما ترى على استرجاع الصور المحفوظة في النفس . أما التخيل المبدع Imagination créatrice ، غير كب هذه الصور بعضها إلى بعض ويستخرج منها نماذج جديدة . انظر إلى المصور ، انه يرسم بريشته صورة خيالية يراها في أعماق نفسه ، فهو لم يسترجع صورة بسيطة محفوظة في نفسه من قبل ، بل ركب بعض ما في هذه الصور البسيطة إلى بعض ، فألف منها صورة جديدة .
إلا أن هذا الفرق بين التخيل التمثيلي والتخيل المبدع ليس مطلقاً ، لأن التخيل التمثيلي لا يسترجع الصور النفسية كما هي بل يبدلها ، فيمحو بعض عناصرها ، ، وبضم اليها بعض العناصر الجديدة . وقد بينا ذلك عند البحث في الشعور وخطور الذكريات . فالذكريات ليست صوراً مطابقة للماضي ، وإنما هي في الغالب مركبة من الماضي والحاضر معاً ، لأن النفس تنشئها إنشاء ، والإدراك ليس حادثة بسيطة تحدث في النفس خيالاً مطابقاً للشيء المدرك ، وإنما هو إنشاء صورة مركبة من عناصر نفسية متغيرة . فالصورة ليست إذن خيالاً ثابتاً ، وإنما هي . حقيقة متبدلة ، حتى لقد قال ( لوروا ) : ( الإدراك والتذكر كلاهما اختراع ) .
وعكس ذلك صحيح . عناصرها من الواقع . فالخيال إذن منسوج من الحقيقة . وقد فرقوا في الإبداع بين الصورة والمادة . فقالوا إن التخيل لا يبدع مادة جديدة ، بل يقتصر على جمع بعض الصور إلى بعض ، فيحلل ، ويركب ، ويصغر ، ويكبر . فهو يبدع إذن صورة جديدة ، إلا أن مادة إبداعه مقتبسة كلها من الواقع ، فالصورة وحدها إذن هي الجديدة ، والتخيل مبدع بمعنى العناصر بعضها إلى بعض ، فيؤلف منها مركبات جديدة . فكل إبداع هو في أيضاً . وهو أن التخيل المبدع لا يبدع الصور من العدم ، بل يستمد أنه . يجمع الحقيقة تركيب .
وإذا قيل : إن العقل لا يقتصر في الإبداع على جمع الصور ، وانه إنما يجمع هذه الصور إلى المعاني المجردة ، والأحوال الانفعالية ، والنزعات والأهواء الذاتية ، قلنا مهما يكن نوع التركيب ، ومهما تكن حالة العناصر ، فإن الإبداع ينتهي دائماً إلى الصور . قال أحد العلماء المعاصرين ما خلاصته : « المخترع شاعر حدسي . قد يقال ان هناك عقولا منطقية ، جدلية . إلى الأمام إلا بالقياس والبرهان - سيراً على طريقة ( فوبان ) الذي كان لا : قوي إلا . بعد د أن يعد للأمر عدته غير أن الواقع على خلاف ذلك ، لأن هذه العقول حدسية أيضاً . فهي لا تقتصر على جمع طرق البحث ، وقواعد المنطق ، وأحكام العقل ، وصور القياس بعضها إلى بعض بل تضيف اليها ما تجده في طريقها من الألوان ، والأصوات والأوزان ، والاستعارات الحسية ، والأوضاع المشخصة . ومهما يكن الاختراع بعيداً عن التصور الحسي فإنه لا بد من أن يقلب المثال المجرد إلى صورة محسوسة تدل عليه ، وتحييه ، وتخرجه من أعماق اللاشعور إلى الحياة الظاهرة الملموسة .
هل تستطيع النفس أن تبدع الصور ؟ ان أكثر علماء النفس يقولون مع ( لوك ) إن النفس عاجزة بنفسها عن إبداع الصور والأفكار البسيطة . فكل صورة إذن نسخة عن شيء محسوس ، ولا تصور إلا بالإحساس ان الأكمه لا يستطيع أن يتصور الألوان ، والأصم لا يستطيع أن يبدع الألحان . فالتخيل ليس مبدعاً من حيث هو إخراج من العدم إلى الوجود ، وإنما هو مبدع من حيث هو تركيب الصور ، ولكن الذهن كما قلنا يجمع في هذا التركيب بين عناصر مختلفة ، فهو يجمع الصور الحسية إلى الفكر المجردة ، والنزعات والأهواء . ولعله لا يعجز عن إبداع بعض الأفكار ، أما الصور فلا يتناولها إلا بواسطة الاحساس ، وإذا تمثلها أمكنه أن يمزجها بعضها ببعض ، ويحصل بهذا المزج على صور جديدة . نعم إن الأكمه لا يستطيع تخيل الألوان ، ولكن البصير يستطيع أن يتخيل ألواناً متوسطة مركبة من الألوان البسيطة ، فيتصور مثلا لوناً بنفسجيا أكثر احمراراً من البنفسجي الطبيعي .
