الفن السوداني يجد مساحات جديدة في القاهرة هروبا من الحرب
فنانون اختاروا أن يبدأوا من جديد حالمين بالعودة إلى الوطن.
الأربعاء 2024/01/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook
التحدي الفني الصعب
أجبرت الحرب الدائرة رحاها في السودان الكثير من المثقفين والفنانين على الفرار من وطنهم تاركين منازلهم وأستوديوهاتهم وأعمالهم وحتى شهرتهم التي حققوها هناك، ليختاروا البدء من جديد في الأراضي التي استقبلتهم، ومن أهمها مصر، حيث يشتغل الفنانون على استعادة نشاطهم رغم المصاعب الكبيرة التي يواجهونها.
الخرطوم - عندما سقطت أولى القنابل على الخرطوم، ترك أمجد وفاطمة ومازن ألوانهم وآلاتهم للبحث عن مأوى آمن في المنفى. اليوم، يعيد السودانيون الثلاثة في القاهرة حيث استقروا إحياء البعض من أنشطتهم الفنية التي اعتادوا عليها في العاصمة السودانية.
وعلى بعد بضع خطوات من ميدان التحرير الشهير في العاصمة المصرية، تنبعث نغمات سودانية. هنا، يستمتع قرابة مئة سوداني بحفلة موسيقية ومعرض للفن التشكيلي بعيدا عن الحرب التي تدور رحاها منذ ثمانية أشهر في الخرطوم. ويتمايل الجمهور على موسيقى مازن حامد، وهو موسيقي ومنتج شاب في الحادية والثلاثين من عمره، مشهور في بلاده ويعمل على تحديث التراث السوداني.
الفرار من الحرب
الفنانون السودانيون تركوا كل شيء وراءهم وفروا من الحرب في بلادهم دون أن يحملوا معهم أدواتهم أو معداتهم
عندما اندلعت الحرب في الخامس عشر من أبريل، خرج حامد للذهاب إلى عمله كالمعتاد، بعدما عايش خلال السنوات الأربع السابقة أحداثا سياسة كبيرة بدأت بـ”الثورة” ثم الانقلاب والقمع الدامي لأنصار الديمقراطية. وكان عليه أن ينهي الموسيقى التصويرية لـ”وداعا جوليا”، أول فيلم سوداني روائي طويل يُعرض في المسابقة الرسمية في مهرجان كان ويحصل على جائزة.
وكان يضع اللمسات الأخيرة، واعتقدَ أنه سيمضي بضع ساعات في الأستوديو حيث كان يسجل عمله، ريثما تهدأ النفوس. لكن الجنرالين اللذين بدآ الحرب في ذلك اليوم ما زالا يتقاتلان حتى الآن.
وأسفر النزاع عن مقتل أكثر من 13 ألف مدني حتى الآن، وفق منظمة أكلد المتخصصة في إحصاء ضحايا النزاعات. غير أن جهات كثيرة تؤكد أن الحصيلة الفعلية للضحايا أعلى بكثير.
الحرب التي بدأت في العاصمة السودانية امتدت إلى إقليم دارفور في الغرب ثم إلى محافظة الجزيرة حيث سيطرت أخيرا قوات الدعم السريع التي يتزعمها محمد حمدان دقلو على مدينة ود مدني، بعد أن انتزعتها من الجيش السوداني الذي يقوده الفريق أول عبدالفتاح البرهان.
وأدت الحرب الى نزوح 7.1 مليون شخص، وفق ما أعلنت الأمم المتحدة معتبرة أنها “أكبر أزمة نزوح في العالم”، فيما حذرت المنظمة الدولية للهجرة من أن ما يشهده السودان “مأساة إنسانية ذات أبعاد هائلة، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية الرهيبة في الأساس”.
من خلف الجدران العازلة للأستوديو الخاص به، لم يسمع حامد إلا بضع طلقات نارية هنا وهناك. ولكن عندما سمع أصوات “الطائرات الحربية”، أدرك، بحسب ما رواه أن “الأمر خطير”.
