*محمد علي شمس الدين: الشاعر النجم لا يغلبه الموت
** أحمد بزون
لا أصدق أن صوتك سقط من ممالكه العالية إلى "غابة السكون"! وأنك لم تعد تغرد في براري الشعر لتدفع خيول الأحلام أمامك! أو تصدح "أميرالَ طيور" كي ترطب آذان العذارى! أو تُموِّج نسائم الشعر نحو جمهورك فتنتشر المتعة طيباً لا يحيد عن أحد!
لا أصدق أن روحك خطفتها ريح، أو حلّقتْ "غيمةً من دخان" ترنو نحو الله!
كدت لا أصدق هذا الرحيل المباغت، موجة الحزن التي صفعتني صبيحة هذا النهار، لولا أنك قلت يوماً: "طالما شطّت بنا سبل/ غير أن الموت ينتظرُ".
آه يا صديقي كم كنت نظيفاً وجميلاً مثل زهرة اللوتس، ومضيئاً مثل قنديل العاشقين، تزين الأرض حين تخطها عيناك الزرقاوان. كم عقلاً آنست إذ كتبت وحكيت، أنت الشاعر العابق بالأفكار، الرؤيويّ الذي لم يخب مقصده، النخبوي الذي رفد نهر الثقافة بماء كثير.
كدت لا أصدق أن نجم محمد علي شمس الدين يتوارى في السماء، لكنه القائل: "فأول الدهر معقود بآخره/ وأجمل الناس ما يُلقى إلى الحفر/ وما الخليقة إلا طيف نائحة/ بيضاء تعبر بين الطين والمدر".
بل كنت أصدق أنه عاش نجماً ويبقى! ألا ينطبق عليه لقب "الشاعر النجم" بين مجايليه من شعراء لبنان،
بكل ما تعني الكلمة من ظهور كثيف له في وسائل الإعلام، واندفاع المحطات التلفزيونية والصحف لكسب حضوره، ثم كأنما ولد شعره مع نجوميته في سبعينيات القرن الماضي. فالنجومية، مرة، يصنعها الآخرون الذين يستفيدون من تسويق النجم، ومرة أخرى يصنعها النجم نفسه بما يقدم من جهد ونتاج وإبداع. ولا نشك في أن نجومية محمد علي شمس الدين تخضع للصنف الثاني، فهي من صُنْع يده ولسانه وشعره.
وما يهمنا، أولاً وأخيراً، شعر الشاعر وثقافته. وكنا نسأل دائماً عن منبع نجوميته، لأن الشعر لا يكفي ليقيم عرش النجم، فالعديد من الشعراء الكبار ليسوا نجوماً. ونسأل: هل هي السهولة نفسها التي كان يكتب بها نزار قباني صنعته شاعراً؟ ام هي الصعوبة التي ينحت في صخرها سعيد عقل؟ أم الغموض والالتباس الجميل الذي يرميه أدونيس على شعره؟
لا أظن أن محمد علي شمس الدين ينتمي الى مدرسة محددة من مدارس كبارنا، فشعره يبتعد عن كل هذه المواقع، وإن كانت لعبته الشعرية تجمع سمات مختزنة في تجارب الكبار، بل في تراثنا الشعري عموماً. فنص شمس الدين يمتلك البساطة، في الوقت الذي تأخذنا إليه التباسات الغموض الجميلة والرؤى البعيدة. ويقنعنا بالعفوية والبراءة، في الوقت الذي تقف وراء نصوصه حرفة وصنعة ومتانة تركيب ولغة. لهذا، ربما استطاع شمس الدين أن يصل بنصوصه إلى جمهور عريض، من دون أن يقع في الخطابية والواقعية المباشرة، أو في التسطيح، من جهة، ومن دون أن يطمح، من جهة أخرى، إلى الغربة النخبوية المعلقة على مشاذب المستقبل.
لقد استطاع شمس الدين، بحنكة واضحة، أن يلعب في منطقة بين أرض الشعر وأبراجه، فهو إذا اقترب من الواقع أو الحداثة التي تلامس كل شيء، حافظ على مسافة من ملامسته المباشرة، وإذا حلّق في فضاءات عالية تنبه الى العودة من دون مكوث. فشعره طائر يحلق في دنيا المعاني من دون أن يقع على الأرض!
هكذا، فالمسافة العمودية التي تَحرَّك شعرُه على سلالمها بلباقة وذكاء، هي التي أكسبته نجومية يسعى إليها الجميع، وليست سهلة على أحد. يكتب بشفافية الماء العذب لا الزجاج الجارح.
واكبنا تجربته الشعرية في "السفير"، وكان يزورنا دائماً، حاملاً مقالة أو من دونها. وعندما دعوته، قبل ذلك، إلى الكتابة في ملحق السفير الثقافي خشي أن يعترض على مشاركته زميلنا وصديقنا عباس بيضون، لكن ذلك لم يحصل، وتبددت غيوم الخصومة بينهما منذ اللقاء الأول الذي حضرته منتصراً لصداقة الشعراء، واستمر يكتب مرحباً به من قبل عباس بيضون أولاً، وكنا سعداء بما يقدم من كتابات نقدية، في عمق التجارب الأدبية اللبنانية والعربية، حتى انطوى الملحق الثقافي مأسوفاً عليه. كان نقده موضوعياً، كونه لم يتعصب لاتجاه أو مدرسة أو شكل، فهو في الشعر يتنقل حيث تأخذه نشوة الكتابة، مرة يعود إلى عمود الشعر، وأخرى إلى حيث استقر كثيراً مع شعر التفعيلة، ثم لم يتردد أبداً إذا هبت عليه نسائم قصيدة النثر في احتضانها.
لن ترحل صديقي، سوف تبقى خلف أجفاننا، إلى أن تغلق الأرض بابها، أو تتهاوى "كفخارة من دخان". ولم تغب، إنما تمضي إلى الصمت، وتمشي على خيطه بخفة بهلوان، ولا تهوي على فضة الموت.
سوف تبقى، وننتظر أن يسبقك إلينا الشعر!