قد يقال ان الطبيعة أغنى من الفن . وإن اختراعات المصورين ليست سوى تقليد لما في الطبيعة من أشكال وصور مختلفة ، وان في غروب الشمس من الألوان ما لا يستطيع أعظم المصورين أن يأتي بمثله . هذا صواب ، لأن الألوان الطبيعية أكثر تنوعاً من الألوان الفنية . إلا أن أصوات الطبيعة أفقر من أصوات الفن ، وهي في الغالب على نمط واحد : كحفيف الأغصان ، وتغريد الطير ، وخرير الماء ، ونقيق الضفادع . ان آلات الفن ليست هبة من هبات الطبيعة ، وإنما هي اختراع من اختراعات الإنسان . نعم إن الإنسان لم يتصور بوضوح نغمات الميدان ، واصطخاب ، الأوتار ، ومجاوبة المزامير وما فيها من مطربة عجيبة ، إلا بعد ظفره بهذه الآلات ، ولكن العود مثلاً لم يتكامل إلا بعد انتقل الإنسان به من صوت إلى آخر ، وتخيل في كل دور من أدوار انتقاله صوتاً أحسن وقعاً . وأعمق تأثيراً من الأصوات المألوفة ، ففي كل درجة من درجات هذا التكامل تقدم في التخيل وإبداع لصور جديدة لا عهد للفن بها من قبل .
۱ - تمهید
للتخيل عند الفلاسفة معان كثيرة ، فبعضهم ( ديكارت ) يجعله قوة مصورة تستعيد ما في الخيال من الصور ، وتمثله تمثيلاً حسياً . وبعضهم يجعله قوة مبدعة تركب الصور ، وتؤلف المعاني الجديدة أو تخترعها . وبعضهم يجعله قوة وهمية كاذبة تولد الأوهام والأحلام ، حتى ان تلاميذ ( ديكارت ) يصفون هذه القوة بقولهم إنها « مجنونة المنزل ، و « باعثة على الخطأ والرذيلة ،، ومعظم فلاسفة العصر الحاضر يجدون التخيل ضرورياً للإنسان ، لأنه يخفف آلامه ، ويحبب اليه الحياة ، ويكشف له عن أسرار الكون . إن اختلاف معاني التخيل جعل أحد الفلاسفة المعاصرين يقول إن هذه الكلمة الضرورية للغة يجب أن تزول من قاموس علم النفس لكثرة معانيها ( ١ ) وانه يمكن إبدالها بكلمات أوضح منها ، كالمصورة ، والإبداع والتوهم . إلا أنه لا غنى لنا عن هذا الاصطلاح ، لأن في كل من المصورة ( التخيل التمثيلي ) والإبداع والتوهم شيئاً من التخيل . ولنبحث الآن في كل من هذه الأقسام الثلاثة : أي في التخيل التمثيلي ، والتخيل المبدع ، والتخيل الوهمي .
٢ - التخيل التمثيلي والتخيل المبدع : الحقيقة والخيال
التخيل التمثيلي ذاكرة بلا عرفان ، أو هو كما قيل مجرد رجوع الصور النفسية إلى ساحة الشعور . ونحن نعلم أن الصورة هي بقاء الإحساس في النفس بعد غياب المؤثر ، أو هي ذكرى الإحساس . وقد ذكرنا ذلك في بحث الصور الذهنية . فإذا استرجع الإنسان صورة جبل أو نهر ، ولم يعرف أي جبل يرى ولا أي نهر يتصور ، كان تخيله تمثيلياً ( Imagination . reproductrice ) . لأن الخيال يعيد ما حفظته النفس وبقي فيها بعد غياب المحسوسات . فهو إذن شبيه بالذاكرة ، إلا أنه كما قلنا ذاكرة بلا عرفان . إن هذا التخيل التمثيلي يقتصر كما ترى على استرجاع الصور المحفوظة في النفس . أما التخيل المبدع Imagination créatrice ، غير كب هذه الصور بعضها إلى بعض ويستخرج منها نماذج جديدة . انظر إلى المصور ، انه يرسم بريشته صورة خيالية يراها في أعماق نفسه ، فهو لم يسترجع صورة بسيطة محفوظة في نفسه من قبل ، بل ركب بعض ما في هذه الصور البسيطة إلى بعض ، فألف منها صورة جديدة .
إلا أن هذا الفرق بين التخيل التمثيلي والتخيل المبدع ليس مطلقاً ، لأن التخيل التمثيلي لا يسترجع الصور النفسية كما هي بل يبدلها ، فيمحو بعض عناصرها ، ، وبضم اليها بعض العناصر الجديدة . وقد بينا ذلك عند البحث في الشعور وخطور الذكريات . فالذكريات ليست صوراً مطابقة للماضي ، وإنما هي في الغالب مركبة من الماضي والحاضر معاً ، لأن النفس تنشئها إنشاء ، والإدراك ليس حادثة بسيطة تحدث في النفس خيالاً مطابقاً للشيء المدرك ، وإنما هو إنشاء صورة مركبة من عناصر نفسية متغيرة . فالصورة ليست إذن خيالاً ثابتاً ، وإنما هي . حقيقة متبدلة ، حتى لقد قال ( لوروا ) : ( الإدراك والتذكر كلاهما اختراع ) .