بعد أن صار الفنانون الشباب في أمان بالقاهرة عادوا إلى العمل الفني ولو بصعوبة في بيئة جديدة ودون إمكانيات
ولذلك قرّر الفرار شأنه في ذلك شأن آخرين كثيرين، “من دون أن يحمل معه آلاته أو معداته لكي لا يلفت الانتباه عند نقاط التفتيش” التي أقامتها قوات الجيش وقوات الدعم السريع في مناطق مختلفة.
ظلت فاطمة إسماعيل من جانبها حبيسة شقتها “في صمت خوفا من قوات الدعم السريع” التي كان عناصرها يتمركزون “أسفل المنزل”، وفق روايتها.
هذه الرسامة التي تعرض اليوم لوحاتها في القاهرة، تشير إلى أنها اختبأت لأن معلومات كانت انتشرت في الخرطوم عن حالات اغتصاب على يد عناصر من قوات الدعم السريع التي تدربت على الحرب خلال النزاع في دارفور في العقد الأول من القرن الحالي.وتقول إسماعيل (26 عاما) “لو أنهم عرفوا بوجود شابات في البناية، لكان الأمر رهيبا”.
وتمكنت من الفرار مع أسرتها عندما استقلّوا، وفقا لها، أول حافلة رأوها في مدينة خاوية ومدمرة. قبل أن ترحل، رسمت إسماعيل بدقة تفاصيل الحياة داخل منزلها “والدتي التي كانت تطبخ ووالدي كان يتلو القرآن”، لتسجل ذكرياتها من حياة يومية تبدلت إلى الأبد.
وبعد أن صارت في أمان بالقاهرة، عادت إسماعيل إلى لوحاتها التي تحاول من خلالها مكافحة شياطين الحروب. وتضيف “أبدأ من الصفر مجددا”، إذ أنها لم تحمل معها أدواتها أو معداتها. وتقول الفنانة الشابة “الله والرسم أنقذاني”.
البدء من الصفر
مكافحة شياطين الحروب بالرسم
أمجد بدر (28 عاما)، فر هو الآخر من الخرطوم تاركا خلفه آلاته ومعداته في الأستوديو الخاص به. ويقول “هذا المساء، أعزف على غيتار أعارني إياه أحد الأصدقاء”. وعاد بدر إلى العزف بعد رحلة طويلة إلى القاهرة “و11 يوما أمضاها في النوم” تعويضا عن مشقة السفر في البحث عن مكان آمن.
ويضيف “كان من المهم جدا بالنسبة إليّ أن أعبّر عمّا مررت به” من خلال الفن. ويتابع “هناك فنانون سودانيون في القاهرة وكذلك في نيروبي وفي إثيوبيا”، حيث لجأ سودانيون هربا من الحرب إلى جانب قرابة 400 ألف سوداني اختاروا اللجوء إلى مصر. في المكان نفسه، يعرض هاشم نصر (33 عاما) صورا فوتوغرافية تروي قصة عائلته وقصص المنفى والحرب والموت.
المصور الفوتوغرافي الذي كان يعمل طبيبا للأسنان، حط الرحال في مدينة الإسكندرية في شمال مصر على البحر المتوسط حيث عاد لتسجيل اللحظات من خلال الكاميرا. ولكنه يقول إنه “لا يعرف أحدا هنا”. ويضيف “من دون علاقات، من الصعب العثور على أشخاص يمكن تصويرهم”. ولذلك فقد اكتفى بتصوير أفراد أسرته.
ويقول بدر إنه من الصعب كذلك إيجاد “الدافع والإلهام” في مثل هذه الظروف. ولكنه يضيف بثقة “سنعود”، لافتاً إلى أن “الساحة الموسيقية كانت بدأت تتطور حقاً قبل الحرب، لذا فإننا سنعود قريباً أقوى مما كنا”.