وعكس ذلك صحيح . عناصرها من الواقع . فالخيال إذن منسوج من الحقيقة . وقد فرقوا في الإبداع بين الصورة والمادة . فقالوا إن التخيل لا يبدع مادة جديدة ، بل يقتصر على جمع بعض الصور إلى بعض ، فيحلل ، ويركب ، ويصغر ، ويكبر . فهو يبدع إذن صورة جديدة ، إلا أن مادة إبداعه مقتبسة كلها من الواقع ، فالصورة وحدها إذن هي الجديدة ، والتخيل مبدع بمعنى العناصر بعضها إلى بعض ، فيؤلف منها مركبات جديدة . فكل إبداع هو في أيضاً . وهو أن التخيل المبدع لا يبدع الصور من العدم ، بل يستمد أنه . يجمع الحقيقة تركيب .
وإذا قيل : إن العقل لا يقتصر في الإبداع على جمع الصور ، وانه إنما يجمع هذه الصور إلى المعاني المجردة ، والأحوال الانفعالية ، والنزعات والأهواء الذاتية ، قلنا مهما يكن نوع التركيب ، ومهما تكن حالة العناصر ، فإن الإبداع ينتهي دائماً إلى الصور . قال أحد العلماء المعاصرين ما خلاصته : « المخترع شاعر حدسي . قد يقال ان هناك عقولا منطقية ، جدلية . إلى الأمام إلا بالقياس والبرهان - سيراً على طريقة ( فوبان ) الذي كان لا : قوي إلا . بعد د أن يعد للأمر عدته غير أن الواقع على خلاف ذلك ، لأن هذه العقول حدسية أيضاً . فهي لا تقتصر على جمع طرق البحث ، وقواعد المنطق ، وأحكام العقل ، وصور القياس بعضها إلى بعض بل تضيف اليها ما تجده في طريقها من الألوان ، والأصوات والأوزان ، والاستعارات الحسية ، والأوضاع المشخصة . ومهما يكن الاختراع بعيداً عن التصور الحسي فإنه لا بد من أن يقلب المثال المجرد إلى صورة محسوسة تدل عليه ، وتحييه ، وتخرجه من أعماق اللاشعور إلى الحياة الظاهرة الملموسة .
هل تستطيع النفس أن تبدع الصور ؟ ان أكثر علماء النفس يقولون مع ( لوك ) إن النفس عاجزة بنفسها عن إبداع الصور والأفكار البسيطة . فكل صورة إذن نسخة عن شيء محسوس ، ولا تصور إلا بالإحساس ان الأكمه لا يستطيع أن يتصور الألوان ، والأصم لا يستطيع أن يبدع الألحان . فالتخيل ليس مبدعاً من حيث هو إخراج من العدم إلى الوجود ، وإنما هو مبدع من حيث هو تركيب الصور ، ولكن الذهن كما قلنا يجمع في هذا التركيب بين عناصر مختلفة ، فهو يجمع الصور الحسية إلى الفكر المجردة ، والنزعات والأهواء . ولعله لا يعجز عن إبداع بعض الأفكار ، أما الصور فلا يتناولها إلا بواسطة الاحساس ، وإذا تمثلها أمكنه أن يمزجها بعضها ببعض ، ويحصل بهذا المزج على صور جديدة . نعم إن الأكمه لا يستطيع تخيل الألوان ، ولكن البصير يستطيع أن يتخيل ألواناً متوسطة مركبة من الألوان البسيطة ، فيتصور مثلا لوناً بنفسجيا أكثر احمراراً من البنفسجي الطبيعي .
قد يقال ان الطبيعة أغنى من الفن . وإن اختراعات المصورين ليست سوى تقليد لما في الطبيعة من أشكال وصور مختلفة ، وان في غروب الشمس من الألوان ما لا يستطيع أعظم المصورين أن يأتي بمثله . هذا صواب ، لأن الألوان الطبيعية أكثر تنوعاً من الألوان الفنية . إلا أن أصوات الطبيعة أفقر من أصوات الفن ، وهي في الغالب على نمط واحد : كحفيف الأغصان ، وتغريد الطير ، وخرير الماء ، ونقيق الضفادع . ان آلات الفن ليست هبة من هبات الطبيعة ، وإنما هي اختراع من اختراعات الإنسان . نعم إن الإنسان لم يتصور بوضوح نغمات الميدان ، واصطخاب ، الأوتار ، ومجاوبة المزامير وما فيها من مطربة عجيبة ، إلا بعد ظفره بهذه الآلات ، ولكن العود مثلاً لم يتكامل إلا بعد انتقل الإنسان به من صوت إلى آخر ، وتخيل في كل دور من أدوار انتقاله صوتاً أحسن وقعاً . وأعمق تأثيراً من الأصوات المألوفة ، ففي كل درجة من درجات هذا التكامل تقدم في التخيل وإبداع لصور جديدة لا عهد للفن بها من قبل .
تعليق