فنانون اختاروا أن يبدأوا من جديد حالمين بالعودة إلى الوطن.
الأربعاء 2024/01/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook
التحدي الفني الصعب
أجبرت الحرب الدائرة رحاها في السودان الكثير من المثقفين والفنانين على الفرار من وطنهم تاركين منازلهم وأستوديوهاتهم وأعمالهم وحتى شهرتهم التي حققوها هناك، ليختاروا البدء من جديد في الأراضي التي استقبلتهم، ومن أهمها مصر، حيث يشتغل الفنانون على استعادة نشاطهم رغم المصاعب الكبيرة التي يواجهونها.
الخرطوم - عندما سقطت أولى القنابل على الخرطوم، ترك أمجد وفاطمة ومازن ألوانهم وآلاتهم للبحث عن مأوى آمن في المنفى. اليوم، يعيد السودانيون الثلاثة في القاهرة حيث استقروا إحياء البعض من أنشطتهم الفنية التي اعتادوا عليها في العاصمة السودانية.
وعلى بعد بضع خطوات من ميدان التحرير الشهير في العاصمة المصرية، تنبعث نغمات سودانية. هنا، يستمتع قرابة مئة سوداني بحفلة موسيقية ومعرض للفن التشكيلي بعيدا عن الحرب التي تدور رحاها منذ ثمانية أشهر في الخرطوم. ويتمايل الجمهور على موسيقى مازن حامد، وهو موسيقي ومنتج شاب في الحادية والثلاثين من عمره، مشهور في بلاده ويعمل على تحديث التراث السوداني.
الفرار من الحرب
الفنانون السودانيون تركوا كل شيء وراءهم وفروا من الحرب في بلادهم دون أن يحملوا معهم أدواتهم أو معداتهم
عندما اندلعت الحرب في الخامس عشر من أبريل، خرج حامد للذهاب إلى عمله كالمعتاد، بعدما عايش خلال السنوات الأربع السابقة أحداثا سياسة كبيرة بدأت بـ”الثورة” ثم الانقلاب والقمع الدامي لأنصار الديمقراطية. وكان عليه أن ينهي الموسيقى التصويرية لـ”وداعا جوليا”، أول فيلم سوداني روائي طويل يُعرض في المسابقة الرسمية في مهرجان كان ويحصل على جائزة.
وكان يضع اللمسات الأخيرة، واعتقدَ أنه سيمضي بضع ساعات في الأستوديو حيث كان يسجل عمله، ريثما تهدأ النفوس. لكن الجنرالين اللذين بدآ الحرب في ذلك اليوم ما زالا يتقاتلان حتى الآن.
وأسفر النزاع عن مقتل أكثر من 13 ألف مدني حتى الآن، وفق منظمة أكلد المتخصصة في إحصاء ضحايا النزاعات. غير أن جهات كثيرة تؤكد أن الحصيلة الفعلية للضحايا أعلى بكثير.
الحرب التي بدأت في العاصمة السودانية امتدت إلى إقليم دارفور في الغرب ثم إلى محافظة الجزيرة حيث سيطرت أخيرا قوات الدعم السريع التي يتزعمها محمد حمدان دقلو على مدينة ود مدني، بعد أن انتزعتها من الجيش السوداني الذي يقوده الفريق أول عبدالفتاح البرهان.
وأدت الحرب الى نزوح 7.1 مليون شخص، وفق ما أعلنت الأمم المتحدة معتبرة أنها “أكبر أزمة نزوح في العالم”، فيما حذرت المنظمة الدولية للهجرة من أن ما يشهده السودان “مأساة إنسانية ذات أبعاد هائلة، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية الرهيبة في الأساس”.
من خلف الجدران العازلة للأستوديو الخاص به، لم يسمع حامد إلا بضع طلقات نارية هنا وهناك. ولكن عندما سمع أصوات “الطائرات الحربية”، أدرك، بحسب ما رواه أن “الأمر خطير”.
بعد أن صار الفنانون الشباب في أمان بالقاهرة عادوا إلى العمل الفني ولو بصعوبة في بيئة جديدة ودون إمكانيات
ولذلك قرّر الفرار شأنه في ذلك شأن آخرين كثيرين، “من دون أن يحمل معه آلاته أو معداته لكي لا يلفت الانتباه عند نقاط التفتيش” التي أقامتها قوات الجيش وقوات الدعم السريع في مناطق مختلفة.
ظلت فاطمة إسماعيل من جانبها حبيسة شقتها “في صمت خوفا من قوات الدعم السريع” التي كان عناصرها يتمركزون “أسفل المنزل”، وفق روايتها.
هذه الرسامة التي تعرض اليوم لوحاتها في القاهرة، تشير إلى أنها اختبأت لأن معلومات كانت انتشرت في الخرطوم عن حالات اغتصاب على يد عناصر من قوات الدعم السريع التي تدربت على الحرب خلال النزاع في دارفور في العقد الأول من القرن الحالي.وتقول إسماعيل (26 عاما) “لو أنهم عرفوا بوجود شابات في البناية، لكان الأمر رهيبا”.
وتمكنت من الفرار مع أسرتها عندما استقلّوا، وفقا لها، أول حافلة رأوها في مدينة خاوية ومدمرة. قبل أن ترحل، رسمت إسماعيل بدقة تفاصيل الحياة داخل منزلها “والدتي التي كانت تطبخ ووالدي كان يتلو القرآن”، لتسجل ذكرياتها من حياة يومية تبدلت إلى الأبد.
وبعد أن صارت في أمان بالقاهرة، عادت إسماعيل إلى لوحاتها التي تحاول من خلالها مكافحة شياطين الحروب. وتضيف “أبدأ من الصفر مجددا”، إذ أنها لم تحمل معها أدواتها أو معداتها. وتقول الفنانة الشابة “الله والرسم أنقذاني”.
البدء من الصفر
مكافحة شياطين الحروب بالرسم
أمجد بدر (28 عاما)، فر هو الآخر من الخرطوم تاركا خلفه آلاته ومعداته في الأستوديو الخاص به. ويقول “هذا المساء، أعزف على غيتار أعارني إياه أحد الأصدقاء”. وعاد بدر إلى العزف بعد رحلة طويلة إلى القاهرة “و11 يوما أمضاها في النوم” تعويضا عن مشقة السفر في البحث عن مكان آمن.
ويضيف “كان من المهم جدا بالنسبة إليّ أن أعبّر عمّا مررت به” من خلال الفن. ويتابع “هناك فنانون سودانيون في القاهرة وكذلك في نيروبي وفي إثيوبيا”، حيث لجأ سودانيون هربا من الحرب إلى جانب قرابة 400 ألف سوداني اختاروا اللجوء إلى مصر. في المكان نفسه، يعرض هاشم نصر (33 عاما) صورا فوتوغرافية تروي قصة عائلته وقصص المنفى والحرب والموت.
المصور الفوتوغرافي الذي كان يعمل طبيبا للأسنان، حط الرحال في مدينة الإسكندرية في شمال مصر على البحر المتوسط حيث عاد لتسجيل اللحظات من خلال الكاميرا. ولكنه يقول إنه “لا يعرف أحدا هنا”. ويضيف “من دون علاقات، من الصعب العثور على أشخاص يمكن تصويرهم”. ولذلك فقد اكتفى بتصوير أفراد أسرته.
ويقول بدر إنه من الصعب كذلك إيجاد “الدافع والإلهام” في مثل هذه الظروف. ولكنه يضيف بثقة “سنعود”، لافتاً إلى أن “الساحة الموسيقية كانت بدأت تتطور حقاً قبل الحرب، لذا فإننا سنعود قريباً أقوى مما كنا”.